مدونة الأسرة: صراع مشاريع طبقية لا أيديولوجية فحسب

الافتتاحية, سياسة3 فبراير، 2025

كل ما تناول النقاش إصلاح التشريعات التي تحكم الأسرة والنساء، تصدرت الواجهةَ نقاشاتٌ تصور الأمر على أنه صراع بين حركات إسلامية تريد الحفاظ على الموروث وتحرص على الدين، وحركات علمانية حداثية تستهدف هذا الموروث وذاك الدين، بينما المَلكية هي رمانة الميزان التي تحفظ المجتمع وبنيته الفوقية (بما فيها الدينية) من غلو الطرفين: غلاة الرجعيين الدينيين ومتطرفي الحداثة العلمانيين.

ما لا يطفو إلى سطح الحياة السياسية والصراع، ويجري ذلك عمدا من قِبل الأطراف الثلاثة أعلاه، هو أنها تتفق على بقاء نفس المجتمع الطبقي (الرأسمالي)، في حين يتناول الصراع بينها أمثلَ السبل لإعادة إنتاج نفس المجتمع. ولأن المرأة والأسرة تقع في صلب إعادة الإنتاج الاجتماعية، فطبيعي أن تصوَّر أية عملية تعديل لها كأنها «صراع القرن» بين تلك الأطراف.

الأسرة بالنسبة لهذه الأطراف كلها هي النواة الرئيسية للمجتمع التي يجب ألا تُمسَّ إطلاقا في جوهر وجودها، بينما الصراع كله قائم حول أي أسرة صالحة لمجتمع الاضطهاد الطبقي. فالبنسبة للتيارات البرجوازية المتصارعة (رجعية وحداثية ومَلكية) تظل الأسرة هي مكان إعادة إنتاج نفس المجتمع: إنتاج اليد العاملة المستقبَلية (الإنجاب) ورعاية اليد العاملة الحالية والمتقاعدة، ويتكرس الأمر مع السياسة النيوليبرالية حيث تتخلى الدولة عن وظائف الرعاية الاجتماعية، وتُلقيها على تلك الوحدة المنعزلة المسماة أسرة نووية. وكل الإشكالات التي تطفو إلى الإعلام وردهات القضاء (من طلاق وصراع حول الإرث وتفكك أسري… إلخ) هي نتاج إلقاء مشاكل اجتماعية ضخمة (خدمات عمومية وتشغيل وسكن… إلخ) تخلى عنها المجتمع، بفعل سياسة نيوليبرالية، وألقاها على هذه الأسرة المنعزلة.

في نفس الوقت تشكل النساء بالنسبة للرأسمالية معينا لا ينضب لإعادة إنتاج مجتمع الربح. فالنساء يد عاملة يجب إقحامها في السوق وما يوازيه من تأنيث قطاعات بكاملها، وفي الآن ذاته النساء استهلاكٌ كامن يجري حفزه بآلية الدعاية والإشهار الضخمة، وأيضا المرأة سلعة كجسد (الإشهار، صناعة الجنس… إلخ). هذا ما يجعل الرأسمالية ومؤسساتها تتحدث عن «تمكين النساء» و»الاستقلال الاقتصادي للنساء» و»تثمين عمل انساء»… إلخ، لكن في نفس الوقت هناك الميل المضاد في الرأسمالية وهو حاجتها إلى النساء كراعيات اجتماعيات داخل المنازل والأسرة. ومن هنا ينبع التوتر القائم بين الرجعيين والمحافظين من جهة والحداثيين من جهة أخرى، وكلهم وجهين لعملة واحدة: عملة اقتصاد رأسمالي.

ولأن الهدف هو بقاء الرأسمالية وإعادة إنتاجها بشكل مستمر، فإن المشاريع الثلاثة التي تبدو للانطباعين منخرطة في صراع مميت، لها غاية تخفي جوهر الاتفاق بينها: 1) بالنسبة للإسلاميين: الحرص الشديد على ألا تؤدي التغييرات الجارية في الواقع (أي المجتمع الرأسمالي) إلى تغير جذري في البنية التشريعية الدينية المنظمة لشؤون الأسرة والنساء؛ 2) بالنسبة للحداثيين: الحرص تغيير البنية التشريعية بما لا يدفع الواقع إلى تغير جذري في النظام الاقتصادي والاجتماعي الرأسمالي؛ 3) بينما تتقدم المَلكية لتُظهر نفسها بأنها الحَكم الحكيم الذي يوفق بين الطرفين، وفق الشعار الذي اخترعه ليوطي: «الأصالة والمعاصرة»، أي التحكم في التغييرات الواقعية والتشريعية بما يخدم المَلكية كنظام سياسي ويديم مجتمع الاضطهاد الرأسمالي.

طبعا حتى أشد غلاة الرجعيين لا يمكن أن يطالواب بتطبيق الترسانة التشريعية الدينية كما كانت في القرن الأول الهجري، فمنطق الواقع وتطوره يرفض ذلك. لا تنادي الحركات الإسلامية الوازنة حاليا بإرجاع المرأة إلى البيت وحرمانها من التعليم والعمل، بل حديث عن موازنة واجباتها الأسرية مع الواجبات المهنية… إلخ. فقط في حالات الانهيار الاجتماعي مثلما وقع في أفغانستان (طالبان) والعراق وسوريا (داعش) نشهد حالات من الهمجية (سبي النساء). لهذا تنتهي دائما المعركة حول مدونة الأسرة بقبول التيارات الإسلامية بتحكيم المَلك كأمر واقع، إما قبولا مشروطا أو غير مشروط.

في لُجة هذا الصراع بين أطراف يجمعها «الإجماع» على بقاء النظام الرأسمالي، يغيب المنظور العمالي الثوري، الذي يكافح من أجل تغيير جذري للواقع الاجتماعي وفي نفس الوقت لكل بنيته الفوقية، بما فيها تشريعات الأسرة. وُيعزى هذا إلى أن الحركة العمالية كما هي قائمة في المغرب، خصوصا الحركة النقابية توجد خارج النضال من أجل المطالب النسوية، وقسم من اليسار إما ذيلي للحداثيين أو مُغلَقٌ ذهنُه على تطورات نضال الحركة النسوية وفكرها.
سيظل انخراط الحركة العمالية وبناء حركة نسوية جماهيرية تقدمية شرط انتصار النساء في معركة تحررهن الطويلة، وفي نفس الوقت تحرر كل الكادحين- ات من مجتمع الاستغلال الطبقي والجندري والقومي، ولن يتأتى هذا بالاصطفاف إلى جانب إحدى المشاريع (الإسلامية والحداثية والمَكية) ضد الأخرى، بل بالنضال ضدها واجتراح طريق النضال المستقل عن البرجوازية وأحزابها ودولتها.

شارك المقالة

اقرأ أيضا