في ضرورة إسقاط الميثاقيّة الطائفيّة: حتى لا يُعاد إنتاج المأساة

تهتزّ أساسات نظام الطوائف في لبنان، ولم يعد على اللبنانيين سوى أن يدركوا أنه كلما ضاق الأفق أمامهم، اتسعت الحفرة الجحيمية التي سينتهي إليها كل ممسكٍ بأمنهم وعيشهم وأحلامهم باسم “الميثاقية”.

تسارعت التطورات منذ التاسع من كانون الثاني/ يناير 2025، مع انتخاب العماد جوزاف عون رئيساً للجمهورية، ثم تكليف القاضي نواف سلام لتشكيل الحكومة. ارتفعت توقعات اللبنانيين وانتعشت آمالهم تحديداً بعد خطاب القسم للرئيس عون، ومن ثم خطاب التكليف للرئيس سلام الذي ينسجم بشكل شبه كامل مع خطاب القسم، إذ تفاءلوا بأن مرحلة جديدة قد بدأت حقاً، مرحلة تُتخذ فيها خطوات ملموسة باتجاه التغيير السياسي، وبسط الدولة سلطتها على الأراضي اللبنانية كافة، وترويض العدوانية الإسرائيلية بالتزامن مع تنفيذ القرار 1701، ومعالجة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية المتراكمة.

تفاءل اللبنانيون الى درجة أن أعداداً كبيرة من المهاجرين والعاملين في الخارج بدأوا بالكلام حول نيّتهم العودة إلى لبنان للعمل والإقامة فيه. ربما يكون هذا التفاؤل ساذجاً، لكنه عكس توق اللبنانيين، في الداخل والخارج، الى الخلاص من مرحلة فاضت بالأزمات والمعاناة، وضُربت فيها مكتسبات اجتماعية وحقوقية ناضلت من أجلها أجيال من اللبنانيين واللبنانيات.

لإعادة تكوين السلطات، وانتظام المؤسسات الدستورية، أثرٌ من المفترض أن يكون إيجابياً على مستوى الاقتصاد اللبناني، مهما كانت معاناته من ضعف في تكوينه البنيوي وتخلّفٍ في السياسات المتبعة كبيرة، على الأقل من ناحية التخفيف من آثار الانهيار طويلة الأمد. لكن عملية إعادة التكوين السياسية تواجه عقبات خطيرة، إذ إنها، بشكلٍ أو بآخر، تحاول الإفلات من قبضة الثنائي الشيعي (حزب الله وحركة أمل)، لتسدل الستار على زمن الشيعية السياسية، حتى يبدأ زمنٌ آخر عبر عملية انتقالية سلمية.

فرص نجاح التشكيلة الحكومية بصيغة تضمن فكاك “منظومة الحكم” من هيمنة الثنائي الشيعي تتضاءل يومياً، بالتوازي مع اتساع هامش مناورته السياسية، على رغم ما يشكّله ذلك من خطر تجدد العدوان الإسرائيلي بذريعة عجز اللبنانيين عن إنتاج حكومة تملك الصلاحيات الكافية لوضع القرار 1701 موضع التنفيذ، أو تفاقم التوترات الداخلية، بخاصة بعد مشهد العراضات الحزبية وما رافقها من شعارات تحريضية وتعبوية في عدد من المناطق المعارضة لسياسة الثنائي أو المتنوعة سياسياً، أو خسارة فرصة إعادة الإعمار بعدما تجاوزت أضرار الحرب الأخيرة ضعفي ما نتج من حرب تموز/ يوليو 2006.

ولعل أخطر عقدة في مسار التشكيل الحكومي هي عقدة وزارة المالية، وقد كانت هذه الوزارة أحد المفاتيح الأساسية التي امتلكها الثنائي لتعطيل العمل الحكومي منذ عام 2014. غير أن الانتظام العام على مستوى السلطة التنفيذية العليا، من دون إجراء إصلاحات جذرية وشاملة في بنية النظام السياسي، لا يكفي للتغلب على الواقع المأزوم على جميع الأصعدة، كما أن “تسونامي” الدعم الخليجي والغربي المنتظر لن يصنع فرقاً كافياً ولن يعيد عقارب الساعة إلى ما قبل الانهيار. وبالطبع، فإن كل دعمٍ خارجي لن يكون بالمجان، وليس بإمكان لبنان أن يعيش عشرات السنوات الإضافية على أجهزة الإنعاش.

تحاول قوى النظام المأزوم، وعلى رأسها الثنائي الشيعي بما يرمز إليه مرحلياً، استغلال تداخل الأحداث السياسية وهشاشة الاستقرار الأمني للنهوض بصيغة الحكم الطائفي التحاصصي على حساب المجتمع والأجيال القادمة. إلا أن تجارب الطائفية السياسية لم تعد قابلة للحياة بعد الانهيار الاقتصادي والاجتماعي الكبير عام 2019. بمعنى أن الديناميات “التوافقية”، القائمة على تعزيز دور الطوائف وإعادة تموضعها ضمن الحكم السياسي على قاعدة توازن الرعب الداخلي بين الطوائف، لم تعد قادرة على إعادة إنتاج النظام اللبناني بالشكل الذي يضمن دخول لبنان في مرحلة من النمو ثم الاستقرار، كما حصل مثلاً بعد اتفاق الطائف عام 1989.

لم يعد ممكناً تجاهل ضرورة القيام بإصلاحات سياسية واقتصادية جذرية وطارئة، بعدما أصبحت حاجة موضوعية وتاريخية خلال السنوات الست الأخيرة. ولم يعد أيضاً من السهل إغراق عدد أكبر من اللبنانيين بكمٍّ هائل من الأكاذيب، بعدما ذاقوا كل ألوان الويلات، واختبروا كل أنواع الدعاية السياسية الكاذبة. ربما يكون “الميثاق الوطني” أكبر تلك الأكاذيب على الإطلاق، وهو في الحقيقة خنجر سامّ غُرِز في خاصرة المجتمع اللبناني، والسياسة اللبنانية، والدستور اللبناني، على مر التاريخ.

المصدر: 

https://daraj.media/%d9%81%d9%8a-%d8%b6%d8%b1%d9%88%d8%b1%d8%a9-%d8%a5%d8%b3%d9%82%d8%a7%d8%b7-%d8%a7%d9%84%d9%85%d9%8a%d8%ab%d8%a7%d9%82%d9%8a%d9%91%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b7%d8%a7%d8%a6%d9%81%d9%8a%d9%91%d8%a9-%d8%ad/

شارك المقالة

اقرأ أيضا