هذه الثورة إنما هي في بدايتها: لقاء مع اليسار في دمشق
بقلم؛ عمر حسن
”هذه الثورة إنما هي في بدايتها»، يقول فادي، وهو رجل في أواخر الخمسينات من عمره، يقف على درج وزارة التربية والتعليم السورية. «علينا أن نواصل المضي قدماً. لن ينتهي الأمر حتى يحصل الجميع على حقوقهم». أنا مع حوالي 50 سوريًا يحتجون على خطوة الحكومة الجديدة، بقيادة هيئة تحرير الشام، لتحويل المناهج الدراسية نحو رؤية إسلامية طائفية ومحافظة للعالم.
يتفق الجميع على ضرورة إزالة الدعاية المؤيدة للأسد التي تعج بها الكتب المدرسية. لكن التغييرات المقترحة تذهب إلى أبعد من ذلك: إلغاء الدروس المتعلقة بالتطور ونظرية الانفجار العظيم، وإلغاء جميع الإشارات السلبية إلى الإمبراطورية العثمانية، وإزالة كل ما يشير إلى مختلف الطوائف في تاريخ سوريا. ومن شأن هذه التغييرات أيضًا تعليم التلاميذ في المدارس الابتدائية أن المسيحيين واليهود هم «الذين ضلوا الطريق» عن الإسلام.
قوبل المرسوم على الفور بالرفض الصاخب من قبل العديد من السوريين. لدرجة أن الحكومة اضطرت إلى التراجع عن التغييرات حتى قبل مظاهرة اليوم، التي لم تكن كبيرة جدا. لكنها كانت تجمعاً مهماً رغم ذلك. فمن ناحية، حضرت وسائل إعلام كثيرة، ما أتاح للمناضلين/ات اليساريين/ات فرصة نادرة لإسماع صوتهم للشعب السوري حول رؤيتهم لمجتمع دامج وعادل للجميع.
وبوجه حاص، أتيحت للمناضلين التقدميين فرصة للقاء بعضهم البعض وتبادل الأفكار ومشاريع للمستقبل. كان هناك نوعان من الناس الحاضرين. كان العديد منهم من قدامى المناضلين أيام العمل السري، وتبلغ أعمارهم 60 عامًا أو أكثر، وبعضهم قضى أحكامًا طويلة بالسجن بسبب جهودهم الشجاعة.
«كنت معارضاً للأب [حافظ الأسد]، وكنت معارضاً للابن [بشار]، وأنا اليوم معارض»، يقول رجل مسن ذو كاريزما عالية، والذي أعلن في النهاية أنه عضو في حزب العمل الشيوعي. تعرفت على حسيبة عبد الرحمن، وهي كاتبة نسوية اشتراكية مستقلة عبرت في الاتجاه نفسه بقول: «لم نفز بأي شيء حتى الآن، نحن بحاجة إلى يسار أقوى، وأحزاب سياسية جادة لتعزيز مكاسبنا وتحقيق المزيد».
كان ثمة عدد لا بأس به من الراديكاليين الشباب الذين نشطوا في أيام الثورة الأولى في عام 2011، وكانوا ينتظرون بفارغ الصبر فرصة للنزول إلى الشوارع مرة أخرى. تقول ديما، وهي أخصائية أمراض النطق في دمشق: «لقد كنا هناك منذ البداية، وحتى في السنوات الأخيرة كان هناك بعض التنظيم في الخفاء».
سألتهم عن رأيهم في من يقول بوجوب التحلي بالصبر، وإتاحة وقت للحكومة الجديدة. فتدخل طارق، وهو مهندس كمبيوتر، بقوة: «كيف نمنحهم مزيدا من الوقت؟ لقد جلسوا لمدة ساعتين هذا الأسبوع وأنتجوا هذا الإصلاح الرهيب لنظام التعليم. إذا تركناهم وشأنهم، فما الأضرار سيسببون غدًا؟ مسؤولية المواطن الأولى هي محاسبة الحكومة».
تقفز ديما مرة أخرى: «إنهم يغيرون السياسة ويتوقعون منا أن نقبلها. أين المشاركة، أين سوريا الديمقراطية التي وُعدنا بها؟».
هؤلاء المناضلون/ات مثيرون/ات للإعجاب، لكنهم- هن في الثلاثينيات وأوائل الأربعينيات من العمر. عندما سألت عن غياب تمثيل من الطلاب والشباب، قيل لي أن جيلهم أصغر من أن يكون قد عايش حقبة الثورة، وبالتالي هم أقل انخراطاً في العمل السياسي. ومن المفترض أن العطلات الشتوية لم تساعد هي أيضًا.
مهما يكن من أمر، لقد مضى أقل من شهر على سقوط الأسد، ولا يزال الناس يتلمسون طريقهم. ومع ذلك، كان هناك موجة عريضة من الاجتماعات والتحركات السياسية. في تزامن مع الاحتجاج في مجال التعليم، تجمعت مجموعة من السجناء السابقين للمطالبة بعدم إفلات معذبيهم من العدالة. وفي كل يوم، تنعقد اجتماعات وفعاليات ينظمها الاشتراكيون/ات والنسويون/ات والمنظمات غير الحكومية الليبرالية والفنانون وعائلات الذين اختفوا في نظام سجون الأسد وغيرهم.
لا يقتصر الأمر على المرح. في بعض الأحيان، تعرضت جهود هذا اليسار الناشئ للانتقاد والإدانة على نطاق واسع. وقد يرجع ذلك جزئيًا إلى سوء الفهم الصادق لأهدافهم لأن الكثيرين يربطون مفاهيم العلمانية والاشتراكية بالنظام القديم. ولكن في الأمر ما هو أكثر حبثا، إنه الجهد الجاد الذي يبذله أنصار هيئة تحرير الشام لتشويه سمعة أي معارضة باعتبارها فلولا («بقايا“ النظام القديم). تضحك ديما عندما أشير إلى ذلك: «مستحيل، بل العكس تماماً. فالأشخاص الذين أعرفهم والذين كانوا فاشلين تماماً مع الأسد هم الآن من أكبر مؤيدي هيئة تحرير الشام».
وكانت لهالة، وهي عضو في تيار اليسار الثوري السوري، ملاحظة شبيه عندما التقينا لتناول القهوة أمس. «إنهم يسموننا بالفلول، لكن في الواقع، لقد ضمت هيئة تحرير الشام عدداً من شخصيات النظام القديم». وهذا هو الحال بوجه خاص في مجال السياسة الاقتصادية: فقد كان المدير الجديد للبنك المركزي نائباً في عهد الأسد.
كما أستُدعيت شخصيات أخرى من فريق الأسد الاقتصادي، المعروف بخصخصة كل شيء وخفض أكبر قدر ممكن من الدعم، للعب أدوار مهمة. وتقوم هيئة تحرير الشام بذلك للإشارة إلى التزامها باللعب وفق قواعد النظام الرأسمالي. ويوضح هلا أيضًا كيف أن عددًا من رموز النظام السابق والبيروقراطيين في جميع أنحاء البلد قد قلبوا ولاءهم إلى هيئة تحرير الشام، بما في ذلك قادة العديد من النقابات العمالية والطلابية.
لا يزال الوقت مبكرًا، لكن البعض بدأ بالفعل في تنظيم صفوفه ضد السلطة الجديدة. فقد أضرب عمال الإطفاء في دمشق بعد إقالتهم واستبدالهم بأشخاص من إدلب، وحصلوا على وعد بإعادة توظيفهم لاحقًا. وتعرضت نقابة المحامين للهجوم بعد أن تم منع المحامين الدمشقيين من العمل إلى أجل غير مسمى، وهناك حديث الآن عن تأسيس نقابة مستقلة. كما يمكن أن تؤدي إعادة فتح المدارس والجامعات في غضون أسابيع قليلة إلى خلق إمكانيات جديدة للمقاومة.
في نهاية التجمع حول التعليم، أعلن أحدهم عن اجتماع تنظيمي مقرر عقده في وقت لاحق من ذلك اليوم، وهو ثاني اجتماع لمجموعة جديدة تسمى الحركة الديمقراطية السورية. يُعقد الاجتماع في مقهى كهفي قيل لي أنه مقهى تاريخي لليسار. نتجاوز مشهدًا كلاسيكيًا لرجال مسنّين متقدمين في السن يلعبون الورق وطاولة الزهر، ونأخذ أماكننا في الغرفة التي تقع خلفه. أحد الرجال، الذي علمت لاحقًا أنه قضى ستة عشر عامًا في أحد زنزانات الأسد، وضع المشهد بشكل جميل بقول: «أيها الرفاق، نحن نعيش لحظة تاريخية ولدينا فرصة ذهبية لتشكيل مستقبل بلدنا. فلنعمل بجدية».
ما تلا هو مألوف واستثنائي في آنٍ واحد، حيث يقوم 55 شخصًا بصياغة برنامج لبناء جبهة تقدمية للتدخل في السياسة السورية. هناك حتماً بعض الجدل حول قضايا ثانوية ودلالية. لكن الجميع جاد للغاية في محاولة إنجاح هذا الأمر وبناء المجموعة على أسس سياسية متينة. هناك إجماع واسع حول التأكيد على حقوق المرأة ومعارضة الاحتلال الإسرائيلي للأراضي السورية والعمل على إشراك المزيد من الشباب في الحركة.
تحدث عبد الله، وهو رجل مسن ترجم كتاب «الأنثى المخصيةThe Female Eunuch « لجيرمين غرير Germaine Greer إلى اللغة العربية، عن الحاجة إلى إضافة فقرة عن حقوق الأكراد، بالنظر إلى الهجمات المستمرة ضدهم من قبل الميليشيات الموالية لتركيا. ويحظى ببعض التأييد، خاصةً من تيار اليسار الثوري، لكن لا يبدو أن هناك إجماعًا على ذلك. ففي سوريا تاريخ مديد من الشوفينية إزاء الأكراد، وجلي أنه لا يزال هناك عمل يجب القيام به على هذه الجبهة.
إن أِفتُقد أمر ما في المحادثة، فقد كان هو التركيز على المظالم الاقتصادية. وقد حذرتني هالة سابقًا من خطورة أن يتم تصنيف اليسار كمتحدثين باسم الأقليات فقط. «بالطبع علينا أن ندافع عن حقوقهم، ولكن علينا أيضًا أن نتحدث بعبارات شاملة، وأن ندفع بالمطالب الاقتصادية التي يمكن أن تثير اهتمام الشغيلة من جميع الفئات الدينية». وبالنظر إلى أن منظمة هيومن رايتس ووتش ذكرت أن أكثر من 90% من السوريين يعيشون تحت خط الفقر حتى أواخر عام 2023، لا يسعني إلا أن أوافقها الرأي.
ومع ذلك، إنها تجربة رائعة أن تجلس في غرفة مع أشخاص يجربون التنظيم الديمقراطي المفتوح لأول مرة. هناك شيء ساحر بعض الشيء في الضوء الذهبي المنبعث من النوافذ، والضباب الناتج عن التدخين المتسلسل المنتشر، وشغف الرفاق الذين يتحدثون عن أفكارهم، ويبنون أرضية جماعية مهمة، أمام الملأ، بعد 54 عامًا من الديكتاتورية.
يتضمن جدول فعاليات الغد اجتماعًا علنيًا لتيار اليسار الثوري، الذي يؤكد بأن إزاحة رأس النظام لا يكفي بأي حال من الأحوال لضمان تغيير دائم وتصاعدي. وفي قسم مختلف تماماً من المدينة، هناك محاضرة عن مستقبل سوريا الاقتصادي يشارك فيها مثقفون معارضون معروفون، وعرض فيلم وثائقي عن حياة ونشاط الفوضوي السوري ياسين الحاج صالح. وهذا ما وصلني فقط. ومن لا ريب أن ثمة مزيد.
سيكون هناك بالتأكيد تحديات ضخمة ونقاشات كثيرة في المستقبل، لكن اليسار دخل المعركة من أجل مستقبل سوريا.
المصدر:
https://redflag.org.au/article/this-revolution-is-just-getting-started-an-encounter-with-the-left-in-damascus
اقرأ أيضا