حوار الحكومة والنقابات: دولة لا تريد التنازل، وبيروقراطيات نقابية تستجدي الفتات
نشر هذا النص ضمن مواد العدد 60 من جريدة المناضل-ة
حررت الحكومة أسعار المحروقات وأخضعتها لتقلبات السوق، وزادت أسعار الماء والكهرباء، وجمدت الأجور والتعويضات، وقلصت فرص الشغل، ووسعت نطاق الفقر والبؤس والفوارق الاجتماعية… إنها تحمل أعباء ديون غير شرعية، وثقل سخائها إزاء البرجوازية المحلية والإمبريالية للأجراء وصغار المنتجين.
لا تجد الحكومة وهي تقود هجماتها النقابات في مواجهتها، بل رافقت الأخيرة مجمل تعدياتها وأشرت على أهمها مثل مدونة الشغل وغيرها من الإصلاحات المعادية للعمال ولأغلبية الشعب الكادحة. حتى مع وجود مقاومة قطاعية وعلى صعيد المقاولات تبقى القيادات النقابية متفرجة إن لم تعمل على تنظيم الهزائم صراحة. وفي مواجهة الدولة المستبدة وحكوماتها تكتفي بالوعيد والتهديد، والتذكير أيضا بأنها طرف مسؤول منشغل تماما بصون السلم الاجتماعي ودوامه.
تريد الدولة وحكوماتها النقابات على هذا المنوال، لكنها لا تعيرها مع ذلك كبير اهتمام، إلا عند الحاجة لكبح ديناميات نضال منطلقة من الأسفل ومنفلتة إلى هذا الحد أو ذاك من رقابة بيروقراطية النقابات. تقوم الحكومة ومن ورائها حكام البلد الفعليون باتخاذ قرارات مصيرية تهدم كل ما تم انتزاعه عبر النضال من مكاسب تاريخية ولا تشرك القمم البيروقراطية سوى لتمريرها وتسهيل ابتلاعها من طرف أغلبية المجتمع المسحوقة والمضطهدة.
ولرفع الحرج تلجأ بيروقراطية النقابات أحيانا لرد متحكم فيه، وهذا حال إضراب عام يوم 29 أكتوبر 2014. لقد مر الإضراب كأنه لم يجري أصلا، وتجاهلت الدولة وحكومتها نداءات قمم النقابات للحوار، بل لم تولي حتى الآن لتصريحاتها النارية حينا، والمطمأنة غالبا، أدنى اعتبار. سلسلة من حوارات عبر لجان قطاعية دون تقدم يذكر، بل في ظل إصرار حكومي لا يلين على تمرير تعدياتها الخطيرة على حقوق الأجراء ومكاسبهم.
تعلم الدولة والحكومة أن مفاوضيها يقبلون بتمرير تعدياتها، لكنها لا تريد أن تمنحهم مع ذلك المقابل الذي يستجدونه لرفع الحرج أمام قواعد النقابات بخاصة، وعموم الشعب الكادح. دليل ذلك أن الدولة وحكامها الفعليون لم يترددوا خلال هزة 20 فبراير في إقرار زيادة مهمة في الأجور وغيرها من إجراءات لم تكن أبدا على جدول أعمالهم، في حين أن حكام البلد المستبدين لا يكترثون حاليا لوعيد القادة النقابيين وتهديدهم.
جرت أولى جلسات الحوار الاجتماعي يوم 10 فبراير 2015. أي بعد أزيد قليلا من 3 أشهر عن إضراب 29 أكتوبر 2014. وهو اللقاء الذي شكلت على إثره ثلاث لجان للنظر في المطالب العشرة للمركزيات النقابية الثلاثة، الكونفدرالية الديمقراطية للشغل، الاتحاد المغربي للشغل، والفيدرالية الديمقراطية للشغل. وقد أفضت جلسة الحوار برئاسة رئيس الحكومة إلى: إرجاع ملف إصلاح أنظمة التقاعد للجنة التقنية التي سبق أن اشتغلت على الملف لأكثر من عشر سنوات، على أن تناقش هذه اللجنة مقترحات كل من النقابات والحكومة والمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي من أجل وضع خلاصة تجمع بين جل هذه المقترحات وعرضها على اللجنة الوطنية لإصلاح أنظمة التقاعد والتي يترأسها رئيس الحكومة وتضم الوزراء المعنيين بالملف وممثلي صناديق التقاعد وأيضا الأمناء العامون للمركزيات النقابية. وأيضا على تعيين ثلاث لجان رئيسية: تتكلف الأولى بمناقشة كل المواضيع المتعلقة بالحقوق والحريات النقابية، والثانية ستشتغل على كل ما هو مرتبط بتحسين دخل العمال، وفي إطار هذه اللجنة ستتم مناقشة الأجور والتعويضات والضريبة على الدخل وغيرها، والثالثة هي لجنة الحوار مع القطاعات. على أن يتم عقد لقاء آخر مع الحكومة بعد أن تقدم هذه اللجان خلاصاتها.
وتتمثل جملة مطالب النقابات في التالي: (1) زيادة عامة في الأجور وفي معاشات التقاعد. (2) تخفيض الضغط الضريبي على الأجور وتحسين الدخل. (3) رفع سقف الأجور المعفاة من الضريبة إلى 6000 درهم شهري. (4) السهر على احترام الحريات النقابية وإلغاء الفصل 288 من القانون الجنائي. (5) سن مقاربة تشاركية في إصلاح منظومة التقاعد. (6) تنفيذ ما تبقى من بنود اتفاق 26 أبريل 2011. (7) السهر على فرض احترام مدونة الشغل والسهر على إجبارية التصريح بالمأجورين في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي. (8) فتح مفاوضات قطاعية للوصول إلى اتفاقية جماعية. (9) وضع حد للعمل الهش ـ تقنين العمل بالعقدة ـ العمل بالمناولة ـ العمل المؤقت ـ ووضعية شركات المناولة، ونهج سياسة تحفيزية للقطاع غير المهيكل. (10) خلق خلية وزارية لتنقية الأجواء الاجتماعية في الوحدات الإنتاجية لإيجاد الحلول لها.
لكن مجريات التفاوض تشير إلى مراوحة المكان، إذ لم يحصل التقدم بخصوص أي من مطالب النقابات. ومع أن الأخيرة عادت لخطاب التصعيد والتهديد بخطوات نضال قوية، إلا أنها تكرر دوما أنها محاور «إيجابي ومسؤول» ينتظر من الحكومة معاملة بالمثل. ربما تبحث النقابات عن مقابل لخضوعها، أول على الأقل وعود ترفع عنها الحرج بمناسبة فاتح مايو الذي بات قريبا جدا.
توجد على ذلك مؤشرات نذكر منها تركيز قادة النقابات على تنفيذ ما تبقى من اتفاق 26 أبريل 2011، مقابل إصرار رئيس الحكومة على تمرير برنامجه ل»إصلاح» أنظمة التقاعد. لكن تركيز ممثلي المركزيات النقابية نفسه على هذا الاتفاق توارى، ليحل معه تركيز على ثلاث مطالب اعتبرتها رئيسية؛ زيادة عامة في الأجور، هناك من حددها في نسبة 20 بالمائة. وزيادة في التعويضات العائلية، ورفع سقف الأجور المعفية من الضرائب. ومرة أخرى أمام مراوحة المكان، وعدم تزحزح موقف الحكومة، يتخلى قادة النقابات عن مطلب الزيادة العامة في الأجور.
هذا إذن ما أوصلت إليه إستراتيجية التعاون الطبقي المديد للبيروقراطية النقابية، الحركة العمالية المغربية: استسلام واستجداء لما تجود به البرجوازية ودولتها المستبدة، وحكوماتها المتعاقبة.
لا يوجد حل لهذا المأزق النقابي سوى بتبني إستراتيجية نقابية بديلة، إستراتيجية نقابية طبقية معادية للرأسمالية ومناهضة للسياسات الليبرالية الجديدة. إستراتيجية نقابية تبنى من القاعدة إلى القمة على أسس الديمقراطية العمالية. إستراتيجية نقابية تعزز قوة النقابة ودرجة تنظيمها، وتسهم في رفع وعي الأجراء والأجيرات مصالحهم الآنية والمستقبلية، وتشدد عزمهم وقتاليتهم لانتزاعها.
اقرأ أيضا