احتواء حزب الله

بقلم؛ سليمان مراد
04 ديسمبر 2024

في الساعات الأولى من يوم 27 نوفمبر، دخل اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحزب الله حيز التنفيذ. شروطه أحادية الجانب بشكل جذري، ما يعبر عن قوة الجيش الاسرائيلي ونفوذه.
يتعهد الجيش الإسرائيلي بوقف حملاته العسكرية في لبنان والانسحاب في غضون ستين يوماً.
يوقف حزب الله هجماته ضد إسرائيل، ويسحب مقاتليه شمال نهر الليطاني. ويتم تدمير جميع القواعد العسكرية لحزب الله جنوب نهر الليطاني.
ينشر لبنان، بمساعدة لوجستية وعسكرية من الجيشين الأمريكي والفرنسي، 10000 جندي لتأمين المنطقة الواقعة جنوب الليطاني.
يمكن للنازحين العودة إلى بلداتهم.
يلتزم لبنان وإسرائيل بتنفيذ قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1701، الذي تم تبنيه أصلاً لإنهاء حرب عام 2006، مع الحفاظ على حقهما المتبادل في الدفاع عن النفس.
وفقًا للقرار، ستتوسط الولايات المتحدة والأمم المتحدة في المفاوضات بين لبنان وإسرائيل حول القضايا العالقة على طول «الخط الأزرق» (أي انتهاك إسرائيل للحدود الفعلية بين البلدين).
ستقود الولايات المتحدة وفرنسا «حملة دولية» لدعم إعادة إعمار لبنان وتنميته.
وكما هو الحال مع اتفاقات وقف إطلاق النار السابقة، تم الاتفاق على عدة بنود سرية بين إسرائيل والولايات المتحدة، لكنها على الأرجح أهم من البنود الرسمية. في العام 2006، كان من المفترض أن تساعد واشنطن في تطبيق القرار 1701، لكنها بدلاً من ذلك وقفت متفرجة بينما كانت إسرائيل تخرق شروطه مراراً وتكراراً – رافضة السماح لقوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة بتنفيذ مهمتها ورافضة أي وجود جدي للجيش اللبناني جنوب نهر الليطاني. وبالتالي انتهى الأمر بعودة حزب الله إلى الجنوب وإعادة بناء بنيته التحتية العسكرية هناك. فهل سيكون الأمر مختلفاً هذه المرة؟
بعد أقل من أسبوع من توقيع الاتفاق، تشير التقديرات إلى أن إسرائيل قد انتهكته بالفعل 100 مرة، حيث قامت بهدم منازل قريبة من الحدود، وشن غارات جوية متكررة، وقصف البلدات والقرى في الجنوب، وإطلاق النار على المدنيين العائدين، وتحليق طائرات مسيرة على ارتفاع منخفض فوق بيروت. ورد «حزب الله» بقصف رمزي بقذائف الهاون – ولكن يبدو أن الحزب مستعد في الوقت الراهن للتسامح مع استمرار العدوان الإسرائيلي بدلاً من العودة إلى الأعمال العدائية الشاملة.
ولعل هذا الاتفاق غير المتوازن هو قبل كل شيء علامة على أن حزب الله قد أنهى حملته العسكرية لصالح فلسطين. في أكتوبر/تشرين الأول 2023، أعلن الحزب «وحدة الساحات» تضامنًا مع حركة حماس وضد الفظائع الإسرائيلية في غزة. ومنذ ذلك الحين، عانى الحزب من صراع مستمر: فقد خسر أمينه العام حسن نصر الله وخليفته هاشم صفي الدين، بالإضافة إلى جميع كبار ضباطه العسكريين تقريبًا وحوالي 2000 إلى 2500 مقاتل نظامي. وهو أبعد ما يكون عن الهزيمة، إذ لا يزال إطاره السياسي سليماً بالكامل تقريباً. ولكن يبدو، بعد كل ما وقع، أن قادته قد بالغوا في تقدير قوتهم واستهانوا بتكتيكات الحرب الإسرائيلية القذرة -والتي تظهر بوضوح في هجماتها المميتة عبر أجهزة الاستدعاء واللاسلكي.
لذلك بدأ حزب الله في تبني خط سلوك جديد خلال الأسبوع الماضي. ففي الخطاب الذي ألقاه الأمين العام الجديد، نعيم قاسم، في 29 تشرين الثاني/نوفمبر، حدد أولويات الحزب: دعم مهمة الجيش اللبناني، وتوفير الموارد لجهود إعادة الإعمار، وانتخاب رئيس جديد للجمهورية، والالتزام الكامل بالنظام السياسي الوطني، على أساس اتفاق الطائف لعام 1989 الذي أنهى الحرب الأهلية. وكان الوعد الأخير هو الأكثر لفتًا للانتباه. فمنذ تأسيسه في العام 1982، سعى حزب الله إلى إبقاء قاعدة سلطته منفصلة عن أجهزة الدولة – حيث عمل بشكل أساسي خارجها ولم يوافق على دخول البرلمان والحكومة البلدية إلا بعد فترة تردد طويلة. كما أن تأثيره على الجيش اللبناني والقضاء اللبناني لا يكاد يذكر. وقد حاول أن يتجنب التلوث بالفساد المتغلغل في هذه المؤسسات. لكن نظراً للضرر الذي ألحقته إسرائيل بالحزب وقاعدته الاجتماعية، يبدو أن حزب الله مستعد الآن للتخلي عن بعض من هذا الاستقلال ليصبح جزءاً من المؤسسة: أن يصبح قوة حكومية أكثر من كونه قوة مكافحة.
إن عواقب هذا الوضع على الوضع السياسي اللبناني عديدة. أولاً، أدت حملة الإبادة التي تشنها إسرائيل ضد المناطق الشيعية إلى مستوى غير مسبوق من التضامن مع حزب الله الذي عزز سمعته كمدافع جدي وحيد عن هذه الطائفة. ولكن إلى متى سيستمر هذا المزاج إذا ما بدأ الحزب بلعب دور أكبر في الإشراف على عملية إعادة الإعمار – التي لا بد أن تعاني من سوء التصرفات والمخالفات المعتادة – وفي إدارة الاقتصاد المتراجع؟ هل سيفسد جاذبيته الشعبية برفضه الرد بقوة على الاعتداءات الإسرائيلية المستمرة؟
ثانياً، بعد أن نجحت الولايات المتحدة وإسرائيل في إضعاف حزب الله عسكرياً، ستسعيان الآن إلى إضعافه سياسياً من خلال تأجيج الانقسامات الطائفية في لبنان. وقد حاولت السفيرة الأمريكية في لبنان، ليزا جونسون، بالفعل إثارة حرب أهلية طائفية. وهي لم تنجح في ذلك حتى الآن، لكن البلد لا يزال عرضة لهذا النوع من الحيل، خاصة مع استمرار تدهور وضعه الاقتصادي تحت وطأة القنابل الإسرائيلية. فمع تدمير نحو 100 ألف منزل جزئياً أو كلياً، ونزوح آلاف الأشخاص وإغلاق العديد من الشركات، يقدّر البنك الدولي تكلفة الحرب بنحو 8.5 مليار دولار.
ثالثاً، في السياق السياسي غير المستقر في لبنان، يمكن أن يؤدي تحول حزب الله إلى عملية إعادة اصطفاف أوسع نطاقاً. فالحليف المسيحي الرئيسي للحزب، جبران باسيل، زعيم التيار الوطني الحر، قد يرى في تدخله المتزايد في الشؤون الداخلية شكلاً غير مرحب به من أشكال المنافسة. وعلى الرغم من أنه مدرج حاليًا على قائمة العقوبات الأمريكية بسبب دعمه لحزب الله، إلا أنه قد يسعى الآن إلى تسوية مع القوى الغربية: أن ينقلب على خصومهم ويجعلهم في المقابل يصادقون على فساده ويشدد قبضته على الطائفة المارونية.
وقد لعب رئيس مجلس النواب الحالي، نبيه بري، الذي يرأس حركة أمل، البديل الرئيسي لحزب الله داخل الطائفة الشيعية، دور خط الدفاع الأول عن حزب الله خلال الشهرين الماضيين. وقام بدور حاسم في المفاوضات مع المبعوث الأمريكي (والملازم السابق في الجيش الإسرائيلي) عاموس هوخشتاين، وقاوم بحزم الضغوط لتعديل القرار 1701. لكن بري يبلغ من العمر الآن 86 عامًا ولن يبقى في منصبه لفترة طويلة جدًا. وليس من المؤكد أن يظهر زعيم آخر من عياره داخل حركة أمل مع الحفاظ على الانسجام مع حزب الله. والسيناريو الأسوأ بالنسبة إلى حزب الله هو أن تسعى شخصية معادية له إلى تحدي الحزب وجهاً لوجه.
يبقى وليد جنبلاط، من جهته، متمرسًا في تحقيق التوازن، وهدفه الرئيسي هو الحفاظ على احتكار عائلته للسلطة الفعلية داخل الطائفة الدرزية. وهو يعلم أن حزبه التقدمي الاشتراكي يمكن أن يكسب نفوذاً سياسياً من خلال الاصطفاف التكتيكي مع حزب الله ضد إسرائيل. ولكن، في الوقت نفسه، يعمل عدد كبير من الدروز في منطقة الخليج، ويتطلب رفاههم الاقتصادي مسافة محسوبة من حزب الله. في 9 يناير 2025، سيجتمع البرلمان اللبناني لانتخاب رئيس جمهورية جديد، بعد أن ظل المنصب شاغرًا لمدة عامين. ويمكن لكتلة جنبلاط البرلمانية المكونة من تسعة نواب أن تلعب دورًا حاسمًا في انتخاب رئيس معتدل، مستعد للعمل مع حزب الله، أو زعيم أكثر انفتاحًا على الغرب. وقد يؤدي قراره إلى تخفيف الضغط على الحزب أو تشديده.
ثم هناك سمير جعجع، قائد القوات اللبنانية، الذئب الوحيد الذي يحاول تحدي حزب الله مباشرة بدعم من الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة. وحتى الآن، لم يفعل الكثير، ولكن بالنظر إلى التحول الدراماتيكي للأحداث في شمال سورية، يبدو أن ثمة احتمالاً حقيقياً لتجدد الصراع بين السنة والشيعة في المنطقة، وهو ما قد يصب في صالح خطة جعجع.
ماذا عن إسرائيل؟ نتنياهو محق بقول إن وقف إطلاق النار يمثل انتصارًا لجانبه. لكن مشروع الصهاينة الأوسع نطاقاً – أي تسويق نظام الفصل العنصري العسكري الخاص بهم كملاذ ليهود العالم – يبدو أقل صلابة. فقد نجح حزب الله في اختراق قوقعة إسرائيل بإجبارها على إجلاء عشرات الآلاف من السكان من منطقة الحدود الشمالية؛ ونجح في مقاومة محاولات القضاء عليه كقوة سياسية؛ وكشف اعتماد إسرائيل الكلي على الأسلحة والمستشارين والاستخبارات والغطاء الدبلوماسي والحماية القانونية والدعاية الأمريكية والأوروبية. لا يمكن لدولة كهذه، قائمة على التطهير العرقي ومدانة بالإبادة الجماعية، أن تدعي توفير الأمن الكامل لمواطنيها. وحتى لو قرر حزب الله الانسحاب من المقاومة المسلحة، فإن قوة أخرى ستحل محله.
واليوم، ولبنان يشرع في عملية مديدة لإعادة الإعمار، يبدو حجم المهمة محبطا للهمة. فمن سيغطي التكاليف؟ لقد أرسلت إيران بالفعل مئات الملايين من الدولارات على شكل مساعدات، ما مكّن حزب الله من إدارة برامج إغاثة ورعاية اجتماعية عززت قوته داخل الطائفة الشيعية. لكن هذه المرة، قد تكون الجمهورية الإسلامية – التي تعاني من مشاكلها الاقتصادية الخاصة بها وتتردد في إثارة مواجهات جديدة مع إسرائيل – أقل سخاءً. فهل ستتولى الدول الغربية أو دول الخليج تمويل إعادة الإعمار في محاولة لزيادة نفوذها ونزع المسؤولية عن حزب الله؟ سيعتمد ذلك جزئيًا على ما إذا كانت الولايات المتحدة مستعدة لرفع بعض عقوباتها المفروضة على لبنان والسماح للاقتصاد بالانطلاق مجددًا، أو ما إذا كانت ستستمر في عرقلة أي انتعاش جدي.
قد ينطوي اختيار رئيس لبناني جديد على فترة طويلة من الشد والجذب البرلماني، لكن النتيجة ستعكس حتماً ميزان القوى السياسي في البلد. وقد يكون مرشحاً موالياً للغرب علناً مثل جعجع، حتى لو كانت حظوظه الشخصية ضئيلة جداً. وقد يكون أيضًا مرشحًا سيحاول التوصل إلى حل وسط مع جميع الأطراف. ولكن هناك شيء واحد مؤكد: لن يكون مؤيدًا لحزب الله. فحزب الله مجروح جداً بسبب القتال ومستقبله غير مؤكد بتاتا.
المصدر: مجلة اليسار الجديد New Left Review
https://newleftreview.org/sidecar/posts/hezbollah-contained

شارك المقالة

اقرأ أيضا