النزاعات الجيوسياسية، ومناهضة الإمبريالية، والنزعة الأممية في زمن «التسارع الرجعي»
بقلم، باستور خايمي PASTOR Jaime
في مواجهة أزمة النظام (الفوضى)الجيوسياسي الدولي، «سأركز في هذا المقال على وصف موجز للوضع الراهن، ثم سأقوم بتوصيف المواقف المختلفة الناشئة داخل اليسار في هذه الطور الجديد، والتأكيد على ضرورة بناء يسار أممي مناهض لكل الامبرياليات (الرئيسية أو الثانوية) ومتضامن مع نضالات الشعوب المعتدى عليها».
يبدو بجلاء أكثر، في السياق العام للأزمة متعددة الأبعاد التي نجد أنفسنا إزاءها – المفاقمة الآن بالزخم الذي مد به فوز ترامب في الانتخابات الأخيرة صعود اليمين المتطرف على نطاق عالمي – أننا نشهد أزمة عميقة في النظام (الفوضى) الجيوسياسي الدولي، وكذا في القواعد الأساسية للقانون الدولي التي وُضعت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. تتجلى أكثر مظاهر هذه الأزمة مأساوية (التي تشكك في مستقبل الأمم المتحدة ذاته) في حرب الإبادة الجماعية ضد غزة (Awad, 2024)، والتي تضاف إليها حاليًا حوالي 56 حربًا في العالم.
يوضع النظام الهرمي الإمبريالي القائم على الهيمنة الأمريكية، في هذا السياق، موضع طعن واعتراض علنيين من قبل قوى عظمى منافسة مثل الصين وروسيا، وكذا من قوى أخرى على الصعيد الإقليمي، مثل إيران. يتجلى هذا التنافس الجيوسياسي العالمي بوضوح في بعض الصراعات العسكرية التي سيحدد تطورها تشكيلًا جديدًا لتوازن القوى داخل النظام، وكذلك داخل التكتلات القائمة أو المتشكلة، مثل مجموعة بريكس.
سأركز في هذا المقال، بوجه هذا السيناريو الجديد على وصف موجز للوضع الراهن، ثم سأقوم بتوصيف المواقف المختلفة المنبجسة داخل اليسار في هذه الطور الجديد، وأؤكد على ضرورة بناء يسار أممي معارض لكل الامبرياليات (الرئيسية أو الثانوية) ومتضامن مع نضالات الشعوب المعتدى عليها.
تعدد الأزمات والنيوليبرالية المستبدة
يوجد إجماع واسع داخل اليسار على التشخيص الممكن للأزمة العالمية التي يجتازها العالم اليوم، على خلفية الأزمة البيئية والاجتماعية والمناخية. إنها أزمة متعددة الأوجه يمكننا تعريفها مع بيير روسيه بأنها «متعددة الأوجه، نتيجة تضافر أزمات محددة متعددة. لذلك نحن لسنا أمام مجموع بسيط من الأزمات، بل أمام تفاعلها الذي يضاعف ديناميتها، ما يغذي دوامة قاتلة للجنس البشري (ولجزء كبير من الأنواع الحية) (Pastor, 2024)».
ويرتبط هذا الوضع ارتباطًا وثيقًا باستنفاذ نظام التراكم الرأسمالي النيوليبرالي الذي بدأ في منتصف السبعينيات، ووثب نحو توسعه على صعيد عالمي بعد انهيار الكتلة التي كان يهيمن عليها الاتحاد السوفياتي. وهي السيرورة المفضية إلى الركود الكبير الذي بدأ في العام 2008 (المتفاقم بسبب سياسات التقشف وعواقب أزمة جائحة كوفيد 19 والحرب في أوكرانيا)، والمنتهية بإحباط توقعات الارتقاء الاجتماعي والاستقرار السياسي التي ولدتها العولمة السعيدة الموعودة، لاسيما بين قطاعات كبيرة من الطبقات الوسطى الجديدة.
عولمة نعيد إلى الأذهان أنها تطورت في إطار الدورة النيوليبرالية التي صنعت، عبر مختلف أطوارها – العنفية والمعيارية والعقابية (Davies, 2016)) – دستوريةً اقتصادية جديدة عابرة للحدود الوطنية في خدمة طغيان الشركات العالمية وتدمير قوة الطبقة العاملة الهيكلية والتنظيمية والاجتماعية. وبنحو أخطر جعلت من حضارة السوق «الحضارة الوحيدة الممكنة»، وحسا مشتركا، برغم أن هذه العملية برمتها اتخذت أشكالًا مختلفة من الأنظمة السياسية، القائمة عمومًا على دول قوية محصنة ضد الضغوط الديمقراطية (Gill, 2022 ; Slobodian, 2021). بيد أنها نيوليبرالية تُظهر الآن عجزها عن إتاحة أفقِ تحسنٍ لغالبية البشرية على كوكب يتزايد طابعه غير الصالح للحياة.
نوجد والحالة هذه في حقبة مليئة بالشكوك، على صعيد الدول وفيما بين الدول، في ظل رأسمالية مالية ورقمية واستخراجية وريعية تجعل حياتنا أكثر هشاشة، وتسعى بأي ثمن إلى إرساء أسس مرحلة نمو جديدة مع دور متزايد النشاط للدول في خدمتها. وتلجأ، لتحقيق ذلك، إلى أشكال هيمنة سياسية جديدة، وظيفية، مكيفة مع هذا المشروع، تتعارض بنحو متنام ليس فقط مع الحريات والحقوق المكتسبة بنضالات شعبية مديدة، بل أيضًا مع الديمقراطية الليبرالية. بهذا النحو، تنتشر نيوليبرالية استبدادية باطراد، ليس فقط في الجنوب، بل أيضًا على نحو متزايد في الشمال، مع خطر «تسارع رجعي» (Castellani, 2024). وهي سيرورة باتت مُحفَّزة من قبل الترامبية، التي أصبحت الإطار الفكري الرئيس ليمين متطرف صاعد، مستعد لجعل نفسه بديلا لأزمة الحوكمة العالمية ولتحلل النخب السياسية القديمة .(Urbán, 2024 ; Camargo, 2024)
النظام التراتبي الإمبريالي موضع سؤال
في هذا السياق، الموجز هنا، نشهد أزمة في النظام الهرمي الإمبريالي السائد منذ سقوط الكتلة السوفييتية، سهَّلَتْها على وجه التحديد الآثارُ الناجمة عن عملية عولمة أدت إلى تحول في مركز ثقل الاقتصاد العالمي من شمال المحيط الأطلسي (أوروبا/الولايات المتحدة) إلى المحيط الهادئ (الولايات المتحدة وشرق وجنوب شرق آسيا).
فقد انفتح، في أعقاب الركود الكبير الذي بدأ في 2007-2008، وما تلا من أزمة للعولمة النيوليبرالية، طورٌ جديد تجري فيه إعادة تشكل النظام الجيوسياسي العالمي، وهو نظام يميل إلى أن يكون متعدد الأقطاب، لكنه في الوقت ذاته غير متناظر، حيث لا تزال الولايات المتحدة القوة المهيمنة الكبرى (نقديا وعسكريا وجيوسياسيا)، لكنها تجد نفسها أكثر عرضة للإضعاف والتحدي من قبل الصين، القوة العظمى الصاعدة، وروسيا، وكذلك من قبل قوى إمبريالية فرعية أو ثانوية أخرى في مناطق مختلفة من الكوكب. وفي غضون ذلك، في العديد من بلدان الجنوب، التي تواجه نهب مواردها، وارتفاع الديون السيادية، والتمردات الشعبية والحروب من جميع الأنواع، يخلي هدف التنمية كأفق متوخى المكان لشعبوية رجعية باسم النظام والأمن.
وهكذا، يشتد التنافس الجيوسياسي العالمي والإقليمي بفعل تباين المصالح، ليس فقط في المجالين الاقتصادي والتكنولوجي، بل حتى في المجالين العسكري والقيمي، مع ما ينتج من صعود نزعات قومية عرقية دولتية في مواجهة أعداء مفترضين داخليين وخارجيين.
بيد أنه يجب ألا ننسى الدرجة العالية من الترابط الاقتصادي والطاقي والتكنولوجي التي تجسدت عبر العالم في سياق العولمة النيوليبرالية، كما أكدت ذلك بجلاء أزمة الجائحة العالمية وغياب حصار فعال لروسيا في مجال الطاقة رغم العقوبات المتفق عليها. ويُضاف إلى ذلك عاملان أساسيان جديدان: من ناحية، حيازة القوى الكبرى للأسلحة النووية في الوقت الراهن (ثمة حاليًا أربع بؤر نووية ساخنة: واحدة في الشرق الأوسط (إسرائيل) وثلاث في أوراسيا (أوكرانيا، والهند وباكستان، وشبه الجزيرة الكورية)؛ ومن ناحية أخرى، أزمات المناخ والطاقة والمواد الخام (إنها لحظة الحقيقة!)، مما يجعل هذا الوضع مختلفًا جدا عما كان قبل العام 1914. إن هذه العوامل تكيف التحول الجيوسياسي والاقتصادي الجاري، وتضع حدودًا لنزع العولمة الذي قد يكون جزئيا وبالتأكيد غير مُسعِد لسواد البشر الأعظم. وفي الآن ذاته، تنبهُ هذه العوامل إلى تعاظم مخاطر التصعيد في النزاعات المسلحة التي تشارك فيها، مباشرة أو مداورة، قوى نووية، كما في حالتي أوكرانيا وفلسطين.
تقودنا خصوصية المرحلة التاريخية الحالية، حسب بروميز ليPromise Li ، إلى اعتبار العلاقة بين القوى الكبرى (خاصة بين الولايات المتحدة والصين) توازنا غير مستقر بين «تعاون عدائي“ و ”تنافس إمبريالي» متزايد. وهو توازن يمكن أن يختل لصالح هذا الأخير، ولكن يمكن أيضًا تطبيعه كجزء من سعي مشترك إلى مخرج من الركود المديد لرأسمالية عالمية باتت الصين (Rousset, 2021) وروسيا (Serfati, 2022) مندمجتين فيها، وإن كان ذلك عبر تحولات متباينة جدا. إنها إذن سيرورة مليئة بالتناقضات، قابلة لتمتد إلى قوى أخرى، مثل الهند، التي تشكل جزءًا من مجموعة بريكس، التي فشلت حكومات الدول الأعضاء فيها حتى الآن في تحدي الدور المركزي لمنظمات مثل البنك العالمي وصندوق النقد الدولي، التي لا تزال تحت هيمنة الولايات المتحدة (Fuentes, 2023 ; Toussaint, 2024) .
بيد أنه جليٌّ أن ضعفَ الولايات المتحدة الجيوسياسي – لا سيما بعد فشلها الذريع في العراق وأفغانستان، وأزمة الشرعية الناجمة عن دعمها غير المشروط لدولة إسرائيل التي تمارس الإبادة الجماعية – يتيحُ مجالَ مناورة ممكنة أكبر لمختلف القوى العالمية أو الإقليمية، لا سيما تلك الحائزة أسلحة نووية. ولذلك أتفق مع وصف بيير روسيه حين قال:
« فتح انحدار الولايات المتحدة النسبي، وصعود الصين غير المكتمل، مساحةً تتيح للقوى الثانوية أن تلعب دورًا مهمًا، على الأقل في منطقتها (روسيا، تركيا، البرازيل، المملكة العربية السعودية، إلخ)، برغم أن حدود مجموعة بريكس جلية. وفي ظل هذا الوضع، لم تتردد روسيا في وضع الصين أمام الأمر الواقع في جملة مسائل على الحدود الشرقية لأوروبا. وبفعل تعاونهما، أصبحت موسكو وبكين إلى حد كبير سيدتي اللعبة في القارة الأوراسية. لكن لم يكن هناك تنسيق بين غزو أوكرانيا والهجوم الفعلي على تايوان (Pastor, 2024)
ويفسر هذا، مُيَسَّراً بلا شك بوزن كبير إلى هذا الحد أو ذاك لعوامل أخرى مرتبطة بالأزمة المتعددة، اندلاعَ الصراعات والحروب في مناطق من الكوكب مختلفة جدًا، ولكن على وجه الخصوص في البؤر الثلاث شديدة الأهمية للأحداث الجارية: أوكرانيا، وفلسطين، وتايوان، برغم اقتصار الأمر فيها لحد الآن على أشكال حرب باردة.
رأينا، في هذا السياق، كيف استخدمت الولايات المتحدة غزو روسيا الجائر لأوكرانيا ذريعةً لإعادة إطلاق توسع حلف الناتو، الذي يجتاز أزمة، نحو دول أخرى في شرق أوروبا وشمالها. ويرتبط هذا الهدف ارتباطًا وثيقًا بإعادة صياغة «المفهوم الاستراتيجي الجديد» لحلف الناتو، كما رأينا في قمة المنظمة في مدريد في يوليو 2022 (Pastor, 2022) ومؤخرًا في قمة واشنطن في يوليو من هذا العام. وقد أعادت الأخيرة تأكيد هذه الاستراتيجية، بالإضافة إلى أخذ الصين في الحسبان باعتبارها منافسا استراتيجيا رئيسيا، مع تجنب انتقاد دولة إسرائيل. وتُظهر هذه الأخيرة ازدواجية معايير الكتلة الغربية (Achcar, 2024) فيما يتعلق بتورطها في الحرب في أوكرانيا من جهة، وتواطؤها مع الإبادة الجماعية التي ترتكبها دولة إسرائيل الاستعمارية ضد الشعب الفلسطيني من جهة أخرى.
وقد ولاحظنا أيضا اهتمام حلف الناتو المتنامي بالخاصرة الجنوبية من أجل مواصلة سياسة القتل العنصرية ضد الهجرة غير الشرعية، مع تطلعه إلى التنافس على السيطرة على الموارد الأساسية في بلدان الجنوب، ولا سيما في أفريقيا، حيث تتراجع الإمبريالية الفرنسية والأمريكية لصالح الصين وروسيا.
وهكذا، حدثت إعادة تحديد لاستراتيجية الكتلة الغربية، حيث تعززت ضمنها الهيمنة الأمريكية عسكريًا (يعود فضل ذلك أساسا إلى غزو روسيا لأوكرانيا) والتي أصبح الاتحاد الأوروبي المنقسم أكثر خضوعا لها بشكل واضح، مع إضعاف محركها الألماني القديم. بيد أن الاتحاد الأوربي يبدو، بعد فوز ترامب، مصمما على تعزيز قوته العسكرية باسم البحث عن استقلالية استراتيجية زائفة، حيث سيبقى مرتبطًا بإطار حلف الناتو. وفي الآن نفسه، تنأى باطراد دول عديدة بالجنوب بنفسها عن الحلف، وإن كان ذلك بمصالح متباينة، وهو ما يميز التحالفات المحتمل تشكلها عن تلك التي ميزت سابقا حركة عدم الانحياز.
مهما يكن من أمر، يُرجَّح أن يُحدث دونالد ترامب بعد فوزه في الانتخابات تغيرا كبيرًا في السياسة الخارجية الأمريكية من أجل تنفيذ مشروعه ماغا MAGA (اجعلوا أمريكا عظيمة مرة أخرى) خارج المجال الجغرافي الاقتصادي (بتشديد منافسته للصين، وللاتحاد الأوروبي، وإن على مستوى مغاير)، لا سيما فيما يخص بؤر الصراع الثلاث المذكورة أعلاه: فيما يخص أوكرانيا، بخفض كبير للمساعدات الاقتصادية والعسكرية، والسعي إلى شكل من أشكال الاتفاق مع بوتين، على الأقل، على وقف إطلاق النار؛ وفيما يخص إسرائيل، بتكثيف دعمه لحرب نتنياهو الشاملة؛ وأخيرًا بإنقاص التزامه العسكري مع تايوان.
أي نزعة أممية معادية للإمبريالية يسارا؟
يتمثل أعظم تحد لليسار، في هذا السياق الذي يشهد صعود النيوليبرالية المستبدة (في صيغها المتباينة: يمين متطرف رجعي، ووسط متطرف بشكل أساسي) والصراعات الجيوسياسية المختلفة، في إعادة بناء قوى اجتماعية وسياسية معارضة منغرسة في الطبقة العاملة، وقادرة على صنع نزعة مناهضة للإمبريالية، وأممية متضامنة غير خاضعة لهذه القوة العظمى أو تلك أو لكتلة رأسمالية إقليمية.
لن تكون هذه المهمة سهلة، لأننا نشهد في الطور الحالي انقسامات عميقة داخل اليسار حول الموقف من بعض الصراعات المذكورة أعلاه. يمكن، في سعي إلى تركيب، أن نميز مع آشلي سميث (2024)، أربعة مواقف:
– أول موقف ينحاز إلى الكتلة الإمبريالية الغربية في الدفاع المشترك عن قيم ديمقراطية مزعومة ضد روسيا، أو مع دولة إسرائيل في حقها غير القابل للتبرير في الدفاع عن النفس، كما أبان قطاع أكثروي في اليسار الاجتماعي الليبرالي. يخفي هذا الموقف المصالح الإمبريالية الحقيقية لهذه الكتلة، ولا يدين خطابها المزدوج، ويتجاهل انجراف الأنظمة الغربية المعادي للديمقراطية والعنصري، وكذلك طبيعة دولة إسرائيل القائمة على الاستعمار والاحتلال.
– ثاني المواقف هو الموصوف عادة عادةً بالاصطفافي (مُعسكري)، حيث ينحاز إلى دول مثل روسيا والصين، يعتبرها حليفاً ضد الإمبريالية الأمريكية لأنه يرى في الأخيرة العدو الرئيس، متجاهلاً المصالح الجيوسياسية التوسعية لهاتين القوتين. وهذا موقف يعيد إلى الأذهان موقف أحزاب شيوعية إبان الحرب الباردة إزاء الاتحاد السوفييتي، ولكنه أصبح اليوم كاريكاتوريًا في ضوء طبيعة نظام بوتين الرجعية، واستمرار الاستبداد البيروقراطي للدولة في الصين.
– ثالث المواقف موقف الاختزال الجيوسياسي، الذي ينعكس اليوم في الحرب في أوكرانيا، مقتصرا على اعتبار هذه الحرب مجرد صراع بين امبرياليات. يستتبع هذا الموقف، المتبنىَّ من قطاع من أنصار السلم واليسار، إنكار شرعية البعد القومي لنضال المقاومة الأوكرانية ضد قوة الاحتلال، مع انتقاد الطابع النيوليبرالي للحكومة التي تقودها.
– أخيرًا، ثمة الموقفُ المناهض لكل الامبرياليات (صغرى كانت أو كبرى) ولكل ازدواجية معايير، والمستعدُّ للتضامن مع كل الشعوب المعتدى عليها، حتى لو كانت هذه الشعوب تعتمد على دعم قوة إمبريالية أو أخرى (مثل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في حالة أوكرانيا) أو قوة إقليمية (مثل إيران في حالة حركة حماس في فلسطين). إنه موقف لا يقبل احترام مناطق النفوذ التي تطمح القوى العظمى المختلفة إلى حمايتها أو توسيعها، ويتضامن مع الشعوب التي تناضل ضد الاحتلال الأجنبي ومن أجل الحق في تقرير مستقبلها (خاصة مع القوى اليسارية في هذه البلدان، المناضلة من أجل بديل عن النيوليبرالية)، ولا ينحاز إلى أي تكتل سياسي عسكري.
هذا الموقف الأخير هو ما أعتبرُه الأكثر تماسكًا من جانب اليسار المناهض للرأسمالية. هذا موقف مطابق في الواقع، مع حفظ المسافة التاريخية والاعتراف بالحاجة إلى تحليل خصوصية كل حالة، للمعايير التي سعى لينين إلى تطبيقها عندما حلل المكانة المركزية التي كان النضال ضد الاضطهاد القومي والاستعماري يكتسبها في المرحلة الإمبريالية في مستهل القرن العشرين. وقد انعكس ذلك، فيما يتعلق بالصراعات المندلعة في تلك الحقبة، في العديد من مقالاته كما في «لثورة الاشتراكية وحق الأمم في تقرير المصير» الذي كتبه في يناير-فبراير 1916، وحيث قال:
« إن كون النضال في سبيل الحرية القومية ضد دولة امبريالية يمكن أن تستغله في ظروف معينة، دولة «كبرى» أخرى لأغراضها الامبريالية أيضاً، أمر لا يمكن أن يُجبر الاشتراكية الديمقراطية على التخلي عن حق الأمم في تقرير مصيرها، مثلما لا يمكن للأمثلة العديدة حول استغلال البرجوازية للشعارات الجمهورية من أجل الخداع السياسي والنهب المالي، في البلدان اللاتينية مثلاً، أن تجبر الاشتراكيين الديمقراطيين على التنكر لنزعتهم الجمهورية».
يجب أن يكون هذا الموقف الأممي مقترنا بتعبئة ضد عملية إعادة العسكرة المستمرة لحلف الناتو والاتحاد الأوروبي، وأيضا ضد القوى الأخرى مثل روسيا والصين. ويجب أن يلتزم بوضع الكفاح من أجل نزع السلاح النووي من جانب واحد وتفكيك التكتلات العسكرية في قلب جدول الأعمال، وحمل مشعل حركة السلم القوية التي تطورت في أوروبا في الثمانينيات، بقيادة الناشطات النسويات في غرينهام كومون Greenham Common والمثقفين مثل إدوارد ب. طومسون Edward P. Thompson. وجلي وجوبُ اندراج هذا التوجه في مشروع عالمي اشتراكي ايكولوجي ونسوي ومناهض للعنصرية والاستعمار.
المراجع
(2024 Achcar, Gilbert (2024) « El antifascismo y la caída del liberalismo atlántico », Viento Sur, 19/08/24.
• Awad, Nada (2024) « Derecho Internacionalismo y excepcionalismo israelí », Viento Sur, 193, pp. 19-27.
Camargo, Laura (2024) Trumpismo discursivo. Barcelone : Verso (sous presse).
Castellani, Lorenzo (2024) « Avec Trump, l’ère de l’accélération réactionnaire », Le Grand Continent, 8/11/24.
Davies, William (2016) « Neoliberalism 3.0 », New Left Review, 101, pp. 129-143.
Fuentes, Federico (2023) « Interview with Promise Li : US-China rivalry, “antagonistic cooperation” and anti-imperialism », South Wind, 191, 5-18.
Gill, Stephen (2002) « Globalization, Market Civilization and Disciplinary Neoliberalism ». Dans Hovden, E. et Keene, E. (Eds.) The Globalization of Liberalism. Londres : Millennium. Palgrave Macmillan.
Lénine, Vladimir (1976) « La révolution socialiste et le droit des nations à l’autodétermination », Œuvres choisies, Volume V, pp. 349-363. Moscou : Progress.
Pastor, Jaime (2022) « El nuevo concepto estratégico de la OTAN : Hacia una nueva guerra global permanente ? », viento sur, 2/07/22.
(2024) « Entretien avec Pierre Rousset : Crise mondiale et guerres : quel internationalisme pour le XXIe siècle ? », Viento Sur, 16/04/24.
Rousset, Pierre (2021) « China, el nuevo imperialismo emergente », Viento Sur, 16/10/21.
Serfati, Claude (2022) « La era de los imperialismos continúa : así lo demuestra Putin », Viento Sur, 21/04/22.
Slobodian, Quinn (2021) Globalistas. Madrid : Capitán Swing.
Smith, Ashley (2024) « Imperialismo y antiimperialismo hoy », Viento Sur, 4/06/24.
Toussaint, Eric (2024) « La cumbre de los BRICS en Rusia no ofreció ninguna alternativa », Viento Sur, 30/10/24.
Urbán, Miguel (2024) Trumpisms. Néolibéraux et autoritaires. Barcelone : Verso.
اقرأ أيضا