تقديم لينين لكتاب نيكولاي بوخارين «الإمبريالية والاقتصاد العالمي»
الحديث عن أهمية وحيوية الموضوعة التي يعالجها مؤلَّف ن. أ. بوخارين هذا، لا يتطلب إيضاحا خاصا. فمشكلة الإمبريالية ليست أكثر المشكلات أهمية وحسب، بل لعل بوسعنا القول إنها المشكلة الأهم على الإطلاق، في عالم علم الاقتصاد الذي يتفحص ويدرس الأشكال المتغيرة في الأزمنة الراهنة. ويتعين على كل متابع يهتم لا بالاقتصاد وحسب، بل وبأي مجال من مجالات الحياة الاجتماعية اليوم، الاطلاع على الحقائق المتعلقة بهذه المشكلة بالشكل الذي قدمها به المؤلّف في تفصيل يستند إلى أحدث المعطيات المتوفرة. وغني عن القول أن من غير الممكن وجود تحليل تاريخي ملموس للحرب الراهنة، لا يستند إلى الفهم التام لطبيعة الإمبريالية في جوانبها الاقتصادية أو السياسية على حد سواء. فمن المستحيل بغير ذلك، التوصل إلى فهم للوضع الاقتصادي والدبلوماسي، في العقود الأخيرة. وبدون فهم هذا النوع، يكون من السخافة الحديث حتى عن مجرد صياغة موقف صائب عن الحرب. ومن منظور ماركسي يجسد بوضوح تام مستلزمات العلم الحديث، عموما، لا مناص للمرء من الابتسام إزاء القيمة «العلمية» لمنهاج لا ينتقي من «الوثائق» التاريخية، أو من الوقائع السياسية اليومية، إلا تلك الحقائق المعزولة، التي من شأنها أن تكون ملائمة ومُرضية للطبقات الحاكمة في بلد ما، ويقدمها باعتبارها تحليلا تاريخيا للحرب. هكذا هو الحال، على سبيل المثال، مع بليخانوف الذي افترق عن الماركسية تماما، حين ابتدأ باقتتاص نُتف من الحققائق لإرضاء البوريشكيفيين Purishkeviches والميليوكوفيين Milyukovs، عوضا عن تحليل السمات والميول الأساسية للإمبريالية، كنظام للعلاقات الاقتصادية لرأسمالية حديثة، عالية التطور، وناضجة، بل وناضحة إلى حد التفسخ Over- ripe. إن المفهوم العلمي للإمبريالية يُختزل في ظل ظروف كهذه، إلى مستوى لعنة موجَّهة إلى المتنافسين والخصوم الحاليين، وإلى مناوئي الطرفين الإمبرياليين الروسيين، المذكورين آنفا، والذين يتطابق أساسهم الطبقي كلية، مع الأساس الطبقي لمنافسيهم وخصومهم الأجانب. وفي تلكم الأيام، أيام الكلمات المنبوذة والتنكر للمبادئ وخراب المفاهيم العالمية، والتخلي عن القرارات، والوعود الطنانة، ينبغي ألا يأخذ المرء العجب من ذلك.
أهمية العلمية لمؤلَّف ن. أ. بوخارين، تكمن، بصورة خاصة، في كونه قام بتفحص الحقائق الأساسية للاقتصاد العالمي المتعلقة بالإمبريالية ككل، وكمرحلة محددة في نمو الرأسمالية الأعلى تطورا. لقد كان ثمة في الماضي، حقبة شهدت وجود «رأسمالية سلمية» نسيبا، وذلك حين استطاعت هذه الرأسمالية قهر الإقطاع في أوروبا المتقدمة، وكانت في وضع يسمح لها بالتطور بصورة منسجمة نسبيا، وبالانتشار «سلميا» في مناطق شاسعة من أراض غير محتلة بعدُ، وأقطار لم تكن قد دخلت الدوامة الرأسمالية بعدُ، بصورة نهائية.
وبالطبع حتى في تلك الحقبة تقريبا في الفترة بين 1871-1914، فإن الرأسمالية «السلمية» خلقت ظروف حياة كانت أبعد ما تكون عن السلمية، سواء بالمعنى العسكري أو بالمعنى الطبقي العام. ولم تكن هذه الحقبة بالنسبة لتسعة أعشار السكان في البلدان المتقدمة، وبالنسبة لعشرات الملاييت من سكان المستعمرات والبلدان المتخلفة، حقبة «سلام» على الإطلاق، بل كانت حقبة اضطهاد وتعذيب ورعب. زاد من وطأتها جميعا أنها بدت وكأنها بلا نهاية. لكن تلك الحقبة ولت إلى غير رجعة. وحلت في أعقابها أخرى جديدة، أكثر عنفاا نسبيا، حافلة بتغيرات خطيرة، وبكوارث وصراعات. حقبة لم تعد تتبدى للجماهير الكادحة كرعب ليست له نهاية، بل كنهاية مليئة بالرعب.
ومن الأهمية بمكان تذكر حقيقة أن هذا التغيير لم ينتج إلا عن التطور والنمو والاستمرارية المباشرية، في الميول الأساسية الراسخة للرأسمالية والإنتاج السلعي عموما. إن نمو التبادل السلعي، ونمو الإنتاج الكبير، هي ميول أساسية ملحوظة على مدى قرون في أرجاء العالم كله. ففي مرحلة محددة من نمو الإنتاج الكبير، وبالتحديد، في المرحلة التي تم الوصول إليها عند نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين تقريبا، قاد التبادل السلعي إلى تدويل للعلاقات الاقتصادية وإلى تدويل لرأس المال مصحوبا بزيادة هائلة في الإنتاج الكبير. وكان هذا التدويل من الضخامة بحيث شرع الاحتكار يحل محل المنافسة الحرة. ولم تعد الأنماط السائدة، مؤسسات تتنافس بحرية داخل القطر وعبر العلاقات بين الأقطار، بل تحالفات احتكارية لأرباب العمل والتروستات. وغدا الحاكم النموذجي للعالم هو رأس المال المالي. وهو قوة مرنة ومتحركة بشكل مميز، متداخلة في الوطن وعالميا وبشكل مميز، وذات تجرد مميز عن الفردانية وافتراق عن العمليات المباشرة للإنتاج، وقدرة مميزة على التركيز. إنه قوة قامت حتى الآن بخطوات كبيرة بشكل مميز، على طريق التركز، لدرجة صارت معها بضع مئات من الملياردية والمليونيرية يتحكمون بمصير العالم كله تقريبا.
وبوسع المرء من زاوية نظرية وتجريدية، التوصل إلى الاستنتاج الذي توصل إليه كاوتسكي (الذي افترق عن الماركسية مثل آخرين عديدين، لكنه فعل ذلك بطريقة مختلفة). ومفاد هذا الاستنتاج أن زمنا ليس بالبعيد سيأتي، يتوحد فيه أقطاب الرأسمال أولئك في تروست عالمي واحد يحل محل المنافسين كافة، ويحل صراع رأس المال المالي الموحَّد عالميا، محل الصراع الذي يخوضه رأس المال المالي المحدود ضمن حدود قومية. لكن استنتاجا كهذا، لا يعدو أن يكون تجريديا وتبسيطيا وخاطئا، بالضبط مثل نظيره الذي توصل إليه «ستروفيو» نا (Our «Struveists») و»اقتصادويو» تسعينيات القرن الماضي. لقد انطلق الأخيرون من الطبيعة التقدمية للرأسمالية، ومن حتميتها، وانتصارها النهائي في روسيا، ليصبحوا في بعض الأحيان تبريريين (يعبدون رأس المال، ويبرمون معه اتفاقيات سلمية، ويمتدحونه عوضا عن محاربته). وغدا هؤلاء في أحيان أخرى، بعيدين عن السياسة (أي يرفضون السياسة وأهميتها، وينكرون احتمال نشوب اضطرابات سياسية عامة… إلخ)، علما أن هذا الخطأ كله كان هو المفضل لـ»الاقتصادويين». وفي أحيان ثالثة، غدا هؤلاء وُعاظا بـ»الإضراب» البسيط المحض (لقدى عنى الإضراب العام لهم ذروة الحركة الإضرابية. إذ رفعوه إلى مرتبة، تجاهلوا أن نسوا معها الأشكال الأخرى للحركة. فباتت القفزة المميتة Salto Mortal للانتقال من الرأسمالية إلى دمارها، تتم بالإضرابات وحدها). وثمة مؤشرات على أن تقدمية الرأسمالية التي لا خلاف حولها، مقارنة بـ»جنة» المنافسة الحرة شبه الجشعة، ومقارنة بحتمية الإمبريالية وانتصارها النهائي على رأس المال «السلمي» في البلدان المتقدمة، يمكن أن تؤدي في الوقت الراهن إلى بلايا وأخطاء سياسية وغير سياسية لا تقل عددا أو تنوعا.
وبقدر تعلق الأمر بكاوتسكي، على وجه الخصوص، فإن افتراقه السافر عن الماركسية، لم يقده إلى رفض السياسة أو نسيانها، ولا إلى الاستهانة بالنزاعات السياسية العديدة والمتنوعة، أو بالاضطرابات والتحولات التي تميز بشكل خاص عصر الإمبريالية، مثلما لم تؤد قطيعته إلى جعله داعية للإمبريالية. لكنها أوصلته إلى أن يحلم بـ»رأسمالية سلمية»، رأسمالية سلمية محلت محلها إمبريالية غير سلمية، شرسة وكارثية. لقد اضطر كاوتسكي للاعتراف بذلك. وقد اعترف به به في وقت مبكر يعود إلى عام 1909 في عمل مميز [«الطريق إلى السلطة»] استخلص فيه للمرة الأخيرة له كماركسي، استنتاجات دقيقة. وإذ كان من المستحيل لهذا السبب، الحلم ببساطة وفجاجة وبصورة مباشرة، بالعودة إلى الوراء، من الإمبريالية إلى رأسمالية «سلمية» أفليس ممكنا منح هذه الأحلام البرجوازية الصغيرة في جوهرها مظهر التأمل البريء، بما فوق الإمبريالية Ultra Imperialism «السلمية»؟ وإذا كانت تسمية ما فوق الإمبريالية تُطلق على اتحاد عالمي لإمبرياليات قومية (أو بصورة أدق مؤطرة بإطار دولة) «تكون قادرة» على إلغاء أكثر النزاعات إيلاما وإزعاجا وبشاعة، كما هو الحال بالنسبة للحروب والاضطرابات السياسية… إلخ، وهو ما يخشاه البرجوازي الصغير كثيرا، فلماذا إذن لا تختفي هذه النزاعات من الحقبة الراهنة للإمبريالية، وهي الحقبة التي حلت للتور، والتي تفقأ الأعين بما تحفل به من كل أنواع النزاعات والكوارث؟ ولماذا لا تتحول إلى تلك الأحلام البريئة بمرحلة «فوق الإمبريالية» سلميا نسبيا، وخالية نسبيا من النزاعات، وغير كارثية نسبيا؟ لماذا لا تزيح هذه الجهات المهمات «القاسية» التي فرضتها حقبة الإمبريالية التي تحكم الآن في أوروبا؟ وعوضا عن الحلم بإمكانية انتهاء هذه الحقبة قريبا، وبإمكانية أن تلحقها حقبة فوق إمبريالية «مسالمة»، نسبيا، لا تستلزم تاكتيكات بمثل هذه الحدة، لماذا لم يحدث هذا التحول فعلا؟
إن كاوتسكي يقول، بصورة مباشرة، إن «طورا جديدا للرأسمالية كهذا، يعني (فوق إمبريالية) هو طور قابل للتصور مهما تكن الظروف. أما حين يتعلق الأمر بإمكانية نشوء هذا الطور وتحققه، فليس لدينا ما يكفي من المعطيات للإجابة على هذا السؤال» (نيو زايت، 30 نيسان (أبريل)، 1915، ص 144) [1].
ولا توجذ ذرة من الماركسية في هذا التوجه نحو تجنب رؤية الإمبريالية القائمة أمامنا، والانتقال في الأحلام إلى حقبة «فوق إمبريالية» لا نعرف حتى ما إذا كانت قابلة للتحقق. وفي هذا المنطق يتم القبول بالماركسية حين يتعلق الأمر بذلك «الطور الجديد من الرأسمالية» الذي يفشل مُخترعه نفسه في إمكانية تحققه. أما حين يتعلق الأمر بالطور القائم والراهن من الرأسمالية، فإنه لا يقدم لنا ماركسية، بل ميلا برجوازيا صغيرا مغرقا في الرجعية، لتخفيف التناقضات. لقد وعد كاوتسكي في وقت من الأوقات في الماضي، بأن يكون ماركسيا في الحقبة المضطربة القادمة، التي كان مُجبرا على التنبؤ والاعتراف بها على نحو واضح، أثناء كتابة مؤلفه عن الحرب القادمة في 1909. أما الآن، وحين أصبح من الواضح تماما، أن تلك الحقبة قد حَلَّت، فإن كاوتسكي يَعَد مرة أخرى، بأن يكون ماركسيا، ولكن في الحقبة القادمة فقط، أي في حقبة ما فوق الإمبريالية، لا يعرف إن كانت ستأتي أم لا! بكلمات أخرى، فإن لدينا وعدا من كاوتسكي بأن يكون ماركسيا يوما ما في حقبة أخرى، ولكن ليس في ظل الظروف الراهنة، ولا في هذه اللحظة. بالنسبة للغد، لدينا ماركسية بالدَّين On crédit، وعد بالماركسية، ماركسية مؤجلة. أما بالنسبة لليوم، فلدينا نظرية انتهازية برجوازية صغيرة-وليس نظرية فقط-لتخفيف التناقضات. إنها شيء يشبه الأممية المُعَدة للتصدير التي تسود أيامنا هذه، صفف الأمميين والماركسيين المتحمسين-والمتحمسين جدا! – الذين يتعاطفون مع كل تعكبير عن الأممية في معسكر العدو، وفي أي مكان آخر، إلا في أوطانهم، أو بين حلفائهم الذيني تعاطفون مع الديمقراطية طالما تظل وعدا من وعود حفائهم، ويتعاطفون مع «حق تقرير المصير للشعوب»، ولكن ليس لتلك الشعوب التابعة التي تتشرف بانتمائها إلى بلد الشخص المتعاطف. وباختصار فإن هذا واحد من منوعات النفاق الكثيرة، التي تسود أيامنا.
ولكن، هل بوسع المرء أن يُنكر، على أي حال، أن بالإمكان «التفكير» تجريديا بطور جديد للرأسمالية، يعقب الإمبريالية، وبالتحديد، بطور ما فوق الإمبريالية؟ كلا. فبوسع المرء التفكير بطور كهذا تجريديا. ولكن، عمليا، فإن من يستعيش عن المهمات الخطيرة الراهنة لليوم، بأحلام عن مهمات سهلة للمستقبل، يغدو انتهازيا. وهذا يعني نظريا، أن يخفق المرء في الوقوف على أرضية الواقع، والاستناد إلى التطورات الجارية الآن في الحياة الواقعية، وأن يحرر نفسه منها باسم الأحلام. ولا شك في أن التطور يسير في اتجاه تروست عالمي واحد من شأنه أن يبتلع كل المشاريع وكل الدول بدون ااتثناء. لكن التطور في هذا الاتجاه، يجري في ظل ضغوط وتناقضات ونزاعات والتواءات ووتيرة، ليست اقتصادية وحسب، بل سياسية وقومية… إلخ، أيضا، تتميز بدرجة من الحدة، ستؤدي بالرأسمالية إلى الانفجار حتما، قبل أن يتم الوصول إلى تكوين تروست عالمي واحد، وقبل أن تشكل رؤوس الأموال المالية القومية المفردة، اتحادا عالميا لـ»ما فوق الإمبريالية». وعند ذاك فإن الرأسمالية سستحول إلة نقيضا.
كانون الأول/ ديسمبر 1915
————–[1] هذا المقطع مأخوذ من مقالة كاوتسكي (خطواتان نحو إعاجة النظر) نيو زايت، رقم 5، 1915.
اقرأ أيضا