ما وقع في سوريا في نظر اليسار “القومي”

بقلم-عباش الأموي

سقط النظام السوري، واستسلم جيش النظام أمام قوات المعارضة المسلحة المكونة أساسا من ميليشيات إسلامية تابعة لتركيا وميليشيات كردية مدعومة من الولايات المنحدة الأمريكية، وزحفت على طول وعرض البلاد نحو العاصمة دمشق. تمكنت قوات المعارضة المسلحة من اقتحام السجون بلا مقاومة تُذكر وأطلِق سراح الآلاف من المعتقلين، وخرج الشعب السوري للساحات والشوارع للاحتفال بعد أن أمضى 13 عشر سنة من رفع الشعار الخالد: “الشعب يريد إسقاط النظام”.

لم تمض سوى ساعات حتى دخل الكيان الصهيوني على خط الأحداث المتسارعة، بقصف الدفاعات الجوية ومخازن الأسلحة والسفن الحربية والطائرات المقاتلة وبالتوازي قامت القوات الإسرائيلية بإلغاء اتفاق وقف إطلاق النار المبرم بين إسرائيل وسوريا منذ 1974 والتوغل داخل الأراضي السورية واحتلال أراضي جديدة منها وهو على بعد كيلومترات من العاصمة دمشق.

فإذا كان الشعب السوري قد استقبل سقوط النظام بالفرحة الغامرة، فإن قسما من قوى اليسار العربي، كان يندب ويلوم ثورة الشعب السوري منذ 2011، وتبعا لذلك بقي أسير فهم معطوب للأحداث، فهم يتلخص في كون أن الاحداث في سوريا ما هي إلا مؤامرة كونية ضد نظام المقاومة والممانعة وأن المستفيد من إسقاطه سيكون الإمبريالية الأمريكية والصهيونية والرجعية العربية، وما علينا سوى الوقوف إلى جانبه لدحر الثورة والاستمرار في قمع الشعب السوري لعقود لاحقة.

بعض رفاقنا “الشيوعيين” في المغرب وتونس يرددون مقولات الأحزاب القومية وتحديدا البعث المجرم ضد الشعب وقواته العاملة، لطمس ثورة الشعب السوري ضد نظام القمع والطغيان والذي ذبح الشيوعيين والإسلاميين والأكراد والفلسطينيين واللبنانيين من أجل أن يبقى في الحكم… وهي نفس السيمفونية التي سمعناها بعد إسقاط نظام القذافي المجرم، سيمفونية جعلت- عند بعضهم- مجمل الربيع العربي استمرارا لمؤامرة كونية امتدت منذ اتفاق “سايكس بيكو”، سيمفونية كان أول عازفيها حسني مبارك في مصر، وبعده قذافي ليبيا وصالح اليمن، والتحق قسم من اليسار حاملا طبول المشاركة في السيمفونية تلك.

هؤلاء يقفون في الجانب الخطأ من التاريخ بخصوص ثورات الشعوب، بمبرر أن النظام السوري وطنيٌّ وممانع ومقاوم!!؟؟ نظام وطني بمفاهيم قومية و”داعم” للمقاومة في حدود الأدوار المسموحة له من طرف أسياده الكبار: إيران وروسيا. فلولا التدخل العسكري لروسيا (القصف بالبراميل المتفجرة لمدن سورية) وإيران (عبر ميليشاتها وحزب الله اللبناني) لسقط نظام بشار الأسد منذ 2013. لقد جعل هذا الدعم العسكري نظام بشار الأسد نظاما يقف على قدمين أجنبيتين، وحين زالتا، بفعل ورطة روسيا في أوكرانيا، والتطورات الحاصلة في إيران بعد الحرب الهمجية التي شنها الكيان الصهيوني على حزب الله في جنوب لبنان، ظهرت هشاشة نظام بشار، الذي سرعان ما تبخرت قواته الأمنية والعسكرية.

رغم هذه التطورات لا يزال قسم من اليسار العربي يندب حظ نظام بشار الممناع، وحتى الذين أبدوا فرحتهم المتأخرة برحيله، يصرون على عزف نفس السيمفونية المتعلقة بدور القوى الإمبريالية والرجعية الإقليمية فيما حدث، في تغييب تام لإرادة الشعب السوري الصامد لأكثر من 13 سنة.

فهل يستقيم هذا الفهم مع المنظور الماركسي للثورة؟

يريد هذا النوع من اليسار ثورة على مقاسه: ثورة لا تُسقط الأنظمة التي يعتبرها ممانعة، رغم أنها لم تُطلق رصاصة واحدة ضد العدو الصهيوني منذ أكثر من ثلاثة عقود… إن دور نظام الأسد في دعم المقاومة مجرد أسطورة، وسبق لجورج حبش أن فضحها في كتابه “الثوريون لا يموتون أبدا: “خلال معركة الشوف في ربيع العام 1976، بين قوات الحركة الوطنية اللبنانية والانعزاليين، كانت الغلبة في البداية من نصيب المقاومة، وقد خاف الانعزاليون من تعاظم نفوذ الحركة الوطنية… عندها، اتصل الانعزاليون بالأمريكيين، وبدأوا يطالبونهم بالدعم خشية أن تسير الأمور على نحو أسوأ. وهكذا، دفع الأمريكيون بالسوريين إلى التدخل لإنقاذ الانعزاليين. وكان السوريون يخشون، من جهتهم، من انتصار الفلسطينيين والحركة الوطنية”. [ص 143]

يريد هذا اليسار ثورة على هواه، وكأن الشعوب ستحترم اشتراطاته: نريد ثورة لا توصل الإسلاميين إلى السلطة. وهو نفس منطق اليمين المحافظ الأمريكي الذي يريد انتخابات لا توصل الإسلاميين إلى السلطة!!

إنه خطاب مختل في فهم للواقع، يَسقط فجأة في المثالية- بوعي أو بدونه- ويحاول أن يكون الفكر سابقا على الواقع… بينما الواقع يفرز ما يفرزه سواء كان يستجيب لتطلعاتنا أم لا… الذي يُستنتَج من هذا أن منظورهم مقلوب وبإمكانهم بالتالي التموقع سلبا في أي تغيير جذري بالمغرب لا يستجيب لمنظورهم المُسبَق للثورة وبنفس المببرات ولنفس الاعتبارات التي يحاولون إقناعنا بها في سوريا وليبيا.

الثورة من صنع الجماهير، ولا يمكن صنعها بين ليلة وضحاها. ومن يرى في ما وقع في سوريا مجرد الأيام الأخيرة لنظام بشار الأسد، ويلا يرى سيرورة ممتدة منذ 2011، لا علاقة له بالمنظور الماركسي للثورة.

كل ما رآه هذا اليسار في الأحداث الأخيرة في سوريا هو تكفيرية إرهابية مسلَّحة من الإمبريالية، في تغاضٍ تامٍ عن سيرورة ثورية ممتدة منذ 2011. لقد انتفض الشعب السوري سنة 2011 ضمن سياق ثوري عام شمل المنطقة كلها، وتعرض لأكبر مجزرة بدعم من قوة أجنبية، وبعد 13 سنة أصيب النظام بالإنهاك وترهَّل الدعم الأجنبي (الروسي والإيراني)، وفي السنوات القليلة الماضية كان الشعب السوري ينبعث من رماده كل ما سنحت له الفرصة. لذلك فإن زحف القوى الإسلامية واحتلالها المدن وهرب بشار، ليس إلا قطعا للطريق أمام انبعاث الثورة الشعبية من جديد. ولن تتمكن الحكومة الجديدة (التي حافظت على نفس مؤسسات نظام بشار وتعهدت بمحاربة الفوضى: أي النهضة الشعبية المنطلقة من أسف) من إيقاف تلك الثورة.

سيتمكن الشعب السوري من كنس القوى الرجعية التي جلست على كرسي بشار، كما تمكنت من طرد الأخير.

شارك المقالة

اقرأ أيضا