قانون الإضراب: تفاهم ضد الطبقة العاملة ظاهرُه تخاصم

الافتتاحية, سياسة9 ديسمبر، 2024

تُجدُّ الدولة وتُكد عبر حكومة الواجهة لتسريع تمرير قانون المنع العملي للإضراب العمالي من مؤسسات الديمقراطية الزائفة، بعد أن ظفرت بموافقة القيادات النقابية في اتفاق 30 ابريل 2022: حيث قبلت هذه الأخيرة إخراج قانون الإضراب، وجرى تأكيد ذلك باتفاق أبريل 2024.

لم يكن موقف القيادات النقابية مجردَ موافقة مبدئية على أمر عام، بل كانت على بينة تامة بنوع قانون الإضراب التي تسعى الدولة إلى ختمه بطابع المنظمات النقابية. فمشروع القانون الذي صادق عليه مجلس وزاري منذ العام 2016، وقد دَمَج كل مقترحات منظمة أرباب العمل، وزاد عليها وزايد، ثم أحيل على البرلمان، إنما هو ترسانة شاملة لكل صنوف القيود و الشروط التي ستجعل الإضراب العمالي فعلاً شبه مستحيل، وبلا مفعول متى أمكن.
وكانت أولى الخطوات نحو فوز الدولة بموافقة البيروقراطيات النقابية ما جاء في اتفاقها معها في العام 2019، الممتد إلى 2021، بشأن «التشاور حول القانون التنظيمي للإضراب قبل برمجة دراسته من أجل المصادقة عليه في البرلمان». وتجدُر الإشارة هنا إلى أن اتفاق 26 أبريل 2011 لم يشر بتاتا إلى تقنين الإضراب إذ كان السياق مغايرا، وميزان القوى مخيفا للنظام في عز «حراك 20 فبراير» من ذلك العام المجيد. وما نحن إزاءه اليوم من إذراف القيادات البيروقراطية دموع «عدم التزام الحكومة بالتوافق في إطار الحوار الاجتماعي»، وسير الأمور نحو خاتمة الإصدار في الجريدة الرسمية، وسط تطمينات الوزير المعني بشأن «استعداده لاستقبال النقابات مرة أخرى بخصوص مشروع قانون الإضراب»، ليس سوى تتويجا لعملية بدأت منذ أكثر من 20 سنة، مع مشروع ما يسمى «حكومة اليوسفي» لتقنين الإضراب. وهي عملية شاركت فيها أطراف نجدها اليوم في الجبهة التي شكلتها الكــ.د.ش في 27 نوفمبر الجاري «للدفاع عن حق الإضراب»، أطراف كان لكل منها مشروعه لمنع الإضراب العمالي، ما يفضح نفاقها اليوم ويسائل نواياها الحقيقية، ويكشف حدود هذه الجبهة.
تجد الطبقة العاملة المغربية اليوم نفسها بوجه جبهة مكونة من أرباب العمل ودولتهم، وأحزاب برجوازية تدعي كذبا مناصرتها لحقوق الشغيلة، وبيروقراطية نقابية اصطفت بالكامل إلى جانب الدولة لتسهيل هجماتٍ ليس الإلغاءُ العملي لحرية الإضراب غير تمهيد لطريق القادم منها. الطبقة العاملة مهددة بفقد اليسير المتبقي من حرية نقابية، بعد عجزها عن كسر قيود عمرت عقودا، من قبيل الفصل 288 من القانون الجنائي وظهير 1938 حول التسخير، الموروثين عن الاستعمار، والمادة الخامسة من مرسوم 1958 الذي يعاقب الموظفين المضربين. وهي قيود أعطت الدولة بشأنها وعودا منذ «الاتفاق الاجتماعي» للعام 2003: المراجعة في ما يخص الفصل 288 والإلغاء في ما يخص الآخرين. وجسدت هذه الوعود بتصعيد غارتها على الحريات النقابية بقانون الإضراب، وفي جعبتها قانون النقابات الذي سيزيد التضييق على التنظيم النقابي في القاعدة ويعمق دمج القيادات النقابية وتدجينها ضمن آلية تدبير الجانب العمالي من المسألة الاجتماعية المتفاقمة والمرشحة للمزيد من التفجرية.
ما عدا انفجارا يحرر طاقة الكفاح الكامنة، مثلما جرى بقطاع التعليم السنة الفارطة، وانتفاض شغيلة الزراعة بسهل سوس يوم 25 نوفمبر، تظل أدوات نضال الطبقة العاملة، وهي نقابية أساسا، عاجزة حاليا، عن صد هجوم قانون الإضراب بفعل عاملين رئيسيين:
– تفكيك قوتها ونسف قدرتها على التنظيم بفعل تعميم هشاشة التشغيل منذ إصدار مدونة الشغل التي شرعنت أشكال العمل المؤقت، وبفعل القمع الممنهج لأجنة التنظيم لاسيما بالقطاع الخاص.
– الخط السائد داخل النقابات العمالية، الناسف نسفا لعلة وجود التنظيم العمالي، والقائم على «الشراكة الاجتماعية» أي مسايرة الدولة في تدبيرها للعلاقة بالطبقة العاملة: تمرير الهجمات، كان آخر أمثلتها الأشد صدما ما حل بتقاعد الموظفين، وما عرف بنظام المآسي في قطاع التعليم.
وليس ما يجري اليوم تحت عنوان مناهضة قانون الإضراب غير تأكيد لهذا الضعف، وما يلازمه من أمراض. إذ تأسست جبهة الكـ.د.ش بعد 7 أشهر من تأسيس جبهة أولى، أبقت بابها مفتوحا، وتنظيم هذه بعض التحركات ضد قانون الإضراب. ولم تبادر الجبهة الجديدة، رغم ضغط إجراءات التمرير بالبرلمان، إلى أي برنامج نضالي.لا بل قررت كدش تنظيم وقفات بانفراد يومين، أحدهما (15 ديسمبر) هو ذات اليوم الذي دعت فيه الجبهة الأولى إلى مسيرة وطنية بالرباط لنفس غاية مناهضة قانون الإضراب. هذا علما أن مجلس الكـ.د.ش الوطني (24 نوفمبر 2024) وضع الإضراب العام ضمن البرنامج النضالي المرتقب، مرفقا بصيغة تفويت «صلاحية توقيته للمكتب التنفيذي».
لا يمكن فعلا أن يوقف هجوم الإجهاز على حرية الإضراب غير إضراب عام، عمالي وشعبي. بيد أن الكـ.د.ش وحدها لم تعد قادرة حتى على تنفيذ «إضرابها العام» الجزئي، الذي ابتذل فكرة الإضراب العام ونال من مصداقيتها من كثرة التلاعب بها. إذ أضاع هذا الاتحاد العمالي الكثير من مقدرته النضالية بفعل عوامل موضوعية وأخرى ذاتية، وإن الهامش الذي باتت فيه اليوم نقابته في التعليم (فيلقها الأكبر تاريخيا) بعد حراك 2023 لأسطع دليل.
أما ما دعت إليه قيادة الاتحاد المغربي للشغل في بيانها يوم 18 أكتوبر من «تكتل القوى الحية ببلادنا من أحزاب سياسية وحركة نقابية وجمعيات حقوقية ومجتمع مدني… لوقف محاولة الإجهاز على حق الإضراب» فقد بقي حبرا على ورق، على غرار جمل «نضالية» متواترة في بيانات القيادة.
لم تدافع الحركة النقابية المغربية يوما عن الحرية النقابية بإضراب خاص له مطلب دقيق، ما خلا الإضراب الذي شنه الاتحاد المغربي للشغل يوم 5 يونيو 1958 ضد مرسوم 8 فبراير 1958 المعاقِب للموظف المضرب. وإن بقاء هذا المرسوم، رغم وعود متكررة بإلغائه، وعدم إسقاط النصوص القانونية الأخرى القامعة للحريات النقابية بنضال إضرابي، لهو أبلغ تعبير، من جهة عن البون الشاسع بين الاتحاد العمالي قبل 65 سنة وما بات عليه اليوم، ومن جهة عن حجم المهام على طريق بناء حركة نقابية مكافحة تعيد الوصل بالمقدرة النضالية لسنوات البداية.
ويدل السياق الراهن، ومجمل سلوك القيادات النقابية، أن الدعوات إلى النضال، بما فيه الإضراب العام، مجرد كلام ضغط، ومناوشة باردة في أحسن الأحوال، ستُبطلها أدنى التفاتة من الدولة «للعودة إلى طاولة الحوار»، وسيكون أيضا من نتائج هذه الالتفاتة تجميد جبهة الكـ.د.ش، كما حصل للجبهة الاجتماعية المستكملة خمس سنوات بعد شهر.
كل ما تقوم به القيادات النقابية تظاهر بمعارضة قانون قامع لا يمكن لأي عامل أو عاملة أن يشكر عليه القيادات النقابية، لأنه سيضع مزيدا من القيود في أيدي الشغيلة وأرجلهم لتفعل بهم البرجوازية ما تشاء مما سيرفع أرباحها. وهذا التظاهر كلام بيانات، و»تحركات» باردة، في آخر لحظة ضد هجوم اتضحت شراسته قبل أكثر من عشرين سنة. هذا كله لتسجيل موقف معارض قولا، فيما هو مساير فعلا. إننا إزاء إخراج يسعى إلى الإيحاء بوجود مواجهة، هي غير قائمة في الواقع. وسيختتم هذا الإخراج بالاحتجاج العظيم داخل مجلس المستشارين، وحتى بالانسحاب من جلساته، ويطوى الملف، ويبدأ مسلسل زج الشغيلة، وأولهم المنظَّمون في تنسيقيات، في السجون بمبرر خرق مقتضيات قانون الإضراب.
هكذا هو الأمر، وهل من ساذج ينتظر أن تعلن القيادات تأييدا صريحا لقانون قمعي. وقد سبق على كل حال أن تصرفت على نفس النحو المتظاهر بالاعتراض في ما يخص ما سمي «إصلاح تقاعد الموظفين» الذي تجرعت الشغيلة ثماره المرة.
ستدخل الحركة النقابية مع قانون المنع العملي للإضراب عهدا جديد، وستعيش وضعا صعبا مع ما سيفتح هذا القانون من باب عريض لهجمات سبق للبيروقراطيات النقابية أن وافقت على بعضها (في اتفاق 30 أبريل 2022: الهشاشة في مدونة الشغل ونسف ما تبقى من مكاسب التقاعد)، وتساير بلا شك الباقي: قانون النقابات وزحف الخوصصة، ومجل السياسية النيوليبرالية المعادية للطبقة العاملة وعامة المقهورين/ات.
قد يحتاج الأمر وقتا وجهودا جبارة، لكن لا مناص من انتشال الحركة النقابية المغربية من المستنقع الذي أوصلتها اليه البيروقراطيات النقابية، وذلك بالتصدي لمواطن الضعف ذات السبب الموضوعي منها والذاتي أيضا، آنفة الذكر:
أولا: جهود تنظيم الشغيلة الذين تدفعهم شدة الاستغلال وقساوة ظروف العمل وانهيار القدرة الشرائية إلى البحث عن سبل للمقاومة، ولا أدل على هذا من حراك التعليم وانتفاض شغيلة الزراعة المقهورين، رجالا ونساء يوم 25 فبراير بسوس، والآتي أعظم.
ثانيا: الدفاع عن علة وجود النقابة بما هي أداة نضال عمالي ضد البرجوازية ودولتها، لا «شراكة اجتماعية»، ولا اندماج مع الدولة: استقلال طبقي للذود عن حقوق الشغيلة ومكاسبهم، بطرق تنظيم ونضال ديمقراطية حتى النهاية.
خارج هذا الخيار، المفعم بحظوظ النجاح إن كُرست له الجهود الجماعية للأوفياء لمصلحة الشغيلة الطبقية، لن تسير طبقتنا سوى إلى مزيد من التردي الاجتماعي و الاستعباد السياسي.
هذا منظورنا، رفعنا رايته، جريدة المناضل-ة- منذ عقدين، وسنبقى رافعينها حتى النصر او الموت تحتها.
وفي الآن تتجه جهودنا لمساندة أي خطوة عملية ضد قانون منع الإضراب، أيا كان الجهة الداعية لها طالما كانت موجهة للقواعد النقابية: مع القاعدة النقابية دفاعا عن وجود النقابة المهدد بقانون الإضراب.

شارك المقالة

اقرأ أيضا