من يخاف التنسيقيات، من يخاف التنظيم الذاتي؟ ولماذا؟
بقلم؛ رفيق الرامي
تشهد الساحة النقابية، منذ سنوات مخاضا أسفر، ولا يزال، عن تحولات عميقة. منها سلبية دافعة إلى تعميق الأزمة، ومنها الباعثة على أمل إعادة بناء على أسس أمتن تعيد الصلة بأفضل تقاليد النقابة المناضلة. لا شك إن إيغال القيادات البيروقراطية في نهج التفريط في المكاسب والحقوق، المسمى «شراكةً اجتماعية»، خلّف أثرا ضارا متمثلا في تنفير الشغيلة من الالتزام النقابي. الأمر الذي انعكس في نسبة الانخراط في مختلف المنظمات النقابية، وانكماش بعضها في قطاعات عديدة إلى مجرد جنرالات بلا جيش، محض هياكل وأجهزة شبه فارغة. ويتجلى هذا في قطاعات تميزت تاريخيا بنسبة انخراط عالية، وباتت اليوم ظلّاَ لنفسها ليس إلا. كما نال هذا من صورة النقابة لدى الرأي العام العمالي والشعبي بتضافر مع الحملة التضليلية البرجوازية المستغلة أمراض النقابة لتشويهها وإبعاد المقهورين عن أي تنظيم.
التنسيقيات وسمات تنظيم ذاتي تعرضت للوأد
بيد أن ثمة ظواهر موازية لهذا المنحى السلبي اكتست طابعا ايجابيا، بما بعثت من اهتمام الشغيلة بشأنهم المشترك، في وجهة مناقضة لما ساد طيلة مدة من انزواء فرداني، وسعي إلى حلول شخصية واهمة، وأتاحت مشاركتهم الواسعة في تحركات نضالية غير مسبوقة. توجد التنسيقيات بمقدمة هذه الظواهر الايجابية، إجمالا رغم عدم خلوها من جوانب نقص، وتفكيكها لقسم من الحركة النقابية دون سير نحو إعادة توحيد. أهم بُعْد ايجابي جلي للغاية هو أن التنسيقيات أعادت إلى ساحة الفعل النضالي جماهير واسعة أحبطتها تجارب نقابية سلبية بما جرَّت من هزائم، وما شابها من انتهاك صارخ لديمقراطية تسيير التنظيم والنضالات. وقد أتاحت لجيل جديد فتي من الشغيلة خوض أتون الكفاح واكتساب تجربة غنية، مثالها الأبرز تنسيقية المفروض عليهم/هن التعاقد، حتى بما طبعها من عيوب معظمها عدوى من الحركة النقابية المُعْتلَّةِ ذاتها.
لما اشتد الهجوم على شغيلة التعليم، وتواطأت معظم القيادات النقابية بالقطاع مع خطط الدولة، انتفضت القاعدة المقهورة، وسرعان ما تنظمت في تنسيقيات جديدة انضافت الى العديد الفئوي القائم أصلا، وكانت التنسيقية الموحدة اكثر من سواها قناة لطاقة الكفاح المتدفقة. وبفعل تكنولوجيا التواصل من جهة، وبداية تنظيم بأماكن العمل، كانت مشاركة الشغيلة عريضة بنحو غير مسبوق، سواء في الإضراب أو في الاعتصامات والمسيرات المحلية وكذا الوطنية. فكان الحراك طيلة ثلاثة أشهر أكبر معركة في تاريخ قطاع التعليم بالمغرب على الإطلاق. وقد أبان الحراك عن مواطن ضعف، قد يكون أكبرها عدم تطور التنظيم بأماكن العمل، بما يتيح بناء لجان إضراب حقيقية، إذ كان لتكنولوجيا التواصل مضارها التي أتاحت الالتفاف على مبادرات القواعد، بإضعاف النقاش وإضعاف اتخاذ القرار بديمقراطية حقيقية ليس مجالها سوى الجمع العام التقريري لكافة المشاركين في النضال.
إن كانت ظاهرة التنسيقيات نتاجا لوضع نقابي مأزوم، وشكلا فئويا أنتجه تدبير القيادات البيروقراطية لملف الشغيلة المطلبي، وانعدام منظور نضالي إجمالي، فقد كان لها إبان حراك الأشهر الثلاثة، لا سيما مع ظهور تنسيقيتين جديدتين، دورُ تعبيرٍ عن رفض خط القيادات البيروقراطية (ما يخطئ البعضُ عند اعتباره رفضا للنقابة بذاتها)، وإمساكُ الشغيلة بزمام أمرهم، وذلك بانخراط جماهيري غير مسبوق وإبداع أشكال مشاركة جماعية ديمقراطية في تسيير النضال. تجلت جماهيرية المشاركة في انضمام شغيلة من قاعدة النقابات بمختلف انتماءاتها، وبوجه أخص في التحاق القاعدة العريضة من الشغيلة، بنسبة نسائية عالية، لم ينتموا قط لنقابة أو أي تنظيم، ومنهم قسمٌ مَثَل الحراكُ أولَ تجربة نضالية لديه. اضطلعت تنسيقيات، كا بطريقة وبنحو متفاوت، بدور أداة لتسيير النضال يجمع القاعدة العمالية العريضة، ويقرر في أهداف النضال وأشكاله خارج تحكم الأجهزة النقابية، فكانت بعض ملامحها شكلا جنينيا من صنوف التنظيم الذاتي التي تظهر في النضالات الجماهيرية، عبر العالم، بتسميات متنوعة : لجنة الإضراب، ممثلي الأجراء، لجنة التفاوض، تنسيقية … وقد اكتسى شكل التنظيم الذاتي هذا خاصيات بفعل تكنولوجيا التواصل، الايجابي منها تسهيل المشاركة (عن بُعد)، وسرعة إيصال المعلومة وتبادل الآراء والنقاش، فيما برز النقص في عدم تطوير الجموع العامة التقريرية، المعتمدة نقاشا حيا يفضي إلى قرار جماعي، وعدم ضمان استمرارها، وكذا عدم تفعيل العمل بلجان ميدانية وظيفية تُشرك الجميع في تسيير النضال ديمقراطيا. دفعت عفوية الجماهير في اتجاه تسيير مباشر للنضال، لكن سرعان ما طغت ميول التفويض، وانفلات المنسقين من توجيه القاعدة ورقابتها، ونيابة الجهاز الوطني عن جموع الشغيلة العامة. إجمالا، أُسْتُعيضَ عن المشاركة الميدانية المباشرة في تسيير النضال بتدبير متحكم به بتكنولوجيا التواصل تقوم به نخبة منفلتةٌ من فوق. خلاصة القول، مثلت بعض ملامح التنسيقيات، بأوجه عدة، شكل تنظيم ذاتي جنيني سرعان ما تعرض لإجهاض. وكان هذا الإجهاض بإعدام الجموع العامة التقريرية الديمقراطية، ما سهل ارتباك أجهزة التنسيقيات غير مكتملة الديمقراطية، وعجزها عن تدبير صائب للمعركة في لحظات حاسمة، وأدى بها إلى انهيار تام في نهاية المطاف. وجلي أن هذا الإجهاض يعُزى في جانب منه إلى تقاليد العمل النقابي بالمغرب، حيث التسيير الذاتي للنضالات شبه منعدم. فالتبقرط المبكر للاتحاد المغربي للشغل، الجانح بسياسته إلى مسايرة النظام، والتحكم التام للاتحاد الاشتراكي في الكنفدرالية الديمقراطية للشغل لأغراضه غير العمالية، كرسا الميل شديدَ القوة إلى الإمساك الكلي بتسيير الإضرابات، وكبحها في حدود تمليها أهداف القيادات. ومن ثمة إعدام أجنة التسيير الذاتي للنضالات، ومع مر السنين تكرس التدبير التحكمي لدرجة انتفاء حتى فكرة التسيير الذاتي للنضالات، بما فيه في أدبيات معظم اليسار الفاعل في النقابات. وجلي أيضا أن ما سهل مأمورية البيروقراطيات النقابية عدمُ استقلال معظم اليسار الجذري عن البروقراطيات وامتناعه عن الدفاع عن خط معارض قائم على تصور مغاير لأهداف النضال ولطرقه، وخطل المنظور المفضي إلى إجهاض تجربة «التوجه الديمقراطي»، وبقاء جهود أنصار جريدة المناضل-ة في الساحة النقابية صيحة في واد.
ما هو التنظيم الذاتي للنضالات؟ زمام الإضراب بيد المضربين
يروج في إعلام يساري تعبيرا «التنظيم الذاتي» و «التنظيمات الذاتية» في استعمالات وسياقات تُحمِّلُـهما معنى التنظيم بشكل عام، دون تمييز ما هو تنظيم ذاتي فعلا عن التنظيمات الدائمة للطبقة العاملة. ضمن هذه الأخيرة تندرج النقابة والحزب والجمعية العمالية (جمعية تثقيف، أو إسعاف متبادل، او ترفيه…)، بينما التنظيم الذاتي أشكال تنظيم تنبثق إبان المعارك، منها أولية كلجنة الإضراب داخل المؤسسة، وصولا إلى مجالس الشغيلة (السوفييتات) كسلطة موازية لسلطة رأس المال.
إنجاح الإضراب، والصمود بموجه ردود أرباب العمل والدولة بالمناورات والقمع، يستوجب مشاركة الشغيلة في تنظيمه وتوجيهه، لا أن يكونوا مجرد منفذين سلبيين موجَّهين عن بعد. وهذا متوقف على كيفية تسيير الإضراب.
يمكن تسيير الإضراب بكيفيات مختلفة، أكثرها انتشارا مع الأسف، في بلد ضعيف التقاليد العمالية الكفاحية كالمغرب، هو التسيير الفوقي من طرف نقابة مُبقْرَطة، حيث تشرف القيادة العليا على تفاصيل تنفيذ الإضراب، بإملاء توجيهات يسمونها «تقنية الإضراب»، تروم التحكم في الفعل النضالي بمصادرة حق المضربين في تقرير طرق هذا التنفيذ المتيحة لأكبر فعالية. هذا ما يدفع الشغيلة، في غياب من يحفز التسيير الديمقراطي، إلى السلبية والانصياع، ويؤدي إلى إفراغ الإضراب من طابعه الكفاحي ليجعله مجرد أداة ضغط مضبوطة من أجل «الحوار».
كما يمكن تسيير الإضراب بطريقة ديمقراطية من قبل الاجتماعات العامة لأعضاء النقابة.لكن النقابة بطبعها لا تنظم، حتى في بلدان النسبة العالية من المنتمين نقابيا، إلا قسما من الشغيلة. الأمر الذي يستوجب شكلا مُكتملَ الديمقراطية يتيح مشاركة كافة المضربين، المنظمين وغير المنظمين. هذا الشكل هو لجنة إضراب ينتخبها الشغيلة في اجتماع عام، تخضع ديمقراطيا لقرارات الجموع العامة المنتظمة.
تحتاج لجنة الإضراب، عندما يكون الإضراب مديدا ومسيرا بكفاحية، إلى أن تحدث، من بين أعضائها ومن المضربين، لجانا وظيفية تتولى مختلف المهام: جمع الدعم وتوزيعه، وتنظيم مناحي حياة المضربين، لا سيما عندما يكون الإضراب مع اعتصام بأماكن العمل، وحراسة الإضراب، والدفاع عن قضية الإضراب أمام الرأي العام (الإعلام)، والعلاقات الخارجية (بحركات إضرابية أخرى وبقوى متضامنة…) والاستخبار عن نوايا الخصم، وما الى ذلك.
يُفضي تطور الإضراب، من حدث إلى سيرورة في الزمن والمكان، في أماكن الإنتاج واتجاه قطاعات أخرى، وعلى الصعيد الوطني صوب الطبقات الشعبية، إلى انتشار لجان الإضراب، وهيكلتها هرميا، من المحلي إلى الإقليمي ثم الوطني، في شكل سلطة موازية لسلطة البرجوازية. وهو ما جرى في تجارب نضال عمالية ببلدان عديدة.
ظهرت مجالس الشغيلة إبان الثورة الروسية الأولى في العام 1905.كان أول سوفييت في بتروغراد مجلسا لمندوبي لجان الإضراب. لم تكن المجالس مبادرة من أي حزب أو مجموعة سياسية، بل عملا عفويا من الجماهير، دفع به تطورُ نضال الشغيلة تدريجيا إلى نضال ثوري. وهي لم تظهر دفعةً واحدةً، في شكل مكتملٍ جاهزٍ، بل نتجت عن تطور مختلف أدوات النضال التي خُلقت في مجراه. كان ثمة انتقال من شكل تنظيمي إلى آخر، في تغير مستمر، يلغي بعض العناصر ويأتي بأخرى جديدة، بالتبسيط أحيانا وبالتعقيد أحيانا أخرى.
ظهرت المجالس أحيانا كتطوير طبيعي للجان الإضراب أو للجان المصانع. هذه اللجان التي لم تكن في بدايتها غير أدوات لتسيير الحركات الإضرابية (لجان تفاوض مع أرباب العمل، وجمع الدعم المادي) تحولت، شيئا فشيئا، بحفز من الأحداث الثورية إلى أدوات تمثيلية لمجمل الطبقة العاملة، وتفاهمت مع ممثلي مختلف الأحزاب العمالية بإقامة تحالف نضالي. في البداية لم تدرك الأحزاب العمالية أهمية المجالس، لا بل كان حتى للفصائل الثورية موقف تحفظ وحتى رفض. [*] لجان المصانع والرقابة العمالية في بتروغراد في 1917. دافيد ماندل. منشورات المعهد الدولي للبحث والتكوين، العدد 21
الموقف من أجنة التنظيم الذاتي التي ظهرت بحراك التعليم
وإن كان متوقعا أن تثير التنسيقيات موقفا سلبيا لدى القيادات البيروقراطية، بالنظر إلى أنها ترى فيها انفلاتا من تحكمها، ومنافسا خطير ا في مخاطبة القواعد العمالية، وتهديدا حتى لوجود هياكل نقابية ضامرة تخلت عمليا عن أهداف العمل النقابي. ففي تجارب ببلدان أخرى، كانت التنسيقيات رافدا لإعادة بناء النقابة على مرتكزات نضالية وديمقراطية، مثل تنسيقيات الممرضات/ين في فرنسا. باختصار تخشى البيروقراطية سحب البساط من تحت أقدامها بإفقادها التحكم في النضالات، وحتى التمثيلية المهنية المعتمدة لاكتساب صفة الشريك في تدبير الدولة لعلاقتها مع الحركة النقابية. إذا كان البيروقراطيات تكبح التنظيم الذاتي فلأنها ليست لها مصلحة في تجاوز الصراع الطبقي الحدود المرسومة من طرف الدولة البرجوازية، ولأنها تريد المحافظة على تحكمها في النضال. مقابل دورها التعاوني تحصل البيروقراطية على فتات المناصب والتمويل الذي تخصص الدولة لإعالة البيروقراطية النقابية.
لكن أن تثير التنسيقيات مخاوفَ، وتوجساتٍ، وتحفظاتٍ، وحتى عداءً، لدى مناضلين منتسبين إلى خط مناهضة البيروقراطية، فواقع يثير أسئلة كبيرة حول مدى تأصل الاقتناع الفعلي بمناهضة البيروقراطية، وحول اقتران القول بالفعل، وفي النهاية يثير الأمر خوفا من مواقف المتهيبين من التنسيقيات: من خوفك أخاف.
بمجمل الأحوال تظل التجربة والممارسة محك كل المزاعم بشأن التصدي للبيروقراطية والدفاع عن الكفاحية والديمقراطية. ثمة فعلا في أوساط منتسبة إلى ما اصطلح عليه بالتوجه الديمقراطي موقفٌ من التنسيقيات أقل ما يوصف به هو عدم ارتياح.
نورد فيما يلي كلام مناضل في ندوة تقييم لحراك التعليم بعد مضي عام على توقفه. ليس والحالة هذه رأيا مرتجلا، في مناخ سجال آني، بل صوغا لتقييم بعد تفكير، وقياس بآراء مغايرة. يستحق إذن أخذه كعينة لموقف له في الساحة تأثيرٌ، وسيحكم مواقفَ المتفقين معه في القادم من كفاحات، بالتعليم وبسائر فروع العمل المأجور. يقول صاحبنا:
«يغلب على تعاطيها (أي التنسيقيات) مع الشأن النضالي العفويةُ والاندفاع والعداء للعمل النقابي، رغم أن العفوية في العديد من في الأحيان تفرز طاقات نضالية مبدعة، وطلائع مهمة داخل ساحة النضال الجماهيري، لكنها تبقى سيفا ذو حدين في المعارك النضالية الكبرى، يمكن أن تساهم تقديرات وتكتيكات قادتها الميدانيين إلى إقبار المعركة عند اشتداد الصراع ضد الدولة وحكومتها. الحراك التعليمي هو نشاط جماهيري جرى في واقع موضوعي له محدداته، يقتضي تحديد تناقضاته وشعاراته بدقة وواقعية، واعتبارا لكونه يجري في واقع الجزر النضالي العام، وغياب فعل نضالي تراكمي بمنظور طبقي وقيادة جماعية ووحدة نضالية فكل تقدير غير مستحضر للشروط العلمية لواقع الفعل النضالي، سيشكل تبديدا للطاقات الكفاحية والدفع بها للمغامرة غير المحسوبة العواقب، ولنا في تجارب سابقة أكثر من درس (20 فبراير، حراك الريف)، حيث لم تجن الجماهير المنتفضة نتائج إيجابية رغم التضحيات الجسام، مما يستلزم التركيز على مبدأ الوحدة النضالية والالتفاف حول مطالب محددة وواضحة وتعبر عن انتظارات الأغلبية، وقابلة للتحقيق، ويتم الالتزام بها من طرف جميع مكونات الحراك التعليم».
ليست مواقف من هذا القبيل جديدة، إذ لها نظائر في تاريخ الحركة العمالية، حيث حاد مناضلون جذريون، وحتى ثوريون، عن جادة الصواب في شأن التعامل مع أشكال تنظيم ذاتي عمالي، ليس فقط في نضال إضرابي متخذ أشكالا ابتدائية بل حتى في أوضاع قبل ثورية أو ثورية.
في مقال بعنوان «مجالس الشغيلة، أصلها وتطورها ووظائفها»(*)، تناول الماركسي الثوري أندرو نين Andreu Nin بالتحليل ظاهرة مجالس الشغيلة. أورد فيه موقف قادة الحزب البلشفي على النحو التالي:
«منذ البداية، تبنى القادة البلاشفة (داخل روسيا، في غياب لينين) موقفا سلبيا إزاء مجلس الشغيلة. كانوا يقولون إن ممارسة القيادة السياسية يقتضي التوفر على برنامج سياسي محدد جيدا وأهدافٍ ملموسة جيدا. مجلس الشغيلة لا يمكن أن يقوم بدور قيادي، بفعل بنيته السياسية، وهو بجميع الأحوال عاجز عن الحلول مكان الحزب. وكان يُشار أيضا إلى أن كون المجلس العمالي غير تابع شكليا لأي حزب قد يقوده على طريق الانتهازية، ويصبح أداة تستعملها البرجوازية للتحكم بالشغيلة وتوجيههم. كانت النتيجة التي تنبع من هذا الاستدلال منطقية: مجلس الشغيلة ليس ضروريا، لا بل كان حتى خطيرا على الطبقة العاملة. أنهى وصول لينين هذا الموقف العبثي. أدرك لينين على الفور أهمية مجالس الشغيلة، واكتفى في مقالات منشورة في نوفويا جيزن بأن أوصى بتقوية تأثير الحزب داخل مجالس الشغيلة.»
نعود، بعد هذا المثال التاريخي البليغ عن مواقف ضالة من تنظيم الشغيلة الذاتي، إلى حالتنا بحراك التعليم، وهي طبعا في مستوى أولي حيث ما كادت أجنة التنظيم الذاتي تظهر حتى تعرضت للإجهاز. الاستشهاد أعلاه هو موقف مناضل قيادي نقابي وسياسي، قائم على حكم على التنسيقيات بالضعف السياسي، أي بكون تكتيتكاتها وتقديراتها قد تجلب الهزيمة عند اشتداد المواجهة مع الدولة. ويعيب التنسيقيات بنقص فهم الواقع، و عدم تقدير ميزان القوى، الخ. هذا الموقف اشتراط يوضع أمام فعل جماهيرية عارم، عوض حفزه في الاتجاه المفيد لتعزيز المعركة، وإرسائها على أساس أمتن، أساس لجان إضراب بأماكن العمل تحقق ما كان الحراك بحاجة إليه من وحدة على صعيد كل مؤسسة، بضم تلك اللجان لممثلين/ات منتخبين/ات من كافة الشغيلة، المنتمين نقابيا وغير المنتمين، وتتويج ذلك بلجان إضراب إقليمية وأخرى وطنية. هذه الديمقراطية هي ما سيقي فعلا من المغامرة التي يحذر منها صاحبنا، بما ستتيح من نقاش واسع وتعددي.
اشتراط توفر التنسيقيات على منظور صائب منذ البداية يضع صاحبه في تعارض مع حركة جماهير الشغيلة عوض العمل على الإقناع في ضوء الممارسة.إنها استقالة من دور من يدعي امتلاك ذلك المنظور. وهنا تتجلى، كما في سياقات أخرى عديدة، معضلة النضال العمالي في المغرب المتمثلة في الافتقار إلى حزب سياسي للشغيلة يجمع أفضل طلائعها خبرة ووعيا، يتدخل في الكفاحات بدروس التجربة التاريخية، منها فيما نحن بصدده خبرة التنظيم الذاتي.
أما مبرر ميزان القوى (الجزر العام كما سماه صاحبنا) فمتهافت، إذ ليس دور المناضلين إبداء الملاحظات على حالة ميزان القوى، والنظر إليه كشيء معطى لا يتغير، وتقدير حظوظ تحسنات مقبلة. بل العمل لتغيير ميزان القوى بزيادة ثقة الشغيلة في مقدراتهم ورفع وعيهم الطبقي وتوسيع أفقهم السياسي ورفع درجة التنظيم والتماسك وبناء طليعة قادرة على قيادة معارك ظافرة، وهذا كله غير ممكن سوى بالانخراط التام في أشكال التنظيم والنضال التي تبتكرها الجماهير وحفزها وتطويرها. وقد كان واردا، لو حضر الوعي الكافي، ان يكون لنقابة التوجه الديمقراطي دور حفز تشكيل لجان الإضراب الديمقراطية في مؤسسات التعليم، ينخرط فيها مناضلوها جنبا إلى جنب مع الشغيلة غير المنتمين. الأمر الذي يرفع حظوظ اتخاذ النضال وجهة كفاحية أصلب. ما لم يدركه صاحبنا، رغم مزاعم «استحضار الشروط العلمية لواقع الفعل النضالي»، هو أن الوضع في المغرب كان ناضجا لانطلاق موجة من الأعماق العمالية والشعبية بفعل انهيار القدرة الشرائية للشغيلة وعامة المقهورين، وبفعل مجمل الوضع الاجتماعي المزداد ترديا، وبفعل الكفاحية الكامنة في قطاعات بالوظيفية العمومية (الصحة و الجماعات الترابية بالمقام الأول)، كان من شانها ان تشكل قاطرة لمجمل الحركة النقابية وحتى للشغيلة خارج النقابات، وأيضا بفعل الهزة التي أحدثها حراك التعليم في المجتمع برمته تبعا للصلة بالأسر، هذه التي أبدت تأييدا للحراك برغم كل جهود الخصم لتأليبها عليه.
أما حجة معاداة التنسيقيات للنقابات، فلا تقوم على أساس، لأن ما ترفضه القاعدة العريضة لشغيلة التعليم هو خط القيادات البيروقراطية التي كانت محل ثقة وفرطت في الحقوق، وهو موقف سليم عبر عن نفسه خارج النقابات لعدم بنائه داخلها في شكل خط نضال ديمقراطي كفاحي، بفعل إعدام حرية الرأي المعارض وديمقراطية التعبير عنه بشكل منظم داخل النقابات، ولأن معظم اليسار اختار مسايرة البيروقراطيات عوض أن يكون صوتا للقواعد النافرة منها. ولو وجدت القواعد نقابة معبرة عن إرادتها لما نرفت منها، تجلي ذلك في التعاطف الذي تحظى به مواقف جامعة التوجه الديمقراطي كلما كانت وفية 100% لما يتطلع اليه الشغيلة.
خاتمة القول إن التشكك وعدم الفهم وحتى العداء أحيانا، هذا ما تثيره أشكال التنظيم الذاتي لدى قسم من المناضلين/ات، وهو موقف نابع من حذر من الحركات الجماهيرية العفوية غير سليم. إنها الخشية من كل شكل غير خاضع لتصورهم لتأطير الجماهير.
حراك التعليم كنز دروس لا يقدر بثمن، فأن يشارك آلاف الأجراء والأجيرات في نضال موحد طيلة ثلاثة أشهر فرنُ نضالات أتاح تفتق مقدرات ومواهب الشغيلة الكفاحية، خارج التحكم البيروقراطي الخانق. لكن انعدام إعلام عمالي منغرس حال دون رصد تنوع المبادرة والإقدام الكفاحي عند الشغيلة، وكل أشكال مشاركتهم، رجالا ونساء، في تسيير النضال، كما حال دون رصد الآليات السلبية المتنوعة التي منعت تطور أجنة التنظيم الذاتي نحو لجان إضراب منتخبة ومراقبة بجموع عامة منتظمة. فليكن هذا الرصد إحدى مهامنا، لتطوير التثقيف بأفكار التنظيم الذاتي في أوساط الشغلية، لتزدهر لجان الإضراب في الحراكات العمالية القادمة، وتجري مركزتها ديمقراطيا في لجنة إضراب وطنية تقود النضال وتعمل لأجل امتدادها الى قطاعات شغيلة أخرى من قطاعات الدولة، ليكون حافزا لمجمل الطبقة العاملة المغربية، بما فيها ملايين المُبعَدين والمبعدات من كل تنظيم بفعل الهشاشة و والقمع، للسير نحو إضراب عام عمالي وشعبي ينتزع المطالب، وينمي ثقة طبقتنا في ذاتها ويطور مؤهلاتها لقيادة كافة المقهورين نحو قلب المغرب على رؤوس المستبدين والمستغلين، وبناء مغرب الحرية والكرامة و الحياة السعيدة.
=========================
(*) رابط مقال اندرو نين
https://www.marxists.org/francais/nin/works/1932/00/soviets.htm
(**) [تفاصيل أكثر عن موقف ثوريين متحفظين، أو خائفين، من التنظيم الذاتي المجالسي في مقتطف من من كتاب مارسيل ليبمان بهذا العدد ص 10]
نين بيريز أندرو (اندريس) NIN PÉREZ, Andreu (Andrés) (1892-1937)، معلم، وصحافي، أمين عام نقابة الاتحاد الوطني للعمل C.N.T العام 1920، انتخب في موسكو أمينا للأممية النقابية الحمراء. اأقام في موسكو، عضوا في الحزب الشيوعي الروسي وفي سوفييت موسكو واللجنة التنفيذية للأممية الثالثة (الشيوعية)، انضم الى المعارضة اليسارية ضد صعود البيروقراطية الستالينة. وعضو أيضا في اللجنة العالمية للمعارضة اليسارية، طُرد من الاتحاد السوفييتي عام 1931. أمين عام لتنظيم اليسار الشيوعي Izquierda comunista في 1932، وأمين حزب العمال للتوحيد الماركسي P.O.U.M، في 1935. عضو حكومة Généralité كاتالونيا ، اعتقل في 16 يونيو 1937، ولم يظهر له أثر. اغتاله أتباع ستالين، بإشراف رئيس مخابراته في إسبانيا، أورلوف Orlov، وطالما أنكروا التهمة إلى أن فُتح أرشيف هذا الأخير فانكشفت الحقيقة.
اقرأ أيضا