الطبقة والتغير الفلاحي لهنري برنستين: تمهيد للطبعة العربية والفهرس

تمهيد:

يمكن للأفكار التحررية أن تُنتج في سياقات معرفية غير ديمقراطية لأقصى حد، والقصد هنا أسئلة من قبيل من ينتج ويستخدم أي معرفة؟ ولأي درجة ؟ وكيف؟ ولأي أغراض ؟ والأهم معرفة من؟ إن الدوائر العالمية لإنتاج المعرفة وتفسيرها للظواهر والأطراف وتعميمها وتبادلها واستخدامها هي دوائر مماثلة في حركتها لدوائر حركة السلع العادية في الحياة اليومية للناس؛ فهي في يد قلّة معرضة للاحتكار، ويجري تبادلها لتحقيق الأرباح. في عالم اليوم – في العلوم الاجتماعية على الأقل – تتركز هذه الدوائر في جامعات ومؤسسات بحثية جيدة التمويل في الشمال العالمي، والإنجليزية هي اللغة المهيمنة. إن الحصول على المنح البحثية الأكاديمية، ونشر المقالات في الدوريات والكتب مع كبار الناشرين، وتوفر الاشتراك في المجلات العلمية والقدرة على دفع رسوم النشر المفتوح وتوفر المكتبات المكدسة فيها الكتب، هي من بين متطلبات الباحثين لمعرفة أحدث ما يُنتج معرفياً، وهو الحد الأدنى الذي يجب أن يتوفر لدى المرء حتى يتمكن من التفكير في أفكار أصيلة» للبحث أو التقدم للحصول على المنح البحثية أو الوقوف على أفكار صالحة للنشر.

إلا أن هذه المتطلبات المالية واللوجستية تتجاوز كثيراً قدرة الحكومات والجامعات والباحثين الأفراد في الجنوب العالمي. في عام 2024 كانت الرسوم المعلن عنها للاشتراك في دورية من كبرى دوريات العلوم الاجتماعية هي 6500 دولار، وبهذه الدورية عدد من المقالات أكبر من مثيله في الدوريات الأخرى. وعند نفس الناشر ولنفس السنة هناك دورية كبرى أخرى اشتراكها السنوي 2700 دولار. باشتراكات الدوريات يمكن للعامة الاطلاع على المقالات بعد سداد الرسوم. ويمكن للباحث نشر مقالات مُتاحة للعموم دون اشتراك، لكن عليه دفع رسوم لهذه الميزة ورسوم النشر المفتوح لمقال في ما يسمى «رسوم نشر المقال» في الدورية الكبرى المذكورة أعلاه – على سبيل المثال – هو 4300 دولار إضافة للضرائب. ربما يبلغ راتب المدرس الجامعي بدوام كامل في جامعة حكومية في دولة متدنية أو متوسطة الدخل حتى في أفريقيا أو آسيا أو أمريكا اللاتينية والكاريبي نحو 300 دولار في الشهر. ليست هذه إلا بعض الأمثلة التي تُظهر مدى عدم ديمقراطية البنى العالمية لسياسة المعرفة. من هذه البنى، تنهض بعض الآراء المغايرة حول العالم والحياة الاجتماعية. يمكن استخدام الأكاديميا – ولقد حدث هذا مراراً – في توليد المعرفة التي تبرر الاستغلال والقمع والنهب البيئي.

ليس في البنى غير الديمقراطية لسياسة المعرفة العالمية أي شيء طبيعي أو بديهي. إنها ومن عدة أوجه امتداد لمنطق الرأسمالية، وللتطور غير المتكافئ للرأسمالية العالمية. لقد جرى ضم الجامعات والمعاهد العلمية على مستوى العالم إلى المنطق النيوليبرالي، من عدة أوجه. وبموجب هذا المنطق يسمو نجاح الباحث الفرد والجامعة الواحدة على ضرورات الاقتصاد الأخلاقي للمجتمع.

لا يرغب الباحثون والنشطاء وراء سلسلة الكتب الصغيرة هذه الصادرة عن مبادرات في الدراسات الفلاحية النقدية التي بدأت في 2008، في أن يكونوا جزءاً من الوضع القائم لسياسة المعرفة العالمية. إنهم يرغبون في تقديم إسهام صغير على مسار طرح الأسئلة حول الطبيعة غير الديمقراطية وغير العادلة لدوائر سياسة المعرفة العالمية. يرغبون في الإسهام في تفكيك البنى الظالمة لعمليات توليد المعرفة الحالية وتداولها وتعميمها واستخدامها، وفي الوقت نفسه يحاولون بناء بديل. لا يمكن تحقيق دمقرطة سياسة المعرفة إلا من خلال عدد كبير من المبادرات المشابهة على مستوى العالم، ومن خلال حركة جماعية. على الباحثين الأكاديميين ممن يحتلون قاع بنية سياسة المعرفة الهرمية هذه غير العادلة أن يتولوا دوراً أساسياً في تفكيك هذا النظام وفي بناء بديل. لهذا نعتبر تشكيل جماعة الباحثين والنشطاء الفلاحيين في الجنوب العالمي (CASAS) أمراً واعداً ومشجعاً وملهماً.

إن الأرضية غير المستوية لسياسة المعرفة العالمية لا تقتصر على العالم الأكاديمي وحده في العلوم الاجتماعية – وخصوصاً في مجال الدراسات الفلاحية النقدية على اتساعه – ثمة ثلاثة مواقع على الأقل يمكن فيها توليد المعرفة التحررية واستخدامها، وهي المجال الأكاديمي، ودوائرالمجتمعات المحلية والحركات الاجتماعية الشعبية المرتبطة بها، والبحوث المستقلة ومؤسسات التنمية. يرى أعضاء مبادرات في الدراسات الفلاحية النقدية فيها مجتمعات أفقية متداخلة، لا علاقات هيراركية رأسية حيث تحتل الجامعات وإنتاجها للمعرفة رأس الهرم. يحوز منظمو النقابات الزراعية وقادتها على معرفة عميقة حول عالم العمال الزراعيين لا يتوفر أدنى قدر منه للأكاديميين أو لباحثي منظمات المجتمع المدني حتى رغم قدرة الباحثين الأكاديميين على تقديم معرفة مميزة من دراسة نفس الظروف الاجتماعية للإنتاج وإعادة الإنتاج الاجتماعي لعمال الزراعة. للمعرفة الأكاديمية دور مهيمن، وفي أحيان كثيرة تقدم بصفتها المصدر المشروع الوحيد للمعرفة العلمية. لكنه افتراض تحوطه الشكوك إذ يرى أعضاء مبادرات في الدراسات الفلاحية النقدية نفس القدر من الأهمية في المعرفة المنتجة خارج الجامعات. ومن المهم بنفس الدرجة التكاملات المحتملة بين تفاعل هذه الدوائر الثلاث المختلفة من منتجي المعرفة. وهذا جزء من دمقرطة سياسة المعرفة.

إن سلسلة كتب صغيرة الصادرة عن مبادرات في الدراسات الفلاحية النقدية هي مبادرة تسعى لتقديم إسهام متواضع على طريق دمقرطة سياسة المعرفة. إطلاق الطبعة العربية من السلسلة في 2024 هو حدث تاريخي للسلسلة. كتب المبادرة تتوفر في عشر لغات، هي الإنجليزية والإسبانية والبرتغالية والصينية واليابانية والأندونيسية والتايلاندية والكورية والإيطالية والروسية وليست جميع كتب السلسلة مترجمة لكل هذه اللغات؛ إذ تختار الفرق المتعاونة معنا لإصدار طبعات اللغات المختلفة عناوين مختلفة للترجمة وليست لديهم إمكانات كافية لترجمة كافة العناوين في الوقت نفسه. سوف تصدر قريباً طبعات بالبورمية والتركية والفرنسية، بعد إصدار الطبعة العربية في أواسط عام 2024. هذا إنجاز مفصلي لأن هناك انقطاع هائل في العالم الأنجلوفوني بمجال الدراسات الفلاحية النقدية بين الواقع في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا على جانب، والمعرفة العالمية المهيمنة التي تُعمم وتستخدم عن المنطقة على الجانب الآخر.

مع توفير الطبعة العربية من سلسلة كتب صغيرة الصادرة عن المبادرة نأمل أن تساعد هذه المبادرة الصغيرة في بناء قنوات التفاعل والتواصل في سياسة المعرفة بمجال الدراسات الفلاحية النقدية، وتطوير دراسات التنمية بشكل أعم. نأمل أن تشجّع هذه الطبعة العربية الباحثين والنشطاء العرب على زيادة الاشتباك والتواصل مع نظرائهم من خارج العالم العربي بشكل أكثر استدامة واستمرارية. يمكن للعالم أن يتعلم من المنطقة العربية، والعكس صحيح.

في هذا السياق يقدم برنامج أساتذة جامعة إراسموس (للتغيير الاجتماعي الإيجابي من جامعة إراسموس روتردام، عبر برنامجه الفرعي حول دمقرطة سياسة المعرفة تمويلا متواضعاً لهذا المشروع، بالتعاون مع المعهد الدولي (TNI) لجعل السلسلة العربية متاحة بلا مقابل في طبعتها الإلكترونية. يُؤْمِنُ مشروع دمقرطة سياسة المعرفة» بطريقة الباحثين-النشطاء في العمل على محاولة تأسيس منصات تفاعلية بين مختلف تجمعات منتجي المعرفة ومستخدميها داخل الجامعات وخارجها، وهو يدعم هذا النهج، وكذلك يدعم توسع نطاق الطبعات غير الإنجليزية لسلسلة كتب صغيرة بحيث تمتد للغة العربية، ويعتبرها خطوة كبرى على طریق دمقرطة سياسة المعرفة.

الفهرس: Fahrasse

ساتورنينو م. بوراس الابن.

أستاذ الدراسات الفلاحية، المعهد الدولي للدراسات الاجتماعية (ISS).

حائز على درجة عميد تنسيق المبادرات البحثية (إراسموس)، جامعة إراسموس روتردام.

هولندا.

15 مايو/ أيار 2024

شارك المقالة

اقرأ أيضا