الفصل التاسع من كتاب التطورات السياسية بالمغرب؛ الحركة العمالية المغربية. بقلم:دوغلاس.آي.أشفورد

تقديم: لا شك ان الإهمال البالغ الذي صار اليه تاريخ الحركة العمالية بالمغرب لا يعدو أن يكون سوى أمارة من أمارات التردي الاجمالي لهذه الحركة. فالجهود الجدية المتناولة جانبها النقابي كادت تتوقف كليا بإتمام الفقيد البير عياش ثلاثيته الموسومة «الحركة النقابية بالمغرب» بصدور جزءها الثالث قبل 31 سنة (سبتمبر 1993). وكذا الأمر من جانبها السياسي، بإيقاف المنية جهود الفقيد شكيب أرسلان، الذي خص الحزب الشيوعي المغربي بدراسة هي أجود ما تناول هذا الحزب العمالي. والأمرُّ ما هي عليه انشغالات المنظمات النقابية اليوم بتاريخ كفاح الطبقة العاملة ومنظماتها. فهذا موضوع مهجور ما خلا بعض جهود التوثيق التي تقوم بها كدش بإصدار مصنفات بيانات وكرونولوجيا

سعينا دوما، منذ صدور جريدة المناضل-ة قبل 20 سنة، إلى إتاحة المكتوب عن الحركة العمالية لمناضلي طبقتنا ومناضلاتها، بترجمة ما يتناول حقبا سالفة، وبمتابعة لأبرز نضالات العقود الثلاثة الأخيرة. نواصل بمد القارئ/ة بتناول أكاديمي للحركة العمالية المغربية ورد في فصلا ضمن كتاب «التطورات السياسية بالمغرب» للباحث دوغلاس آي أشفورد الصادر في العام 1964.  نورد هذا المجهود رغم طابعه الوصفي حصرا، ورغم زاوية نظره البعيدة عن تناول ماركسي لهذا الشأن، وذلك توخيا لأدنى إفادة ممكنة ولحفز الاهتمام.    

فصل 9 من كتاب التطورات السياسية بالمغرب

نمو الحركة العمالية:

إن الحركة العمالية المغربية هي الحركة الثانية الكبيرة التي ترى لنفسها دوراً وطنياً في السياسة المغربية. وعلى الرغم من بعض التوترات الداخلية فإن الاتحاد المغربي للشغل بقي التنظيم النقابي الوحيد حتى أواخر عام ١٩٥٨. ومع أن عضويته كانت تبلغ ثلث عضوية حزب الاستقلال، فإنه تمتع بامتيازات خاصة في النشاط السياسي. وكان معظم أعضائه يتركزون في المراكز الحضرية، ولقد سهلت هذه الحقيقة الاتصال فيما بينهم وسهلت كذلك عملية الإشراف على الاتحاد. إن المهن الصناعية والتجارية التي كان يمارسها معظم الأعضاء قد جعلت العمال يتعرفون على السلوك التنظيمي كما زودتهم بخبرة لم تكن متوفرة للكثير من أعضاء حزب الاستقلال. كما أن تأليف الاتحاد المغربي للشغل من طبقة عاملة قد زوده بميل جاهز للتضامن في فترة ما بعد الاستقلال. ولقد كان للظروف الاقتصادية ذات القسوة الواضحة، والإساءات التي تعرض لها العمال المغاربة خلال الثلاثين عاماً المنصرمة، أهمية خاصة. ثم إن الدروس العملية التي كان باستطاعة الزعماء أن يستخلصوها من تجارب البلاد المتطورة كانت أوضح بكثير وأسهل تكييفا في قطر جديد من الحالة التي وجد عليها حزب الاستقلال نفسه فيها من حيث الأوضاع السياسية الأكثر تعقيداً. وعلى الرغم من أن اتحاداً نقابياً حراً كان من الصفات المميزة في الأقطار المتطورة لم يكن هناك تراث «استعماري»، يتصل بأهداف الاتحاد أو أساليبه.

وكنتيجة لهذا تمتع الاتحاد المغربي للشغل بحياتين، الأولى كناطق باسم الوطنية، والثانية كناطق باسم الطبقة العاملة أيضاً. فحيث كانت المصالح الخاصة للعمال تتعرض للخطر كان بوسع الاتحاد أن يوقف كل نشاط اقتصادي. وحينما كانت المشكلات الوطنية قيد البحث كان الاتحاد المغربي للشغل يستطيع أن ينطق بشرعية تكاد تفوق شرعية حزب الاستقلال نفسه. وعن طريق اللجنة السياسية للحزب كان لزعماء الاتحاد صوت مباشر في توجيه سياسة حزب الاستقلال واستجواب وزراء حزب الاستقلال في جرأة. وعلى كل حال فإن الاتحاد المغربي للشغل على المستوى الحكومي لم يكن محدداً باتصالاته بحزب الاستقلال، ولكنه كان ممثلا تمثيلاً مباشراً في عدد من اللجان الهامة والجماعات التخطيطية. ومع أن الاتحاد المغربي للشغل كان معارضاً لتطور الاقتصاد فإنه لم يجد نفسه مضطراً لان يرتبط بقرارات الحكومة أو الحزب. ومع ميل الاتحاد لتقديم أكثر الاقتراحات تقدمية فإنه تجنب مسئولية تنفيذها، وعليه لم يكن بالاستطاعة تعريضه للاستجواب. ولقد كانت هذه ميزة هامة للاتحاد أثناء فترة الانقال عندما كانت تتخذ عدة قرارات على أساس الحاجات الملحة للبلاد، ثم عندما تجنب اتخاذ قرارات جدلية لكي يحسن العلاقات مع فرنسا.

وعلى أي حال فإن الخدمة التي قدمها الاتحاد لتطوير الوطن الجديد كانت هامة. وبصرف النظر عن ميزة تنظيم العمال الطبيعي فإنهم كانوا يكونون جماعة هامة كان لا بد معها لآمالهم وحاجاتهم من ان تمثل وأن تحقق على أوسع نطاق ممكن. ولقد نجح الاتحاد المغربي للشغل أكثر من أي جماعة أخرى في بلاد المغرب في اكتساب منافع قانونية واجتماعية لأعضائه، ويجب أن نذكر بتقدير أولئك الرجال الذين كان لهم القدرة على الفهم والمهارة لتدبر مشاكل العمال، ان زعماء الجماعات المنظمة الأخرى الذين أحرزوا تقدما كتقدم الاتحاد أو كان لهم خطط واضحة المعالم ومقنعة كخططه هم قلة ضئيلة. وعلى الرغم من أن الاتحاد المغربي للشغل كان يمثل أقلية من المغاربة فقط، إلا انه كان يشمل معظم العمال من المغاربة. وقد كان بمقدور زعماء الاتحاد أن يتخذوا الأحزاب وسيلة للتأثير السياسي، غير أنهم امتنعوا عن هذا. وأدرك زعماء الاتحاد انه ليس في إمكان أية محاولة لإعادة توزيع الثروة القائمة بالبلاد أن تحسن أحوال العمال بدرجة ملحوظة. وان مثل هذا التغيير الحيوي المطلوب في أحوالهم يتطلب زيادة كبيرة في الإنتاج القومي العام. وكانوا يدركون المصاعب التي ينطوي عليها توسيع الخدمات العامة وتدريب العمال الماهرين واجتذاب الاستثمارات الأجنبية إلى بلاد المغرب، وفي سبيل تحقيق هذه الأهداف تعاونوا تعاوناً قيماً جداً مع الحكومة، هذا على الرغم من أنهم كانوا يختلفون في آرائهم إلى حد ما مع الحكومة من حيث الدور المثالي الذي تلعبه الحكومة في الاقتصاد.

وعلى الرغم من أن بعض الانتقادات التي وجهها الاتحاد المغربي للشغل إلى الحكومة، ولا سيما في نواحي السياسة الخارجية، كانت قاسية فإن المعاونة التي قدمها الاتحاد في تسيير النظام السياسي سيراً يسيراً يجب ألا تهمل. وقد تصبح السياسة الوطنية منعزلة انعزالاً كبيراً عن المواطنين في أي بلد إذا لم يتوفر الرأي العام الواضح والقوانين المحددة والجماعات المنظمة. والآراء التي يحملها عدد كبير من الناس خارج الأمة والمقترحات المرادفة لعلاج المشاكل الداخلية قد يمكن أن تقابل بالإهمال، ولكن عندما أخذ الاتحاد المغربي للشغل موقف الناقد من الحكومة المغربية فإنه بعمله هذا ربما أعان على منع التسويف والملاطفة التي كان بمقدورها أن تجعل الحكومة الوطنية أداة غير ذات معنى أو أثر في المغرب. وعلينا ألا نستهين أيضاً بالمناقشات المنمقة التي قد تكون جدلية أحياناً مما يأتي به النقابيون. فإن مثل هذه المناقشات تقدم لنا أوضاعاً ومشاكل تهم العالم العربي بحيث لا يمكن لأية أمة جديدة أن تلقي بها جانباً. كما أن الطريقة التي صيغ بها نداء الاتحاد يجب أن ينظر فيها أيضاً بالنسبة لحدودها المتعلقة بأية جماعة سياسية مخلصة إخلاصاً تاماً في زيادة مساهمتها في السياسة الشعبية. وإذا كان للانتقال أن يتم من حكومة أوتوقراطية إلى شكل من أشكال الحكومة النيابية أو حتى إلى شكل حكومة وطنية محترمة فإن على المواطنين أن يبدؤوا بالمساهمة فيها بطريقة محددة. ويجب ألا يفهم من هذا أن الاتحاد المغربي للشغل لم يستغل في بعض الأحيان بعض الظروف الملائمة، غير أن عدم تحمله للمسؤولية أحياناً قد قيده الى حد كبير بدوره في نظام سياسي ساعد هو على تطويره.

إن ادعاء حزب الاستقلال باحتلاله مركز الصدارة بين التنظيمات الوطنية المغربية هو ادعاء بلا شك له ما يبرره بالنظر إلى جهوده التي استمرت ثلاثين سنة في سبيل الاستقلال، غير ان موقف الاتحاد المغربي للشغل قوي أيضاً ويبدو في بعض الأحيان أكثر إقناعاً. ففي سنوات القمع كان العمال معرضين لخسارات مادية أكثر مما تعرض له كثير من زعماء حزب الاستقلال البارزين الذين لجأوا إلى أغنياء مغاربة وتسلموا منهم تبرعات كبيرة، وكذلك فإن العمال بالنظر لما كان يعوزهم من هيبة وطنية أو إقليمية كانوا أكثر تعرضاً لرقابة البوليس ولحركات القمع. وعلى الرغم من أن النقابات الفرنسية كانت قائمة في بلاد المغرب منذ عام ١٩٣٦ فإن المغاربة لم يكن يسمح لهم قانونياً بالانضمام إليها إلى أن انتهت الحرب العالمية الثانية. وفي خلال الفترة القصيرة من الانسجام مع الشيوعيين بعد الحرب بدأت المكاتب المغربية للاتحاد العمالي العام.C.G.T الفرنسي الشيوعي في تنظيم المغاربة، غير ان النقابات الفرنسية الأخرى لم تلق قبولاً وكان النشاط الشيوعي قوياً بنوع خاص بين عمال المناجم والموانئ (1). ونظراً لإقبال المغاربة على طلب الانضمام إلى اتحاد العمال الشيوعي الفرنسي فقد اقيم فرع له في عام ١٩٥٠ تحت إشراف الشيوعيين الفرنسيين ولكنه كان يدار من قبل زعماء الاتحاد المغربي. وقد كشف الإضراب الكبير الذي قام به العمال المغاربة في الدار البيضاء في أيار (مايو (١٩٥١) عن قوتهم المتزايدة وربما كان عاملاً دعا الموظفين الفرنسيين لرسم الخطط لقمع جميع النشاط الوطني. وعندما اشتد التوتر بين الشيوعيين والغرب اثناء الحرب الكورية وردت تقارير عن محاولات متزايدة لاتهام العمال المغاربة بالشيوعية وذلك لتبرير تدمير الحركة العمالية الوليدة (2). وفي عام ۱۹٥٢ منعت مظاهرات الاحتفالات بأول ايار (مايو)، وفي كانون الأول (ديسمبر) من تلك السنة قام إضراب إثر اغتيال فرحات حشاد الزعيم النقابي التونسي البارز.

ولقد تضاعفت الاتصالات دون شك بين حزب الاستقلال وزعماء الاتحاد خلال الفترة ما بين عام ١٩٤٧ و١٩٥١. وكما كان زعماء الاتحاد بحاجة إلى نداء موحد كنداء الاستقلال، كذلك كان حزب الاستقلال بحاجة إلى تأييد جماهيري وقوة استراتيجية للعمال في المدن. ويبدو أن التذمر القائم على أسس وطنية قد تزايد في وقت سابق لازمة عام ١٩٥٢، فقد تردد ان الشيوعيين كانوا يتلقون استقبالاً فاتراً متزايد الفتور في اجتماعات الاتحاد خلال عام ١٩٥١ بينما صار الوطنيون ذوو العواطف المغربية غير المشكوك في إخلاصها أكثر شعبية(3). ولقد ركز حزب الاستقلال جهوده بشدة لتنظيم خلايا العمال، وكانت هذه الخلايا تتوجه بمباحثاتها الى المشاكل الخاصة بالصعوبات الاجتماعية والاقتصادية للعمال. وأحد التفسيرات التي يعطيها الموظفون الرسميون المغاربة للقمع الوحشي لحركة إضراب عام ١٩٥٢ من أجل فرحات حشاد أن زعماء الاتحاد قد قرروا أن ينبذوا إشراف الاتحاد العمالي الفرنسي …C.G.T وفي أواخر عام ١٩٥٣ كان رجال النقابات المغاربة متأكدين من أنهم قد أثروا في أغلبية أعضاء اتحاد النقابات الفرنسية وأن باستطاعتهم أن يتسلموا الإشراف على المنظمة. وقد أجبر هذا اتحاد العمل الفرنسي على الاعتراف بإمكانية قيام اتحاد مغربي مستقل أو السماح للجنة المركزية لاتحاد العمل الفرنسي المغربي بأن تُسلم للمغاربة، وبهذا يخسر عضوية الاتحاد العمالي الفرنسي العام في المحمية (4). وقد قيل إن الشيوعيين اختاروا الطريق الأول، وهذا أكسب الوطنية المغربية بطريق غير مباشر اعترافاً دولياً، وكان لعنة على موظفي الحماية ولا سيما في الدار البيضاء. ثم إن النظر إلى الوطنية كأنها نظير للشيوعية بين العمال جعل إضراب الدار البيضاء في عام ١٩٥٣ يتعرض للقمع دون رحمة (5). وعلى الرغم من أن حزب الاستقلال لم يكن بمقدوره أن يعيد تنظيمه حتى عودة الملك من منفاه فإن زعماء الاتحاد، الذين أطلق سراح الكثيرين منهم مع زعماء حزب الاستقلال في أواخر عام ١٩٥٤، كان بمقدورهم أن يواجهوا الحماية بالحقيقة الواقعة التي لا يمكن هدمها. وفي شهر شباط (فبراير) ١٩٥٥ تكونت لجنة صغيرة من زعماء الاتحاد سراً وأجرت اتصالاً مع الاتحاد الدولي ذي الميول الغربية المسمى بالاتحاد الدولي للنقابات الحرة. وكان من زعمائهم المحجوب بن صديق والطيب بوعزة واستمر الأول سكرتيراً عاماً للاتحاد المغربي للشغل والثاني مساعداً للسكرتير العام للاتحاد نفسه. وقد عرفت جماعة المنظمين الصغيرة أن المقيم العام كان بصدد اصدار ظهير (قانون) جديد لتنظيم الاتحاد كان سيخول الحكومة سلطات خاصة للإشراف ومراقبة المالية والموافقة على الموظفين. وفي آذار (مارس) عقد اجتماع سري آخر في الدار البيضاء تقرر فيه الانتماء الى الاتحاد العالمي الحر، وبهذا يكسبون نفوذه القوي في أنحاء العالم للقضية الوطنية والحماية للعمال المغاربة. واجتمع ٤٥ مندوباً، وأعلن عن ۲۲ لجنة اقليمية دون ما سابق انذار (6)، وأقيمت المكاتب الاقليمية في الدار البيضاء ووجدة وقنيطرة والرباط وأسفي ومراكش وفاس، وبلغت العضوية ۲۰,۰۰۰ في يوم الاحتفال بعيد أول أيار (مايو) ١٩٥٥ وكانت الاتحادات بالطبع ما تزال مراقبة عن كتب من لدن البوليس الفرنسي، لكن التنظيم في المناطق الصناعية الأكثر تطوراً في بلاد المغرب قد تم في الوقت الذي كانت فيه عمليات الارهاب مستمرة. وبقيت باريس مركز اثارة النقابيين على الرغم من ان الاشتراكات كانت تجمع في المغرب وبذلت بعض الجهود لمساعدة ضحايا العنف واعترفت الادارة الفرنسية بالاتحاد الجديد في أواخر عام ١٩٥٥ ولكنها استثنت العمال الزراعيين.

ان الشيء الذي كان يمتاز به الاتحاد المغربي للشغل على حزب الاستقلال لم يكن يرجع في سببه الى سهولة تنظيم العمال الذين هم منظمون في مهنهم ومصانعهم فقط. كانت الاتحادات قد نظمت قبل حزب الاستقلال بنحو ستة أشهر. وكان معظم زعماء حزب الاستقلال ما يزالون مشغولين بالمفاوضات الفرنسية المغربية في الأشهر الأولى من عام ١٩٥٦ عندما كان عدد أعضاء الاتحاد المغربي للشغل يقدر بنحو ٤٠٠,٠٠٠ عضو (7). وحتى قبل عودة الملك كان الاتحاد المغربي للشغل يدعي بأنه ليس له أي عمل سياسي. غير انه مع هذا كان ممثلا اثناء المفاوضات مع فرنسا، وكثيراً ما استشير في الأمور الداخلية، وكذلك فانه كان أيضاً يتكلم بحرية طوال فترة المفاوضات، وكان باستطاعته عموماً أن يتخذ بسرعة قرارات تفوق سرعة أي حزب سياسي. ولقد بدأ الاتحاد في ادارة مدرسة لتدريب المنظمين في كانون الأول (ديسمبر) ١٩٥٥ أي قبل ستة أشهر من شروع حزب الاستقلال في تدريب الاطر. وبينما كان الاتحاد يتوسع بسرعة في المنطقة الفرنسية حيث قام إطاره الاساسي هناك في اواخر عام ١٩٥٥ اخذ يتوسع ايضاً في المنطقة الاسبانية التي كانت حتى هذا التاريخ معزولة عن المناطق الفرنسية. وبعد انقضاء شهر على توقيع الاتفاق الفرنسي المغربي كان هنالك ستة وخمسون اتحاداً منظماً في المنطقة الاسبانية، وعقد مؤتمر بإشراف الاتحاد المغربي للشغل حضره أكثر من مائة مبعوث في مدينة تطوان. وفي نفس الوقت كان الاتحاد ينظم الاجزاء المتطرفة في المنطقة الفرنسية ولا سيما في مناطق التعدين. وقبل ثمانية أشهر من انتهاء حركة عدي اوبيهي طار ابن الصديق الى ناحية ميدلت ليهدئ اضطرابات عمالية قامت إثر تنظيمه المبكر للمناجم في اقليم تافيلالت. ومنذ لحظة الاستقلال كان للعمال هدف واحد وقيادة متحدة، وهذا ما كان ينقص اعضاء حزب الاستقلال.

لقد كان زعماء الاتحاد يشعرون شعوراً مماثلا من حيث الحساسية نحو الخلافات الداخلية للأعضاء أو للزعماء، وهو عين ما كان حاصلا في حزب الاستقلال. وكانت هنالك إشارات مبكرة لمثل هذه الصعوبات في عام ١٩٥٦. وفي أواخر تموز (يوليه) ألقي القبض على امين صندوق الاتحاد المغربي للشغل في الدار البيضاء بتهمة اساءة التصرف في الاعتمادات المالية للاتحاد (8). وكما يحدث عادة في معظم قضايا الرشوة التي تتعلق بالحكومة أو بأفراد خاصين لم يعد يسمع شيء عن هذه القضية حتى فصل أمين الصندوق وناقد آخر للاتحاد المغربي للشغل، وهو محمد جوريو من الاتحاد بعد عدة شهور من هذا التاريخ. وقد يقلل الاتحاد المغربي اليوم من أهمية جوريو غير أن نشاطه المبكر في حركة الاتحاد تبين عكس ذلك. اذ انه عندما كان اليد اليمنى لابن الصديق في الرباط فانهما استعرضا معاً مظاهرة عمالية ضخمة قامت في العاصمة بعيد الاستقلال بقليل، ولقد ادار بوعزة وجوريو اجتماعاً كبيراً لعمال الرباط بعد عودة الملك. وفي خلال صيف ١٩٥٦ كان جوريو قد أسس الاتحاد الحر للعمال المغاربة من العناصر العاملة في الرباط والموالية له، وكان قد سلم اللوائح المحلية للاتحاد الجديد الى حاكم المدينة (9). وقد تجمع في هذا الاتحاد الجديد عدد كبير من العمال المهرة في المدينة الذين قادوا مظاهرة أمام القصر الملكي مطالبين بالاعتراف القانوني بهم. هؤلاء العمال الأكثر بياناً قد عبروا عن ارتباطهم (بالدفاع عن المصالح المادية والخلقية لجميع العمال دون أن يكونوا متأثرين بدافع سياسي أو تأثير أجنبي، وذلك سيراً على المبادئ النقابية المقدسة» (10).

ان هذا الشقاق البسيط قد شجع على ما يبدو بسبب حالة الركود التي كان يعانيها كثير من اصحاب الحرف الماهرين في الرباط، ولا سيما عمال البناء. وكذلك اعترض العمال على الارتباط الشديد للاتحاد المغربي للشغل بحزب الاستقلال في محاولة لتغيير مجلس الحكومة خلال صيف ١٩٥٦ (11). وامام الاسباب المحددة للانشقاق الداخلي ركز التحقيق الذي اجراه الاتحاد المغربي للشغل جهداً كبيراً على الآثار الوطنية المترتبة على الحادث. فأعلن الاتحاد بأنه سيدرس الحالة التي خلقتها عناصر فوضوية، في دعايتها ولإزعاج الأمن العام ودفع العمال لارتكاب أعمال تخالف المصالح العليا للامة (12). وبعد تحقيقات اولية قام بها وزير الداخلية تدخل الملك لإنقاذ الاتحاد المغربي للشغل وأعلن ان جلالته لا يوافق على الاختلاف بين العمال، وهو يشجعهم على التعبير عن مطالبهم وآرائهم في جانب الاتحاد المغربي للشغل الذي اظهر كفاءته لتحمل مسئولية الدفاع عن حقوق الطبقة العاملة ومصالحها (13).

إن تصميم حزب الاستقلال وزعماء الاتحاد على قمع الحركة بسرعة قد عززه التأييد الذي كان يمنحه الحزب الديموقراطي المعارض، للانشقاق. أما بالنسبة للنظام السياسي الوطني فإن هذه الحادثة تعتبر بالغة الأهمية كمثال للميل إلى الاعتماد على الوطنيين أو على النداءات العالمية لحل الأزمات الداخلية ولتجنب التحقيق في أسباب التذمر الأكثر عمقاً. وكون هذا قد تم لا يقف دليلا على الأهمية المستمرة لنداء يختلط بشروط التضامن الوطني فحسب، ولكنه أيضاً ذو أهمية مستمرة بالنسبة للصعوبة في توجيه نداء شعبي في ظروف أخرى. إن ميل الحركة النقابية لأن تنشغل مقدماً بالمشاكل السياسية قد استمر، وكان أكثر وضوحاً بمجيء عام ١٩٥٦.

وكانت المشكلة التي تواجه الاتحاد المغربي مخيفة، فإن القوى العمالية القائمة لم تكن كلها مستخدمة استخداماً كاملاً، وكان ينقص المغاربة ضروب المهارة والعلم والمعرفة بإدارة الكثير من شئون الاقتصاد، وكان على البلد أن يؤسس ثقة تجعله يجذب رأس المال من الخارج. وقد بدأ الانحطاط في النشاط الاقتصادي منذ عدة سنوات سابقة للاستقلال، وربما بدأ في عام ١٩٥٢. وكانت الظروف الخطيرة للبطالة ما يهدد النقابات تهديداً قوياً مباشراً. على أن الأرقام الرسمية للبطالة منخفضة بدرجة لا تصدق ولا تكاد توحي بأن هناك مشكلة بطالة على الرغم من أن هذه كانت مشكلة مزمنة قبل الاستقلال. ومع هذا فإن الأرقام المسجلة عن البطالة رسمياً تضاعفت في الأشهر الستة الاخيرة من عام ١٩٥٦ وبقيت تشمل نحو ٣٠,٠٠٠ منذ ذلك الوقت. وهذا التقدير قائم على طلبات الاستخدام التي لم تشغل في مكاتب التوظيف الحكومية، وعلى هذا فهي تشمل العمال الريفيين ذوي المهارة المحدودة، وتزداد أهميتها إذا حكمنا عليها بمقارنتها بأرقام عام ١٩٥٤-١٩٥٥ عندما كانت حالات البطالة المسجلة نحواً من ألف. ولعل التقدير القريب للحقيقة يدل على أن البطالة بلغت نحواً من ٢۰۰,۰۰۰ وهو الرقم الذي يستشهد به في الخطب الرسمية. وأحيانا كثيرة يقدر ذلك العدد بحيث يصل إلى نصف مليون، وذلك عندما يدخل في الحساب أولئك الذين تجمعوا في مناطق الأكواخ، الذين يسترحمون بتجمهرهم في الشوارع مطالبين بعمل يوم واحد في الأسبوع. وأن تقديراً ذا دلالة أعمق على عدد العاطلين وعلى تقدم الاتحاد المغربي يمكن أن نُكونه من الإحصاء الذي تم عام ١٩٥٣ وذكر فيه السكان العاملون وذلك التقدير قد حدد النسبة بنحو أقل من ۳,۰۰۰,۰۰۰ في، أما المهن الزراعية فكانت تشمل نحو المليونين. وهذا قد جعل رقم العمال الزراعيين العاملين في المدن نحواً من مليون. فكان هناك على الأقل عامل واحد عاطل بين كل خمسة من عمال البادية القادرين على العمل وربما وصل العدد إلى اثنين من كل خمسة. ولما كانت العائلات الريفية كثيراً ما تعتمد على أعضاء في المدن فإن مصيبة البطالة تتضاعف عدة مرات أكثر من هذا.

وأمام هذا الوضع العسير تصرف الاتحاد المغربي للشغل بضبط النفس، غير أنه قد سبب بين آونة وأخرى اضطرابات عمالية كانت دوافعها في الغالب سياسية. وخلال عام ١٩٥٦ زاد الاتحاد المغربي للشغل بالاتفاق مع حزب الاستقلال من نقده للحكومة عندما كان حزب الشورى والاستقلال لا يزال ممثلاً فيها. غير أن اعتراضاتهما ما لبثت أن تقلصت بسرعة بعد تكوين الحكومة التي كان الحزب الاستقلال الغالبية فيها، وذلك في شهر تشرين الأول (أكتوبر) من تلك السنة. ولقد تسلمت الحكومة الجديدة مقاليد الحكم في وقت كانت فيه العلاقات المغربية الفرنسية متأزمة وكانت الاتحادات تعاني بلاشك نوعاً من الضغط. ومع هذا فان التغيير في الإحصاءات الرسمية للمنازعات الجماعية كان كبيراً إذ وصل إلى نحو من خمسين في الشهر الواحد خلال عام ١٩٥٦، وانخفض فجأة في تشرين الثاني (نوفمبر) ١٩٥٦ إلى خمس هذه الكمية. ولم نستطع أن نجد أرقاماً مقابلة لهذه في عام ١٩٥٨ غير أن الزيادة في المنازعات العمالية كانت تلاحَظ بسهولة بعد النزاع حول تكوين حكومة بلفريج. فإن وزير العمل والشؤون الاجتماعية السابق، عبد الله ابراهيم رفض أن يشترك في وزارة بلفريج، ومعروف عن إبراهيم أنه صديق حميم لابن الصديق. ولقد قام كل من هذين الرجلين بإلقاء خطابات عنيفة تهاجم سياسة حكومة بلفريج.

خلال صيف عام ١٩٥٨ قاد وقوع الإضرابات إلى العنف في إحدى المناسبات وإلى ما يقرب من العنف في مناسبة أخرى -وهذا شيء لم يحدث من قبل البتة. ولقد وقع الحادث الأول بعد تسريح بعض العمال من مصنع للسجاد في الرباط. وسبب هذا العمل أول إضراب عام في بلاد المغرب المستقلة. ولم يسوَّ النزاع، وقامت بعد عدة أسابيع مظاهرة صغيرة في المصنع اضطرت الشرطة معها للتدخل. إن ميل الاتحاد المغربي إلى المبالغة في إضفاء أهمية على هذا النزاع والدعوة إلى إضراب عام في الرباط بسبب هذا الحادث قد دفع حزب الاستقلال إلى انتقاده – وهذه أول مرة يؤنَّب فيها الاتحاد المغربي للشغل علناً من لدن حزب. أما الحادث الثاني فقد وقع في الدار البيضاء أثناء الغضب الشعبي حول الاستفتاء الجزائري. ولدى مراقبة عمال مضربين في أحد المصانع حدثت الاضطرابات بين البوليس والعمال عندما قام الاتحاد بتنظيم مظاهرة تتكون من نحو ١٠,٠٠٠ عامل. وقد جُرح في هذه المظاهرة نحو خمسين عاملا، واحتُجز عديد من موظفي الاتحاد، وقد قام بوعبيد وهو أبرز وسيط لشرح وجهة نظر الاتحاد في الحكومة برحلة إلى الدار البيضاء لتحري النزاع. كما استقبل الملك بعثة من الاتحاد المغربي للشغل. وأصدرت وزارة الداخلية بياناً أكدت فيه حق العمال في الإضراب ولكنها دافعت عن حق غير المضربين في دخول المصنع والمضي في عملهم.

وكانت هذه المنازعات دليلاً على سخط زعماء الاتحاد المتزايد على سياسة الحكومة، وأيضاً على قدرتهم على خلق حوادث بمقدورها أن تعرض النظام والاقتصاد في هذا البلد المستقل حديثاً للخطر الشديد.

وعلى الرغم من هذه الهجمات المتزايدة المرة على الحكومة فإن صوت الاتحادات كان أعلى بكثير مما قد تبينه نظرة سطحية للمسألة. فحتى الوقت الذي تولت فيه حكومة بلفريج السلطات كان الاتحاد المغربي للشغل ممثلا في مجلس الحكومة عن طريق عبد الله ابراهيم. وكان له دائماً ناطق باسمه ونصير في شخص بو عبيد. وكان بمقدور بعثات الاتحاد بالطبع أن تتصل بالملك كلما أراد الاتحاد ذلك، وكثيراً ما استشارهم الملك في مشاكل خاصة. وكان للاتحاد المغربي عشرة مقاعد من بين ٧٦ مقعداً في المجلس الاستشاري حيث كان يشترك جميع موظفي الاتحاد، وحيث كان ابن الصديق نائباً للرئيس. وكان هنالك منظمات حكومية أخرى بها للعمال ممثلون وهي: المجلس الأعلى للتصميم ولجانه، لجنة تكوين المهن، المحاكم العمالية، مكتب التوظيف، اللجنة المركزية للأسعار، لجان الاعتمادات المالية للمساعدة الاجتماعية. وعندما يتدبر المرء العضوية والتمثيل الذي أعطي للمجموعات الأخرى يرى أن الاتحاد المغربي للشغل كان منظماً تنظيماً شاملاً كما كان حَسن الاطلاع على المسائل الحكومية التي تمس المصلحة العامة، والتي لها اتصال مباشر بالعمال. وفي حكومة تعطى فيها القرارات الإدارية واللجان الخاصة أهمية كبرى كوسيلة للتنظيم والتخطيط فإن الدور الذي منح لاتحاد العمال هو دون نقاش دور عظيم. ولدى تغيب عملية اتخاذ قرارات مبنية على أسس دستورية محددة فإن اللجان وكبار موظفي الحكومة كانوا يتخذون القرارات الحكومية اليومية بينما تبقى القرارات الهامة جداً من اختصاص الملك ووزارته. ولقد كان للاتحادات طريقها إلى كل سلطة هامة تقريباً، أو أنها كانت تستشار بواسطة هذه السلطة. ومهما يكن من أمر ومع الظرف الراهن للطبقة العاملة فإن النفوذ الذي يتمتع به الاتحاد المغربي للشغل في تلك الأجهزة الحكومية وخدمته للمصالح الوطنية، لم يكن يلقى استحساناً في الغالب إلا من عدد صغير من العمال. ولما لم يكن بمقدور زعماء الاتحاد أن يتمتعوا بالفائدة الكاملة من الاعتراف بهم في الأمة الجديدة أصبحت المساهمة المباشرة فيها في الغالب أمراً يزداد جاذبية. وعلى الرغم من أن أهداف الاتحاد المباشرة يمكن أن نميزها بسهولة أكثر من تمييزنا أهداف حزب الاستقلال فإن الاتحاد المغربي للشغل ربما كان هو أيضاً يعاني من مشاكل مماثلة من حيث احتفاظه بتماسكه وما يهدف إليه من الإسهام في السياسة الوطنية.

قوة العمال والسياسة الوطنية

إن الاتحادات، كالمنظمات الأخرى، كانت تفتقر إلى الإطار، ولكنها قد أخذت على عاتقها القيام ببرامج تدريبية خاصة. وكان الاتحاد المغربي للشغل يملك امتيازا مبدئياً بوجود إطار احتياطي لديه كان قد دُرب قبل عام ١٩٥٢ على يد الاتحاد العمالي العام CGT. وكان نحو من مائة وخمسين من المكافحين قد اختيروا لتدريب خاص عن طريق تبادل العمال، وهذا أيضاً هيأ للاتحاد المغربي وظائف مكتبية في جميع المدن الكبرى، وقدم تدريبا عاما لشباب النقابيين الأذكياء. وعلى شاكلة الدورات الدراسية التي نظمها حزب الاستقلال كانت مدرسة الإطار التابعة للاتحاد المغربي للشغل تستمر أسبوعين، وكان يسندها بقوة كبار موظفي الاتحاد. إن المشكلة التنظيمية للاتحادات هي بالطبع مبسطة بالنظر إلى تمركز الكيان الصناعي والتجاري المغربي في بضعة مدن كبيرة. فهناك في الدار البيضاء على وجه التقريب نحو نصف المؤسسات الصناعية والتجارية في البلاد. وهذه الحقيقة مكنت مديري الاتحاد المغربي من الإشراف الدقيق على جزء كبير من العمال. ويعمل نحو ثلاثة أرباع الموظفين في الصناعة والتجارة في المدن الأربع التالية، وهي: الرباط وآسفي ومكناس والدار البيضاء. وهذه الحقيقة قد بسطت دون شك مشكلة القيادة بالنسبة للاتحاد المغربي، وربما سمحت بقسط من الرقابة المركزية أكبر مما كان عليه الحال في حزب الاستقلال.

ففي فترة ما قبل الاستقلال كان الاتحاد مجبَرا على تنظيم خلايا صناعية صغيرة يرعاها تحت إشراف تجمعات اقليمية، غير أن الاتجاه منذ الاستقلال كان يميل نحو تشكيل اتحادات وطنية. وفي عام ١٩٥٨ تكونت اتحادات لست وعشرين مهنة أو وزارة حكومية، وكانت هذه تشمل على وجه التقريب خُمسي أعضاء اتحادات العمل المغربية أو ۲۰۰,۰۰۰ عامل. وباستثناء الزراعة كانت هذه الاتحادات تشمل أهم قطاعات الاقتصاد المغربي، وجميع الموظفين المدنيين.

وكما نرى في الجدول رقم ۱۱، فان المنظَّمين في نقابات محلية هم أكثر من ۳۰۰,۰۰۰ عامل. والتنوع في حرف هؤلاء وانتشارهم في بقاع جغرافية متفرقة يجعل دورهم أقل أهمية من دور الاتحادات المنفصلة والمركزية. ونظام التمثيل عندهم يشابه ما هو عليه في حزب الاستقلال. وكذلك فان المبعوثين، كما هو الحال في حزب الاستقلال لم يتغيروا إلا في النادر في عهد الاستقلال. وكان آخر مؤتمر عقده الاتحاد المغربي للشغل هو اجتماع آذار/ مارس ١٩٥٥ السري، وفي كانون الأول/ ديسمبر ١٩٥٥ عُقد اجتماع للمجلس الوطني في الوقت الذي عُقد مؤتمر حزب الاستقلال، ثم عُقد اجتماع آخر في آب/ اغسطس ١٩٥٦، في نفس الوقت الذي عَقد فيه حزب الاستقلال الوطني مجلسه. وتقضي التعليمات بأن يحضر مبعوث أو مندوب واحد عن كل خمسين عضواً من كل اتحاد، أو نقابة على ألا يزيد عدد المبعوثين عن خمسة. ومثل هذه القواعد كانت تعني بأن النقابات الكبيرة سيكون تمثيلها في المؤتمر أقل مما يجب، أضف إلى ذلك أن هذه التعليمات لم تُجر تعديلا في نصيب النقابات المالي من ميزانية الاتحاد المغربي للشغل. والمفترض في المؤتمر أن يجتمع مرة كل سنتين، غير أن الخطط الهادفة إلى عقد مؤتمر في آب/ أغسطس ١٩٥٨ قد أُجلت على ما يبدو لنفس الأسباب التي أجلت من أجلها مؤتمرات حزب الاستقلال.

أما الأجهزة المركزية للاتحاد المغربي للشغل فهي اللجنة الإدارية التي تتألف من واحد وعشرين عضواً، والمكتب الوطني ويتألف من تسعة أعضاء ينتخبهم المؤتمر. وفي الواقع جرت تغييرات بدون مؤتمر، وكما كان الحال في حزب الاستقلال فإنه من المستبعد جداً أن يعاكس المؤتمر قراراً للزعماء أو يعارضه. وتتضح أهمية النقابات المختلفة من تلك النقابات الممثلة في المكتب الوطني وهي السكك الحديدية والمناجم والكهرباء والأشغال العامة والتعليم والبلديات والفلاحة، والنقابات المحلية في الدار البيضاء ويمثلها مندوبان. ويتكون المجلس الوطني من الضباط المركزيين للاتحادات الوطنية ومن ممثلين عن النقابات والنقابات الزراعية التي بقيت حتى هذا الوقت النقابات الفلاحية.

إن الاتحاد المغربي للشغل قانونياً أداة خدمة للنقابات المستقلة، فهو يمثلها في المسائل الحكومية، وفي تدريب الإطارات وطبع صحيفة النقابات اليومية التي تصدر باللغة العربية. ويفترض القانون في جميع موظفي النقابات أن يكونوا مغاربة. وكان لهذا القانون أثر في إلغاء النقابات الفرنسية القديمة وكما يدل الإشراف الدقيق على اجتماعات النقابيين فإنه من غير المحتمل أن تُتخذ أية قرارات هامة دون التشاور مع الاتحاد المغربي للشغل أو الحصول على موافقته. وكما هو الحال في حزب الاستقلال فإن هذه السلطة الإشرافية القوية تمتد بلا شك إلى جميع الاشتراكات وعمليات اختيار الضباط، هذا بالرغم من أن الزعماء حساسون جداً تجاه أي شيء يوحي بأن النقابات واقعة تحت هيمنة الاتحاد المغربي للشغل.

أما الاشتراكات فهي مائة فرنك شهرياً ويدعي موظفو الاتحاد المغربي للشغل أن الأعضاء يشترون ما معدله تسعة طوابع البطاقات اتحاداتهم سنوياً.

ويتردد الاتحاد، كحزب الاستقلال، في إعلان نظامه المالي غير أنه يمكننا أن نقدر ذلك على وجه التقريب. وبما أن معظم عمال الصناعة والحكوميين ذوو دخل ثابت ويخضعون لإشراف منظَّم من لدن موظفي النقابات فقد يكون من المعقول أن نقدر بأن ثلاثمائة ألف شخص يدفعون اشتراكات حسب الاشتراك المقرر، وهذا يتيح للاتحاد المغربي للشغل دخلا قدره ٦٠٠,٠٠٠ دولار في السنة؛ أي دخلا يفوق بقليل دخل حزب الاستقلال. وسبب هذه الزيادة في دخل الاتحاد المغربي للشغل عن دخل حزب الاستقلال أن الحزب في الغالب لا يتقاضى من أعضائه النقابيين إلا نصف المبلغ المقرر للاشتراك. ويدعي موظفو النقابات أن الاعضاء يُطردون إذا هم تأخروا عن سداد اشتراكاتهم لمدة شهرين أو ثلاثة. وهذا العقاب في الغالب يختلف اختلافاً كبيراً في ما بين النقابات والصناعات، فحينما يكون الاتحاد المغربي للشغل قوياً فإن عدم دفع الاشتراكات قد يعني خسارة العمل بالنسبة للعضو، وحينما يكون العمل حسب المواسم أو غير ثابت فإن موظفي النقابات المحلية يكونون في الغالب أكثر تساهلا. أما نظام جمع الاستحقاقات عن طريق الصكوك فقد رُفض نظراً لأنه قد يمنح الحكومة قوة فوق سلطة النقابات في بعض الحالات، ثم إن أعضاء النقابة قد يرون فيه ضريبة. وهذا الرأي من الاتحاد المغربي للشغل ينطوي على الشك في الحكومة وعلى التلاؤم مع مستوى فهم أعضائه. على أن نفوذ الاتحاد المغربي للشغل في البادية أضعف بكثير منه في الحضر. وفي بلد يشكل سكان البادية أربعة أخماسه تتضاءل أهمية النقابات بازدياد كلما نشط سكان البادية. وتتكون النسبة الكبرى من سكان البادية من صغار ملاك الأراضي. وتقدر وزارة العمل بتحفظ أن هناك ۸۸,۰۰۰ عامل زراعي يؤجرون بانتظام يتمركز نحو ثلاثة أرباعهم في المناطق الكثيفة الزراعة في الغرب والشاوية وسهول دكالة ومكناس. وقد استثنى الظهير المنظم للنقابات عمال المزارع على الرغم من أن اتفاقات كثيرة للعمل قد جرت في الأشهر الأولى لعهد الاستقلال بموجب تشريع الحماية. ولم تُمنح حقوق الملكية الكاملة لنقابات الفلاحة حتى صدر قانون بتنظيم تكوين النقابات في منتصف عام ١٩٥٧ فمنح النقابات صفة الجمعيات، بل وفتح أمامها أيضا إمكان اتخاذ النقابات وسيلة للاستثمار الزراعي الجماعي. ويدل جدول عضوية النقابات (جدول رقم ۱۱) على أن نحواً من ٧٠,۰۰۰ عامل من البادية قد أصبحوا الآن منظَّمين، ولكنه ليس من الممكن أن نحكم في ما إذا كان تضامنهم ومساندتهم للاتحاد المغربي للشغل يقرب من مساندة الاتحادات الحضرية الكبرى له. ويعمل الاتحاد المغربي للشغل الآن على تزويد عمال البادية بحقوق الإجازات وسابق الإعلام قبل الاستغناء عن خدماتهم، وتحديد ساعات العمل السنوية، والتمتع بحقوق الأقدمية والاستفادة من الحد الأدنى لشروط العمل في حالات التعطل بسبب الطقس السيء. وحتى هذه الساعة، فقد أعطاهم التشريع ساعات محددة للعمل اليومي، والحد الأدنى من شروط العمل وامتيازات الأمومة، والانتفاع بالحوادث كما هو الحال بين عمال الحضر، ولكنهم لم ينالوا العلاوات العائلية وتأمين الدولة كما هو متبع مع عمال الحضر.

وكانت أهم ناحية مثيرة للجدل من حيث تنظيم النقابات هي ناحية الموظفين الحكوميين وقوى النظام ولا سيما البوليس. وكان من أوائل التهجمات العامة على موظف حكومي يشغل منصباً عالياً بخصوص محاولته منع الاتحاد المغربي للشغل من استخدام بورصة العمال الجديدة في قنيطرة في صيف ١٩٥٦. ولقد انتقد الاتحاد المغربي كلا من البكاي والكاتب العام للحكومة باحنيني انتقاداً شديداً واتهمهما بتأجيل تكوين نقابات الموظفين حتى وحرمانهم من أن يكون لهم حق مساو الحقوق العمال الآخرين. وقد أثيرت مسألة حقوق النقابات بالنسبة لموظفي الحكومة مرة ثانية ولكن بشدة أقل في أوائل عام ١٩٥٧، عندما كانت تجري دراسة قانون النقابات المهنية. وفي أثناء العمل في هذا الظهير اقترح الاتحاد المغربي للشغل تكوين اتحاد واحد لموظفي الحكومة، وطالب بلباقة بمساواة جميع المواطنين المغاربة بعضهم ببعض. غير أن ظهير النقابات المهنية قد أثبت أنه كان بعيداً جداً عن تحقيق رغبات الاتحاد المغربي للشغل. ففي الوقت الذي قال فيه: بأن النقابات يمكن أن تنشأ لكل الموظفين. فإن شيئاً لم يذكر عن حقهم في الإضراب أو تشجيع قيام اتحاد حكومي واحد. وقد أكد إبراهيم وزير العمل في مؤتمر صحفي أن الموظفين لم يُمنحوا امتيازات الإضراب، وأن هذه المشكلة ستعالَج في ظهير قادم متعلق بالحرفة في الحكومة نفسها. ولكن ظهيراً كهذا لم يظهر حتى أوائل عام ١٩٥٩ غير أن قراراً قد صدر في شباط/ فبراير ١٩٥٨ مَنَع موظفي الحكومة من الإضراب…

منع ظهير النقابات المهنية النقابات أيضاً من أن تشمل «قوى النظام» التي تضم الجندرمة التابعة لوزارة الداخلية وقوات الأمن الوطني والجيش الملكي. وكانت هذه ضربة أشد خطراً من رفض السلطة تنظيم نقابة واحدة لموظفي الحكومة. وكان البوليس قد نُظم من قَبل في اتحاد، وكان الاتحاد المغربي للشغل ما يزال يعتبر بأن للبوليس اتحاداً على الرغم من أن النقابة كانت قد حُلت رسمياً. ولكن رجال البوليس لم يكونوا جماعة من أكبر الجماعات المنظَّمة تنظيماً سهلا ولم يكونوا أحسن الموظفين في الرواتب فحسب، بل انتمى الكثير منهم في الأصل إلى حركة المقاومة الحضرية كما هو الحال لدى العديد من العمال. ومن الجائز جداً أن تكون نقابتهم واحدة من أقوى نقابات الاتحاد المغربي للشغل. ولعل إيقاف تكوين نقابة للبوليس كان مرده الاعتراف بولاء البوليس للطبقة العاملة.

قام الاتحاد المغربي للشغل بهجمات مستمرة وقوية على إدارة البوليس. وفي إحدى الهجمات علَّق الاتحاد على المشرفين على البوليس بقوله: «إنهم قد يضطروننا إلى أن نصارعهم بنفس الحماسة التي صارعنا بها عهد الحماية». وأثناء الاضطراب العمالي الذي وقع في صيف ١٩٥٨ ألهب تدخل البوليس في كل من الرباط والدار البيضاء هذه المشاعر. وقد صاحب هذه الحوادث إيقاف ابراهيم وهو من أكثر الناقدين لحكومة بلفريج صراحة، لسؤاله عن مصادر دخله. وقد أُطلق سراحه بعد أن تدخل القصر فقط، فنشر خطاباً مفتوحاً قوياً إلى بلفريج في جريدة النقابات. وفي أوائل ١٩٥٩ كان أفراد البوليس لا يزالون منْضمين إلى الاتحاد المغربي للشغل فرادى عن طريق النقابات المحلية.

كان الاتحاد المغربي للشغل على استعداد لنقد الحكومة دوماً، على الرغم من علاقتها الوثيقة بحزب الاستقلال والوزراء الذين ينتمون إليه. وقد ناصر الاتحاد المغربي للشغل حزب الاستقلال ضد وزراء حزب الشورى والاستقلال في المجلس الحكومي الأول، ووجه انتقاداته بخاصة إلى أبو طالب وزير العمل والشئون الاجتماعية المنتمي لحزب الشورى. إن الرفض المفصَّل الذي قامت به منظمة الاتحاد المغربي لقانون العمل الذي اقترحه أبو طالب لهو شاهد على الاستعداد الممتاز الذي كان يتحلى به زعماء النقابات. وعلى الرغم من أن هذا القانون قد نال موافقة الملك شخصياً فإنه قد رُفض بصراحة لأنه أجرى تشريعات منفصلة تتعلق بمشكلات نقابية مختلفة لم يوافق الاتحاد عليها. عارض النقابيون بشدة بعض العبارات التي تُخول وزير الداخلية حق حل النقابات حينما تتعارض هذه ومسألة إقرار النظام العام، وأصروا على أن أي تقييد لحقوق النقابات يجب أن يجري عن طريق وزارة العدل والمحاكم المختصة. ومنذ ذلك الوقت اتفق على بعض القطع الفردية التشريعية وإقامة نظام لمحاكم العمل، وحقوق الاتحاد الرئيسية، والمؤتمرات الجماعية، والنقابات المهنية، وحد أدنى للأجور. وهناك قوانين أخرى تديرها وزارة العمل للتفتيش على ظروف العمل، ومراقبة عمل الأطفال وحقوق المرأة العاملة.

أثار إصرار اتحاد نقابات العمل المغربية على أن تكون له السلطة الكاملة في اختيار العمال الذين سيؤجَّرون أو يسرَّحون من عملهم اتهامات وإمبريالية (تسلطية) مقنَّعة من قبل إدارات المصانع التي يمتلك أكثر اسهمها فرنسيون. أما جهاز مناقشة المؤتمرات الجماعية فقد بقي راقداً مدة سنة كاملة، عندما تدخلت الحكومة لتكوين مجلس أعلى للمؤتمرات الجماعية لتأسيس النماذج النشطة للمؤتمرات. وقد بارك الملك المجلس الجديد وحضر أول اجتماع له غير أنه سرعان ما شلت حركته نظراً للخلافات التي وقعت في أواخر عام ١٩٥٨.

لم يكن النقد الذي كان يوجهه الاتحاد المغربي للشغل لينحصر في تعليقات على أوجه نشاط النقابات التقليدي. فعلى الرغم من أن الاتحاد يؤمن بأن دوره السياسي يختص فقط بتحسين مصالح الطبقة العاملة، فإنه كثيراً ما كان يهاجم أشخاصاً بعينهم في الحكومة، كما عبر بحرية تامة عن آرائه بخصوص جميع المشكلات الوطنية الرئيسية. وقد تصرف الاتحاد المغربي للشغل بطريقة تشبه تصرفات النقابات في بلد صناعي، وهذا يدل على أنه قد لعب دوراً وطنياً مشابهاً في ذلك القطر. ويمكن أن يكون هذا استنتاجاً معقولاً لو أن بلاد المغرب كانت ذات نظام سياسي على نمط ما هو موجود في بلد متطور. وفي الواقع إنه لا المسائل السياسية ولا الاقتصادية كان فيها نوع من التخصص في بلاد المغرب، حيث تبدو التنظيمات القليلة الكبيرة ميالة إلى ممارسة نفوذ يفتقر إلى الاتزان، لا في علاقتها بأعضائها الخاصين بها فحسب، بل أيضاً في قدرتها على ممارسة نفوذ موحد على الصعيد الوطني أيضاً.

هناك خطأ تحليلي أكثر وضوحاً يبدو في محاولة وضع مقاييس لدرجة الشعبية لدى تقديم مثل هذه المجموعات في بلاد جديدة. وهناك خطأ أقل وضوحاً من هذا وهو اعتقاد مماثل بأن الأعضاء أنفسهم يساهمون بمفردهم في السياسة بطريقة يمكن مقارنتها مع أعضاء النقابات في الأقطار المتطورة. ولهذا السبب فان الترديد المستمر لضرورة التفاني في سبيل الوطن عند العمال وتقديم الولاء المستمر للملك في خطابات النقابات والوثائق ذو دلالة خاصة. ولا يفهم معظم العمال الاعتراضات المفصلة ولا مطالب الاتحاد المغربي في الغالب، غير أنهم يعرفون معنى الحماسة الوطنية. وتعزل المنازعات الخاصة عن الشعارات الوطنية، غير أن الاختلافات الرئيسية في السياسة يصاحبها تأكيدات التضحية والوطنية لدى الطبقة العاملة. ويدل الاختلاف الخبيث الذي ثار في صيف ١٩٥٦ على التوترات الزائدة في الأعوام الثلاثة السابقة له، والتي بلغت قمتها بتكوين برنامج حكومة بلفريج. وإن تتبع حدوث هذا الانقسام أسهل من شرح الكيفية التي كان يمكن بها تجنب الانشقاق.

كانت الخلافات الرئيسية بين زعماء الاتحاد المغربي وزعماء حزب الاستقلال القدامى واضحة منذ عهد الاستقلال. فبُعيد الاتفاق بين فرنسا والمغرب أَعلن ابن الصديق ما مؤداه: أنه يجب علينا الآن أن نقيم في هذا البلد ديموقراطية راسخة وهو الشرط الأساسي لاستقلال فعال لا ديموقراطية شكلية وقضائية، بل ديموقراطية حقيقية قائمة على المساواة بين الطبقات وعلى توزيع عادل للثروة، وفوق كل شيء وضع نهاية للاضطهاد والاستغلال اللذين هما ميزة للحكم الاستعماري، والتحديد الحقيقي لمشاكل النظام الاقتصادي غير القائم على التخطيط الناتج عن ذلك والقائم على الامتيازات والاستغلال.

بعد الاستقلال مباشرة اتُفق على أنه بزيادة الإنتاج الكلي فقط يمكن رفع مستوى المعيشة. ولما كانت زعامة النقابات النشطة والفعالة حقيقة واقعة، فإن الاتحاد المغربي للشغل لم يكن ليسمح لآخرين بأن يخططوا مستقبل المغرب السياسي والاقتصادي إلا لفترة محدودة. وعلى هذا فإن أول صدام حدث في خريف ١٩٥٦ عندما وجد الاتحاد المغربي للشغل، مثل حزب الاستقلال، أن رجال الإدارة المحافظون يمنعون توسعه في بعض النواحي. وقد طالب اجتماع المجلس الوطني في صيف ١٩٥٦ بسياسة قاسية وقسط أكبر من التوجيه الحكومي للتطوير الاقتصادي. وعلى الرغم من أن هذه التصريحات عموماً كانت بمثابة وثيقة احتجاج مجردة فإن الآراء المتداوَلة لم تدَع أي شك في أن برنامج الاتحاد المغربي للاقتصاد كان عنيفاً، إذ إنه انطوى على إدارة الحكومة للمزارع التي كانت مغلقة منذ عهد الاستقلال، وعلى تأميم المناجم والسكك الحديدية، ووضع لوائح جديدة للأسعار والأجور.

أثارَ تردد الملك في تغيير الحكومة بعد الاستقلال ببضعة أشهر هجوماً عنيفاً اتصف بأنه كان من أفصح الجولات التي قام بها أصحاب أكثر الآراء نشاطاً بين الوطنيين. فكتب ابن الصديق في رسالة بعثها إلى البكاي يقول ما مؤداه: «إن تيبس الانسجة العضوية هو الخطر الذي يهدد إدارتنا. إنه ذلك الذي، حتى وقت قريب، جسد سيئات الحماية (ألم يكن لها في الواقع جميع السلطات؟) ولم يستطع أن يجبر نفسه على التكيف مع الزمن الجديد… وهكذا فإن التهديد باق. يفرض علينا الواجب أن نتجنب وضع تنسيق الإدارة الأصلية في يد من يريدون أن يقذفوا بالإدارة المغربية إلى بركان الحماية القديمة – ولحسن الحظ أن عددهم قليل. وبتغيير الحكومة في تشرين الأول/ أكتوبر ١٩٥٦ خففت النقابات من حدة نقدها. وزاد الاهتمام بزيادة الإنتاج، ليحل محل الإطار الصناعي الفرنسي، ورسم خطة اقتصادية. ولما تضاعفت إنجازات الاتحاد المغربي للشغل الملموسة في ربيع ١٩٥٧ بدأ الاهتمام يزداد بضرورة القيام بتطهير، والاعتراض على القوات الأجنبية، والإصرار على توجيه جديد شامل للاقتصاد. وأن الطبقة العاملة، التي عرفت أن دفع الثمن اللازم في اللحظة المناسبة للثورة المسلحة لا تزال هي الأول للدفاع ضد المؤامرات. وقد عرفت السبيل الى زيادة الإنتاج، الذي لم يرُض مستواه أصحاب المصانع. وعرفت كيف تكون لينة في مطالبها الحيوية كي لا يتخذ أصحاب الأغراض السيئة مطالبها حجة لإيقاف النشاط التجاري أو الصناعي ويشلوا حركة البلاد. وعلى الرغم من كل هذا فإن الحالة ازدادت سوءاً.

لم تنج حكومة عام ١٩٥٧ التي كانت أغلبيتها من حزب الاستقلال من نقد الاتحاد المغربي، على الرغم من أن المنازعات العمالية كانت أقل مما كانت عليه عام ١٩٥٦. وقد وجه اللوم إلى الحكومة لأنها» فشلت في إعطاء الأولوية للتدريب الفني للعمال المغاربة، ولفشلها في مَغْرَبَة الادارة وتحري المؤامرات الخارجية الهادفة إلى حماية الامتيازات الاقتصادية والعسكرية لدولة الحماية. وفي عام ١٩٥٨ بدا أن الاتحاد المغربي للشغل قد اقتنع بأن مؤامرة كبيرة كانت تدار ضد المغرب بواسطة دول أجنبية».

صادف عيد أول أيار/ مايو عام ١٩٥٨ أيامَ الأزمة أثناء تأليف حكومة بلفريج. وأكد الملك من جديد إيمانه بأهمية إعادة تنظيم العمال في حركة واحدة، ولخص نيته في العمل على إنشاء نظام كامل للضمان الاجتماعي، ولكنه حذر العمال بقوله إنهم يجب أن يحافظوا على الإنتاج وأنهم يجب أن يحترموا الممتلكات الأجنبية في البلاد ليساعد هذا على اجتذاب الاستثمارات الخارجية. ازدادت أزمة ١٩٥٨ سوءاً، واتخذ الاتحاد المغربي للشغل موقفاً معارضاً كلياً لحكومة بلفريج. ولعل خير تلخيص لرأي زعماء النقابات المتضجرين هو ما أورده ابراهيم، حيث يقول ما مؤداه: «افتتحت نهاية عهد الحماية بداية الاستقلال، غير أن الاستقلال ليس الحرية، في الواقع. فلو كانت المسؤوليات بأيدينا، ولو كانت وسائل الصراع التي لدينا أهم نظرياً مما هي عليه… ولو أننا في النواحي الأخرى حصلنا على نجاح لا يمكن إغفاله، لبقي شيء لا يقل أهمية عن هذا وهو أن اقتصادنا ما يزال كما كانت عليه الحال في عهد الحماية بأيدي الآخرين، وأن عملتنا ما تزال تابعة لعملة أخرى. ويبقى كذلك أن نقول ان قطاعات حيوية من الاقتصاد المغربي تخضع لقيود اجنبية، وإن الإدارة الوطنية يديرها أشخاص غير مغاربة، وإن الطاقة الجسمانية للأمة مبدَّدة، وإن مستوى المعيشة ينخفض يوماً عن يوم، بينما تحتل القوى الأجنبية البلاد وتتحدى رغبات أهلها كل يوم، وإن الخطط تعيد نفسها، وتعمل على إرساء أسس حماية جديدة في البلاد».

وعلى الرغم من أن إبراهيم كان يخاطب الشباب المتحمسين من منظمة الاتحاد المغربي للشغل٤٢، فإن هذا التصريح قد انطوى على معظم الإصلاحات التي إدت إلى معارضة الاتحاد المغربي خلال صيف ١٩٥٨ وإلى الانشقاق المنتظر في حزب الاستقلال. ولم يفهم معظم العمال في الغالب مثل هذه المشكلات الاقتصادية المعقدة، وكذلك فإن الاتحاد نفسه لم ينشر أي خطة مفصلة للطريقة التي يمكن أن تحقق بها أهداف إبراهيم. غير أن هذا لا يمنع هذا النداء من أن ينطوي على إمكان أن يصبح ذا فاعلية في النظام السياسي الجديد، وأن هذه الأهداف لا يزال لها وزن كبير لدى الكثيرين ممن لهم نفوذهم وأهميتهم في ميدان السياسة.

أوضحت السياسة الدولية للاتحاد المغربي للشغل أيضاً رغبتها في عدم الموافقة على الاتجاه الرسمي للحكومة، وبينت أسبابها لعدم الموافقة هذه. وكان الاختلاف مسألة توقيت أكثر منه مسألة سياسة نهائية، لأن المغرب كان قد اختار خلال العامين الأخيرين سياسة خارجية مشابهة لتلك التي قدمها الاتحاد المغربي بُعيد الاستقلال بقليل. وعن طريق اتصالات الاتحاد المغربي بالنقابات التونسية والجزائرية، بُعيد توقيع الاتفاق بين المغرب وفرنسا، اقترح الاتحاد اِتباع أسلوب أكثر تنسيقاً في مساعدة جبهة التحرير الجزائرية، وتخطيط مشترك للتطور الاقتصادي في شمال أفريقيا.

بانتهاء عام ١٩٥٦ كان الاتحاد المغربي للشغل قد عارض إنزال الأسلحة والعتاد الحربيين والجنود الفرنسيين في المغرب. وفي أثناء هذا بدأت الخطط توضع من أجل انشاء اتحاد كونفدرالي (مشترك) لنقابات شمال افريقيا، وقد تحقق هذا في مؤتمر النقابيين الذي عُقد في طنجة في أواخر عام ۱۹٥٧. وفي عام ۱۹٥٧ مد الاتحاد المغربي للشغل معارضته للقوات الأجنبية برفضه تفريغ الإمدادات الأمريكية المرسلة إلى القاعدة الأمريكية الجوية. وفي أثناء هذه الحوادث ارتبطت النقابات ارتباطات وثيقة بخصوص الاستقلال الجزائري وطرد جميع القوات الأجنبية، بينما كانت السياسة الرسمية تسير سيراً حازماً وتهدف إلى المفاوضات.

اعترفت سياسة الاكتفاء الذاتي التي ابتكرت في اواخر عام ١٩٥٧ بمطالب الاتحاد المغربي للشغل على الرغم من أن زعماء الاتحاد ظلوا ينتقدون وزارة الخارجية بشدة.

ولقد استفاد الاتحاد من القتال الذي نشب إثر أزمة إفني، ومسألة ساقية سيدي يوسف في تونس، وثورة ١٣ أيار/ مايو في الجزائر. وكذلك كان لزعماء الاتحاد المغربي للشغل نشاطهم في اجتماع طنجة الذي عقدته الحركات الوطنية للوطنيين في بلدان شمال أفريقيا الثلاثة، فمالوا إلى الحياد بصراحة زائدة٤٣. وقد انتقد الاتحاد وزارة الخارجية بصفة خاصة بسبب تباطؤها في الاعتراف بالحكومة الجديدة في العراق. ثم إن اختيار وقت غير مناسب لتحويل القاعدة الجوية الأمريكية إلى قاعدة ذرية وإعلان ذلك بطريقة ركيكة أنتج طلبات جديدة تنادي بجلاء القوات الأجنبية عن بلاد المغرب. وإن انضمام بلاد المغرب إلى جامعة الدول العربية واعترافها بالحكومة الجزائرية المؤقتة سار على السياسة التي سبق أن رسمها اتحاد النقابات على الرغم من أن هذه الحوادث لم تتم إلا بعد نحو سنتين من الأزمات والمفاوضات العقيمة. وقد كان بمقدور الاتحاد المغربي أن يشير – وهو يجد المبرر – إلى بُعد نظره وتكهنه الصادق إذا ما قورن ذلك بتردد آراء الآخرين الأكثر منه محافظة. ويبدو أن كثيرين من المغاربة كانوا لا يعرفون أن النقابات لم تكن تتحمل المسئوليات التي يتحملها الملك والحكومة في الفترة الانتقالية.

التضامن العمالي ينحني للسياسة

لم يكن هنالك أي شك في أن ابن الصديق كان يميل إلى الجناح الأكثر تقدمية في الحزب، ومهما يكن من أمر فإننا لا نعرف على وجه التحقيق إلى أي حد كان مكتب الاتحاد المغربي الوطني ناجحاً في بث آرائه بين أعضاء الاتحاد. وفي خلال صيف ١٩٥٨ اتخذت الإضرابات طابعاً سياسياً متزايداً داخل بناء الحزب لأن الاتحاد المغربي للشغل لم يتعاون تعاوناً كافياً مع حكومة بلفريج كما كان يفعل من قبل مع حكومة البكاي. وان تخلي ابن الصديق والطيب بوعزة، عن اللجنة السياسية في ايار / مايو ١٩٥٨ قد جعل الفرصة تبدو أوسع للتفكير في تكوين حزب يساري جديد، وكان الاعتقاد السائد أن مثل هذا الحزب الجديد سينضوي تحت لواء عضويته النقابيون. وكان انتشار البطالة دون شك ذا آثار واضحة في قوة الاتحاد المغربي للشغل وقدرته على الإقناع، وكذلك كان هنالك أيضاً بعض بقاع تاريخية كخريبكة وجرادة والدار البيضاء تمتاز بتصنيفها المبكر وتنظيمها النقابي المبكر أيضاً. وكان المظهر الغريب لانقسام الاتحاد المغربي للشغل هو ما صاحبه من المشاكل بين هؤلاء العمال.

وتشير الأدلة المتوفرة لدينا إلى أن الاختلاف في داخل الحركة النقابية لم يكن قائماً على عدم اتفاق في السياسة الأساسية، ولكن على الطريقة التي كانت تسير بها الشؤون الداخلية. ولعله مما يثير التهكم حقاً أن توسيع المفهوم الدستوري بين العمال عن طريق منظمة النقابات، كان من نتيجته أنهم طوروا فهمهم للإجراءات الدستورية. وعلى ذلك فإنهم غضبوا من الطريقة غير العادلة التي يدار بها الاتحاد. إن الانشقاق الذي أصاب الاتحاد المغربي للشغل بين عمال ميناء الدار البيضاء قبل انشقاق حزب الاستقلال يزيد من تأييد هذه النتيجة التي وصلنا إليها. إن المظالم التي كانت ترتكب على أيدي منظمة النقابات كانت هي محل سخط التنظيمات الكبرى، على الرغم من أنه بانقسام حزب الاستقلال، كانت هنالك عدة اتهامات توجه إلى موظفي النقابات بخصوص إساءات سياسية ارتكبوها. وليس بغريب جداً أن يكون عدد النقابات المنتمية إلى مدينة الرباط والتي تركت الاتحاد في أوائل عام ١٩٥٧ كبيراً، وكانت من قبل قد اشتركت في انشقاق جوريو الذي حدث عام ١٩٥٦. وفي هذه الحالات، وفي الحالات الأخرى المماثلة في البلاد، كان الذين اغتنموا الفرصة لترك الاتحاد المغربي للشغل هم أقلية صغيرة من العمال المهرة. وقد كانوا على وجه العموم عمالاً ذوي مستوى معيشي ارفع ومهارة أعلى، وربما ذوي تعليم أوفر من أولئك الذين بقوا في الاتحاد في الجولة الانقسامية الأولى.

كان أول انشقاق أصاب الاتحاد قد وقع في الدار البيضاء، المركز التاريخي لنشاط النقابات المغربية. وكثير من الحوادث يتفق مع النقاط الرئيسية في الأزمة الحكومية التي حدثت في الخريف. مثال ذلك أن إبراهيم قد وضع تحت الحراسة في وقت جرى فيه تهديد بإضراب في الدار البيضاء من قبل جميع عمال المواصلات في البلدية، وأطلق سراحه في نفس الوقت الذي تم فيه الاتفاق بين الاتحاد المغربي للشغل وحزب الاستقلال لعرض اختلافاتها على مؤتمر حزبي. وعلى كل حال فإن من الحركات التي قد تفوق أهميتها السياسية أهمية الحركة السابقة هي تلك الزيادة الملحوظة في الإضرابات بعد وضع إبراهيم تحت الحفظ ونشر هجومه اللاذع على الحكومة في جريدة الاتحاد المغربي للشغل. وبعيد هذه المسألة بقليل بدأ إضرابان خطيران قام بهما عمال السوبر فوسفات وعمال البحرية في ميناء أسفي. وقد زاد كل إضراب من مرارة العلاقة بين كل من قوات النظام والاتحاد المغربي للشغل، إذ تدخل البوليس بالعنف في إضراب أسفي كما كان قد تدخل من قبل في الرباط في الصيف السابق. وقد ردد الاتحاد المغربي للشغل بأن هناك قوى انقسام تعمل داخل الحركة الوطنية التي كان هدفها أن تزيد من عزوف الجماهير عن السياسة، وأن تترك الطريق مفتوحاً أمام منقذ سياسي. لقد كان هذا بداية فقط الهجوم على حكومة بلفريج يحط من شأنها، ولكن في أواخر تشرين الأول – اکتوبر  ١٩٥٨ ، وبعد أن تم شن الهجوم الشامل على تلك الحكومة ، بدا أن الاتحاد المغربي للشغل كان قلقاً على تضامن صفوفه أكثر من قلقه على سياسة بلفريج .

لم يكن هناك سوى إنذار صغير عن وجود اضطراب داخلي، وكان الاتحاد المغربي للشغل قد عقد اجتماعاً لجميع ضباط النقابات بُعيد تكوين حكومة بلفريج. وكان الموضوع الرئيسي للاجتماع هو حض العمال على أن يكونوا ساهرين ضد مناورات واستفزازات الرأسماليين الاستعماريين الذين يهدفون لبذر بذور التفرقة والشك داخل صفوف الطبقة العاملة». وتكلم ابن الصديق عن مؤامرة واسعة تحيكها الرأسمالية لتدمير الاتحاد المغربي للشغل». غير أن هذه لم تكن بحال تهمة جديدة. وبالتطلع إلى الماضي التاريخي يمكننا أن نقول الآن إن زعماء الاتحاد لم يكونوا مشغولين في هذا الوقت برسم خطط حملة ضد بلفريج فحسب بل أيضاً بعلامات قلق ظهرت في صفوفهم هم أنفسهم. وفي أواخر ايلول-سبتمبر كان هنالك العديد من المصادمات بين البوليس والمضربين في الدار البيضاء. ولقد تدخل بوعبيد شخصياً في اللحظة الأخيرة ليحول دون إضراب عمال الميناء، غير أن جهده كان عديم الجدوى. وفي نفس الوقت وقع صدامان عنيفان مع البوليس في مصنعين مضربين بالدار البيضاء، حيث أصيب نحو مائة من العمال ورجال البوليس.

إن اتساع أمثال هذه الحوادث وما يلوح من تهديد بإيقاف العمل في ميناء الدار البيضاء الحيوي أدى إلى عقد اجتماع بين موظفي النقابات والملك. وهذه الحوادث أيضاً قد أدت بحزب الاستقلال إلى ان يعلن للمرة الثانية عدم موافقته في العلن على تصرفات الاتحاد المغربي للشغل، فقد انتقد الحزب اللجوء الخالي من المسؤولية في عملية الإضرابات إذ قال ما مؤداه: «إن هذه الحوادث التي تتضاعف في جميع أنحاء بلاد المغرب تحول أبسط خصام اجتماعي واضح إلى خصام واسع بين قوى الأمن والعمال، إن الحق في القيام بالإضراب ينطوي في نتيجته على احترام للحرية من اجل العمل. وان الرغبة في فرض رغبة الإنسان بطريقة وحشية لهو دليل على الضعف … يجب على العمال أنفسهم أن يميزوا بين العمل النقابي الذي يهدف إلى تحقيق مطالب عادلة، وبين الإثارة العقيمة التي تدمر كل أمل لتحسين البلاد بتدميرها القوة والطاقة في الوقت نفسه. وكانت الحكومة تساند هذا الوضع العام أيضاً عندما تدخلت ممثلة في شخص بوعبيد في أزمات العمال في شهر ايلول (سبتمبر) الماضي. وقد أشار الناطق الرسمي بلسان وزارة الداخلية بأنه ربما كان هناك بعض الالتواء. وقد مضى يؤكد الضمانة التي أعطتها الحكومة لجميع الناس ضد العنف والحكم المطلق فقال ما مؤداه: «إن أي فرد في أي بلد جديد هو دائما حر في كل الأوقات في أن يختار بين العمل والإضراب. يجب عليه ألا يتساهل في هذا الموضوع أو أن يخضع للإكراه أو – وهذا هو الأهم -لأية شروط تفرض على حريته في الاختيار. وصرحت الوزارة بأن الطرق القضائية وكذلك البوليسية سوف تستعمل للحفاظ على هذه الضمانة التي هي في الواقع قد رفعت الحماية الرسمية التي كانت قد أعطيت لمنظمة وحيدة في الاتحاد. إن حزم الحكومة هذا قد استثار بلا شك غيظ زعماء الاتحادات، ولكن التحدي لعمل الحكومة لم يكشف عنه حتى كان النزاع حول عمال ميناء الدار البيضاء.

بدأ ذلك النزاع على خلاف بسيط متعلق بطرد أحد العمال في ايلول (سبتمبر) ١٩٥٨. وخلال الشهرين التاليين تضاعف النزاع حتى أصبح معركة كاملة بين الرعيل الأول من حزب الاستقلال والقوى التقدمية فيه. وبدأ الخلاف في منتصف أيلول (سبتمبر) عندما عارض العمال في استخدام عامل للميناء أجنبي الجنسية. وقد قدم الاحتجاج زعيم جماعة المعارضة في الاتحاد المغربي للشغل الممثل لاتحاد عمال الميناء والرصيف. فأمر الاتحاد المغربي للشغل بطرد عضو النقابة المنشق، فأدى هذا الأمر بدوره إلى مطالبة أغلبية أعضاء الاتحاد بإجراء انتخابات جديدة للاتحاد المغربي للشغل. ويقال إن أغلبية الأعضاء قد اجتمعوا في مكتب الاتحاد للمطالبة بانتخاب جديد، الأمر الذي كان مستحيلاً لأن الاتحاد المغربي للشغل قد رفض الإشراف على مثل هذا الانتخاب وفق مطالبهم. فبدأ الإضراب في اليوم التالي واستمر ثلاثة أيام احتجاجاً على هذا العمل التعسفي للاتحاد المغربي للشغل. وقد صرح كثير من مراقبي تنفيذ الإضراب بقولهم إن الذين تسببوا في ذلك هم عمال أرسلهم الاتحاد المغربي للشغل لكي يفسد الإضراب وبسبب طرد العمال غير المشتركين في الإضراب الذين حاولوا دخول منطقة الميناء بناء على طلب الاتحاد المغربي للشغل.

وكانت الخطوة التالية أن طلب الاتحاد المغربي للشغل رسمياً من العمال أن يعودوا إلى مراكزهم غير أن هؤلاء رفضوا الأوامر. وقد ذهب ابن الصديق إلى الميناء ووعد أمام جمهور معاد من العمال بأن انتخابات جديدة ستجري. وكان موقف الحكومة بكل وضوح ذا هدف مزدوج، لأن الحكومة كانت أيضاً مصممة على السماح للعمال الموالين للاتحاد المغربي الشغل والراغبين في العمل بأن يدخلوا الميناء. وقد وافق المكتب الوطني للاتحاد المغربي الشغل على تعيين السكرتير الجديد الذي اقترحته أغلبية العمال المضربين، وانتهى الإضراب. غير أنه بعد يومين من استئناف العمل صرح الاتحاد المغربي للشغل بأنه قد رفض السكرتير الذي اختارته أغلبية العمال لأنه كان جزئياً من سلالة فرنسية. وفي خلال شهر تشرين الأول (أكتوبر) رفع جماعة المحتجين شكواهم إلى المشرف على أحواض السفن، غير أنه لم يكن ممكناً تحت التعليمات القائمة اتخاذ أي شيء بذلك الخصوص بدون موافقة الاتحاد المغربي للشغل. كان القانون بجانب الاتحاد في هذه اللحظة وتسلم تأكيداً رسمياً بأن رجاله سوف يسمح لهم بالعمل وفقاً لتعليمات وزارة الداخلية. ولم يكن أمام العمال المستثنين أي طريق قانوني آخر فتقدموا بعريضة إلى حاكم مدينة الدار البيضاء والملك يطلبون إليها التدخل لمصلحتهم. ولو أن الاتحاد المغربي للشغل كان على استعداد ليوقف كفاحه مع الجماعة المعارضة، لنال المعاضدة الرسمية من الحكومة، ولربما كان بمقدوره أن يجمع عدداً كافياً من عمال الأرصفة الجديدة ليحلوا محل المنشقين. وفي الوقت نفسه زادت العلاقات سوءاً بين بلفريج والاتحاد المغربي للشغل. ووقع إضراب في مصانع عمال النسيج بفاس، واستبدل ضباط آخرون بضباط نقابات عمال مناجم خريبكة عندما بدت بوادر الانشقاق في صفوف الاتحاد المغربي للشغل هناك. وشن الاتحاد هجوماً جديداً على «الخونة» في الميناء، وطرد زعماء المعارضة وأنحى باللوم في هذا التمرد على أصابع أجنبية كانت تريد أن تنال من سمعة الاتحاد. وكانت الحكومة قد قررت أن تجري تحقيقاً رسمياً في هذا النزاع ونظم عمال المعارضة مظاهرة ليظهروا بها قوتهم، وكان ذلك في أواخر تشرين الثاني (نوفمبر) ١٩٥٨، وقد حضر هذه المظاهرة نحو ثلثي عمال الأرصفة على وجه التقريب. أما الاتحاد المغربي للشغل فقد أدخل في الاجتماع نحو خمسة آلاف عامل موالين له من مصانع أخرى. وفي الشجار الذي نجم عن ذلك جرح عديد من العمال، وذلك عندما حاول الاتحاد أن يشوه الاجتماع، وهدد بانتقام عنيف من العمال الذين يحاولون إحداث انشقاق في اتحاد رجال الشاطئ الطويل. ويبدو أن التحقيق الرسمي قد سار في الطريق الذي رسم له، وفي منتصف كانون الأول (ديسمبر) أعلن تأسيس اتحاد مستقل لعمال الأرصفة. وفي الحال اتسع هجوم الاتحاد المغربي للشغل على بلفريج بحيث شمل جميع الوزراء الموالين له. وأدى تطور الحوادث في هذه اللحظة الى خروج ابن بركة من لجنة الحزب التنفيذية. وهكذا أصبحت الخطوط الموضحة لانشقاق الحزب واضحة المعالم.

لقد كان النزاع بين عمال أرصفة الدار البيضاء مليئاً باتهامات عدم الكفاية والإهمال والإساءة. وليس من الممكن إثبات صحة هذه الإتهامات، غير أن الحقيقة الواضحة، وهي أن معظم العمال قد أثيروا للقيام بهذا العمل، تجعلنا نميل إلى إعطاء مظالمهم نصيباً من الصحة. ثم إن الإجراءات المتطرفة التي لجأ اليها الاتحاد المغربي للشغل لمنع وقوع الانشقاق يبين شيئاً من خططه التي كان يلجأ إليها للاحتفاظ بوحدته. ولم تظهر علائم الانشقاق علانية إلا بعد أن حصل انشقاق الحزب. وفي وقت مبكر من انقسام الحزب ألمح بلفريج إلى أنه ربما كان هنالك تذمر في صفوف الاتحاد المغربي للشغل. وربما كان الرعيل الأول في الحزب قد توقع أن يثور بعض الشغب بين الاتحاد المغربي للشغل والحزب، وذلك قبل سنة ونصف من وقوعه، وربما كان يريد بذلك أن يجند بعض العمال لمساعدته. ولم يقل زعماء حزب الاستقلال سوى القليل عن شق الحركة النقابية بعد انشقاق حزب الاستقلال مباشرة. وعندما سئل الفاسي عن البدء في تكوين اتحادات مستقلة، أجاب بمهاجمة الاتحاد المغربي للشغل لعدم عقده مؤتمره كما أعلن عنه، ولعدم إجراء انتخابات للمجلس الوطني منذ عام ١٩٥٥ ٤٨. ولما كان بوسعنا أن ننتقد حزب الاستقلال نفسه بناء على هذين الأساسين، فإن هذا النقد الذي وجهه الفاسي كان يمكن أن لا يكون قوياً لو أنه صدر في جو سياسي أقل تقلباً. كان الاتحاد المغربي للشغل بكل وضوح هو أقوى جماعة في حزب الاتحاد الوطني الجديد. وهذا التغيير يهمنا لا لأنه يكشف الخلافات التي كانت حتى الآن مختفية في صفوف الحركة العمالية فحسب، بل لأنه يوضح إلى أي مدى التقلب. ثم أن القسوة. تكون تلك التنظيمات الجديدة هشة في مثل ذلك النظام السياسي السريع وعدم الرحمة التي انغمس فيها كل من الاتحاد وحزب الاستقلال اللذين كانا ذات يوم وطنيين ورفيقين، في هذا الصراع الجديد لهو دليل هام للغاية على الطريقة التي تعمل بها القومية الحديثة ومشاكل الانتقال في الأقطار الجديدة. ففي المرحلة الأولى من انشقاق الحزب، اتهم حزب الاستقلال زعماء الاتحاد المغربي وابن بركة بالسعي وراء مطامع شخصية وأنهم سخروا من فرع الحزب الأصلي يوم ظنوا أنفسهم خيراً من الحزب الذي شبوا منه. غير أن كلا من هذين الفرضين يساورهما الشك في مفهومها في جو مليء بالاضطراب السياسي، ثم إن الأخير يمكن أن يناقش على أسس تاريخية. وكذلك اشتكى الحزب من الإشاعات التي تقول بأن الملك كان يعد العدة لتجديد اقتراحه الخاص بإقامة تنظيم واحد يضم جميع العمال، هذا على الرغم من أن الحزب كان يسره أن يجري هذا عندما كان الاتحاد يسانده. وبعد أسبوع من انقسام الحزب، أعلن قسم اتحاد المعلمين بالرباط، وهو جزء من الاتحاد المغربي للشغل قراره بأن يصبح نقابة مستقلة. وقد تبعهم في قرارهم هذا عمال مصنعين في الدار البيضاء وعمال مناجم الفوسفات في خريبكة. إن انفصام جماعة المدرسين بكاملها من الاتحاد المغربي للشغل لم يكن شديد المفاجأة، وذلك لأن المدارس كانت في الأصل تمول وتزود بالمدرسين من قبل حزب الاستقلال. أما في حالة عمال مناجم خريبكة، فقد كانت هناك صعوبات لها تاريخ طويل قامت بين الاتحاد والعمال المحليين. وقد صاحب كلا من هذين الانشقاقين عرائض تبين سوء تصرف الاتحاد المغربي للشغل وإهماله. كانت نقابات العمل الصغيرة المستقلة هذه، بالطبع، حرة في إعادة تنظيم نفسها بحسب الظهير المتعلق بالنقابات المهنية، وكان لها الحق في التمتع بكل الخدمات الحكومية التي كانت تستفيد منها في السابق عن طريق المكتب الوطني للاتحاد المغربي للشغل.

وبعد أسبوع من انشقاق الحزب كون حزب الاستقلال القديم لجنة اتصال للتوفيق بين النقابات الجديدة المستقلة. أما الاتحاد المغربي للشغل فقد شهر به الحزب على أساس أنه «يعمل ضد مصلحة الوطن، وأنه ضد مصلحة النقابيين، لأنه سمح للمصالح السياسية بأن تتقدم على حاجات العمال، ولأنه رفض أن يسمح للعمال بالمساهمة في قرارات النقابات. ولقد اتخذ الحزب أيضاً موضوعاً كبيراً من حذف المادة رقم ۸۷ من النسخة المغربية لقانون العمل الدولي ٤٩، الذي قدمه وزير العمل والشؤون الاجتماعية للتصديق في عام ١٩٥٧. أما المادة المحذوفة فهي تؤمن العمال ضد الكراهية نتيجة لنشاطهم النقابي، وتضمن لهم حرية تامة في اختيار أو تكوين نقابة. ولما كان ابراهيم الرئيس الجديد للمجلس وزيراً للعمل والشؤون الاجتماعية عندما وافق على القانون المذكور فإن الاتهامات كانت تنعكس أيضاً على تصريفه لمهام وظيفته. ومهما يكن من أمر فان حزب الاستقلال لم يفسر لماذا كان قد تساهل في هذه المسألة قبل عامين أو بالتالي لم يفسر جهله بمسألة يعتبرونها الآن ذات أهمية بالغة بالنسبة للحركة العمالية.

كونت اللجنة الجديدة للنقابات المستقلة تحت إشراف حزب الاستقلال، وكان باستطاعتها بالطبع، أن تستفيد من هذا النص غاية الاستفادة. واستمرت في حملة الاتهامات التي أثارها الفاسي والخاصة بالمظاهر غير الديموقراطية للاتحاد المغربي للشغل، ووعدت بتقويمه في الحال. إن تكوين هذه اللجنة أعطى بعض المبررات لأسباب التذمر لدى الاتحاد المغربي للشغل. فإن خمسة من الأعضاء العشرة كانوا ينتمون إلى شركات تعدين. وأربعة من هؤلاء الخمسة كانوا زعماء نقابات مستقلة كونت حديثاً لمكتب الفوسفات الشريفي، وهي شركة نصف عمومية لها ممتلكات واسعة حول خريبكة، وكانت هذه الشركة واحدة من أقدم المؤسسات الصناعية في بلاد المغرب، ذلك أنها تكونت في عهد الحماية المبكر على يد أول مقيم عام فرنسي. وأما عمال المناجم فيها فكانوا من أوائل العمال المغاربة الذين مروا بالتصنيع وتعرض مديرها الفرنسي لنقد شديد من الاتحاد المغربي للشغل في سنة ١٩٥٦. وعلى الرغم من تعيين مدير مغربي لها عام ١٩٥٧ فإن بوادر القلق كانت ما تزال مستمرة في الظهور بين عمال مناجم الفوسفات.

وكانت النقابات المستقلة الأخرى التي تكونت لدى أول مظهر من مظاهر انقسام الحزب الوطني في معظمها إما نقابات تعدين أو تدريس، أو مصانع قليلة من الدار البيضاء. وانضمت نقابات عمال المناجم في بو عرفة وجرادة وكاشكاط إلى نقابة خريبكة في تعريضها بالاتحاد المغربي للشغل، وكذلك ظهرت أربع نقابات أخرى أو ما يزيد للمعلمين في الأسبوع الثاني للأزمة. وانضم عمال إحدى النقابات الفلاحية وكثيرون من مصانع الدار البيضاء أيضاً إلى لجنة النقابات المستقلة. وانسحبت أيضاً نقابة عمال البناء في مدينة الرباط وهي التي كانت قلب قوة جوريو في الاضطرابات التي حصلت في صيف ١٩٥٦–انسحبت من الاتحاد المغربي للشغل، وإنه لمن الصعب أن نقدم تقديراً دقيقاً بعدد أعضاء النقابات الذين خسرهم الاتحاد المغربي للشغل بسبب الانشقاق. وبينما لم تكن هناك أدلة على أن خروجاً سيتم بالجملة من الاتحاد فان عدداً من أكبر وأنجح اتحادات التعدين والتدريس قد تأثرت. ويتبين لنا من الجدول رقم ۱۱ ان تقديراً سخياً يمكن أن يشمل جميع مدرسي المدارس الحرة، ونصف عمال البحرية والتعدين والأرصفة والمدرسين النظاميين، بالإضافة إلى ربع عمال الدار البيضاء المنضمين في النقابات المحلية–أي عدداً يقرب في مجموعه ٨٤,٥٠٠ عامل. ولو فرضنا أن هذا العدد لا يزيد على ٥٠,٠٠٠ عامل أو ما يقرب من ١/١٠ أعضاء الاتحاد المغربي للشغل السابق، فإنه من الواضح أن النقابات المستقلة كانت قادرة على أن تلعب دوراً نشطاً في السياسة المغربية.

إن وضع شقي حزب الاستقلال في أوائل سنة ١٩٥٩ يمثل تناقضاً غريباً، فإن حزب الاستقلال التابع للرعيل الأول كان يعد تنظيماً حزبياً مركزياً له ما يسنده من تنظيمات نقابية لا مركزي. أما حزب الاتحاد الوطني الجديد فكان منظماً على حسب خطوط مستقلة إقليمياً، غير أنه أصر على ضرورة قيام حركة عمالية واحدة قوية. وإلى حد كانت الظروف هي التي تملي السياسات المختلفة على الرغم من أنها أيضاً أكدت ضمنا وجود خلافات أعم في وجهات نظر الفاسي وابن بركة.

ففي رأي الزعيم لم يكن هنالك أدنى شك في ما يتعلق بسيادة الحزب وعلاقته الأبوية بالحركة العمالية. وعلى الرغم من أنه يمكن أن يكون ما قدمه حزب الاستقلال من خدمات في ظهور الحركة العمالية المغربية موضع جدل، فإنه لم يستطع أن يمنع نمو طبقة عمالية حضرية. وكان للحزب الخيار في أن يقبل أو يرفض العمال الذين كانوا قد تلقوا توجيههم السياسي تحت إشراف السلطات الفرنسية على أيدي موظفين نقابيين فرنسيين في السنوات العشر الماضية. فالأعضاء القدامى من حزب الاستقلال كانوا منفصلين عن العمال بنفس الطريقة التي كانوا منفصلين بها عن الجيل الجديد الذي انضم إلى الحزب بعد الحرب العالمية الثانية. وقد وضع شباب كل من حزب الاستقلال والاتحاد المغربي للشغل ثقتهم في تنظيم كفء ونالوا القناعة من إنجاز أهداف ملموسة. وكانوا ينتمون «إلى هذه الدنيا» وكانوا أقل اعتماداً على العاطفة الدينية، وأقل تسامحاً بدرجة كبيرة، مع أنه وضع يعتمد على السوابق التاريخية أو على المنزلة الاجتماعية.

وهذا التفسير لا يتعارض بالضرورة مع الطريقة التي حصل بها انشقاق الاتحاد المغربي للشغل. فأساتذة المدارس الحرة كانوا جميعاً دون نزاع يناصرون الجماعة الأكثر محافظة في الحزب. فقد أسس كبار زعماء حزب الاستقلال المدارس في العقد الرابع من القرن العشرين ومولوها حتى عهد الاستقلال. وكان معظم الأساتذة قد تلقوا تعليماً دينياً في إحدى الجامعات الاسلامية. وكذلك فإن الكثيرين من المدرسين العاملين في المدارس الوطنية (الحكومية) كانوا ينتمون إلى فترة ما قبل الاستقلال، وكانوا ينظرون باحترام إلى نخبة العلماء من زعماء حزب الاستقلال. أما حالة رجال المناجم وعمال الأرصفة فكانت أكثر تعقيداً، إذ أنه من الطبيعي أن نتوقع من العمال الذين كانوا قد نظموا منذ أمد طويل، أن يحبذوا شق الاستقلال الأكثر عصرية وراديكالية. ولكي نفهم تركهم للحزب، فإنه من الضروري أن ننظر في المفارقات المخيفة في التقدم الاجتماعي بين السكان في قطر حديث الاستقلال. لقد شارك هؤلاء العمال سابقة المعلمين التاريخية في الحركة الوطنية. إن خبرتهم كجماعة عمالية منظمة أو شبه منظمة لمدى عشرين سنة قد أكسبتهم فها وإدراكا للإجراءات النقابية كان يفوق إدراك معظم العمال الآخرين لها. وهم، أكثر من غيرهم من العمال، كانوا في عهد الحماية معرضين لسلطات تعسفية، وقد عملوا تحت ظروف كلها مغامرة شجعتهم على تطوير نضج سياسي أكثر من غيرهم من العمال الأقل منهم تعرضاً للخطر. وقد نجم عن السلطة المركزية للاتحاد المغربي للشغل، واستخدامه النقابات للمساومة على المسرح الوطني إهمال المظالم خاصة بعمال المناجم والأرصفة وإحباط قدرتهم في إدارة شؤونهم الخاصة بأنفسهم. أما انضواء العمال المهرة تحت لواء قدامى حزب الاستقلال، فهو ليس قائماً على اتفاق أساسي في البرنامج أو القيم، بقدر ما هو قائم على عدم رغبتهم في الاشتراك في السياسة كعمل من أعمال النقابة. وقد وضعتهم قدرتهم على تمييز السياسة الوطنية عن حاجات العمال بعيداً عن نداء الجماعة النشطة في الحزب، وقربتهم من جماعة المسنين الكبار المتقاعدين…

أما فيما يتعلق بالنظام السياسي الوطني، فإن ما يصح تطبيقه على حزب الاستقلال لدى انشقاقه، يصح على النقابات. وإذا ما تركنا جانبا الاختلافات التنظيمية المحددة التي يمثلها جماعتان، فإن أحداهما ترى أن مسألة انشقاق العمال كان سببها في الأساس اختلاف النظرة إلى كيفية ممارسة السلطة الدستورية. إن تطور الاتحاد المغربي للشغل منذ الاستقلال، والتقدم الذي تم من حيث ضمانة حقوق العمال كان أكبر بكثير جداً من التقدم الذي أحرزته الأحزاب السياسية لمصلحة السكان عامة. وهذا يبينه جزئياً انشقاق الاتحاد المغربي للشغل قبل أن يحدث انشقاق الحزب، الذي تم داخل إطار تشريعي وإجراءات سياسية خارج السلوك السياسي العام، وفي الواقع أنه بني بأيدي الاتحاد. كان العمال دون ريب على معرفة، بالطبع، بالتوتر السياسي بقدر ما تسمح به طاقة كل منهم، ومركزه كذلك. ولكنهم قد كسبوا مكاسب ملموسة منذ عهد الاستقلال وربما كانوا متأكدين من أن الذي تسبب في ذلك الكسب إنما كان هو الاتحاد المغربي للشغل. أما زعماء الاتحاد فقد تمتعوا بقوة كبيرة وكذلك جعلوا أنفسهم معرضين لتجريح جديد عندما جعلوا أعضاء اتحادهم أكثر تعرضاً للسياسة الوطنية. ولو لم تكن وجهة نظرهم متطرفة تطرفاً كبيراً، ولو أن تكوين العضوية كان أكثر تجانساً، لكان ممكناً ألا يقع الانشقاق. إن الأهداف الوطنية أكسبت زعماء الاتحاد قوة عظيمة، وفي الوقت نفسه عرضتهم لظروف حرجة تضخمت لا شعورياً تقريباً عندما بدأت علامات التوتر تنمو بين صفوف الاتحاد. أما الإجراءات الدستورية التي أقامها الاتحاد المغربي للشغل، ودرب العمال على الاستفادة منها، فقد استغلت بالتالي لتقسيم الاتحاد.

وكما حدث في حزب الاستقلال فإن الاتحاد المغربي للشغل واجه مشكلات معينة صعبة عندما أراد أن يحتفظ بالتضامن داخل سلسلة المفارقات الاجتماعية المغربية. كان للزعماء معرفة بالتنظيمات النقابية والإجراءات، وتلك أمور يغلب على الظن أن الاعضاء لم يشاركوهم إياها. إن التسوية النافعة لمنازعات العمال المحلية، وتحقيق منافع محلية ملموسة ربما كانا عاملين جديرين بالتقدير، غير أن ما قدمه الاتحاد المغربي للشغل في مضمار التقدم الدستوري للأمة كان في الغالب أقل وضوحاً. ولقد كان الاتحاد المغربي للشغل في سبيل تأثيره على جميع العمال بحاجة إلى أهداف وطنية ملحة ومقنعة أكثر مما يحتاج إليه أي تنظيم نقابي في بلد متطور. واستفاد الاتحاد المغربي للشغل من كفاح العمال النظيف واستعدادهم غير المحدود للتضحية والمقاومة، بالقدر الذي استفاد منه حزب الاستقلال، إن لم يكن أكثر. ولقد كانت الأمة تفتقد المؤسسات الوطنية التي يستطيع الاتحاد المغربي عن طريقها أن يوضح مركزه أو موقفه، ولكن كان للاتحاد الوطني مؤسساته الخاصة التي كانت قادرة على جعل التوترات الداخلية تعلن عن نفسها. واستطاعت النقابات أن تتجنب الوقوع تحت طائلة المسئولية نظراً لمحدودية التنظيم الدستوري الذي كان موجوداً آنذاك. إن تجربة الحركة العمالية المغربية تقوم دليلا هاما على نتائج التطور الدستوري غير المتساوي في قطر حديث النهوض، وعلى القدرة التي يمكن أن تعطيها جماعة صغيرة العدد نسبياً للاشتراك بقوة في السياسة الوطنية. وهي أيضاً ذات أهمية أكبر للتدليل على الصعوبات التي تواجه استخدام مثل هذا النفوذ على المستوى الوطني في الوقت الذي تعالج فيه المشكلات اليومية لأمة جديدة.

شارك المقالة

اقرأ أيضا