كفاح فجيج وآفاق النضال الشعبي بالمغرب
منذ سنة، يقاوم كادحو فجيج وكادحاتها هجوما على حق أساسي: الماء. أبان أهالي فجيج عن استماتة في الدفاع عن الحق في الماء بوجه مساعي جعله مصدرا للأرباح عبر الشركات الجهوية المستحدثة لهذه الغاية.
مثَّل كفاح فجيج أهم تحرك شعبي على نطاق بلدةٍ بكاملها منذ إخماد الدولة لحراك الريف بالقمع أساسا. وهو نقطة ضوء في العتمة العامة التي تسود، والتي عززتها فترة جائحة كورونا وحملة قمع أشكال التعبير الشعبي الساخط عبر انترنت، والتنكيل بالصحفيين غير المنقادين. إنه إلى جانب حراك شغيلة التعليم، الذي دام 3 أشهر، من النضالات النوعية التي تستوجب تعميق نظرٍ واستخلاصَ دروسِ دورة النضالات السابقة استعدادا للمقبلة.
أول الواجبات إبطالُ سعيِ الدولة إلى إخماد جذوة حراك فجيج بعزله، واستنزاف قواه بما كسبت من خبرةِ نسفٍ للتعبئات الشعبية بالمناورة والقمع. وقد كانت القافلة الوطنية التي نظمها الائتلافُ الوطني لدعم الحراك فجيج، بتعاون مع التنسيقية المحلية للترافع عن قضايا فجيج، تحت شعار «الصمود والوحدة والتضامن من أجل الحقوق والكرامة»، من 14 الى 17 نونبر 2024، خطوةً في هذا الاتجاه، بالغةَ الأهمية وناجحةً وواعدةً، تضعُ على كاهل المناضلين/ات، بمختلف جبهات المقاومة العمالية والشعبية، مسؤوليةَ مضاعفةِ الجهد وتعزيزِ مقومات الصمود، للسير قُدُماً نحو استنهاض عامٍ لقوى النضال.
لا غنى عن التنظيم في أسفل
لا ريب أن أولى عِبَر سيرورة التعبئات الشعبية التي شهدها المغرب، منذ أكثر من عقدين، الحاجةُ الماسةُ إلى التنظيم. فمنذ احتجاج أيت بلال بإقليم أزيلال في متم التسعينات، مرورا بنضال كادحي إيملشيل، وطاطا، وزاكورة، وبوعرفة، وصفرو، وايفني، والريف، وجرادة، فضلا عن تعبئات شعبيةٍ كبرى بمدن كطنجة ومراكش، كانت الخاصيةُ المشتركة، ومكمنُ الضعف الرئيسُ، متمثلين في نقص التنظيم، وحتى انعدامه أحيانا. بؤرٌ تتدفق منها طاقة النضال تِباعا، لتخبو بعد قمع الدولة وتنازلاتها المشغوشة، دون تراكم على صعيد هيكلةِ الفعل النضالي في بنيات في القاعدة الشعبية، في أماكن السكن، ولا على صعيد التضافر مع الحركة النقابية التي تلتقي في مطالب جوهرية مع الحراكات الشعبية.
ما تم تحقيقُه كان أشكالَ تضامن تنتفي بانتهاء كل حراك. وإن كان هذا النقصُ إحدى تجليات أزمة اليسار المغربي، أي كل قوى النضال التقدمي، المفترضِ أن يكون بهيئاته السياسية والنقابية والجمعوية ناقلَ الخبرة والدروس والمحفزَ، فالأكيد أيضا أن لا نهوض لليسار من خموله الراهن إلا بتطوير الفعل النضالي الجماهيري الموحد، هذا الذي تجسد بنحو جيدٍ في نوعية المشاركين في قافلة التضامن مع حراك فجيج- كان مع الأسف الاتحاد المغربي للشغل أكبر غائب عنها. وقد أكد نداءُ فجيج (16 نوفمبر 2024) درجة وعيِ الحاجة إلى تطوير النضال الجماهيري بـــــ «مناشدته جميع القوى المناضلة إلى تشكيل جبهةٍ موحدة ضاغطةٍ وداعمة للحراك الشعبي بفجيج» وعلى «ضرورة توحيدِ المبادرات على المستوى الوطني».
بيْد أنه لا يمكن تجسيدُ هذا الوعيِ في واقع، وبلوغُ أهداف هذه المناشدة، إلا بالتقدم في البناء التنظيمي للفعل النضالي في الأسفل. فبغياب هذا البناء تبقى الهياكل الفوقية عاجزة. ولنا في تجارب عديدة، على امتداد عقدين بالأقل، ما يدلُّ أن الهياكل الفوقية التي تُنَصِّب نفسها، في شكل تنسيقٍ بين هيئات قائمة، أو زعاماتٍ فردية، بلا بنيات تنظيميةٍ تتيح مشاركةً جماهيرية، لا تُجدي نفعا، ولا تضمن استمرارية. فالجموعُ العامة ذاتُ سلطة القرار، ولجانُ الأحياء المنتخبةُ في هذا النوع من الجموع هي أداةُ التسيير الديمقراطي للنضالات، هذا الذي يُحفز المشاركة الجماعية، ويتيحُ تَفَتُّقَ المبادرة الشعبية وتطورَها. وفيها علاجٌ لإحدى نواقصٍ الحراكات الشعبية: نقيصة وزنٍ عظيم للنساء في النضال لا يصاحبه دور متناسب في تسييره وقيادته.
لابد، والحالة هذه، من هجر اليسار لتقاليد سلبيةٍ كثيرا من أجهضت تجاربَ نضال واعدةٍ، تقاليدَ التحكمِ الفوقي في النضالات والنيابةِ عن الجماهير، والتماسِ عطف الذين في فوق، عوضَ إنماءِ مقدرات التنظيم والنضال لدى الذين واللواتي في أسفل.
لا بد من تضافر النضالين العمالي والشعبي.
إن لحركة النضال الشعبي بالمناطق المهملة، وبالأحياء الشعبية بالمدن، حليفٌ نوعي تمثله الحركة العماليةُ. فمصلحة الطبقة العاملة تلتقي بمصلحة فئات شعبية كادحة عريضة: أولا في الدفاع عن القدرة الشرائية بوجه غلاء المعيشة الفاحش، وثانيا في الدفاع عن خدمات عامة، من تعليم وصحة وسكن وثقافة وترفيه ونقل…، تكون مجانية ومُرضية للحاجات بنحو جيد. وثالثا في الدفاع عن الحريات، حريات الاجتماع والتنظيم والإضراب والتظاهر والاعتصام والتعبير، بوجه تنامي القمع كسياسة لضبط وضع اجتماعي تفجري.
وتكمن أهمية هذا الحليفِ النوعي فيما يميزه من مقدرة لا نظير لها على تغيير موازين القوى بوجه نظام الاستغلال والاستبداد. مكانةُ الشغيلة في تحريك آلة الإنتاج والنقل، ومجمل الاقتصاد والحياة الاجتماعية، تزودهم بإمكانية ليست لغيرهم في وقف كل شيء. الشغيلةُ حاملو البلد على ظهورهم، ومقدرتهم على تعطيل آلة الأرباح تجعلهم أشد الخصوم إثارةً للخوف لدى الطبقة السائدة. لهذا يمثل تعاونُ حركة النضال الشعبي مع الحركة العمالية ضمانةً أكيدة للسير نحو انتزاع مكاسب تحسنُ الوضع الاجتماعي لمجمل الطبقات الشعبية، وتنمي قدرتَها على مزيد من الكفاح.
وهنا دورُ النقابيين، دور التحرر من المنظور المهني الضيق للنضال النقابي، فكل جوانب حياة الشغيلة موضوع للنضال النقابي، ليس الأجور وظروف العمل وحسب، بل الخدمات العامة والحريات؛ ما يلاقيهم موضوعيا مع الحراكات الشعبية. لذا يجب بناء جسور التعاون والتضامن بين نضال الشغيلة النقابي ونضال الكادحين، وخلق أدوات ذلك.
الحاجة ماسة إلى منظور شمولي للنضال.
إن ما نتعرض له من انتزاعٍ لحقوق تاريخية، يشكل ماءُ فجيج مثالا بالغَ الدلالة عنه، مشروعٌ سياسي للطبقة البرجوازية، يشمل كل مناحي الحياة التي يسعى رأسُ المال المحلي والأجنبي إلى تحويلها إلى منابع للأرباح. لسنا نواجهُ خللا في «نموذج تنموي»، ولا فشلا للدولة في تلبية حاجات الشعب. الدولةُ ناجحةٌ في أداء وظيفتها، سياستُها ناجحةٌ لأنها تحقق الهدفَ الذي بُنيت من أجله: هدفَ حماية مصالح الرأسماليين وتطويرها، هذا منذ أن حلت دولة الاستعمار الجديد مكانَ دولة الحماية.
نحن في مواجهة سياسةٍ طبقية إجماليةٍ يحكمُها منطقُ التراكم الرأسمالي، المرافَقُ بتضميد الجراح بسياسات «اجتماعية» زائفة. بوجه مشروع الطبقة البرجوازية. ما مشروعنا في حركتي النضال العمالية والشعبية؟
ما جرى على صعيد المجلس الجماعي لفكيك، من ضغط وزارة الداخلية على المنتخبين عبر عاملها بالإقليم لإبطال القرار الديمقراطي برفض تدبير الشركة الجهوية لماء فجيج، أمر جسيم يطرح مسألة النضالَ السياسي من أجل ديمقراطية تُعبر فعلاعن الإرادة الشعبية، أي بناء نظام ديمقراطي عوض نظام الاستبداد المقنع القائم، حليا وعلى صعيد وطني.
الحماسُ والتعبئة وحدهما غير كافيين للسير نحو التغيير. يجب، مع تنظيم قوى النضال وتوحيدها، إعمالٌ جماعيٌّ للفكر في طبيعة عدونا، أي تفكيكُ النظام الاقتصادي الاجتماعي السياسي وفهم آلياته لاقتراح حلول لمشاكل الشعب. إنها الحاجةُ الماسة إلى إجلاء معالم البديل العمالي والشعبي، بديلِ الحرية والكرامة والحياة اللائقة للجميع.
بغير هكذا منظورٍ شمولي للنضال وأهدافه، وتعميمِ التنظيم من أسفل، وتضافرِ النضالين العمالي والشعبي، سنُبَدِّدُ قوانا النضالية في مناوشات أبانت التجربة أنها لا تسير بنا نحو الهدف.
اقرأ أيضا