ليفيو مايتان، عملاق الماركسية الإيطالية المنسي

بقلم، إنزو ترافيرسو

ظهر العدد الأول من جريدة المناضل-ة، قبل عشرين سنة، في أكتوبر 2004. وبصفحته الأخيرة نعي للرفيق ليفيو مايتان المتوفي أسبوعين قبل صدور  الجريدة. وها نحن نحيي الذكرى العشرين لرحيله الجسدي، مستلهمين عطاءه نموذجا للمكافح الثوري المكرس حياته، بتواضع، لقضية تحرر البروليتاريا وعامة المقهورين/ات الذاتي. سبق أن ترجمت المناضل-ة دراسة الرفيق مايتان عن ماركسية غرامشي الثورية، وستواصل مد قراء اللغة العربية بكتابات من رصيد  رفيقنا مايتان الخصب الثري. نبدأ بهذا التعريف بمايتان بقلمي رفيقيه أنزو ترافيرسو ودانيال بنسعيد. 

ينتمي ليفيو مايتان (1923-2004) إلى عالم مفتقد، عالم الثوريين المحترفين الذين طبعت نضالاتهم وتضحياتهم تاريخَ القرن العشرين بعمق. يشيد المؤرخ إنزو ترافيرسو بواحد من أكثر مناضلي-مثقفي اليسار الإيطالي إبداعا.
***

يصادف هذا العام [*] الذكرى المئوية لميلاد الماركسي الإيطالي ليفيو مايتان. الشخصية البارزة في اليسار الراديكالي الذي توفي في العام 2004. يكاد مايتان يكون غير معروف لدى الجيل الأخير من المناضلين/ات السياسيين/ات. كان مساره الفكري والسياسي جزءًا من تاريخ حقبة من النار والدم انتهت في سنوات 1990، بين نهاية الحرب الباردة وهجمات 11 سبتمبر 2001.
على مدى خمسين عامًا، بين أربعينيات وتسعينيات القرن العشرين، كان مايتان أحد الشخصيات البارزة في الأممية الرابعة إلى جانب بيار فرانك (1905-1984) وإرنست ماندل (1923-1995). كان استراتيجيًا ومنظمًا لا يكل، وكان له تأثير كبير على العديد من قرارات الأممية الرابعة الحاسمة، حتى وإن كان أقل تألقًا وبريقًا من بعض قادتها الآخرين، ولم يظهر إلا لفترة وجيزة كشخصية في Redemption  رواية طارق علي الساخرة عن الأممية الرابعة (1990)
كان ليفيو مايتان، في بلده إيطاليا، شخصية عامة لليسار الراديكالي. وقد ناقشت ندوة نُظمت مؤخرًا في مكتبة روما الوطنية إرثه بمشاركة العديد من ممثلي اليسار الإيطالي البارزين، من فاوستو برتينوتي (1940- ) إلى لوسيانا كاستيلينا (1929- ).
بعد مُضي مائة عام على ميلاد ليفيو مايتان، وما يقرب من عشرين عامًا على وفاته، يستحق إرثه التأمل بنظرة استرجاعية. ويبدو لي، منظورا إليه من هذا الأفق الواسع، بعيدا كل البعد عن عصرنا الحالي. إنه ينتمي إلى عالم لم يعد قائما، وربما هذا سبب أهميته بالنسبة لوعينا التاريخي.

 

ثوريون محترفون

لقد جسّد ليفيو مايتان شخصية نبيلة، بطولية وتراجيدية في آنٍ معًا، طبعت بعمق تاريخ القرن العشرين: الثوري المحترف. يجدر بنا أن نتوقف عند تعريف هذا التعبير. لم يختفِ الثوريون، لا يزالون موجودين حتى اليوم، وربما بعدد أكثر مما نعتقد. ولكن إذا شهد فعلا القرن الحادي والعشرون ثورات، فإن شخصية الثوري المحترف تنتمي إلى الماضي.
فباستثناء بعض حركات التحرر الوطني في الجنوب، ينتمي الثوريون المحترفون إلى حقبة كانت فيها قسمة العمل والأحزاب السياسية والمجال العام مهيكلة بنحو مغاير.
وبوجه خاص، كانوا ينتمون إلى عصر كانت الثورة فيه أفقًا للتوقع، أو على حد تعبير إرنست بلوخ (1885-1977)، يوتوبيا ملموسة، ضرورية وممكنة، تغلغلت في الكون الذهني لملايين البشر.
كان الثوريون المحترفون رجالًا ونساءً لم تكن الثورة بالنسبة لهم مجرد مشروع يتبنونه أو يناضلون من أجله، بل كانت أسلوب حياة، خيارًا يوَجِّه ويشكل وجودهم بأكمله. كان هذا الاختيار يستلزم دوافع سياسية وثقافية وأيديولوجية عميقة، يمكن التشكيك فيها أو إعادة النظر فيها أو تصحيحها، ولكنها كانت تشكل نقطة الانطلاق لتجربة الواقع.
يمكن القول إن هؤلاء الثوريين قد تجاوزوا ثنائية ماكس فيبر (1864-1920) بين السياسة كميل/موهبة والسياسة كمهنة. ولكن ينبغي أن نضيف أن السياسة عند الثوريين المحترفين قد تكون كل شيء ما عدا فرصة لصنع ” نجاح مهني“. إنها بالأحرى خيار يستلزم التخلي التام عن أي مهنة جيدة الأجر ومحترمة ومرموقة. كان خيارًا يجعل المرء جزءًا من نوع من المجتمع المضاد.
أن يكون الشخص ثوريًا محترفًا كان يعني قبول العيش بتواضع شديد، وغالبًا في ظروف مادية هشة. وعندما لم تكن الموارد المالية لحركتهم تتيح الحصول على رواتب ضئيلة، كان بإمكان هؤلاء الرجال والنساء أن يكتبوا للصحف والمجلات، أو يترجموا وينشروا كتبا، أو أن يقدموا أحيانًا ندوات في الجامعات، كما فعل ليفيو مايتان أيضًا. ولكن هذه لم تكن اختيارات مهنية بل كانت وسائل تتيح القيام بنشاطهم الرئيسي، نشاط الإعداد للثورة.
خلق اختيار نمط الحياة هذا شخصيات في موقع ما بين البوهيميين والرهبان، موزعة بين الحرية الكاملة والانضباط الذاتي الأشد صرامة، بين رفض كل الأعراف وبين ضرب من الزهد. وصف ماكس فيبر أخلاقيات العمل البروتستانتية بأنها شكل من أشكال الزهد ”الداخلي“. أعتقد أن أخلاقيات مماثلة كانت موجودة لدى الثوريين المحترفين. وكتبت حنة أرندت (1906-1975) في كتابها ”التقليد الخفي“ (1943): ”كان المتمردون ’منبوذين‘ بوعي منهم، ليس لأنهم كانوا بائسين (رغم أنهم لم يكن لديهم إرث يدافعون عنه)، ولكن لأنهم يتحملون بوعي وضعهم الهامشي.
أسلوب حياة
كانت إحدى فضائل ليفيو مايتان العظيمة أنه تجنب مخاطر العصبوية والدوغمائية التي يُـعَـِّرضُ هكذا وضعٌ هامشيٌ لها حتمًا هؤلاء الثوريين المحترفين. كان مختلفا تماما، بثقافته ومزاجه، عن القادة الكاريزميين للزمر العصبوية الصغيرة، هذه الآفة المستشرية في تاريخ الحركات الثورية، لاسيما الحركة التروتسكية. كان عيبه بالأحرى فرط تواضع حَدَّ من طموحاته الشخصية.
جلي أن خيار الحياة كان له أساس أخلاقي متين. خيار الكفاح ضد الاضطهاد والظلم، والاقتناع بمقدرة المقهورين على تغيير العالم، والرهان على مقدرة البشر على تحرير أنفسهم. ولأن الثورة كانت أفقا عالميا، فقد وجهت هؤلاء الرجال والنساء نحو الكوزموبوليتية.
يجسد ليفيو مايتان هذا التقليد. وكرّس الكثير من حياته، بصفته قائدًا للأممية الرابعة، للسفر من بلد إلى بلد، وحضور مؤتمرات علنية واجتماعات سرية، والتحدث إلى قادة الأحزاب والحركات والنقابات والجماعات في أربع قارات. و كتُبُه شهادة بليغة على هذا النشاط.
إن الجمع بين هذه السمات – رفض امتهان عمل وقبول هشاشة دائمة، مع اقتناعات راسخة، وحافز أخلاقي قوي وحركية شديدة – يشير إلى أن حياة الثوري المحترف كانت أيضًا حياة تضحيات هي الوجه الآخر لرفض الامتثالية. وبوجه خاص، التخلي عن حياة عادية. في كثير من الحالات، لم تفلت حياة الثوريين المحترفين من تراتب الجنسين في المجتمع البطريركي. كان عدد منهم معتمدا على شريكته من النساء اللاتي كنّ يربين أطفالا أو لديهن عمل مهني قار.
لم يحدثني ليفيو مايتان قط عن حياته الخاصة، إذ كان خجولًا للغاية بشأنها. فسيرته الذاتية ” La stradapercorsa  “ (الطريق المسلوك، 2002)، سيرة سياسية حصريًا ولا تكاد تذكر علاقاته الغرامية أو شريكاته أو أطفاله الذين يبدو أنهم عاتبوه على ذلك. وهذه أيضًا إحدى عواقب اختيار الثورة أسلوبَ حياة.
منشورات في الأطراف
كان لهذا الخيار الوجودي انعكاساتٌ حتمية على طموحاته الفكرية. فقد ترك ليفيو مايتان جملةً وفيرة من الأعمال الغنية بتنوع المواضيع المتناولة وبأصالة تحليلاته وعمقها. لكن هذه التحليلات كانت محصورة دائمًا تقريبًا في صحف الأممية الرابعة ومجلات، أو في دور النشر التي ظهرت على أطرافها.
أما في إيطاليا، كان الجمهور يعرفه بشكل أساسي مترجما لكتابات ليون تروتسكي ومُثقِّفا بها. كان لديه تكوين فكري كلاسيكي وثقافة ثرية، لكنه كان يكتب أساساً للمشاركة في نقاشات استراتيجية ولإطلاق جدل، ساعياً إلى توجيه منظمة أو إلى تعميقٍ نظري لمشكلات ملائمة سياسيا. لا أعتقد أنه سعى قط إلى كتابة نص لإرضاء رغبة فكرية شخصية أو حميمة.
لم يسعَ قط، وهو الرجل الحزبي، إلى كتابة أعمال نظرية طموحة مثل أعمال رفاقه المقربين مثل إرنست ماندل أو دانيال بنسعيد.
تؤسفني شخصيًا هذه التضحية الطوعية التي قدمها ليفيو مايتان. إنها ثمرة تواضع كبير ولكن أيضًا، على الأرجح، ثمرة قصر نظر سياسي ما.
كان لتاريخ التروتسكية في إيطاليا أن يكون مختلفاً لو أنها وجدت انغراسا تاريخيا أكثر صلابة، وتعريفاً سياسياً أشد قوة، وبلورة نظرية أمتن. لم يكن لها أبدًا ذلك التألق النظري الذي حظي به تيار الأوبراييزم opéraïsme الذي وضع أسسها أولًا مجلة كوادرني روسي (1961-1966) وكتاب ماريو ترونتي ”عمال ورأس مال“، ثم العمل اللاحق لتوني نيغري. كان ليفيو مايتان الشخص الوحيد القادر على إنجاز هكذا مهمة، لكنه اعتبر ترجمة أعمال تروتسكي ونشرها أولوية.
قرر، في العقود اللاحقة أن يعهد بمداخلاته المدققة حول أزمة الماركسية، أو أنطونيو غرامشي، أو تاريخ الحزب الشيوعي الإيطالي، إلى دور نشر صغيرة لم تصل إلى جمهور أوسع. وأخشى أن يكون ذلك نتيجة اختيار وليس ظروف موضوعية.
كان هذا الاختيار راسخا في أسلوب حياة. كان ليفيو مايتان يكتب لمنظمة، وكان قراؤه وقارءاته من المناضلين/ات. بهذا النحو تصرف الثوريون المحترفون دائمًا، من روزا لوكسمبورغ إلى فلاديمير لينين وليون تروتسكي، وقد سار على نهجهم.
أما ماريو ترونتي (1931 – 2023) وتوني نيغري (1933 -) [ توفي نيغري لاحقا لهذا النص في ديسمبر2023] فقد كانا أستاذين جامعيين، وكذلك إرنست ماندل ودانييل بنسعيد. ولم يمنعهما اشتراكهما في تجارب ونقاشات وخيارات مع شخصيات مثل ليفيو مايتان، مع مشاركتها في قيادة الحركة نفسها، من الانتماء إلى عالم اجتماعي آخر مكّنهم من أن يكونوا، في ذات الآن، مثقفين عامين وقادة سياسيين. وربما كان هذا ما افتقرت إليه التروتسكية الإيطالية في الستينيات، لما كان لها أوسع تأثير.
بين التاريخ والسياسة
دعوني أنتقل الآن من حياة ليفيو مايتان إلى أعماله. إذا كان التاريخ قد أثبت أنه على صواب، فليست تلك حال السياسة، على حد تعبير الناشطة النسوية الإيطالية ليديا سيريلو. وكما أشار رينهارت كوسيليك، ليس المنتصرون أفضل مفسري التاريخ. فالمساهمة الأعمق في معرفتنا بالماضي تأتي من المهزومين، الذين لا تكون نظرتهم تبريرية بل نقدية.
دافع ليفيو مايتان عن قضايا عادلة كان مصيرها الهزيمة دائمًا تقريبًا. لقد أجاد الاختيار في عشرينات عمره بالمشاركة في مقاومة الفاشية، ثم بالانضمام إلى الأممية الرابعة، رافضًا ابتزاز الحرب الباردة التي قسمت العالم إلى كتلتين متعارضتين. كان محقًا في رفض الاختيار بين الإمبريالية الأمريكية والستالينية.
لم يكن اختيار المرء أن يصير تروتسكيا أمرا طبيعيا ولا بديهيا في إيطاليا نهاية الأربعينيات. أن يكون المرء شيوعيًا هرطوقيًا معاديًا للستالينية يعني أن يحكم على نفسه بالعزلة، وقلة نادرة من الناس اختارت هذا الطريق. ولكن هذا الاختيار أنقذ شرف اليسار.
ترجم مايتان كتاب تروتسكي ”الثورة المغدورة“ (1936) في العام 1956، وهو عام الغزو السوفيتي للمجر. وبعد سنوات قليلة، نشر مجلدًا عن إرث تروتسكي بالاشتراك مع أينودي، ثم ترجم نصوص المنشقين اليساريين البولنديين ياتسيك كورون وكارول مودزيلوفسكي.
وكان في إيطاليا من القلة التي أدانت الستالينية دون سقوط في معاداة الشيوعية. وقد اتبع العديد من الاشتراكيين الذين عرفهم في فترة ما بعد الحرب هذا المسار ، كما فعل مثقفون مثل نيكولا كيارومونتي وإغنازيو سيلوني، الذين انحازوا في نهاية المطاف إلى المؤتمر من أجل الحرية الثقافية [**].
وكان اختياره مساندة الثورات المناهضة للاستعمار فيما كان يسمى آنذاك «العالم الثالث» صائبًا أيضًا. في حالة ليفيو مايتان، كان هذا الدعم متحمسًا وسخيًا وملموسًا، وكان نابعًا بشكل طبيعي من الكوزموبوليتية الثورية المذكورة أعلاه. لقد كان رحالةَ الثورة العالمية، من تشيلي إلى الأرجنتين، ومن بوليفيا إلى المكسيك، ومن الجزائر إلى إيران.
وتُوضح كتاباته عن هذه الحركات الثورية بجلاء هذا الالتزام. وقد أثمرت هذه التجارب صداقات كثيرة وصراعات مريرة أحيانًا. وقد مد هذه الثورات بأفكار وتجارب والدعم المادي الذي كان بوسع الأممية الرابعة.
الدخولية من نوع خاص
مسألة ما يُعرف بالدخولية في الأحزاب الشيوعية أكثر تعقيدًا. إنها استراتيجية كان ليفيو مايتان، منذ العام 1952، أحد ملهميها الرئيسيين. ليست الدخولية، في تصوره، عملية تآمرية تروم اختراق الأجهزة أو الإعداد الخفي لانشقاقات، وفقًا لرؤية ميكافيلية للسياسة غريبة عنه تمامًا. فالإستراتيجية التي يفضل، والمعروفة باسم ”الدخولية من نوع خاص“، تقوم على الملاحظة الموضوعية لقوة الشيوعية.
والحالة الإيطالية دليل صارخ على ذلك. فقد كان الحزب الشيوعي الإيطالي يضم، في خمسينيات القرن الماضي، أكثر من 2 مليون عضو، مع انغراس اجتماعي مذهل وهالة استثنائية نابعة من المقاومة ضد الفاشية . وقد منحت هذه القوة كرامة وتمثيلا سياسيا لملايين الشغيلة، وأدت وظيفة لا غنى عنها في الدفاع عن مصالحهم الاجتماعية، وفي حالات كثيرة، وظيفة تربوية لتعليمهم وتطورهم الثقافي.
كان الحزب الشيوعي الايطالي حزبًا مفعما بالتناقضات، عموديًا واستبداديًا، مع فجوة مخيفة بين قادته وقواعده التي غالبًا ما كانت بالكاد تعرف القراءة والكتابة. كان حزبًا ستالينيًا تربطه صلات عضوية بموسكو، ولكنه ساعد في بناء جمهورية ديمقراطية في إيطاليا. كان الانضمام إلى هذا الحزب لإسماع صوت معارض خيارًا صائبًا مدفوعًا برفض العصبوية.
لكن إيطاليا ما بعد الحرب كانت تتغير بوتيرة مدوخة. كان تكوينها الاجتماعي يتغير، والطبقة العاملة تتغير من الداخل، وجماهير ضخمة تنتقل من الريف إلى المدن ومن الجنوب إلى الشمال. وظهرت، في الآن ذاته ، الجامعة الجماهيرية ومعها جيل متمرد جديد.
كانت التروتسكية الإيطالية جعلت نفسها تعبيرا عن هذا التغيير العميق. يكفي التفكير في التجربة الوجيزة ولكن الهامة لأسبوعية مثل ”لا سينيسترا“La Sinistra  أو إنشاء دار نشر مثل ”سامونا إي سافيلي“Samonà e Savelli, التي عملت مدة عشرين عامًا كمعادل إيطالي لدار النشر الفرنسية ”ماسبيرو“Maspero أو دار النشر البريطانية ”فيرسو“Verso.
ومن المفارقات أن ليفيو مايتان ورفاقه لم يفهموا كل الآثار المترتبة.
يشير مايتان، في سيرته الذاتية، الى التأخير بالغ الضرر الذي قرر به تياره وضع حد لممارسته الدخولية، بين نهاية 1968 وبداية 1969، مع عزوه هذا ”الارتكاس المحافظ غير الواعي“ إلى اعتبارات تكتيكية بحتة. في الواقع، أعتقدُ أنه لم يدرك البعد السياسي للتغيرات العميقة الجارية في إيطاليا. قادته ثقافته إلى النظر إلى الحركة العمالية عبر الموشور الحصري للحزب الشيوعي الإيطالي والنقابات، ولكن هذا الفهم للواقع قد عفا عليه الزمن.
عام 68 الزاحف
ظهرت طبقة عاملة جديدة لم تكن تريد «انعتاق العمل» (وفقًا للرؤية الاشتراكية الديمقراطية القديمة)، بل كانت تمارس «رفض العمل» (rifiutododellavoro). ظهر طلاب لم يعودوا يناضلون من أجل الحق في الدراسة (الذي تم الظفر به الآن إلى حد كبير) بل من أجل نقد جذري لـ «الجامعة البرجوازية» ولمجتمع السوق. جيل جديد يخرج إلى الشوارع ويريد أن يكون فاعل التغيير وذاته.
لم يكن الحزب الشيوعي الايطالي، الذي لطالما نظر بريبة إلى كل ما يفلت من سيطرته، يستطيع أن يوجه هذا التمرد. كان تيار الأوبيرايزم، بنظريته عن ”العامل الجماهيري“ و”التكوين الطبقي“، يفهم بنحو أفضل ما كان يجري، وربما كان هذا أحد الأسباب التي جعلته مهيمنا ثقافيًا في اليسار الراديكالي خلال ”68 المديد“ في إيطاليا.
بالطبع، كان العديد من الانتقادات التي وجهتها باندييرا روسا Bandiera Rossa ، الأسبوعية التروتسكية الإيطالية، إلى جماعات اليسار الجديد مثل لوتا كونتينوا Lotta Continuaوبوتيري أوبيرايوPotereOperaio، وجيهة. لكن، عندما تعلق الأمر بتشخيص الميول الكامنة في تلك الحقبة، كان تيار الأوبيرايزم أنفذَ بصيرةً. انتقد ليفيو مايتان ”التشوهات النظرية“ لهذا التيار دون كشف مقدماته التاريخية.
وبهذا المعنى، أثبتت سياسات عام 1968 خطأه. فقد كان يعتقد أن الحزب الشيوعي الايطالي سيوجه موجة جديدة من التجذر السياسي الطلابي والنسوي والعمالي. وعندما أدرك أن هذا التجذر قد حدث خارج الأحزاب اليسارية التقليدية، كان قد فات الأوان. في أوائل الستينيات، كان التروتسكيون يقودون معظم اتحادات الشباب في الحزب الشيوعي. وبحلول عام 1968، كانت نسبة كبيرة جدًا من أعضائها وقادتها قد غادرت الحزب وانضمت إلى قوى اليسار الراديكالي الناشئ.
لم تتمكن التروتسكية الإيطالية قط من إقامة حوار فعال مع تيار الأوبراييزم الذي شكل عمودا فقريا فكريا لليسار الجديد في إيطاليا. في عام 1964، جمعت مائدة مستديرة بين باندييرا روسا وكواديرني روسي مفكرين مثل فيتوريو ريزر Vittorio Rieser (1939-2014) ورانييرو بانزيريRanieroPanzieri (1921-1964) ورينزو جامبينو Renzo Gambino (1922-1972)، ولكن لم تتم متابعة ذلك. لقد كانت فرصة مضيعة، إذ كان من شأن تلك المواجهة ان تكون مثمرة لكلا التيارين، بل ربما كانت ستؤدي إلى نتيجة مختلفة لجهود اليسار الجديد في العقد اللاحق.
إبان السبعينيات، وبعد أن أدرك ليفيو-مايتان أن موسم الدخولية قد انتهى، اعتقد أن دور التروتسكيين كان يتمثل في تقديم برنامج لتوحيد أقصى اليسار. لكنهم فعلوا ذلك باقتراح نموذج حزب لينيني، أي بالضبط ما كان اليسار الجديد يحاول تجاوزه ببراغماتية وارتباك. أثبتت السياسة خطأه مرة أخرى.
أيام حرب الغوار (حزب العصابات)
هناك تناقض صارخ بين «الارتكاس المحافظ غير الواعي» الذي منعه من استيعاب التحولات الجارية في إيطاليا وبين الهروب إلى أمام – لا أعرف كيف يمكنني تعريفه بطريقة أخرى – الذي قاده في الوقت نفسه إلى التنظير للخيار الاستراتيجي لحرب الغوار في أمريكا اللاتينية. كان ليفيو مايتان أحد الملهمين الرئيسيين لهذه الاستراتيجية، وكان مسؤولاً عن صياغة مقررات مؤتمر الأممية الرابعة التاسع في عام 1969، والتي أعاد المؤتمر التالي في عام 1974 تأكيد جوهرها.
في إيطاليا، انتقد مايتان إرهاب منظمة الألوية الحمراء الذي يشل الحركات الجماهيرية، ويدفع الحكومة نحو «حالة استثناء» قمعية. أما في الأرجنتين، حيث لم يكن بالإمكان تكرار التجربة الكوبية، فقد دعم مقاتلي غوار الجيش الثوري الشعبي، الجناح العسكري لفرع للأممية الرابعة في الأرجنتين. حتى أن الحكومة الأرجنتينية طلبت منه التوسط للإفراج عن أحد أطر شركة سيارات فيات الذي اختطفه كوماندو من الجيش الثوري الشعبي.
أسفر انعطاف حرب الغوار عن نتائج كارثية، وكلفة عالية جدًا في الأرواح البشرية. عرف ليفيو مايتان العديد من هولاء القتلى وأشاد بهم في سيرته الذاتية، لكنه لم يناقش جديا نتائج تلك الاستراتيجية. واكتفى في كتاب تاريخه للأممية الرابعة بسرد رصين، مطبوع أحيانًا بنكهة تبريرية لا تنفذ إلى عمق الموضوع. وفي مقدمته للكتاب، يصفه دانيال بنسعيد بتساهل بأنه ”ناقص وجزئي“.
تشارك ليفيو مايتان مع جيل من ثوريي أمريكا اللاتينية وهم أن تكون حرب الغوار الطريق إلى الثورة في القارة بأكملها. لم يتشارك هذا الوهم من خارج فحسب، بل كان أحد المسؤولين عنه كمنظر واستراتيجي.
كان نافذ البصيرة أكثر عندما تعلق الأمر بتفسير الثورة الثقافية الصينية. فهو لا يرى في هذه الفترة المضطربة انفجارًا تحرريًا، بل أزمة نظام مطبوعة بمواجهة عنيفة بين تكتلين من البيروقراطية الشيوعية، وهو صراع نجح ماو في تجاوزه بتعبئة قاعدة الحزب. تحليلاته جيدة، ويظل الكتاب الذي خصصه للثورة الثقافية من أهم أعماله، حتى وإن كانت تحذيراته من تأثير الماوية محدودة التأثير في اليسار الراديكالي.
طريق المقاومة
حتى في نهاية حياته، أثبت التاريخ أن ليفيو مايتان كان على حق، و سياسته على خطأ، عندما شارك بسخاء وحماس في تجربة ”ريفوندازيوني كومونيستا“ (حزب إعادة البناء الشيوعية). فبعد سقوط حائط برلين وانهيار الاتحاد السوفيتي، لم يستسلم لانتصار الرأسمالية في نسختها الأكثر فظاظة ظاهريًا، أي النيوليبرالية، بل شرع على الفور، وبثبات رزين، في طريق المقاومة.
لم يكن يشاطر إرنست ماندل وهمه بأن ألمانيا في نهاية الثمانينيات قد أصبحت مرة أخرى نواة الثورة العالمية، وحلقة وصل بين الثورة المناهضة للرأسمالية في الغرب والثورة المناهضة للبيروقراطية في عالم ”الاشتراكية القائمة بالفعل“. أتذكر محادثة في عام 1991 قال لي حينها إننا عدنا قرنين من الزمان إلى الوراء، ويجب أن نبدأ من صفر، كما في أصول الحركة العمالية. لكن هذا المنظور لم يثبط عزيمته.
لقد أثبتت السياسة خطأه، ليس لأنه كان مخطئًا في المشاركة في بناء حزب اعادة البناء الشيوعية، بل لأنه لم يفهم أن هذا الحزب كان يستجيب لمجيء قرن جديد وهزيمة تاريخية بأدوات الماضي وهياكله وأفكاره. وقد جرت محاولة توليف الحركات المناهضة للعولمة في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين مع الحزب الجديد، لكنها فشلت.
لقد جسّد ليفيو ميتان الثورة كما جرى تصورها وعيشها في القرن العشرين، وهي حقبة بطولية ومأساوية منتفية. يستحق إرثه أن نتذكره ونفكر فيه بشكل نقدي، لكن اليسار الراديكالي في قرننا هذا سيتبع مسارات أخرى.
=====[*] كتب هذا النص عام 2023[**]: المؤتمر من أجل حرية الثقافة، تأسس عام 1950 ومقره بباريس، جمعية ثقافية مناهضة للشيوعية تمولها وكالة الاستخبارات الأمريكية CIA
=====
إينزو ترافيرسو مؤرخ وأستاذ في جامعة كورنيل في الولايات المتحدة. ألّف العديد من الكتب منها :
*Les marxistes et la question juive
*La violence nazie (La Fabrique, 2002)
* , Mélancolie de gauche (La Découverte, 2016),
Les Nouveaux visages du fascisme (Textuel, 2016) –
Révolution : Une histoire intellectuelle
ترجم من كتبه الى العربية: نهاية الحداثة اليهودية، تاريخ انعطاف محافظ، ترجمة محمد الجرطي، دار صفحات للراسات والنشر والتوزيع، 2020

 

***********************

 

ليفيو مايتان: حياة من الالتزام الثوري – تاريخ بلا تجاعيد

بقلم، دانيال بن سعيد، باريس 2006

مقدمة دانيال بنسعيد لكتاب ليفيو مايتان «من أجل تاريخ للأممية الرابعة، مسار شيوعي نقدي»
تمثل مساهمة ليفيو مايتان في تاريخ الأممية الرابعة شهادة حية ونقل إرث في آن واحد.

والواقع أنه كان ضمن آخر من بوسعهم القيام بذلك، أحد آخر قدماء جيل اكتشف، في نهاية الحرب، في تعارض مع النشوة المحيطة وأسطورة ستالينغراد المجيدة، «جرائم ستالين»، دون انتظار إفشاءات تقرير خروتشوف أو أرخبيل سولجينتسين أو الحصيلة المروعة للكتاب الأسود للشيوعية [*]. لم يكن هناك الكثير ممن تجرأوا على معاكسة التاريخ. ربما كان من الضروري، لتفادي الاستسلام للاعقلانية السائدة آنذاك، التحلي بنوع بطولة العقل، وكذا بتصميم شرس على فهم ما هو غير قابل للفهم، وفك رموز التاريخ الهيروغليفية، وفصل تشابك الأسباب والنتائج.
يشهد كتاب ليفيو على هذه الجهود التي بذلها بمثابرة طيلة أكثر من خمسة عقود. إنه يُنْصِف، دون عاطفة لا فائدة فيها، تلك الحفنة من الرجال والنساء الذين رفضوا اختيار «معسكر» ما، وفقًا للخطاب الثنائي البسيط للغاية «من ليس معي فهو ضدي»، والذين قاتلوا على جبهتين، ضد العدو الرئيسي (ديكتاتورية رأس المال الإمبريالية) وعدو يعتبر ثانويًا ولكنه لا يقل شراسة (الاستبداد البيروقراطي).
كم من سخرية واستهزاء استهدفا هؤلاء المناضلين، المعرضين غالبا للقمع المزدوج من العدو المعلن من جهة، وما كان غير مقبول أخلاقياً أكثر من ذلك من أولئك الذين كان ينبغي أن يكونوا رفاقهم في السلاح. لقد تطلب الأمر كل اقتناعهم واستقامتهم لإنقاذ ضحايا عمليات التطهير والمحاكمات من الكذبة التاريخية الكبرى: أندريس نين الذي قُتل في أقبية ألكالا دي هيناريس، وإغناس ريس، ورودولف كليمنت، وتا ثو ثاو، وكريستيان راكوفسكي، وليون تروستسكي وغيرهم الكثير من المجهولين، الذين قضى عليهم جميعًا قاتلوهم. في منتصف ليل القرن، كانت «أخلاق سياسية جديدة» تطرق باب العصر الجديد، تذكرنا في كثير من النواحي بعصر النهضة، «متجاوزة إياه في مدى ودقة قسوتها وحشيتها […] [لم يكن هناك عصر بهذه السخرية والوحشية والقسوة مثل عصرنا]. لم يكن بإمكان تروتسكي الذي كتب هذه السطور في مقدمة عمله غير المكتمل ”ستالين“ أن يكون على علم بالإبادة الجماعية في غرف الغاز والإبادة النووية في هيروشيما. ولكنه كان قد اختبر بالفعل ”مصنع الأكاذيب العظيم“ الذي أصبح عليه النظام البيروقراطي في الكرملين.
في المحاكمات الستالينية، «وحدهم التروتسكيون لم يكونوا يعترفون»، وفقًا للإشادة التي خصهم بها قائد الأوركسترا الحمراء، ليوبولد تريبر، في مذكراته. لم تكن المسألة، أو على الأقل لم تكن المسألة المهيمنة، مسألة سيكولوجيا أو قوة روح، بل مسألة اقتناع وفهم لما كان على المحك، وهما الأمران الوحيدان اللذان مكنا من الحفاظ صواب الوجهة، وتجنب جنون أزمنة الأفول. فكيف يمكن تجنب خيبة الأمل أو اليأس أو الجفول أو اللامبالاة المستسلمة؟ كما قال ديفيد روسيه، وهو أحد الناجين من المعسكرات النازية ومحلل مسنبصر لعالم معسكرات الاعتقال: «خيبة الأمل شيء تافه»، «يجب بالأحرى فهم ما يجري». إن المحبطين وضحايا الجفول وخيبة الأمل لا يفسرون شيئًا، لأنهم يؤيدون عكس ما كانوا يدعمون سابقًا «بنفس السلطة التي لا يمكن زعزعتها». كم من الستالينيين القدامى التائبين، وكم من الماويين القدامى المحبطين، وكم من المتعصبين المتحولين والمؤمنين المحبطين أكدوا هذا التشخيص جيدًا!
وكان مُهِمّاً امتلاك مقدرة مقاومة هذه الاستسلامات وعمليات التحول المذهلة: «إن خيبة الأمل ترف لا يمكن ان نسمح به لأنفسنا. المعضلة بسيطة ولكنها حتمية. ترك الصدفة تقرر أو الفهم والفعل. إذا لم يتبع التاريخ المسار الذي توقعناه، فهذا ليس خطأ الشيطان». في كتابته لهذه السطور، ظل ديفيد روسيه، رغم أخطائه، مخلصًا لروح معينة من تروتسكية شبابه. يمكن أن توضع تعليقاته هذه استشهادا في مطلع كتاب ليفيو مايتان. الفهم، قبل كل شيء. فهم لماذا لم تنته الحرب العالمية الثانية بإطاحة البيروقراطية السوفيتية، وبموجة ثورية جديدة. وفهم الديناميات الجديدة لرأسمالية كانت في حالة احتضار. فهم تناقضات المجتمعات المنبثقة عن هذه التشنجات، وأشكالها غير المسبوقة، سواء تعلق الأمر بالثورة اليوغوسلافية أو الثورة الصينية أو تشكيل «الستار الحديدي» في أوروبا الشرقية. وفهم الثورات الأولى المناهضة للبيروقراطية في برلين الشرقية عام 1953، وفي بودابست عام 1956، وفك ألغاز الثورة الثقافية الصينية – طالما الأمر يتعلق بمسألة «الفهم من أجل الفعل»، ولو بنحو محدود، وبموارد قليلة، من أجل الحفاظ على الصلة الهشة، المشدودة الى حدود الانقطاع، بين النظرية والتطبيق العملي.
سخر المفكرون الامتثاليون كثيرا من هؤلاء التروتسكيين المتخصصين في الافراط في تفاصيل النقاش بلا نهاية، وفي انشقاقاتهم الكثيرة. فعندما يتقلص سطح التجربة، وعندما يضعف الاتصال بالجماهير، يكون هناك ميل ضار للمبالغة في الاختلافات النظرية، واستخلاص استنتاجات سريعة منها، وتهويل الاختلافات التي هي في النهاية سخيفة ومؤقتة. هذا هو ثمن عدم التناسب المأساوي بين شاعرية الأفكار وحدود الواقع . وقد تكون هذه الدينامية أشد تدميراً عند الاقتناع بأن «أزمة الإنسانية هي أزمة قيادتها الثورية» وادعاء حلها، وهي مهمة خلاصية، منطوية على مسؤولية ساحقة، تدفع إلى رفع الكلفة مع التاريخ، ويمكن أن تؤدي إلى جنون العظمة المرضي.
كان ليفيو يتمتع بالكثير من الفكاهة والسخرية على الذات لا تسمحان له بالاستسلام لذلك. من خلال تصفح تقاريره عن مؤتمرات الأممية الرابعة، التي تتخللها انقسامات ومصالحات، وبالرجوع إلى الوثائق المصفرة بفعل الزمن، يتضح أن الجدل، الذي كان أكثر مسرحية لأنه كان يجري أمام قاعات فارغة (أي في ظل لامبالاة الجماهير)، لم يكن يتعلق بأكثر ولا أقل من المسائل الحاسمة في تلك الحقبة:
دلالة الستالينية والدور العالمي للاتحاد السوفييتي، وديناميات النضال التحرري وثورة المستعمرات، ومكانة الصين في العالم، وتحليل الثورتين الجزائرية والكوبية، وتحولات الطبقات الاجتماعية في الرأسمالية الشائخة، وهكذا دواليك.
بالعودة إلى خمسين سنة هذه من النضال، ومعظمها ضد التيار، لا يدعي ميتان أنه يكتب تاريخ الأممية الرابعة. وسيكون أمر القيام بذلك متروكًا للمؤرخين، مع المساهمة القيمة التي قدمها، حتى مع نصيبه المفترض من الذاتية. وبالتالي، قد تبدو النظرة المسقطة على الخلافات المحيطة بالكفاح المسلح في أمريكا اللاتينية ناقصة ومتحيزة للكثيرين منا. وقد يكون هذا الأمر قابلاً للنقاش، ولكننا لا نستطيع أن نأخذ عليه ذلك، فهو كتاب منحاز، ليس فوق الصراع بل في قلبه حتى النهاية. توقفت المخطوطة بشكل مفاجئ في عام 1995 مع محاضر المؤتمر الثالث عشر للأممية الرابعة ومذكرات العمل حول رحيل إرنست ماندل. هذا الانقطاع والرحيل لهما قيمة رمزية. فقد انتهت حقبة وجيل مع انتهاء الفصل الأخير من «النظام العالمي الجديد». كان ليفيو مايتان أحد الأشخاص الذين نقلوا هذا الإرث إلى جانب ماندل ومعلمهم بيار فرانك.
ولكن كما قالها الراحل جاك دريدا بقوة ووضوح، «الوراثة ليست ملكية، ثروة يتم استلامها وإيداعها في البنك»؛ إنها «تأكيد نشط»، وليست ملكية، بل صيرورة تبدأ مرة بعد أخرى، دون توقف.
في الختام، بعض كلمات وداع ومودة شخصية لليفيو. التقيت به في عام 1967، عندما كانت التجربة الإيطالية ”لا سينيسترا“ نموذجًا لنا (قابل للنقاش، مع انصرام مدة). أتذكره في اجتماعاتنا اليومية في مكتب الأممية وفي مكاتب ”إنبريكور“ طوال الثمانينيات، غاضبًا من الثرثرة التي لا طائل منها ومن الاجتماعات التي كانت تبدأ متأخرة، ومستيقظًا بعد قيلولة قصيرة مقدسة بحاجب متجهم وعينين مفعمتين بالحيوية أكثر مما مضى. لكن لا شك أنه كان يعاني من نوع من الغربة والوحدة في ذلك الوقت، رغم أنه كان يواصل، وهو في سن الستين، خروجاته يوم الأحد للعب كرة القدم مع رفاقه في جريدة روج، الذين كانوا أصغر منه بكثير. وحتى إلى عام 2002، في المنتدى الاجتماعي العالمي الثاني في بورتو أليغري، عندما قام رفاقه البرازيليون بتكريمه تكريمًا مؤثرًا، كان يتألق سخريةً وروح دعابة. يبدو الأمر كما لو أنه على الرغم من الجروح والندوب الكثيرة التي تشهد على حياة نضالية طويلة مليئة بليالي الهزيمة أكثر من صباحات الانتصار، والإحباط الناجم عن تولي مهام غامضة وغير مشكورة دون أن ينعم براحة الشهرة، فإن هذا الشيخ الشاب المشاكس لم يكن على وجهه تجاعيد.
=====[*] الكتاب الأسود للشيوعية :
Le Livre noir du communisme. Crimes, terreur, répression
كتاب جماعي الفه فريق من الجامعين سنة 1997 في الذكرى الثمانين لثورة اكتوبر بغاية وضع حصيلة لضحايا الانظمة المسماة شيوعية
ترجمه عن الإيطالية كورادو دلفيني في كتاب ليفيو ميتان «من أجل تاريخ للأممية الرابعة، مسار شيوعي نقدي».
“، إصدارات لا بريش – IIRE، باريس 2020.
Livio Maitan Pour une histoire de la Quatrième Internationale – itinéraire d’un communiste critique, Editions La Brèche – IIRE, Paris  2020.

شارك المقالة

اقرأ أيضا