حرية الإضراب المهددة بالإجهاز تؤكد الحاجة إلى إعادة بناء الحركة النقابية على أسس الكفاح والديمقراطية

الافتتاحية, سياسة19 نوفمبر، 2024

تواصل عملية تمرير مشروع قانون المنع العملي للإضراب العمالي سيرها في البرلمان بتحديد يوم 26 نونبر 2024 موعداً لإيداع التعديلات على مشروع ذلك القانون بمجلس النواب.

تبدي القيادات النقابية رفضا للكيفية التي تسير بها الأمور، مُركِّزةً على إسراع الدولة دون انتظار توافق مسبق. وقد سبق أن انتقدت استعجال عرض المشروع يوم 18 يوليوز 2024 في اجتماع لجنة القطاعات الاجتماعية بمجلس النواب. ومع ذلك استأنفت يوم 13 سبتمبر 2024 لقاءاتها مع الوزير المعني، هذا الذي صرح أن الحكومة «لن تمرر قانونا يكبل الحق في الإضراب»، وأنها أبانت عن «مرونة كبيرة في قبول اقتراحات الفرقاء الاجتماعيين، بخصوص مشروع القانون»، وأن «المفاوضات معهم، في الشهور الماضية، مكنت من إحراز تقدم كبير في عدد من المواضيع الأساسية المتعلقة به».
وكان كشف حينها أن المفاوضات مع النقابات الأكثر تمثيلية وأرباب المقاولات استغرقت 25 شهرا، وأنه تم إحراز تقدم مهم بخصوص تقريب وجهات النظر بين الأطراف. مشددا على أنه جاء للبرلمان بعد ما قطع أشواطا مهمة وكبيرة جدا في ذلك التقريب، مقرا في الآن ذاته بوجود قضايا عالقة سيستمر النقاش حولها. وكان الأمين العام للاتحاد المغربي للشغل أوضح بشأن النقاط الخلافية العالقة أن عددها 6؛ وهي جوهرية في مشروع قانون الإضراب مضيفا «.. نحن في مرحلة النقاش والإقناع وتقديم الحجج والتجارب المقارنة مع العديد من الدول».
ما خلا بيانات وبلاغات إعلان رفض صيغة المشروع، والتأكيد على وجوب التوافق، ليس في الواقع ما يدل على صدق مزاعم القيادات بشأن الدفاع عن حرية الإضراب.
كانت قيادتا النقابتين الرئيسيتين (ك.د.ش و إ.م.ش) قد دعتا منتصف الشهر الماضي،كل على حدة، إلى تشكيل كيان سياسي –نقابي –جمعوي موحد للتصدي لمشروع قانون الإضراب. الأولى يوم 16 أكتوبر وأسمته جبهة ، والثانية يوم 18 أكتوبر وأسمته تكتلا. هذا مع أن جبهةً من عدة نقابات قائمةٌ قبل هذه الدعوة بأربعة أشهر، تسمى الجبهة المغربية ضد قانوني الإضراب والتقاعد. وها قد انصرم شهر كامل على دعوتي الاتحاد المغربي للشغل والكونفدرالية إلى جبهة للتصدي لقانون الإضراب، دون إقدام على أي شيء. وحتى اللقاء الموسع الذي دعت إليه الكونفدرالية يوم 2 نوفمبر الجاري لم يصدر عنه أي إعلان.
القيادات النقابية الموقعة على اتفاق أبريل 2022، القاضي بإخراج مشروع قانون الإضراب (وجملة أخرى من المصائب)، تتعاون فعلا مع الدولة بالتفاهم حول مشروع القانون بمناقشة مفصلة له، ومواصلة العملية طيلة شهور. ستفضي العملية إلى صيغة ستسجل عليها تلك القيادات «تحفظها»، لكنها لن تترجم الرفض المزعوم إلى برنامج نضال (إضرابات بما فيها الإضراب العام، اعتصامات، ومسيرات …) وسيصدر القانون ما لم يتفجر الرفض العمالي خارج الهياكل النقابية كما جرى لمشروع النظام الأساسي لشغيلة التعليم قبل عام.
تجاهلُ وجود الجبهة المغربية ضد قانوني الإضراب والتقاعد، وتضييعُ الوقت عوض التفعيل الفوري لفكرة توحيد جهود القوى، وسوابقُ مسايرة الدولة في مشاريع تعدياتها على الطبقة العاملة بمنهجية التعاون في الخفاء والتظاهر بالاعتراض، فضلا عن أكثر من عقدين من تفادي التصدي لمشاريع قانون إضراب متتالية، كلها عناصرُ ترجح أن سلوك القيادات إزاء مشروع قانون الإضراب خلوُّ من عزم حقيقي على إسقاطه.
الأمر المؤكد، إن بقيت ثمة حاجة إلى تأكيد، للنوايا الحقيقية للقيادات هو كونها تتفاعل بكثافة مع الدولة، بمختلف مؤسساتها، برلمان ومجلس اقتصادي واجتماعي وبيئي ومجلس حقوق الإنسان، بالمذكرات و اللقاءات والمراسلات، بشأن قانون الإضراب؛ بينما التواصل مع القواعد العمالية منقطع، لا منشورات و لا ملصقات و لا تجمعات بالمقرات النقابية، ولا حملات في أماكن العمل، ضد قانون الإضراب. كل ما يعرفه الشغيلة المهتمون بصدد سير «التفاوض» حول مشروع قانون الإضراب وصلهم من تصريحات الوزير وليس من البيانات النقابية، وحتى صيغة قانون الإضراب «المتفاوض عليها» إنما أخبر بوجودها المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، والتزمت القيادات كلها بحجبها عن أنظار القواعد العمالية.
تكتيك التظاهر إزاء القواعد النقابية بالاعتراض على مشاريع تعديات الدولة، بعد تفاهم بشأنها في الخفاء مع جهات الدولة المعنية، ليس جديدا. بل صار منهجية تزيد نفور الشغيلة من التنظيمات النقابية. سبق لمسؤول سامٍ بوزارة التعليم أن كشف للعموم في قناة تلفزيون في العام 2019 أن القيادات النقابية مزدوجة الخطاب: “في الخفاء تُوافِق على أمور وفي العلن تُخالِفها”. طبعا صدرت تكذيبات من بعض القيادات، لكن ما جرى لاحقا أثبت، لمن له حاجة إلى إثبات، أن تلك القيادات متواطئة فعلا، وكان نظام المآسي الذي أشعل فتيل حراك التعليم أصلب دليل.
مسعى الدولة البرجوازية أن تُحكم منع الإضراب العمالي، منعا مباشرا وآخر مداورا، كي لا تحتاج، عند إعلان عن الإضراب، إلى إصدار المنشورات والمذكرات والبلاغات لتهديد العازمين على عليه بعقوبات وجزاءات جنائية، مثل منشور الوزير الأول لأبريل 1979 والبلاغ الحكومي ليوم 5 دجنبر 1990؛ ولا إلى التطبيقات والاجتهادات القضائية المقلصة لنطاق مشروعية حق الإضراب. ستتزود دولة رأس المال بقانون يدق المسمار الأخير في نعش حرية الإضراب، لتنصرف لشن مزيد من الهجمات التي يقتضيها نهجها النيوليبرالي.
رؤية رأس المال إستراتيجية، ففي منع الإضراب الروتيني البسيط خشية من الإضراب العام، أي نهوض الطبقة برمتها المهدد لأسس نظام الاستغلال. هذا ما عبرت عنه دولته بلسان حكومة الواجهة ببلاغ 5 ديسمبر 1990 قبيل الإضراب العام، بقول: «الإضراب العام إضراب سياسي يؤدي إلى المس بالنظام العام والأمن، ومن ثم فلا يمكن قبوله انسجاما مع العادات والتقاليد الجارية في البلدان الديمقراطية».
ما يجري استكمال لغارات دامت عقودا، وخط التراجع العميق الذي باتت عليه الحركة النقابية المغربية يعبر عنه الإخفاق في كسر الأغلال التي تكبل حق الإضراب منذ عقود :

  • الفصل 288 من القانون الجنائي،
  • مرسوم 5 فبراير 1958 المانع فصلُه الخامس إضراب الموظفين وأعوان الإدارة والمكاتب والمؤسسات العمومية ، والمعزز بمنشورات وزارية لاحقة،
  • ظهير 11 مايو 1931 وظهير 13 شتنبر 1938 المتعلقين بالتسخير

عوض فرض الحرية النقابية بقوة حركة جماهيرية يجري بناؤها بين ملايين الأجراء والأجيرات، ها نحن نسير إلى تعزز ترسانة قمع الشغيلة بقانون يبطل عمليا الإضراب. ما كفى فيل، فزادوا فيلة. وهذا غيض من فيض الحصيلة الكارثية من الهزائم المتتالية. هزائم لها جذور في إضعاف موضوعي للطبقة العاملة بسياسة رأس المال ودولته، لكن لها أيضا جذر في تخلف المناضلين/ات العماليين/ات عن بناء معارضة لخط القيادات البيروقراطية.
لا غرابة في سلوك القيادات النقابية بعد كل ما بلغت في تحريف لدور المنظمات النقابية من الذود عن حقوق الشغيلة إلى تأمين «السلم الاجتماعي»، واعتبار الإضراب «أبغض الحلال»، وإدمان «الحوار» في سياقات ضعف لا تنتج غير التفريط في الحقوق ومزيد من إضعاف التنظيم. لا غرابة أن تتلاعب القيادات بفكرة جبهة عمالية كما فعلت مع الإضراب العام حتى غدا فاقد المعنى. المعضلة في نقص الوعي بالحاجة إلى إعادة بناء الحركة النقابية على أسس النضال والديمقراطية. اخترقت التطلعات الديمقراطية التي أطلقتها الاحتجاجات الشعبية في فبراير 2011 الساحة النقابية أيضا، لكنها اصطدمت بضيق الأفق السياسي لليسار الجذري. عوض أن يعمل هذا الأخير على بناء ميزان قوى في القواعد، اختار التوافق مع البيروقراطية التي زاد خنقها لأي صبوة معارضة داخل النقابات. نعيش حصيلة هذا الاستسلام فيما يكشفه تحليل موضوعي للساحة النقابية من كوارث على الطبقة العاملة، إن على صعيد انكماش التنظيم، أو الضعف النوعي بتغييب الديمقراطية الداخلية، أو تهميش النساء، أو تراجع النضالات، الخ.
تختزن الطبقة العاملة من قوى النضال ما يتيح إعادة البناء تلك، لا ينقص غير تعميق الوعي بين طلائع النضال بالحاجة إليها. وهذه إحدى مهام الثوريين وكافة المخلصين لقضية تحرر الشغيلة ومعهم عامة الكادحين/ات.

شارك المقالة

اقرأ أيضا