طاطا: من أجل أمشاوار يحفز الكامنَ في الشعب من استعداد نضالي

بقلم؛ أزنزار

بعد كارثة الفيضانات التي أصابت منطقة طاطا (ومناطق أخرى في الجنوب الشرقي) في شهر سبتمبر 2024، والخسائر المادية والبشرية التي ترتبت عنها، بدأ التململ الشعبي للنضال، ضد تقاعس الدولة أولا ومن أجل تدخلها العاجل لتدارك آثار الفيضانات. بداية شهر أكتوبر 2024 شملت الاحتجاجات سكان جماعة قصبة سيدي عبد الله بن مبارك وسكان دوار الرحالة بنفس الجماعة، وسكان أولاد علي بوسموم بجماعة أقايغان ودوار دودرار إمنتكسلت ودوار أكادير، ودوار أوزرو في أقا…
في هذا السياق أُطلِقت مبادرة «نداء طاطا»، وعلى إثرها في واحة توݣ الريح- إقليم طاطا نُظمت بتاريخ 25 و26 أكتوبر 2024 فعالياتٌ من التشاوُر أُطلِق عليه بالأمازيغية «أَمْشَاوَارْ غُ أُودْوَّارْ» (التشاورُ في الدوار). شارك في هذه الفعاليات عينة من سكان المنطقة المتضررين من الفيضانات، فضلا عن ممثلي- ات هيئات حزبية وحقوقية وجمعوية وخبراء… إلخ. وانتهت المبادرة بإصدار بلاغ وتقرير أولي.

«أمشاوَار»: مبادرة جيدة… ولكن
«المبادرة جيدة»، هكذا أجاب أحد الحاضرين على سؤال موقع المناضل- ة حول تقييمه لـ»أمشاوَار»، مضيفا: «لكن المطلوب أن يكون هناك «إمشاوارن» وليس «أمشاوار» واحد. نتمنى أن تكون المبادرة بداية لتحرك ضد السياسة المخزنية التي يعاني منها سكان طاطا وأن يتحرك المناضلون في طاطا والقيام للاحتجاج ضد ذلك».
إن أي مبادرة تجمع السكان وتوفر لهم فضاءَ النقاش مطلوبة في سياق تشتد فيه القبضة القمعية للدولة، وتَحرِم فيه الأحزاب والجمعيات من ولوج القاعات العمومية، وتكمم الأفواه عبر قمع الصحافة، وتقمع الإضرابات وتستعد لإصدار قانون منعه العمَلي. وقد نال «أمشاوار» نصيبه من ذلك القمع، إذ مُنع من استعمال القاعات العمومية، وقامت السلطة المحلية بتحريض السكان على عدم الحضور فيه. قال حسن جعفري: «تعرض منزل القبيلة للتشميع قصد منعنا من عقد اجتماع للتداول حول الحضور في «أمشاوار». وهُددْتُ إن قمت بنقل الناس بواسطة سيارتي/ بيكوب»… يدل ذلك على هلع الدولة وتخوفها من أي مبادرة يجتمع فيها الكادحون- ات، حتى وإن كانت تلك المبادرة بقيادة أحزاب حريصة على النضال في «إطار القوانين الجاري بها العمل» وعلى «الاستقرار السياسي».
كان «أمشاوار» بادرة في هذا الاتجاه، إذ التقى فيه عدد كبير من السكان المتضررين من الفيضانات ومن تقاعس الدولة عن التدخل الفوري للإنقاذ والإسعاف، وفي نفس الوقت ضد تنمية اقتصادية تهمِّش الإقليم وتزيده فقرا.
وإذ نعتبر أنفسنا كماضلين- ات عماليين- ات جزءا من «أمشاوار»، حتى وإن لم تُسعفنا الظروف لحضوره، فإن واجبنا تجاه كادحي وكادحات طاطا هو التنبيه إلى ما اعترى «أمشاوار» من نواقص يمكن أن تجعل مبادرة تجميع السكان مقتصرة على الاستماع إلى شكاويهم، دون حفزهم للنضال، بل وطمأنتهم بأن نقل تلك الشكاوي إلى «المركز»، أي عبر القنوات الرسمية، يمكن أن يَحل محل نضالهم ويُحقق مطالبهم، وفي نفس الوقت نقاش طبيعة الأحزاب السياسية المشارِكة فيه، والتي طمأنت السكان بأنها «اليد التي يمكن أن تكون رسول السكان في مجموع التراب الوطني».
الشعب ليس كتلة من البؤس… بل قوة نضال
طيلة «أمشاوار» قام متدخلون ومتدخلات بجرد المعاناة التي عاشوها أيام الكارثة. وكأن هؤلاء ليس لهم من رأي سوى حكي المعاناة، بل وتدخَّل أحد المشرفين ليوجه أحد المتدخلين (محمد الإدريسي- فاعل جمعوي) طالبا منه «التركيز على التفاصيل المرتبطة بالفيضانات: كيف عشتموها، حجم الخسائر، طبيعة التدخل… إلخ». وظهرت نساء يذرفن الدموع حاكيات عن الليالي الطوال من المأساة ساردات ما فقدنه من ممتلكات بائسة. قدم حسن آيت اللاح (رئيس جمعية آيت ماتن- دوار القصبة، جماعة تيسينت)، توثيقا للأضرار: «30 منزلا هُدمت كليا أو تضررت جزئيا… وخسائر كبيرة في الواحة، وهي من أكبر الواحات في الجماعة والإقليم تقريبا… تقريبا %70 من الآبار التقليدية رُدمت».
لكن الشعب ليس مجردَ كتلة بؤسٍ مطلوب منه أن يحكي معاناته على أسماع «سياسيين وحقوقيين وإعلاميين»، قادمين من «المركز»، وطالبا منهم نقلها إلى ذلك المركز والترافع من أجل مطالبه، أو كما قال حسن آيت اللاح: «حمَّلني سكان الدوار الرسالة، خصوصا إلى الأستاذة والنائبة نبيلة منيب والنائب عن التقدم والاشتراكية، لكي توصلوا معاناتنا إلى المركز». الشعب قوة نضال جبارة؛ فهلاء النسوة وأولئك الرجال الذين ذرفوا الدموع، هم نفسهم من شارك في أهم حراك شعبي شهدته بداية عقد 2000: «مخيم المرضى والمهمَّشين» الذي ناضل عبره كادحو وكادحات طاطا من أجل الخدمات الصحية طيلة سنة 2005.
هذا الشعب إن انتظم من جديد ووحَّد قوته لأطلق نضالا أين منه جلسات الترافع في البرلمان وطلبِ حَمْلِ المطالب من أحزاب برجوازية لا حول ولا قوة لها.
من المسؤول؟
بالنسبة للسكان المسؤول هو مؤسسات الدولة: القيادة ورئاسة الدائرة والمجالس الجماعية، مع حرص واعٍ شديد على جعل المؤسسة المَلكية خارج المساءَلة، إذ صرَّح حسن جعفري قائلا: «تصور المسؤول الذي يمثل مؤسسات «سِيدْنَا»، يُحملنا المسؤولية لأننها اخترنا السكن قرب الوادي»… إنه أمر مفهوم أن يصدر مثل هذا التصريح عن كادحٍ يعرف تماما التكلفة السياسية لتصريح آخر… لكنهم بقول «ممثلي مؤسسات سِيدنا»، يعرفون تماما الحاكم الفعلي والحقيقي للبلد، وما دونه ليسوا إلا ممثليه. والمسافة بين اتهام ممثلي المَلك واتهام الملك نفسه ليست سوى مسافة امتلاك الكادحين- ات لتنظيماتهم- هن وتحقيق وحدتهم- هن الطبقية وثقتهم- هن في الانتصار. فالحكومة التي جرى انتقادها بشدة من طرف ممثلي الأحزاب السياسية الحاضرة في «أمشاوار» صرَّح رئيسها في بداية ولايته، أن برنامج حكومته هو برنامج صاحب الجلالة.
لكن للأحزاب السياسية البرجوازية المشارِكة في «أمشاوار» رأي آخر. فإلى جانب تحميل ممثلي الدولة محليا مسؤوليةَ ما آل إليه الأمر، تُحمِّل أيضا قسطا من المسؤولة للسكان. قال ممثل الاتحاد الاشتراكي (ماء العينين): «هل لدينا دولة مزاجية، تدعم هذه المنطقة ولا تدعم تلك؟ مؤكد أن الأمر فيه مسؤولية مشتركة». وعن مسؤولية السكان قال ماء العينين: «هناك رؤساء جماعات ينهبون المالية العمومية المحلية بشكل علني، ورغم ذلك تصفقون له وتقولون: ‹موعدنا مع الزرقاء (200 درهم) بعد خمس سنوات›. ومن يبيع نفسه يبيع معه البلاد والتاريخ». وفي نفس الوقت لم يفوت ماء العينين، كونه عضوا في «حزب المعارضة البرلمانية»، الفرصة لتوجيه اللوم إلى الحكومة: «الحكومة الحالية، ولا نقول هذا فقط لأننا في المعارضة، أبانت مرة أخرى على أنها بعيدة كل البعد عن الحس الاجتماعي». وكأن الحكومة الحالية تطبق برنامجا مخالفا لما طبقته الحكومات السابقة، لكن لماء العينين رأي آخر: «الأحزاب التي كانت تُسيِّر الحكومات السابقة، كان أعضاؤها مناضلين، لديهم حسُّ الانتماء وحاملين مشروعا مجتمعيا. الحكومة الحالية، تبيِّن في كل مرة يقع فيها مشكل في البلد، أن أعضاءها تكنوقراط يفكرون وراء الحواسيب ولا حس إنساني أو وطني لديهم أثناء معالجة الملفات التي تُعرض عليهم». ولكن من يتذكر الحكومات السابقة يتذكر خوصصة الصحة والتعليم. ونضالُ كادحي- ات طاطا سنة 2005 من أجل الخدمات الصحية المجانية والجيدة، كان ضد حكومةِ واجهةٍ مكوَّنة من الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وحزب الاستقلال والتقدم والاشتراكية، فضلا عن أحزاب إدارة (التجمع الوطني للأحرار والحركة الشعبية) على رأسها وزير أول تكنوقراطي، هو إدريس جطو.
أما نبيلة منيب، فقد رفعت مستوى النقاش، لتتناول «السياسات النيوليبرالية المتوحشة بإنتاجويتها المفرطة ونهب الخيرات والماء وتلويث الهواء والتربة، أدت إلى التصحر وأدت كذلك إلى ظهور العواصف الكبيرة، وإلى ظاهرة الفيضانات. هذه الكوارث ستتكرر وستتطلب منا مجهودا إضافيا لنتمكن من مواجهتها». لكن بعد هذه التوطئة التي لا يرقى إليها الشك، انتقلت منيب إلى ما يهمها بشكل ملموس، كسياسية برجوازية: «غياب إمكانية ربط المسؤولية بالمساءلة، وهناك فساد، وإفساد الحقل السياسي، ما أدى إلى غمره بنخب مفترسة وانتهازية، تتقن الربط بين السياسة وسلطة المال والأعمال، وهذا نتج عنه الريع والاحتكار، وعائلات اغتنت… إلخ»، والحل بالنسبة لها هو: «كان من اللازم حل البرلمان وحل الحكومة وتنظيم انتخابات جديدة، تسهر عليها جهات أخرى، وليس هذا التعديل الحكومي البائس».
بالنسبة لنبيلة منيب الحل ليس في القطعية النهائية مع النموذج التنموي القائم، رغم تصريحها: «نقوم بقطائع مع الاختيارات اللاديمقراطية واللاشعبية»، فالقطيعة المطلوبة بالنسبة لها هي في منهجية إقرار تلك السياسات وليس في مضمونها. ما يريده الحزب الاشتراكي الموحَّد هو اتفاقيات تبادل حر متفاوَض حولها بشكل يؤمِّن للرأسماليين المغاربة ولوجا عادلا إلى الأسواق، وتعليما يخدم نفس السياسة الاقتصادية التي يجب أن يتمتع بثمارها كل الرأسماليين، وليس فقط المقرَّبين من القصر… إلخ. أي اختيارات لا تضمن للكادحين- ات «السعادة» بقدر ما «تُقلِّل أسباب تعاستهم» على حد تعبير نبيلة منيب الموفَّق.
ما هي المطالب التي عبر عنها الشعب في «أمشاوار»؟
جرى التركيز في البلاغ والتقرير الصادر عن «أمشاوار»على مطالب مثل «آليات الإغاثة والتعويض» و»تطوير خطط طويلة الأمد للتنمية الاقتصادية والاجتماعية ودرء مخاطر الكوارث»… إلخ.
طبعا فالمطلب الآني لسكان متضررين من كارثة طبيعية فاقمتها سياسات اقتصادية ظالمة، هي التعويض والبحث عن ملاذ آمن… إلخ، وهو ما أكده محمد الإدريسي (فاعل جمعوي) بقول: «أنا أبحث عن سكن استطيع أن أحس فيه بالأمن والاستقرار، لي ولعائلتي»، وكرره رشيد البلغيتي (أحد المشرفين على المبادرة) بقول: «فالسكان محتاجون إلى حلول استعجالة آنية».
لكن طيلة «أمشاوار»، كان هناك مطلب رئيسي يتمحور حول الثروة الأساسية للمنطقة: «الأرض». صرح هؤلاء السكان بما لا يدع مجالا للشك بما يلي: «نحن لدينا ارتباط بالأرض ولن نفرط فيها». وقد تماهى ممثل الاتحاد الاشتراكي مع هذه التأكيد الصريح قائلا: «نعرف تشبث المغاربة بأراضيهم في مناطقهم النائية، ويقولون: «اجلبوا لنا التنمية، ولكن لن أفرط في أرضي».
يُتقن الكادحون- ات الهمسَ في أذن الحاكمين، أو ما أطلق عليه عالم الاجتماع الأمريكي جيمس سكوت «المقاومة بالحيلة». فبعد كل عبارة حول التمسك بالولاء للدولة، وهو تمسك برهنت موجات النضال الشعبي أنه هشٌّ جدا، يصرح السكان بما ليس ولا يمكن أن يكون ظرفيا: التمسك بالأرض وعدم التفريط فيها. وما يهم المناضلين- ات العماليين- ات أكثر هو التصريح الثاني (الثابت) وليس الأول (المتغير).
يمثل هذا التمسك بالأرض واحدا من ينابيع قوة الشعب وبأسه. لكن في نفس الوقت تمثل الأرض/ العقار رهان الاستثمار الرأسمالي الخاص الذي تعتبره الدولة (ومعها أحزاب شاركت في أمشاوار) قاطرة التنمية وخالق الثروة، وحسبها يجب تقويض كل العراقيل التي تقف أمام هذا الرأسمال الخاص للولوج إلى تلك الأرض وذاك العقار. لذلك فمهما بلغ عمق التمسك بالولاء للدولة وحرارة مشاعر التوافق الآني بين السكان وبين أحزاب برجوازية شاركت في «أمشاوار»، فإن مسألة الأرض تشكل عقدة التناقض بين السكان من جهة، والدولة وتلك الأحزاب من جهة أخرى.
وبدلا من رفض السياسة العقارية إياها التي تخدم كبار المستثمرين، لم يجد ممثل الاتحاد الاشتراكي (علي ماء العينين) في «أمشاوار» من حل للمسألة سوى تحميل مسؤولية ضياع الأرض للسكان ذاتهم وصراعاتهم حول الإرث، ناصحا إياهم «بتطبيق شرع الله»… وفي نفس الوقت بَسَطَ أمامهم ما ينتظرهم مستقبلا: «ستصبح هذه الواحة بعد عشر سنوات أو عشرين سنة نقطة اقتصادية كبيرة (السياحة وقطاعات أخرى)، ولكن ستكونون فيها خدما».
هذه السياسة الاقتصادية التي تجعل من الأرض مَوردا طبيعيا ومن الإنسان محض مَورد بشري يجب- حسب الدولة- تأهيلهما ليخدما تنمية رأسمالية، هي نفسها التي تدافع عنها الأحزاب المشاركة في «أمشاوار». وكل ما تطالب به هذه الأحزاب، هو نفس ما يوجد في الخطاب الرسمي: «تنمية اقتصادية رأسمالية تنعكس آثارها على شكل عدالة مجالية».
تظل مسألة الأرض إذن هي جوهر التنمية في المنطقة، والسكان واعون بذلك تماما، إذ يؤكدون بأنهم متمسكون بها ولن يفرطوا فيها، في حين أن ما تقترحه الدولة (ومعها الأحزاب المشاركة في «أمشاوار») هو توفير تلك الأرض وما تحتويه من ثروات للرأسمال الخاص، الذي يملك وحده (حسب الخطاب الرسمي) القدرة على الاستثمار وخلق الثروة التي سيستفيد منها السكان «لا محالة» في ما بعد، كما قال ممثل الاتحاد الاشتراكي في أمشاوار (علي ماء العينين): «على التنمية أن تصل؛ وصلت متأخرة، وصلت متعثرة، هذا أكيد». وهذا تصريحُ مثقفٍ برجوازيٍّ غير معني بتأمين قُوتِه اليومي، في حين أن فلاح طاطا الصغير وفقرائها مهتمون بالتنمية التي يجب ألا تصل متعثرة ومتأخرة، لأن كل تعثر وكل تأخر يعني معاناة يومية، على شكل نقص غذاء ووفيات في مستشفيات بدون أطباء ومنعدمة التجهيز… إلخ.
هل بالإمكان تنمية محلية؟
قدّم المتدخلون باسم السكان شهادات عن وضع الإقليم:
* «السكان بسطاء وأولادهم اضطروا لمغادرة الدراسة للهجرة بحثا عن العمل في المناطق الداخلية…». [حسن آيت اللاح، رئيس جمعية آيت ماتن- دوار القصبة، جماعة تيسينت].
* «واحتنا غنية (ما يقدَّر بـ 40 أو 50 ألف نخلة) ولكنها تنقرض بالتدريج». [حسين الجعفري- مستشار جماعي في جماعة سيدي عبلا أومبارك].
* «هذه المنطقة لم تعد ملائمة تماما للسكن، ولا يمكن إقناع أحد بغير ذلك». [محمد الإدريسي- فاعل جمعوي].
جوابا على هذه الوضع ورد في خاتمة التقرير الأولي الصادر عن «أمشاوار» ما يلي: «خرج المشاركون بتوصيات عملية وخارطة طريق تدفع الإقليم نحو تنمية شاملة ومستدامة، وتأمين مستقبل أفضل لسكانه بعد هذه الكارثة». وعن آلية ذلك قال رشيد البلغيتي: «إيجاد آلية إقليمية محلية لتتبع السياسات العمومية ورصدها والاقتراح والتاثير فيها».
فهل بالإمكان الحديث عن تنمية محلية بغض النظر عن نموذج التنمية القائم؟ يؤدي منطق المناداة بتنمية محلية إلى الاتفاق مع المنظور العام للدولة، الذي يُشِيدُ بـ»المنجزات الاقتصادية»، وينتقد فقط واقع أن ثمارها لا توزَّع بشكل عادل بين الجهات والمجالات والشرائح الاجتماعية. لكن المشكل في نموذج التنمية ذاته، وفي تلك «المنجزات الاقتصادية» ذاتها. فما يوجد في المغرب (سواء في المجالات الهشة أو غيرها) هو تنمية رأسمالية غايتها إنماء أرباح الرأسماليين ومنحهم جميع الامتيازات والمساعدات لخلق الثروة التي يُوعَدُ الفقراء بأنهم سيستفيدون منها يوما ما.
منظور الدولة للتنمية المحلية واضح، وتُلخِّصه «شركات التنمية المحلية»، التي صادرت أغلب صلاحيات المجالس المنتخَبة، إذ فوضت الدولة جميع الأنشطة غير الإدارية (الأنشطة ذات الطابع الاقتصادي) لشركات التنمية المحلية تلك، التي تُعتَبر قاطرة لاستفادة الرأسماليين الخواص من الصفقات والمشاريع المحلية. وسبق لمنتخَبين في مجلس مدينة الرباط أن اشتكوا من أن تلك الشركة المحلية كونها «لا تخضع لمحاسبة المنتخَبين».
المطلوب هو الدفاع عن نموذج بديل للتنمية الرأسمالية القائمة بالبلد ككل، نموذج تنمية بديل قائم على إيلاء الأولوية لحاجيات الشعب من تشغيل وتعليم وإسكان وصحة وخدمات اجتماعية عمومية، سياسة اقتصادية تقطع مع رهن اقتصاد البلد للخارج. أما القبول بنموذج التنمية القائم والمطالبة بالاستفادة من ثمارها فهو عينُه نفس ما تدافع عنه الدولة والرأسماليون… طبعا لا ينفي هذا النضالَ من أجل مطالب آنية وذات طابع محلي، ولكن إدراجها في إطار نضال وطني عام من أجل نموذجٍ تنمويٍّ اجتماعيٍّ بديلٍ ضروريُّ ضرورة تلك المطالب المحلية. وبدون ذاك النضال العام، ستتبدد النضالات المحلية في مناوشات معزولة وتتمكن الدولة من احتوائها بإجراءات ترقيعية وحتى هزمها بالقمع، كما حدث مع نضال سنة 2005 في طاطا، وانتفاضة سيدي إفني سنوات 2005- 2008.
«أمشاوار» الحالي: تبديد طاقات الشعب في قنوات رسمية
ليس المشكل في مبادرة «أمشاوار» في حد ذاتها، فمثلها مطلوب، ليس في طاطا فقط، بل في كل مناطق المغرب. المشكل في الحدود المفروضة عليها من طرف منظِّميها والأحزاب المشاركة فيها. لم تتعدَّ مداخلات المشرفين والوافدين من ممثلي الأحزاب في «أمشاوار» البالي من أساليب الترافع من أجل إقناع المسؤولين عن تهميش الإقليم ومعاناة السكان.
طالب رشيد البلغيتي من الأستاذ نبيلة منيب «أن تحول كل ما سمعته إلى أسئلة كتابة موجَّهة للحكومة المغربية، حسب القطاعات، كي تُنقذ إقليم طاطا من الوضع الذي يعيشه حاليا»، وطالب الفريقَ النيابي لحزب التقدم والاشتراكية بأن «أن يسند عضد الأستاذة نبيلة منيب، ويطرح هو أيضا أسئلة كتابية وشفوية حول الأمور الاستعجالية».
أما ممثل حزب الاتحاد الاشتراكي، فقد قال بدوره: «على المستوى النيابي، أخبركم أن الأخ شهيد أخبرني بأن الفريق الاشتراكي في مجلس النواب، طلب رسميا في مراسلة باجتماع عاجل للجنة الداخلية ولجنة القطاعات الإنتاجية ولجنة البنيات الأساسية والطاقة والمعادن والتنمية المستدامة. موضوع هذا الاجتماع هو تدارس الإجراءات والتدابير الاستعجالية التي اتخذتها الحكومة لمعالجة آثار الفيضانات وإنصاف والمتضررين والاحتياطات المتخذة لمواجهة فيضانات أخرى محتملة». لكنه في نفس الوقت أشار إلى ما يعيق هذا المسعى: «إكراهات المؤسسة التشريعية والمضايقات التي تتعرض له فِرق المعارضة، والأغلبيات المخدومة في التصويت على بعض القرارات وسحب بعض التعديلات… إلخ». كما طالب السكانَ باستعمال «حقهم الدستوري» بتوجيه عرائض، مؤكدا أن «الأمر محضٌ إجراء شكلي، ولكن على السكان أن يقوموا به». وتسائل «لماذا»؟ مجيبا: «لأنه ما يخوله لي القانون». وهو تعبير عن استراتيجية العمل السياسي لدى الحزب والذي يُطلَق عليه عادة: «حسب القوانين الجاري بها العمل».
مسعَى جَعْلِ الاستياء والنضالي الشعبيين مجرد سندٍ للأحزاب البرجوازية واضح تماما في مداخلة ماء العينين. فبالنسبة له «قوة الضغط الاحتجاجي» ليست إلا عنصرا ضمن «السياسة العمومية» وليست نضالا ضدها، في حين تشكل «القوة الاقتراحية» عنصرَها الثاني. أي أن النضال يجب أن يخدم العمل البرلماني لتلك الأحزاب، وليس العكس. وقد برهن ماء العينين على ذلك صراحة، حين برَّر غياب عبد الرحيم شهيد (رئيس الفريق الاشتراكي في البرلمان) عن «أمشاوار»، بقول: «أخوكم عبد الرحيم شهيد، تعذر عليه الحضور، لأن الأمر كان بين خيارين: أحيانا النائب البرلماني عندما عندما يتعلق الأمر بانخراط شخصي في قضية من القضايا تتجاوب مع انتمائه الحزبي، فيمكن له أن يختار، ولكن عندما يكون رئيسا للفريق النيابي فكان عليه أن يحضر جلسات خاصة بقانون المالية؛ أولا نظرا لأهمية هذا القانون، وثانيا لأن الانخراط في هذه المبادرة هو انخراط حزبي وكل من جاء ينوب عن الأخ عبد الرحيم فسيؤدي ما عليه من دور في هذا النقاش»… لكن قانون المالية هو القانون الذي يكثف مجمل سياسة الدولة المبنية أساسا على حفز القطاع الخاص (الرأسماليون) ودعمه بشتى صنوف الإعانات والتحفيزات، في حين يخصُّ الكادحين- ات بالضرائب ودُريهمات إحسانٍ تسمى حماية اجتماعية. لقد كان رئيس الفريق الاشتراكي أمام خيارين، وقد اختار أولويته؛ إذ فضل الحضور لنقاش قانون دعم الرأسماليين، وأرسل نائبا عنه ليحضر نقاش معاناة الكادحين- ات ومطالبهم- هن.
وقد ردَّت نبيلة منيب (الحزب الاشتراكي الموحَّد) على فكرة ممثل حزب الاتحاد الاشتراكي، قائلة: «الذي يقول علينا أن نستعمل العرائض. العرائض مضيعة للوقت. قُدمت عرائض حول نزع وسلب الأراضي، فيها عدد التوقيعات المطلوب: 50 ألف موقِّع، ومسجَّلين في اللوائح. ولا شيء، ولا من مجيب». وفي نفس الوقت شرَّحت وضع تلك المؤسسات التي طلب منها رشيد البلغيتي أن تنقل إليها شكاوي السكان عبر أسئلة كتابية: «هناك مشكل بنيوي على مستوى طبيعة النظام وغياب الديمقراطية؛ أي هناك استبداد وغياب إمكانية ربط المسؤولية بالمساءلة، وهناك فساد، وإفساد الحقل السياسي»، وشرَّحت بشكل موفَّق سياسات «هذه الدولة التي تحارب الديمقراطية»، لتخلص إلى أن المغرب «دولة محكومة خارجية، وتطبق التوصيات الخارجية المملاة من المؤسسات المالية التي تتحكم في بلادنا».
تفادي النضال الشعبي حرصا على «الاستقرار السياسي»
لماذا إذن كل هذا الإصرار على سلوك طريق مسدود؟ لماذا التركيز على الترافع لدى مؤسسات دولةٍ، صرَّحت المتواجدة في إحداها (البرلمانية نبيلة منيب) بأن «لا من مجيب»، في حين عدَّدَ الآخرُ (ماء العينين عن الاتحاد الاشتراكي) إكراهات السياسة التشريعية داخل تلك المؤسسات؟ يبقى التفسير الوحيد الممكن، هو خوف هذه الأحزاب مما يَحْبَل به الوضع الاجتماعي في طاطا من إمكان تفجر نضال شعبي شبيه بما عرفته سنة 2005، وإفني بين سنوات 2005 و2008 وفي الريف سنة 2017… إلخ.
صرح ممثل الاتحاد الاشتراكي (علي ماء العينين) غاضبا: «هؤلاء مواطنون على الدولة أن تحتويهم…». وبعدَ أن شخصت نبيلة منيب سياسة الدولة الاقتصادية، كانت خلاصتها عبارة عن تساؤل: «ما هو الحل؟». وكان جوابها: «هناك حاجة لتجديد الوطنية والانتماء للوطن وحب الوطن».
يبدو إذن أن هؤلاء الساسة، وهُم ساسةٌ برجوازيون وإن لبسوا رداء المعارضة، مرتعبون مما ستؤدي إليه سياسات الدولة، ليس فقط من آلام تلحق الشعب برمته، ولكن مما ستستثيره تلك السياسات وهذه الآلام من هَبَّاتِ نضال شعبي، تهدد أساس المجتمع الرأسمالي الذي يستفيد منه الحاكمون احتكارا، وتطالب تلك الأحزاب البرجوازية المعارِضة بإشراكها في مؤسسات الحكم وبتمكين أقسام الرأسماليين الذين تمثلهم تلك الأحزاب من فرص الاغتناء الاقتصادي.
هذا هو السبب الرئيس الذي يجعل تلك الأحزاب، ومعها مُنظِّمو «أمشاوار»، تحرٍص على توجيه الاستياء الشعبي الكامن في طاطا نحو القنوات الرسمية، بدل حفزه ليتحول إلى نضال شعبي، على غرار ما عاشته طاطا سنة 2005 مع مخيم المرضى والمهمَّشين.
لكن لماذا سيحرص الكادحون- ات على استقرار سياسي يؤَمِّن شروط مراكمة الأرباح لأقلية من الرأسماليين، بينما يحكم على الملايين بالعيش بؤسا والموت يأسا. يُدرك الساسة البرجوازيون، أن سياسات الدولة هي التي تهدد ذلك الاستقرار، لكن بدل حفز النضال ضدها، فإنهم يفضلون توجيه التحذيرات للدولة بأن سياساتها تهدد الاستقرار وفي نفس الوقت فرضِ حدود على الكادحين- ات كي لا يتعدى نضالهم- هن سقف مؤسسات نفس الدولة التي تضطهدهم وتقمعهم، وكي لا يتجاوز نفسَ المجتمع الرأسمالي الذي يحكم عليهم بالموت جوعا أو داخل أروقة مستشفيات بائسة…
إن الاستقرار السياسي للبلد عبارةٌ فارغة. فالبلد تسكنه ملايين الكادحين- ات وفي نفس الوقت قلة قليلة من الأثرباء الرأسماليين. واستقرار هؤلاء رهين بخراب عيش الأولين ونزع ملكيتهم- هن واستغلالهم- هن في المعامل والمزارع وشتى أماكن العمل. لن يتمكَّن الكادحون- ات من تأمين استقرارهم- هن الاجتماعي إلا إذا تمكَّنوا من زعزعة استقرار الرأسماليين ودولتهم؛ أيْ توقيف آلية استغلال البشر واستنزاف الطبيعة التي تُدر الأرباح عليهم. لذلك إذا أراد الساسة البرجوازيون الذين حضروا «أمشاوار» أن يكونوا منطقيين، وأن يكونوا فعلا ممثِّلين منسجمين حتى النهاية للسكان الذين استقبلوهم بحفاوة في طاطا، فعليهم ألا يكذبوا على هؤلاء السكان، ويخبروهم بأن مؤسسات الدولة لم تُحدَث لخدمة مصالحهم، بل لخدمة مصالح الأقلية الرأسمالية. وآنذاك فقط سيأخذ معناهُ الصحيح تصريحُ ممثلِ الاتحاد الاشتراكي (ماء العينين)، حين خاطب الحاضرين في «أمشاوار»، قائلا: «إذا لم تهتموا بأموركم، لا تبحثوا عن أحد آخر يقوم بذلك»، لكنه ناقض هذا التصريح حين قال: «أقول لكم إنكم وضعتم اليد في من يمكن أن يكون رسولكم في مجموع التراب الوطني». وتفسير هذا التناقض هو رعب الساسة البرجوازيين من اهتمام الكادحين- ات بأمورهم- هن بأيديهم- هن.
مطالب برجوازية في محفلِ شعبي
لم يقتصر الأمر على محاولة هذه الأحزاب تحويل الاستياء الشعبي نحو قنوات رسمية، بل تعداه إلى تحميله مَطالبا تخص تلك الأحزاب المعبِّرة عن طموحات أقسام من الرأسماليين، تلك الأقسام المتضررة من احتكار ما تسميه هذه الأحزاب «المخزن الاقتصادي»، للسلطة وفرص الاغتناء الاقتصادي.
وليس هذا بغريب ولا بجديد. فلأن هذه الأحزاب تفتقد تلك القوة القادرة على فرض تلك المطالب على الدولة، فإنها تستغل أي نضال شعبي من أجل جعله مطية لإيصال مطالبها إلى الدولة، وفي نفس الوقت ضبط ذلك النضال في حدود لا تهدد نفس المجتمع البرجوازي الذي تريد تلك الأحزاب الاستفادة منه.
القوة الوحيدة القادرة عل فرض المطالب هي الطبقة العاملة ومفقَّرو- ات المدن والقرى. والأحزاب البرجوازية واعيةُ ذلكَ كلَّ الوعي، لذلك تعمل جاهدة على استثمار تلك القوة لفرض المطالب البرجوازية عينُها. ولن نجد أفضل تعبير عن ذلك من قول نبيلة منيب: «علينا أن نكون مستعدين لتأسيس جبهة شعبية للنضال، ونضم معنا المثقفين ونُحملهم المسؤولية، والنقابيين والجمعويون، والسياسيين الأنقياء… لكي نكون موحدين ونكون قادرين على الدفاع عن بلادنا. لأنه أمام سلطة مفرطة تلزمك سلطة مضادة للضغط كي يحصل «العبور نحو الديمقراطية»… إن وظيفة «سلطة النضال المضادة» بالنسبة لنبيلة منيب هي «تأمين العبور نحو الديمقراطية»، وهذه الأخيرة ليست إلا تغطية لمطلب تلك الأحزاب البرجوازية تقاسُمَ السلطة مع الملكية. أما نصيب الكادحين- ات من ذلك العبور فلا يتعدى ما أسمته منيب: «إذا لم نتمكن من تحقيق السعادة، فعلى الأقل نقلل من أسباب التعاسة»، وهو عينُه ما تقوم به الدولة في إطار «الحماية الاجتماعية»؛ سياسة إحسانية «تقلل أسباب التعاسة»، لأن شرطَ تحقيق السعادة هو القضاء على المجتمع المسبب للتعاسة؛ أي المجتمع الرأسمالي، وهو ما لا تريده ولا تسعى إليه نبيلة منيب.
إنها لمفارقة تفقأ الأعين شهدناها في «أمشاوار»: كادحون- ات يطالبون من ساسة برجوازيين حَمْلَ مطالبهم- هن إلى المركز، وساسة برجوازيون يطلبون من الكادحين- ات أن يكونوا «قوة ضغط احتجاجي» لمساندة «قوة الساسة البرجوازيين الاقتراحية» داخل البرلمان، و»سلطة نضال مضادة» تؤمن لأولئك الساسة البرجوازيين «عبورا نحو الديمقراطية» يمنحهم نصيبهم من سلطةٍ يحتكرها القصر. ولكن هذه المفارقة ستنعدم حين سيتمكن الكادحون- ات من تحقيق استقلالهم- هن السياسي عن أولئك الساسة البرجوازيون، حين يمتلكون حزبهم- هن الاشتراكي؛ حزب الطبقة العاملة الذي يقود فقراءَ البلد في المدن والقرى.
قصور المقاربة القانونية
ركَّزت مداخلات عديدة على مشكل الإطار التشريعي للعقار. صرح حسن آيت اللاح (رئيس جمعية آيت ماتن- دوار القصبة، جماعة تيسينت): «لدينا مشكل كبير في العقار، فلا يمكن لقوانين حي أكدال بالرباط أن تسري علينا هنا. فلدينا مشكل كبير في رخص البناء، فمساطر الحصول عليها مقعدة وتكاليفه غالية». وعلى غراره قال ممثل الاتحاد الاشتراكي (ماء العينين): «إن قوانين التعمير جامدة، وما يمكن تطبيقه على حي الرياض، لا يمكن تطبيقه على دوار أديس». لكن قوانين التعمير ليست إلا ترجمة لمصالح الرأسماليين في مجال العقار. فكما يتضرر كادحو- ات طاطا من تلك القوانين، يتضرر أيضا فقراء الرباط منها. وقوانين التعمير والعقار، في كل جهات البلد، كلها موجَّهة لدعم الرأسماليين سواء في قطاع البناء، أو في القطاعات الأخرى (الفلاحة والسياحة والصناعة والمناجم…). وهدفها واحد: تسهيل ولوج الرأسماليين إلى الأرض والاستيلاء عليها واستغلالها. لذلك فإن المقاربة القانونية الحريصة على تعديل القوانين وملاءمتها مع الأوضاع المحلية، تظل قاصرة ما لم تستحضر المصالح المادية والطبقية التي تخدمها تلك القوانين.
نفس الشيء في ما يخص قانون الكوارث. صرح ممثل الاتحاد الاشتراكي (ماء العينين) قائلا: «السياسات العمومية في المغرب منذ 2001، بدأت تهتم بضرورة سن قوانين لها علاقة بالكوارث الطبيعية. آخر قانون 110.14 تم تفريغه من محتواه». وطالب رشيد البلغيتي (أحد منظمي «أمشاوار») بتعديل نفس القانون «لأنه لا يجيب على حاجيات السكان».
لكن هل يتعلق الأمر فقط بمراجعة القانون، أم بروح ذاك القانون ذاته؟ فهذا القانون الذي حظي بمديح من البنك الدولي، قائم على منظور «التأمين البَعْدي» وليس على «الاستباق والوقاية القَبْليين»، هكذا تتحول مآسي الناس الناتجة عن الكوارث إلى فرص مراكمة أرباح لشركات التأمين. بدل تعزيز منظومة الوقاية والتوقع، يتحدث البنك الدولي عن مشاريع مموَّلة بقروض غايتها: «تقليص مخاطر الكوارث وتعزيز القدرة المالية على الصمود في وجه الكوارث الطبيعية للسكان المستهدَفين… ومساندة نظام مبتكر للتأمين ضد مخاطر الكوارث يُغطِّي القطاعين العمومي والخاص. منح البنك الدولي للمغرب قرضا بمقدار 200 مليون دولار بتاريخ 20 أبريل 2016، لتمويل برنامج «الإدارة المتكاملة لمخاطر الكوارث والصمود في المغرب»، الذي يهدف إلى «تحسين المرونة المالية للأسر والشركات المغربية ضد الكوارث الطبيعية والبشرية».
تبنت الدولة هذا المنظور القائم على «التأمين»، وهو ما أثنى عليه البنك الدولي بقول: «اعتماد نظام مبتكر للتأمين ضد المخاطر في 2018 (القانون رقم 110-14) الذي أصبح نافذاً في يناير 2020. واستحدث القانونُ آليةَ تأمين خاصة تغطي نحو تسعة ملايين شخص وأنشأ صندوقاً عاماً (صندوق التضامن ضد الوقائع الكارثية) منفصلاً عن صندوق مكافحة آثار الكوارث الطبيعية ومُوجَّهاً لمساندة الأسر الأشد فقراً والأكثر احتياجاً (التي يقدَّر عددها بنحو ستة ملايين شخص). وتُقدِّم الآليتان الخاصة والعامة للتأمين مجتمعتين نحو 100 مليون دولار تعويضاتٍ للمتضررين كل عام». طبعا ستكون «شركات التأمين» هي المستفيدة الأولى من هذه الآلية، وهو ما أقره البنك الدولي عند حديثه عن اعتماد المغرب لقانون رقم 110-14 حول «إدخال نظام تأمين ضد مخاطر الكوارث سنة 2016»: «يضمن التغطية للأسر والشركات من خلال أقساط إضافية تتلقاها وتديرها شركات التأمين الخاصة».
إنه نفس منظور «الحماية الاجتماعية المعممة»، وقبلها «التغطية الصحية»: تخصيص الدولة للفقراء، الذين لا يشكلون سوقا مُغرية، «صندوقَ تضامن ضد الوقائع الكارثية» يُموَّل في جزء منه عبر مُخصص مالي من ميزانية الدولة، والجزء الآخر عبر عائدات رسوم شبه ضريبية تسمى»ضريبة التضامن» ضد الوقائع الكارثية، المحدَث بموجب مرسوم صادر بتاريخ 30 سبتمبر 2019، القاضي باقتطاع نسبة %1 من الأقساط أو الأقساط الإضافية أو الاشتراكات المؤداة بموجب عقود التأمين ذات الصلة بعملية التأمين غير التأمين على الحياة. والغاية تجميع عديمي- ات القدرة الشرائية في صندوق من أجل إنشاء قدرة شرائية جماعية موجهة نحو صناديق شركات التأمين.
لذلك، فالحديث عن مراجعة القانون 110.14 ليس إلا قبولا بروحه ومنطقه النيوليبرالي، مع المطالبة بمراعاة أوضاع أشد الكادحين- ات فقرا وأشد الجهات هشاشة، وهو نفس ما قامت به مثلا فيدرالية اليسار بفݣيݣ حينما طالب مكتبها السياسي يوم 10 مارس 2024 بـ»استثناء فݣيݣ من الشركة الجهوية للشرق لتدبير الماء نظرا لخصوية المنطقة». في حين يقتضي المنطق السليم (أي المنطق الطبقي المناصر للكادحين- ات) مطالبةً بإلغاء ذلك القانون وسن سياسة عمومية تستبعد القطاع الخاص (الرأسمال) من تدبير الكوارث، لأن ذلك الرأسمال هو نفسه سبب يفاقم آثار تلك الكوارث.
النقابة العمالية و”أمشاوار”
دور النقابة العمالية هو حفز النضال العمالي ومد أواصر التضامن مع النضالات الشعبية. هذا مُفتقَدٌ في المغرب. ففي كارثة زلزال الحوز، اكتفت النقابات العمالية في المغرب بالمناداة بضرورة «التآزر الوطني» وانخرطت في قوافل التضامن، وهذه الأخيرة مطلوبة، ولكنها ليست كافية لحفز النضال الشعبي ضد دولة فاقمت سياساتُها آثار كارثة الزلزال.
تظل النقابات العمالية في المغرب في ذيل ما تقوم به التنظيمات السياسية البرجوازية، بل والدولة. وفي ما يخص طاطا وكارثة الفيضانات التي لحقتها، عقدت «لجنة نداء طاطا» يوم 28 سبتمبر 2024 لقاءا مع الأمين العام للاتحاد المغربي للشغل، الميلودي موخاريق، مرفوقا بميلود معيصد عضو مكتب مجلس المستشارين عن الفريق البرلماني للنقابة وبقيادات من جهة سوس ماسة ومسؤولين قطاعيين.
وافقت قيادة النقابة العمالية (الاتحاد المغربي للشغل) على المنظور الترافعي الذي انبنت عليه مبادرة «نداء طاطا»، وكلَّفت المستشار البرلماني ميلود معصيد عضو الفريق البرلماني للنقابة بالتنسيق مع منسق لجنة «نداء طاطا» قصد تقديم مقترحات لتعديل القانون 110.14 أو تقديم مقترح قانون بخصوص الكوارث والتأمين عليها ومساطر وآليات تعويض ضحاياها. إضافة إلى الانخراط في «المجهود الإغاثي بتنسيق مع المجتمع المدني والإدارات المعنية كي تصل المساعدات إلى مستحقيها»، كما ورد في بلاغ «لجنة نداء طاطا».
لا بديل عن النضال العمالي والشعبي
يهتم المناضلون- ات العماليون- ات بمبادة «أمشاوار»، لأنها تمثل صورة مصغَّرة عما يمكن أن ينطلق من نضالات شعبية مستقبلا، نضالات كادحين- ات تتدخل فيها قوى سياسية تدافع عن مصالح طبقية مغايرة لمصالح الكادحين- ات، أي مصالح البرجوازية أو أقسام منها، حيث الهيمنة الأيديولوجية والسياسية لتلك الأحزاب تؤمِّن لها توجيه تلك النضالات نحو مبتغاها كأحزاب برجوازية. وفي نفس الوقت يمثل «أمشاوار» نموذجا لمبادرة تُطلَق من فوق ولكن لا أحد يضمن مستقبلها، ما يجعل الأحزاب البرجوازية المتدخلة فيها حريصة على توجيهها نحو القنوات الرسمية والعمل الترافعي والقانوني. لا شيء مضمون… كل الاحتمالات مفتوحة، ودور المناضلين- ات العماليين- ات هو التدخل بحزم وهِمَّة من أجل انطلاق المارد الشعبي من قمقمه المحبوس فيه لعقود.
يدل تصفيق كادحي- ات طاطا على مداخلات ساسة برجوازيين داخل «أمشاوار»، فضلا عن إعلانهم- هن تمسكهم- هن بالولاء المُطْلَق لرئيس الدولة، على أن هؤلاء الكادحين- ات فقراء لوعي أسباب كدحهم- هن، وأيضا عن فقرهم- هن إلى وعي قوتهم- هن الكامنة في النضال والوحدة والتنظيم. ولكن هذا الضعف كله لا يخفي الاستياء الشعبي المتنامي في صفوفهم- هن، استياء أصاب الدولة بالخوف فحاولت منع «أمشاوار»، وأصاب الساسة البرجوازيين الحاضرين في «أمشاوار» بالرعب، فتوسلوا كادحي- ات طاطا كي يوجهوا استياءهم- هن نحو القنوات الرسمية والاقتصار على رفع الشكاوى إلى هؤلاء الساسة لينقلوها إلى المركز.
على غرار الدفق الشعبي من أسفل الذي تضامن مع ضحايا كارثة زلزال الحوز السنة الماضية، تكفل السكان بإنقاذ أنفسهم، في حين كانت الدولة غائبة. قال حسن الجعفري (مستشار جماعي في جماعة سيدي عبلا أومبارك): «لمدة أربعة أيام لم نرَ أحدا، باستثناء عون السلطة/ المْقْدّْمْ. لمدة أربعة أيام اشتغلنا بالمحركات لتفريغ المنازل من المياه. ساعدَنا في الأمر أحدُ عناصر الوقاية المدنية، هو من أبناء الدوار، لم ينم لمدة 4 أيام». لقد برهن السكان أنهم ليسوا في حاجة إلى الدولة القائمة حاليا. وكل المبادرات التي يقومون بها تشكل دليلا على قدرتهم على تسيير أمورهم بأنفسهم، وبوادرا على سلطة شعبية يمكن أن تتشكل مستقبلا.
قدَّم كادحو- ات طاطا آيات من البطولة والنضال الشعبي سنة 2005، وتَظهر بوادر تكرار تلك البطولة في الوقفات الاحتجاجية التي تخترق قرى طاطا ضد تقاعس الدولة عن التدخل لإنقاذهم وتخفيف آثار الفيضانات.
يُعتبَر نضال كادحي- ات طاطا سنة 2005 من أجل الخدمات الصحية العمومية المجانية والجيدة، نبراسا للاقتداء وفي نفس الوقت لاستنتاج عِبَرِ نضالٍ لم يتمكَّن من تحقيق مجمله مطالبه، من أجل تجاوز نقاط قصوره لضمان نصر أي نضال مستقبلا.
المطلوب هو عقد «أمشاورات» في كل قرى وبلدات إقليم طاطا. كل «أمشاوار» ينتخب ممثليه الذين سيحضرون في «أمشاوار» عام مُمركَز. وكل القرارات يجب أن تُتَّخذ داخل أمشاوارات القرى والبلدات بكل ديمقراطية، مع حرص شديد على حضور النساء وحقهن في التمثيل والنقاش والاقتراح والتصويت.
شباب طاطا، من طلاب ومعطلين وعمال، ومن كل صنوف الكدح، ونساؤها، مقبلون ومقبلات على كفاحات لأن عيون الرحمة لدى المسؤولين عن الوضع عيونٌ عمياء، وكثرة الوعود والكلام الجميل مجرد تقنية آنية لتجاوز الفترة الحرجة حيث لا تزال آلام المصائب تهز الأعماق. لذا يجب التزود من كفاحات الماضي بدروسها هذه بعضها:
– يمكن عند اعتبار مصلحة الكادحين توحيد جهود أطراف وتنظيمات عديدة متنوعة، تبدو من زاوية نظر أخرى غير قابلة للتلاقي. يجب تغليب منطق النضال المشترك دون عصبية تنظيمية ولا ادعاء احتكار الحقيقة والصواب. تجميع كل القوى الساعية إلى تحسين الوضع وتغييره شرط أول لا غنى عنه.
– أشكال النضال الميدانية وحدها كفيلة ببناء القوة الجماهيرية التي ظلت من قبل مشتتة، وهي القادرة دون سواها على الضغط الفعلي من أجل انتزاع المطالب. أساليب المراسلات إلى الجهات العليا، وما يسمى «الترافع»، لا يمكن أن تكون في أحسن حال سوى أداة ثانوية للتعبئة، وتبديد الأوهام الملازمة لكل حركة ابتدائية، وليس سبيلا لبلوغ الأهداف.
– الجماهير الشعبية تنخرط في النضال عندما يكون المطلب واضحا، والجهود التنظيمية موحدة. ويزداد هذا الانخراط عند تسيير النضال بشكل ديمقراطي مباشر. وفي هذا المضمار يجب العمل لسد أوجه النقص التي لازمت تجربة هيئة الدفاع عن مجانية وجودة خدمات الصحة. رغم الطابع الديمقراطي الظاهر لعمل الهيئة، إذ تمثلت فيه معظم التنظيمات المحلية، ظل ناقصا. فأغلب الاجتماعات جرت بين الممثلين المنتدَبين إلى الهيئة، يقررون الخطوات النضالية ويعينون الأجهزة الساهرة على تنفيذها. وينفرد أعضاء الهيئة بتقييمها بعيدا عن السكان، مكتفية بإبلاغهم بالقرارات المتخذة.
يجب العمل على ضمان مشاركة السكان المباشرة بعقد الاجتماعات العامة بشكل مكشوف وجماهيري، كيفما كان موضوعها (تقرير خطوة نضالية،كيفيات تنفيذها، تقييمها).
– كان للنقابات دور فوقي في تأسيس هيئة النضال الشعبي في طاطا، لكن لا تعبئة واحدة في صفوف المنخرطين في النقابات، وفي صفوف الشغيلة بشكل عام، لنقاش أسباب الاحتجاج والانخراط في الخطوات النضالية. يستدعي هذا الوضع من المناضلين النقابيين في المنطقة النضال من أجل أكبر انخراط لنقاباتهم في كفاح السكان، ومن أجل توسيع أفق النضال النقابي ليتجاوز المطالب المهنية الفئوية إلى مجمل مناحي الحياة، وبمقدمتها الخدمات العامة.
– تميز حراك 2005 في طاطا بالحضور القوي للنساء، مُضفياً عليه طابعا شعبيا حقيقيا، جعل حتى غير المشاركين يتعاطفون. لكن هذا الحضور القوي لم ينعكس في قيادة النضال، حيث لم توجد حتى امرأة واحدة في هيئة الدفاع عن مجانية وجودة خدمات الصحة. يبين هذا عيب تهميش النساء داخل التنظيمات المكونة للهيئة من جهة، والحاجة إلى أشكال تنظيم ديمقراطية فعلا يكون فيها للنساء مكانة مناسبة لدورهن النضالي. بقدر ما يكون تسيير النضال ديمقراطيا بقدر ما يجذب مزيدا من الجماهير، وبمقدمتها النساء.
– رغم أن احتجاج الجماهير الشعبية موجه ضد النتائج المباشرة للهجوم النيوليبرالي، لم تكن تلك الجماهير واعية بأصل البلاء، ولا تربط الهجوم على مجانية خدمات الصحة بما يتعرض له التعليم وسواه من القطاعات الاجتماعية من تدمير، وبتفشي البطالة، وبغلاء المعيشة، وبما يجري في «المؤسسات المنتخبة»، وبأشكال القمع التي تواجه بها الدولة مطالب الناس المقهورين، وبوجه عام بالطريقة التي تسير بها شؤون البلد. ثمة حاجة ماسة، والحالة تلك، إلى عمل توعية وتثقيف شعبي يفتح أعين الكادحين ويزيد أهدافهم وضوحا، ويطور درايتهم النضالية. يجب خلق فضاءات يلتقي فيها الناس الأكثر انشغالا بسبل تحسين الوضع وتغييره، ليناقشوا ويتعلموا. مقرات جمعيات ونقابات وقوى يسارية، نوع من هذه الفضاءات، فضلا عما تتيحه تكنولوجيا التواصل من إمكانات يمكن استعمالها لأهداف النضال.
– الأوضاع الاجتماعية المحلية المزرية لمختلف الشرائح الشعبية، من شغيلة وصغار تجار وصغار منتجين وعاطلين وربات بيوت، ما هي إلى نتيجة لسياسة عامة تضعها الدولة البرجوازية بتوجيه من الدوائر الاستعمارية الجديدة التي تستنزف مقدرات المغرب وموارده بسبل متعددة متنوعة. وبالتالي فالنضال من أجل حياة لائقة للجميع يتطلب نضالا إجماليا ضد السياسة البرجوازية/الاستعمارية. من بوابات هذا النضال الاهتمام بالحياة السياسية المحلية، بمراقبة عمل المجالس المحلية، ورصد حاجات السكان المباشرة، وتتبع عمل برلمانيي المنطقة، وعامة الحياة السياسية، ودور مختلف الأحزاب. يفضي هذا الاهتمام إلى صوغ مطالب تتناول مختلف مناحي الحياة.
طبعا يستلزم هكذا اهتمام بالشأن العام أدوات تنظيمية قد تكون لجان أحياء أو دواوير أو تنسيقيات، فالحاجة أم الاختراع. المبدأ هو الفعل الشعبي الديمقراطي المباشرة، بإيجاد صيغ انخراط واسع بديلا عن أشكال الإنابة والتوكيل وممارسة الوصاية والمصادرة الفوقية للمبادرة.
الاستفادة من الرصيد النضالي لطاطا ونواحيها، وتنظيم الفعل الشعبي بنحو ديمقراطي من أسفل، وفق رؤية استراتيجية واضحة، هذا سبيل أهالي المنطقة إلى تحسين ظروف حياتهم، سيرا نحو تغيير شامل وعميق. وغير هذا، من أساليب الشراكة مع الجهات الرسمية والمتعاونين معها شعوذةٌ سياسية قد تفيد وصوليين لكنها ستسهم في تأبيد أوضاع الافقار و الحكرة.

شارك المقالة

اقرأ أيضا