هل ستحدث ثورات في القرن الحادي والعشرين؟
بقلم؛ هنريك كاناري Henrique Canari
يبدو إمكانُ ثورةٍ اشتراكية، في ظل تراجع اليسار وصعود القوى الرجعية، نائيا… ماذا يُعلِّمنا التاريخ عن الشروط التي ستجعل الثورة الاشتراكية ممكنة مرة أخرى؟
مضى زهاء 50 سنة بلا ثورة اشتراكية ظافرة، وأكثر من 30 سنة منذ نهاية الاتحاد السوفيتي، وأكثر من 15 عامًا من أزمة اقتصادية طاحنة، و10 سنوات على الأقل من صعود الفاشية المتواصل في جميع أنحاء العالم. ولا يبدو أن الأمور ستتحسن على المديين القصير أو المتوسط: فأوروبا، المنقسمة بسبب الحرب والآفلة بسرعة، تجتاز مرحلة انتقالية سياسية من المرجح أن تقوي اليمين المتطرف في الحقبة القادمة؛ وتكافح دول أمريكا اللاتينية لمنع وصول الفاشية إلى السلطة (وفي بعض الحالات، عودتها إليها)؛ وفي الولايات المتحدة، يبدو فوز ترامب المحتمل منبئا بدورة جديدة من الحكومات الاستبدادية والإنكارية والمعادية للأجانب في جميع أنحاء العالم؛ وفي غزة، ثمة عملية إبادة جماعية تروم محو الشعب الفلسطيني من الخريطة ودفع الناجين إلى شبه جزيرة سيناء الصحراوية في مصر، حيث تريد إسرائيل أن يقبعوا حتى الموت وأن يُنسوا إلى الأبد.
من شأن كل هذه العوامل أن تُشْبه، نظريًا، الوضعَ الذي شهده العالم مطلع القرن العشرين، لما بلغت آنذاك أيضا أزمة نظام السيطرة الإمبريالية نوعًا من ذروة لم يكن متصورًا أبدًا، أفضى إلى اندلاع الحرب العالمية الأولى. حربٌ عالمية في العام 1914 وانتصار الثورة الروسية في العام 1917. ولكن هذا ليس صحيحًا. فنحن لسنا مشرفين على موجة ثورية عالمية جديدة. كان مستهل القرن العشرين، مطبوعا من ناحية، بالأزمة الحادة للنظام (وهو ما نشهد اليوم)، ومن ناحية أخرى، بالتقدم الجامح لحركة البروليتاريا وتنظيمها ووعيها في جميع أنحاء العالم. كانت تلك فترة تعززت فيها الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية الأوروبية الكبرى، مُشَكِّلةً بذورَ ما سيصبح الحركة الشيوعية العالمية.
إن غياب ثورات اشتراكية ظافرة منذ عام 1975 حقيقةٌ يجب أن نواجهها بشجاعة، ونفهمها دون أن نخدع أنفسنا. فضلا عن ذلك يتعلق الأمر بمأساة ذات أبعاد وجودية تقريباً بالنسبة للثوريين-ات، مع عواقب ذاتية هائلة على صعيد بناء الأحزاب والتيارات الاشتراكية في العالم برمته. ومع ذلك، لا يمكن الخلط بين «الواقعية اللينينية»، كما قال تروتسكي، والشك العقيم، الذي هو مقدمة للتهكم والعدمية. إذا كنا لا نعاين ثورات أو نعيشها، فما فائدة القيام بما نقوم به؟ وما جدوى أن نكون ما نحن عليه؟ وبوجه خاص، ما هي شروط ألا تكون الثورة مجرد أفق تاريخي بعيد وأن تعود إلى الأفق السياسي؟
مثل روزا لوكسمبورغ، التي كانت ترى الثورة أنها في الأساس فعل تحرر ذاتي من قبل الجماهير نفسها، تمامًا كما أكد ماركس.
ما الثورة؟
لا يوجد عمل بعينه عرضَ فيه ماركس نظريته عن الثورة بشكل موجز ونهائي. ربما يكون البيان الشيوعي لعام 1848 الأقرب من موجز. ولكن، بشكل عام، إشاراته متناثرة في كتابات مختلفة. وقد يكون كتاب مايكل لووي «نظرية الثورة عند ماركس الشاب» أفضل عرض منهجي في هذا الصدد. لكن الأمر يتعلق بهذا وحسب: عرضٌ منهجي، ما يعني أنه اضطر إلى الاعتماد على العديد من الأعمال المختلفة لإنتاج تركيب. اهتم ماركس، في بعض النصوص، بفهم الآلية التاريخية التي تجعل طبقة مسيطَر عليها سياسيًا ومستغَلة اقتصاديًا، ومستلَبة إنسانيًا، طبقةً قائدةً لتحرير البشرية جمعاء: المخطوطات الاقتصادية والفلسفية، والأيديولوجية الألمانية، ونقد فلسفة الحق عند هيغل، وغيرها. ويحلل الفيلسوف الألماني، في مؤلفات أخرى، عمليات ثورية بعينها، محاولاً استخلاص استنتاجات عملية وإعطائها توجهاً سياسياً: الثامن عشر من برومير لويس بونابارت، وصراع الطبقات في فرنسا، وخطاب الى اللجنة المركزية لعصبة الشيوعيين (1850) وغيرها.
لكن هذا لا يعني أن ماركس يعوزه تصورٌ للثورة. فبنظر ماركس، الذي كان يكتب في فجر الحركة العمالية، فيما كانت أمور كثيرة غير مرئية تحت حجاب الجديد، الثورة فعلُ سياسيٌّ وتاريخي لتحرر الجماهير الذاتي. وكما ترون، هذه فكرة عامة. ثمة أمور عديدة غير واضحة في هذه الرؤية: دور الحزب، والأممية وآلية الاستيلاء على السلطة، وأمور أخرى لم يكن ببساطة بوسع ماركس التنبؤ بها: بزوغ منظمات على الطراز المجالسي (السوفيتات) كأدوات نضال من أجل السلطة، ودور الإمبريالية، وتطور الديمقراطية البرجوازية. ولكن بوجه عام، تُمثل إشارات ماركس دليلًا قويًا لتطوير أي نظرية للثورة في القرن الحادي والعشرين.
تغيرت الأمور كثيراً مع وفاة ماركس واتخاذ الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية الأوروبية، وخاصة الألمانية، حجما جماهيريا في الربع الأخير من القرن التاسع عشر. نقصد في هذه الحالة حزبا يضم مئات آلاف الأعضاء العضويين، مهيمنا تماماً في الطبقة العاملة، حزب الطبقة بامتياز، الذي يكاد لا يُميَّز عن الطبقة. لقد فازت الاشتراكية الديمقراطية الألمانية بمقاعد برلمانية، ومجالس مدن، ونقابات عمالية، وأنشأت نوادي وصناديق إسعاف وجمعيات، وأصدرت عشرات الصحف والمجلات، وشجعت اللقاءات الثقافية، وأنشأت الأممية الاشتراكية والأممية النقابية. بدا نمو نفوذ الحزب الاشتراكي الديمقراطي القوي بلا حدود.
لكن هذا الواقع، الإيجابي للغاية بحد ذاته، سبَّبَ بعض البلبلة النظرية داخل الحزب. فقد ظلت الاشتراكية الديمقراطية الألمانية منظمة ثورية. إلا أن ما كانت تقصده بالثورة بدأ يتغير. فنظراً للنفوذ الهائل للحزب الاشتراكي الديمقراطي، وللدرجة القصوى لوعي للطبقة العاملة الألمانية وتنظيمها، لم يعد يُنظر إلى الثورة الاشتراكية على أنها فعل سياسي ملموس ومحدد في الزمان والمكان، كانعطاف وطني مفاجئ وعنيف إلى هذا الحد أو ذاك، بل كنوع غير محدد من العبور التاريخي، كضرب من «تحول» الطبقة المسيطَر عليها إلى طبقة سائدة. لم يكن الأمر يتعلق بعدُ برؤية إصلاحية، فهذه لن تظهر سوى مع برنشتاين، ولم تترسخ إلا مع مطلع القرن العشرين، عندما تبنى الحزب الاشتراكي الديمقراطي مواقف اشتراكية – وطنية لصالح الحرب. لكن النضال من أجل السلطة كان يتراجع أمام رؤية غير محدَّدة للثورة، بآليات ومواعيد وأدوات غير ملموسة. كان وزن الحركة الاشتراكية الديمقراطية في الطبقة العاملة، ووزن الطبقة العاملة في المجتمع، كبيرين لدرجة أنه أدى إلى تعتيم رؤية القادة الذين قبلوا حتى إمكانَ انتقال سلطة الدولة إلى البروليتاريا عن طريق الانتخابات، وهي فرضية أوردها إنجلز نفسه في مقدمته الشهيرة عام 1895 لكتاب ماركس «الصراع الطبقي في فرنسا». ونكرر: لم تكن هذه رؤية إصلاحية بعدُ. لكنها كانت رؤية محدودة للثورة، لأنها جردتها من وجهها السياسي الملموس، واعتبرتها سيرورة تاريخية بحتة ومجردة، وبالتالي غير مؤلمة نسبياً وتكاد تكون عفوية. انعكست هذه الرؤية للثورة في مفهوم الحزب كذلك. إذ لم يكن الحزب، بالنسبة للاشتراكية الديمقراطية الألمانية، قائدًا سياسيًا، بل نوعًا من «المربي» الذي سيرافق الطبقة في عملية نضجها وتحولها التاريخي. وشاطر هذا الرأيَ كل من القطاعات الأكثر اعتدالاً وتلك الأكثر راديكالية في الحزب الاشتراكي الديمقراطي،
انعطاف لينين
تطور ما سُمي «اللينينية» في ظروف مختلفة تمامًا عن التي كانت سائدة في ألمانيا، وهذا من عدة نواحٍ.
أولاً، كان النظام الإمبريالي العالمي قد بلغ أقصى درجات تطوره في تلك الحقبة التاريخية. وصل بقدر ما حدًّا. لم تعد الرأسمالية تتطور بشكل خطي وبدون تناقضات، متيحة للبروليتاريا كل شروط تنظيم نفسها وتحقيق إصلاحات. بل على العكس من ذلك، دفع الصراع على السوق العالمية، ومن أجل السيطرة على النظام الدولي للدول، البلدانَ نحو هاوية أزمة اقتصادية واجتماعية وسياسية ستفضي في النهاية إلى الحرب العالمية الأولى، التي سبقتها في روسيا الحرب الروسية – اليابانية في 1904- 1905. لم يكن للتطور الإصلاحي البطيء، لكن الأكيد، مكان في بداية القرن العشرين. على هذا النحو، لم تعد مهمةُ تلك الفترة تطويرَ فكر ماركس، بل وضع أفكاره موضع التنفيذ.
فضلا عن ذلك، كانت الظروف في روسيا مختلفة جداً. فقد كانت البروليتاريا الروسية فتية، ولا تزال مرتبطة إلى حد كبير بالريف، وبدون خبرة كبيرة في التنظيم الذاتي والنضال. وكانت النقابات، على غرار الأحزاب، محظورة؛ ولم تكن ثمة إمكانية تطورٍ «على الطراز الألماني»، أي نمو تأثير الأحزاب العمالية بنحو تدريجي ومطرد. ووفقًا لمفهوم غرامشي، كانت درجة الإجماع في المجتمع الروسي منخفضة جدًا وكانت الدولة قائمة أساسًا على الإكراه.
أدرك لينين هذا الاختلاف بين البلدين، واستنتج أن النموذج الألماني لا يمكن أن يكون معيارًا لتطور الاشتراكية الديمقراطية الروسية. ثم طرح سؤاله الكبير: ما العمل؟ وأجاب عليه. بالنظر إلى درجة الإكراه في المجتمع، لا يمكن أن تتمثل الثورة الاشتراكية في روسيا في نمو البروليتاريا بنحو ممتد إلى هذا الحد أوذاك، وبدون ألم، حتى تصبح طبقة سائدة. يجب الاستيلاء على السلطة. نقل لينين إذن الثورة من الأفق التاريخي إلى الأفق السياسي. وباتت الثورة مشكلة عملية، وليست مجرد مشكلة نظرية فلسفية. ومن ثمة هوس لينين بتحديد شروط انتصار الثورة: مفهوم الوضع الثوري. لم تعد الثورة فترة تحولات طويلة، بل باتت بالأحرى أزمةً حادة لا تُحتمل، انهيارا وطنيا يشمل جميع الطبقات وجميع المؤسسات، حيث تبقى السلطة جامدة ويمكن الظفر بها بعمل سياسي عسكري حازم. إن الصيغة اللينينية بسيطة بقدر ما هي عبقرية: «من هم فوق لا يستطيعون، ومن هم تحت لا يريدون».
هكذا، وبدلاً من قوى التاريخ العمياء، تأتي قوة السياسة الواعية لتلعب دورها. تغيير موازين القوى، ودفع الوضع في اتجاه يتيح للبروليتاريا التقدم، وتنظيم نفسها وإدراك مهامها وإمكانياتها. لهذا السبب كان لينين أيضا هاويا للتكتيك: إيجاد سبل، والبحث عن حلفاء، ومهاجمة الجانب الأضعف، الانسحاب مؤقتا لمحاولة هجوم جديد، وتفادي المواجهة في أصعب الأماكن، وربح الوقت، والضرب المفاجئ.
عندما تراجعت الثورة في 1906-1907، حوّل القائد البلشفي انتباهه إلى مجلس الدوما، البرلمان القيصري المحدود. بدت تكتيكاته بلا حدود: مقاطعة الانتخابات، والمشاركة فيها، ووحدة الحزب الاشتراكي الديمقراطي ضد الكاديت (الحزب الدستوري الديمقراطي)، وتشكيل تحالفات مع الكاديت ضد المائة السود، والترشح باسم البلاشفة. وبمجرد الفوز بأغلبية الفريق العمالي في مجلس الدوما، كان لينين، فضلاً عن كونه القائد السياسي للمنظمة، يعمل تقريباً كمستشار برلماني: كان يكتب الخطب للنواب، ويتفاوض ويعمل كمستشار برلماني…
إبان نهوض 1910-1914، عاد تركيزه إلى الحركة الجماهيرية. كان عليه أن يعيد الاتصال، وإعادة بناء الروابط والتواصل مع النضالات الملموسة. وفي 1914-1917، تحوّل اهتمامه إلى الحرب وعواقبها على الحياة الوطنية: وضع الفلاحين- الجنود، والأزمة الاقتصادية، والحركة العمالية.
أخيرا في عام 1917، حاول إقناع رفاقه بأن ما كانوا يرونه هو الثورة ذاتها التي تحدثوا وكتبوا عنها الكثير. كان نهجه مرة أخرى تكتيكيًا وملموسًا: في فبراير- أبريل، لم يدعم الحكومة المؤقتة، لكنه لم يَدْعُ إلى إسقاطها. لم تكن الأزمة قد نضجت بعدُ. كان من الضروري تطوير منظمات ازدواجية سلطة، التي لا يمكن بدونها أن تكون ثمة حكومة بروليتارية حقيقية. وفي مايو- يونيو، قَبِلَ إمكانيةَ وصول حكومة اشتراكية عريضة إلى السلطة سلمياً، عن طريق طلاق بسيط بين السوفييتات والحكومة المؤقتة. وتعهد بأن يكون حزبه جناحا يساريا للحكومة الجديدة المفترضة، وأن يحترم قرارات السوفييتات ونظامها. في يوليو وغشت، طرح فرضية فشل السوفييتات كأجهزة للنضال، وراهن لفترة وجيزة على لجان المصانع، ولكنها مراهنة لم تتأكد. أخيرًا، أعطى انقلابُ كورنيلوف شعلةَ الثورةِ ما تحتاج من وقود لتشتعل مرة أخرى. غالبًا ما تحول لديه اليقين بأن اللحظة قد حانت إلى قلق وتهيج. بات تعبير «لقد نضجت الأزمة» الأكثر تواترا في كتاباته في تلك الفترة. هناك عشرات من رسائل اليأس والتهديد إلى اللجنة المركزية. الابتزاز والمناورة. وأخيرًا، لم يكبح جماح نفسه، وعاد متخفيًا إلى بتروغراد، على الرغم من مذكرة الاعتقال الصادرة بحقه. اشتبه في أن تروتسكي قام على رأس اللجنة الثورية العسكرية بتغييرات تكتيكية، معتقدا أن رئيس سوفييت بتروغراد ربما لم يقتنع هو أيضا بأن الوقت قد حان، تماماً كما لم يقتنع زينوفييف وكامينيف عندما كشفا للصحافة البرجوازية عن الخلاف البلشفي حول الاستيلاء على السلطة. هدأ، وقَبِلَ تفسيرات تروتسكي وانضم إلى العمليات ليلة 24 إلى 25 أكتوبر. وتحقق الانتصار.
هنا يقدم لنا هذا الرجل، المعروف بتصلبه النظري والمبدئي، سياسة خالصة، وتكتيكاً بارعاً، وفطرة وتجريبية، وحياة ارتقت إلى أقصى قوتها. كان هذا الجانب من نشاطه، إلى جانب صلابته الإستراتيجية، أساس انتصاره.
وإلى جانب هذا كله، هناك الحزب. في روسيا، لا يمكن أن يكون له دور «مربي» أو مهندس أو فيلسوف أو عالم اجتماع منعزل، بل عليه أن يباشر العمل. لذا، فإن الحزب بالنسبة للينين هو قائد للنضال، ومنظم للتجربة العملية، ومنظم للحياة اليومية. لا يمكنه أن ينمو على المدى الطويل، بشكل عضوي وسلمي. إنه يحتاج إلى التقدم بسرعة فائقة لأنه يجب أن يفاجئ القيصرية. إنه حزب سياسي بالمعنى الذي لم يكن عليه الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني. وما تنظيمُه الداخلي ونظامُه المركزي الديمقراطي إلا نتيجةً لهذه الحقيقة الأساسية: حزب للعمل، للتجربة. ليس مجموعة نقاش، وليس مجلساً للحكماء، بل حزباً مناضلاً.
لقد كان هذا الإصرار على العمل الحزبي موضوع انتقاد على نطاق واسع في ذلك الوقت، وحتى لاحقا، باعتباره «يعقوبية»؛ والخلط بينه وبين اليسَارَوية. لكن لينين والبلاشفة قبلوا بفخر تسمية «اليعاقبة». بالنسبة لهم، كانت اليعقوبية تمثل أفضل ما في التقاليد الثورية: النضال الدؤوب من أجل السلطة، والراديكالية التي يغذيها الفهم العميق لاحتياجات التاريخ وإمكانياته. لقد فهم معلم الماركسية الروسية العظيم، بليخانوف، هذه الخاصية التي تميز بها لينين في وقت مبكر جدًا، وسرعان ما صاغ عبارته الشهيرة عن الشاب أوليانوف: «إن اليعاقبة مصنوعون من هذا الطينة». وكان على حق.
القرن العشرون الذي لا استعاضة عنه
يكتسي القرن العشرون خصائصا فريدة ومتناقضة. فقد أكد، من ناحية، الرؤية اللينينية للسياسة وللتنظيم. وأظهر، من ناحية أخرى، أن النموذج الألماني محق إلى حد ما. بأي معنى؟
أثبت التصور اللينيني صحته من أوجه عدة. أولاً، أصبحت الثورة مشكلة سياسية عملية. كان القرن العشرون عصر «الثورة الوشيكة». فقد انتصرت الثورات في أكثر البلدان تنوعا،ً وبأكثر الوسائل تنوعاً: حرب شعبية طويلة الأمد في الصين، وحرب العصابات في كوبا، وتدخل الجيش الأحمر في أوروبا الشرقية، والانتفاضات المناهضة للإمبريالية في فيتنام وكوريا الشمالية، ومقاومة الفاشية في يوغوسلافيا. بالإضافة إلى ذلك، كانت هناك ثورات يمكن وصفها بـ»المُجهضة» أو المختطَفة أوالمهزومة، في البرتغال وشيلي ونيكاراغوا والسلفادور وإسبانيا واليونان. كانت في كل بلد من هذه البلدان منظمة تقوم بدور القيادة السياسية العسكرية: المقاومة التيتية، وجيش ماو، وحركة 26 يوليو، والجبهة الساندينية، والفيتكونغ… إلخ، وبهذا المعنى، كان للينين دور مهم للغاية. بهذا المعنى، كان لينين على حق.
لكن القرن العشرين كان مذهلاً من حيث الطفرة الثورية التي شهدها إلى درجة أنه انتهى أيضاً إلى شيء لم يكن لينين قد طوره: ظهور أحزاب بروليتارية كبيرة حافظت على هيمنتها على الطبقة العاملة، ونمت «خطياً» في المجتمع وفقاً لنموذج «النظام الألماني». ويرجع ذلك إلى القوة الساحقة للثورة الروسية، ولاحقًا لانتصار الجيش الأحمر على الفاشية النازية. وبفضل هذين الحدثين العظيمين، أصبحت الاشتراكية جزءًا من مخيال الطبقة العاملة السياسي، واكتَسب العديدُ من المنظمات المنتسبة إلى الثورة الروسية والاتحاد السوفيتي نفوذًا جماهيريًا. وبدت الاشتراكية كبديل في متناول اليد، وقدمت المنظمات الاشتراكية والشيوعية الكبرى في القرن العشرين نفسها كأدوات لهذا النضال. كررت الأحزاب الشيوعية والأحزاب الاشتراكية في جميع أنحاء العالم جزءًا من الطريق الذي سلكه الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني، حتى لو لم تصل أبدًا إلى نفس مستوى التطور والتأثير.
عودة إلى لينين، عودة إلى السياسة
ماذا جلب لنا القرن الحادي والعشرون؟ كانت نهاية الاتحاد السوفيتي تعني هزيمة تاريخية للطبقة العاملة وللمشروع الاشتراكي. لقد جرى إحباطُ الشيوعية، ودهسُها بالأقدام والسخريةُ منها. وأدى الزحف الجذري للنيويبرالية، وإعادة الهيكلة الإنتاجية في جميع أنحاء العالم في التسعينيات، إلى التشتت الاقتصادي للبروليتاريا وأزمة عميقة في ذاتيتها. غادرت الاشتراكية الأفق السياسي وانتقلت إلى الأفق التاريخي. ومرة أخرى، يبرز السؤال: ما العمل؟
بالطبع، نحن ندرك ما ليس ممكنا فعلُه. لم يعد ممكنا أن نتصرف كما كنا نفعل في القرن العشرين، عندما كانت الاشتراكية مرجعاً ملموساً، نموذجاً حقيقياً بمزاياه وعيوبه، الممكن اكتشافها وفهمها. لقد فقدت الطبقة العاملة غريزة السلطة. والواقع أن حتى حقيقة كونها طبقة محددة ليست واضحة لديها. كما أنها أقل وعيًا بمصالحها المباشرة ومشروعها التاريخي. ولا يكفي هنا التذرع بـ»أزمة تدبير». إذا كانت هناك أزمة، فهي أزمة الطبقة العاملة نفسها.
وماذا لدينا؟ طبقة عاملة عديدة جداً، ومتنوعة، وعالية الإنتاجية، ولكنها مذرَّرة اقتصادياً وسياسياً، وغير مدرِكة لأوضاعها ومصالحها وحتى لوجودها. تعوزها مرجعية اشتراكية، إصلاحية أو ثورية. ففكرة وجود بديل للرأسمالية هي ببساطة خارج رادار الغالبية العظمى من البروليتاريا. «البديل» الوحيد الذي يظهر هو جحيم فاشي وأصولي واستعماري ومدمر للبيئة.
ومن ناحية أخرى، هناك أزمات واضطرابات وثورات. الصراع الطبقي مستمر. لقد دخلت النقابات العمالية القديمة في أزمة، وتُواصِل البقاء بتنفس اصطناعي. ولكن، ظهرت حركات اجتماعية جديدة، ومشاكل جديدة، ونضالات جديدة. ظهرت منظمات يسارية، وتعززت قوتها، وانتصرت، ثم أُقصيت من السلطة. ومنظمات أخرى تقاوم. تم احتلال ميادين، وهدم تماثيل، وتهديد السلطة المركزية. واندلعت حروب أهلية. إذا كان هذا هو الحال، فهناك مجال للسياسة. في الواقع، المجال الوحيد القائم هو مجال السياسة.
وبهذا المعنى، يجب أن نعود إلى لينين. إن الظروف غير المواتية التي تواجه البروليتاريا في المرحلة التاريخية الراهنة ليست تحديداً مطلقاً، ظاهرةً طبيعية، بل هي نتيجة جملة معينة من العوامل، كلها بشرية. إنها نتيجة توازن قوى معين. وتوازن القوى هو، بامتياز، موضوع السياسة.
لا يمكن للسياسة الثورية في القرن الحادي والعشرين أن تكون إعلان مبادئ لا يعرفه أو لا يوافق عليه أحد. كما لا يمكن أن تكون «سياسة رجعية» أو حنينًا الى الهوية الستالينيًة. ولكن لا يمكن أن تقتصر على الإقامة على الكراسي الجلدية المريحة في البرلمان أو الإدارات البلدية.
يجب أن يكون القصد إعادة بناء هيمنة مفقودة، والنضال من أجل تعزيز الحركات الحقيقية المنخرطة في نضالات حقيقية. هذه عملية تاريخية مديدة، لأن الكثير قد ضاع. ولكن هذا يبدأ الآن، بالسياسة، بالذكاء التكتيكي، بتجريبية لينينية سليمة، وبكل التوسطات التكتيكية اللازمة، استنادًا إلى أساس متين من المبادئ والحس الاستراتيجي العميق.
لن تكون إعادة بناء هذه الهيمنة المفقودة تكرارًا ميكانيكيًا للخطوات التي اتخذها الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني أو الفصيل البلشفي. فالتاريخ لا يعيد نفسه. لقد تغيرت الطبقة العاملة. لقد تغير العالم. سيكون الطريق إلى تأثيرٍ جماهيري غيرَ مسبوق وخاصا بقرننا هذا. يجب التخلي عن العديد من الصيغ القديمة. وسيبقى بعضها. وسيتعين اختراع البعض الآخر.
لذلك، فإن بناء حزب ثوري في عصر بلا ثورة أمر منطقي تمامًا، شريطة أن يعرف هذا الحزب العالَم الذي يعيش فيه. لأن السياسة لم تنتهِ. بل على العكس، أصبحت في مجتمع القرن الحادي والعشرين أكثر أهمية وأشد ضرورة. لأن نقل الثورة من الأفق التاريخي إلى الأفق السياسي غير ممكن إلا بالسياسة. «الآن كل شيء أصبح سياسيًا»، كما يشكو البعض. وهذا صحيح. لكن ممارسة السياسة أصبحت أيضًا أشد صعوبة.
يشرح الزعيم التروتسكي الأرجنتيني ناهويل مورينو في كتابه «الحزب والثورة»، وهو أهم كتبه، الجدلية المعقدة بين التاريخي والآني. إن الأزمة الثورية هي اللحظة التي تندمج فيها المهام التاريخية مع المهام الآنية في فعل واحد، تاريخي وفوري في الآن ذاته: الاستيلاء على السلطة. السياسة هي محفز هذا الاندماج، هي الخيط الذي يخيطه؛ هي التي تجمع بين هذا البرنامج التاريخي والبرنامج الآني، يومًا بعد يوم، ومعركة تلو أخرى. لقد نسي العديد من المنظمات هذا الأمر، لقد نسيت أنها تأسست من أجل السياسة. ولكن هذا كان عمل لينين العظيم. كان هذا معنى رسائله اليائسة من كوخه في الملجأ الفنلندي. حمقى! ألا ترون أن هذه هي الثورة بالضبط؟ ولهذا السبب انتصر حيث كان النصر أقل احتمالاً: في بلد متخلف، في طبقة عاملة مضطهَدة وغير منظمة وأمية وغير واعية. لقد اعترف بثقل التاريخ، لكنه لم يُضَفِ عليه قيمة مطلقة. وكان يؤمن، على غرار ماركس، بأن التاريخ من صنع البشر، وأخضعه للضربات الصبورة لنشاط بشري آخر: السياسة.
كانت روسيا لسنوات عديدة «النموذج المتقدم»، لأن الثورة الأقوى والأكثر تعقيدًا انتصرت فيها. ولكن لينين أرادها أن تصبح «نموذجًا متخلفًا». كان حلمه هو أن يتم تجاوز النموذج الروسي، وأن تعود روسيا إلى مؤخرة الثورة العالمية، تحل محلها بلدان أخرى. وقد وضع التاريخ بعض العقبات في طريق هذا الحلم. نحتاج اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى العودة إلى لينين، ولكن بمعنى أوسع وأعمق، أي تجاوزُه. ليس فكريًا، بل عمليًا. وبعبارة أخرى: من خلال السياسة، إعطاء مضمون وحياة للبرنامج والاستراتيجية والمبادئ. إنجاز المهمة التاريخية ليس لزمن آخر، بل لعصرنا.
المصدر: https://jacobinlat.com/2024/09/habra-revoluciones-en-el-siglo-xxi/
اقرأ أيضا