معضلة المتفجرات والاستشهادات في بني تجيت- إقليم فݣيݣ
بقلم؛ عبد الصادق بن عزوزي- بني تجيت؛ 12 أكتوبر 2024
[الحلقة الأولى]
مع كل استشهاد في جبل بوظهر- بني تجيت يصحبُه تزوير، فالدولة تمنح المتفجرات للعمال والصناع يومي الإثنين والخميس فقط، وهي تشترط على كل من حصل عليها أن يستعملها كاملة في نفس اليوم الذي حصل عليها. فإذا حصل عامل المتفجرات (بودفي/ Boutefeu) على خمس كيلوغرامات مثلا فهي تحتوي على خمسين متفجرة ينبغي عليه إشعالها في يومها.. وإذا حصل على عشرة كيلوغرامات فينبغي عليه إشعال مئة متفجرة في نفس اليوم… علما أن هناك مناجم تأخذ عشرين أو خمسة وعشرين كيلوغراما… وعلما أن المناجم الكبرى، كمنجم الوسط مثلا، تحصل على قنطار ونصف حتى قنطارين، (بين 1000 و1500 متفجرة) وعليها قانونيا أن تفجرها في نفس اليوم الذي حصلت عليها فيه، وذلك لا يحصل طبعا ولو حصل يوميا لتحولت بني تجيت إلى أطلال .
اشترطت الدولة على رجال الدرك الملكي أن يرافقوا كل حامل متفجرات ويتأكدوا من إشعاله ما حصل عليه في نفس اليوم، ويتم توقيع محضر يثبت ذلك.
طبعا، لا أحد ينضبط لهذه القوانين المجحفة والمستحيلة التطبيق، فالمنجميون يعملون بالمتفجرات بشكل يومي والدركيون يؤمنون بأن مرافقة حاملي المتفجرات والتأكد من إشعالها هو ضرب من الخيال، إذ إن الأمر يقتضي جيشا من الدركيين الخاضعين لتكوينات تؤهلهم من دخول المناجم العميقة والتعامل مع البارود.
إذن، القوانين غير مناسبة بإجماع الجميع، والحل الجاري به العمل هو الكذب المتفق عليه بالإجماع كذلك، فالسلطة توقع المحضر مع حامل المتفجرات وهي تعلم أنه لن يشعلها كاملة، وتسير الأمور على ما هي عليه بدون مشاكل ما عدا عندما تحصل حوادث شغل بسبب البارود.
فإذا حصلت الحادثة يوم الثلاثاء أو الأربعاء أو السبت أو الأحد… فرب المنجم والعمال والدركيون وكل أنواع السلطة يتحدون جميعا في الاتفاق على صيغة ما، كيفما كانت هذه الصيغة/ التخريجة، فقط لا ينبغي أن تقِّر بحصول الحادثة بسبب البارود، كيف لا يسعون لذلك وقد وقعوا جميعا على استعمال المتفجرات في يومها !
إن استُشهد ضحية الحادثة (وذلك ما يحدث في الغالب) فإنهم لا يذكرون المتفجرات في التقارير والمحاضر، وإن انكشفت الأمور، ولم يكن هناك بد من ذكرها، فهم يصرحون الوفاة كانت نتيجة متفجرة قديمة لم تشتعل في حينها وهي ما نطلق عليها محليا (مينة مانكة- Mine manquant) لكي لا تتحقق الدولة من أن أجهزتها محليا والعمال ورب المنجم قد خالفوا قوانينها بالإجماع.
الحقيقة أن هذه المخالفة لا تقتصر على المناجم التي حصلت بها حوادث، بل إن الأمر عام في بني تجيت. وبدل مطالبة الدولة بتعديل وتسهيل القوانين تجنبا للحوادث، ترى الناس يفضلون تزوير الحقائق والتستر على الوقائع، وإن كان ذلك دائما على حساب أرواح الشهداء وحقوق أراملهم وأيتامهم، وحقوقهم التي تضيع ليستمر السادة المنجميون في التستر والاستغلال بلا حسيب! هكذا صارت دماء الشهداء رخيصة إلى هذا الحد أمام جشع أرباب وإجحاف قوانين الدولة.
بالنسبة لآخر شهيد سقط بمناجم بوظهر، وهو المرحوم محمد السعيدي (شاب في مقتبل العمر أب لثلاثة أطفال)، وقد سقط شهيدا يوم السبت أو الأحد (5- 6 أكتوبر 2024)، فكان لا بد من تزوير الحقائق سيرا على ما جرت عليه العادة، فماذا سيدونون في محضره؛ إما سيقولون لقد أصيب بعد اشتعال متفجرة قديمة (مانكة) أو سيقولون لقد مات من المفاجأة والخوف بعد الانفجار… أو سيقولون أي شيء يخرجهم من المعضلة، أي شيء على الإطلاق إلا الحقيقة المرة التي لا يرغب أحد في قولها.
وللمزيد من التوضيح، ستكون التدوينة القادمة حول بطاقة المتفجرات بين الإدارات والواقع، حتى يتبين للرأي العام المتابع من المستفيد الذي لا يقوم يأي عناء ويأخذ الكثير ومن الضحية الذي يقدم كل شيء في أخطر المواقع مقابل الحصول على الحد الأدنى الذي يمكنه من العيش.
[الحلقة الثانية]
«البُودْفّي» كلمة معربة من اللغة الفرنسية، وأظنها مشتقة من اللفظ الفرنسي «Boutefeu»، أما يطلق عليه محليا «بُودْرِيَّة» (قد تكون بدورها مشتقة من اللفظ الفرنسي «Poudrier») فهو المكان الذي يُخزن فيه مسحوق/ بودرة البارود والمواد المتفجرة والمشتعلة. يشير لفظ «بودفي» في اللهجة المحلية لسكان البلدات المنجمية إلى حامل بطاقة المتفجرات الذي يتكلف بنقل هذه المواد من «البودرية» مكان التخزين إلى المنجم مكان العمل. وفي اللسان الشعبي كثيرا ما تجري استعاضة حروف أصلية في الكلمة بحروف أخرى عند تعريبها، كقلب التاء طاءً في الديمقراطية أو قلب اللام نونا في قولنا «كابران»… وأمثلة ذلك كثيرة.
هذا «البودفي» في المناطق المنجمية هو صانع منجمي حامل لبطاقة المتفجرات يشتغل في منجم لصالحه أو لصالح شركة يكون عضوا فيها. وقد يكون البودفي مجرد عامل أجير يعمل ببطاقة المتفجرات التي يحملها، فتكون مهمته هي نقل المتفجرات من مكان التخزين مباشرةً إلى مكان العمل وإشعالها في نفس اليوم وتوقيع محضر بذلك عند السلطة بمجرد عودته. وعلى عناصر الدرك الملكي مرافقة البودفي منذ انطلاقه والتأكد من إنجاز التفجير فعليا في كل المناجم التي تُنقل إليها هذه المواد المتفجرة. هذا كله هو ما سبق أن وصفته في التدوينة السابقة بالمهمة المستحيلة في ظل الظروف الراهنة، لأن المتفجرات ليست مُتاحة بشكل يومي، بل بشكل أسبوعي وإن عناصر الدرك القليلة لا تستطيع مواكبة جميع المناجم والتأكد من إنجاز التفجيرات بها، ففي منطقة بني تجيت أكثر من 300 رخصة منجمية نشيطة ومتفرقة على مساحات شاسعة.
هكذا على البودفي أن يحمل المتفجرات التي تكفي لأسبوع واحد على الأقل، لكن عليه أن يشعلها كاملةً في يوم واحد!! هذه المفارقة تجعل هذا البودفي، صانعا كان أو عاملا، أمام أحد خيارين: إما العمل ليوم واحد في الأسبوع أو يومين، وذلك لن يؤهله حتى لتسديد ثمن المتفجرات، أو عليه أن يخالف القانون ويخزن المتفجرات ليستعملها في الأيام المقبلة كلما اقتضت الحاجة ذلك ويُوقِّع محضرا مزورا يفيد باستهلاكها في نفس اليوم ليدخل دوامة العمل العشوائي من وجهة نظر القانون، وليفقد أريحيته في العمل بفعل المخاوف الدائمة
إذا كانت هذه المفارقة لا تترك للعمال والصناع المنجميين سوى هذه الخيارات، فهي تضع عناصر الدرك أيضا أمام أحد خيارين: إما التحول لعمال منجميين ومرابطة الجبال حيث توجد المناجم؛ وإما نهج تاكتيك العين البلاستيكية «عين ميكة»، أي غض البصر وإنجاز المحضر المزور الذي يفيد باستهلاك المتفجرات في يومها، وهذا كله يأتي في إطار ما وصفته في التدوينة السابقة بالكذب المتفق عليه والمتوافق عليه والمسكوت عنه من طرف جميع الأطراف، إنه كذب مقبول ومرغوب لتجاوز أزمة القانون غير الملائم…
هذا الكذب المتعارف عليه وإن كان يقي من عراقيل القانون في الأيام العادية، إلا أنه يضعنا أمام إشكالات عويصة في الأيام المُرة العصيبة، وغالبا ما تكون دماء الشهداء وهوس العامل البودفي ثمنا للخروج المؤقت والسلس من تلك المشاكل التي لا تنتهي هنا، بل لها تمظهرات أخرى تزيد الطين بلة، وذلك ما سنأتي على توضيحه في التدوينة المقبلة.
اقرأ أيضا