متى تتعظُّ قياداتنا النقابية في قطاع الصحة؟
بقلم؛ علي حموت- نقابي بالنقابة الوطنية للصحة/ كدش
يبدو أن التباكي على عدم التزام الدولة بمخرجات الحوارات وتنصلها من التزامات الاتفاقات مع “شراكائها الاجتماعيين”، أصبح لازمة تتكرر لدى قياداتنا النقابية. فبعد كل احتفاء بتوقيع اتفاق اجتماعي تأتي حصةُّ اتهام الدولة بالتنصل والمراوغة والالتفاف، ليشكل مبررا آخر لتأكيد المطالبة على “مأسسة الحوار الاجتماعي”، كونه السبيل الوحيد لفرض الالتزام بمخرجاته على الدولة.
وليس هذا الأمر حصرا على قيادات نقابات الصحة، ففي قطاع التعليم وبعد التوقيع على اتفاق 26 ديسمبر 2023، احتفت قيادات نقابات القطاع بذلك الاتفاق واعتبرته بابا لتمتيع شغيلة التعليم بمكاسب لم يسبق للتاريخ بها عهدٌ. ولم يفت كبير وقت حتى بدأت البيانات تتناسل حول تنصل الوزارة عن النقطة أو تلك ومطالبتها بتنفيذ اتفاقي 10 و26 ديسمبر 2023.
وقَّع التنسيق النقابي على محضر اتفاق مع وزارة الصحة بتاريخ 23 يوليوز 2024، بعد أزيد من خمسة أشهر من نضال نساء ورجال الصحة من أجل مطالب مادية وأخرى قانونية. وكان هذا الاتفاق تراجعا كبيرا عن ما كانت تطالب به الشغيلة الصحية، و يعد استسلاما ناجزا.
ثلاثة أشهر بعد ذلك، تأكد بالملموس فشل المنظور النقابي المبني على سياسة التعاون الطبقي والسلم الاجتماعي ومأسسة الحوار الاجتماعي. هذا المنظور الذي يعتبر النقابة وسيطا بين الدولة والشغيلة ويقبل، بسياسة الدولة ويعمل على مواكبتها وتنزيل مضامينها، ويطالب فقط بإشراكه في تنفيذها. هذا هو ما جعلها لا تعترض على إخراج الشغيلة الصحية من النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية سنة 2021، بل اعتبرته مكسبا. وهو ما جعلها كذلك تستنكف عن النضال في عز حراك التعليم العظيم (أكتوبر 2023- يناير 2024)، وفي نفس الوقت تلعب دور كابح الحراك الصحي والقبول باتفاق تراجعي بعد القمع الشرس الذي تعرضت له مسيرة 10 يوليوز 2024 بالرباط باستعمال الهراوات و خراطيم المياه و أفضت إلى اعتقال العشرات من المناضلين/ات.
بعد ثلاثة أشهر من الاتفاق التراجعي تخرج علينا القيادات النقابية تشتكي عدم التزام شريكها بالاتفاق الموقع. أصدر التنسيق النقابي الوطني بقطاع الصحة (قيادات ست نقابات) بيانا أسمَته بـ”المستعجل” يوم 19 أكتوبر، ورد فيه: “أثارت بعض مقتضيات مشروع قانون المالية لسنة 2025 المتعلقة بالمناصب المالية تساؤلات وتخوفات لدى مهنيي الصحة، حيث تمت كتابة تلك المقتضيات بصيغة لا تعكس ولا تؤكد ما تم الاتفاق بشأنه يوم 23 يوليوز 2024 مع الحكومة التي التزمت بتنفيذه، وهو صرف الأجور من الميزانية العامة للدولة بمناصب مالية قارة”.
ليست هذه أول مرة تشتكي فيه القيادات النقابية من تنصل الدولة من التزاماتها، فهذا دأبُها ودَيدَنُها، لكنها لا تستخلص من ذلك العبر والواجبات النضالية. والعبرة هي أن الدولة لا تخضع إلا تحت ضغط النضال، والواجبات هي جعل قرار النضال في يد الشغيلة أنفسهم.
بدل ذلك يصر التنسيق النقابي على نفس النهج في بيانه المستعجَل:
* “توجيه رسائل في الموضوع لرئيس الحكومة ووزيرة المالية ورؤساء الفرق البرلمانية بمجلسي النواب والمستشارين”، وكأن كل هؤلاء غير مُدركين لما يفعلون. فقد وردَ في البيان المستعجل أن التنسيق النقابي: “يعتبر أن تغيير نمط تدبير قطاع الصحة في إطار مؤسسات عمومية استراتيجية ذات طابع إداري، لا يعني الإجهاز على المناصب المالية القارة بالقطاع…”، في حين أن كل المنظومة القانونية الجديدة تعني بالضبط ذلك الإجهاز، وقد تأكد هذا بالخصوص بعد تسريب مشروع النظام الأساسي النموذجي للمجموعات الصحية الترابية. وليس الأمر كما جاء في البيان المستعجَل: “الكلام عن حذف المناصب بعد مدة وتوجيه مسارها نحو المجهول!!!”، فمسارها ليس مجهولا إلا لقياداتنا النقابية، أو بالأحرى تتجاهله لأنها منخرطة حتى أذنيها في صياغة نصوصها القانونية، هذا المسار هو “المجموعات الصحية الترابية”.
* الإصرار على جعل شغيلة الصحة مجرد ورقة احتياط قد يستعملها التنسيق النقابي الوطني للمناوشة (كما فعل في فبراير- يوليوز 2024) عندما ترفض الوزارة اعتماد المقاربة التشاركية: “يهيب بالقواعد وكل فئات شغيلة الصحة إلى التعبئة والاستعداد لكل المحطات المقبلة والاحتمالات”. فالواجب ليس هو إصدار أوامر للشغيلة كي يستعدوا لتنفيذ برامج نضالية مسطَّرة من أعلى من طرف القيادات، بل تعبئة فعلية في أماكن العمل ومقرات النقابات وعقد جموع عامة مشتركة بين منخرطي كل نقابات التنسيق النقابي الوطني. هذه هي “الديمقراطية العمالية” التي كانت عنوان جريدة الكونفدرالية الديمقراطية للشغل، وهي السبيل الوحيد لفرض المكاسب على الدولة وفرض تطبيقها في الآن ذاته… ليس الشغيلة جنودا في ثكنات القيادات النقابية تستنفرها وقتما شاءت وتُسرِّحها عندما توقع الهدنة مع الدولة. لكن قياداتنا النقابية تتخوف من النضال وتعتبره آخر حل [“الإضراب أبغض الحلال” كما قال عبد الغني الراقي، الكاتب الوطني السابق للنقابة الوطنية للتعليم- كدش]، وهو ما يؤكده البيان المستعجل بقول: “… خرق أول نقطة في الاتفاق وخلق شروط احتقان جديد في القطاع”، فمن يخاف من “الاحتقان” لا يستحق أن يكون في قيادة منظمة عمالية.
سبق وكتبنا أن “المقاربة التشاركية” التي تصر قياداتنا النقابية على اعتمادها، تَقبلُها الدولة ظرفيا لتحقق هدفين: 1) “ربح مزيد من الوقت في انتظار خروج القوانين التطبيقية للوظيفة الصحية وبداية تنفيذ قانون المجموعات الصحية الترابية”؛ 2) “إعطاء انطباع «جِدِّي» للقيادات النقابية بأنها «شريك اجتماعي» فعلي، في حين أن هذه الإجراءات غايتها ربح الوقت”، وما أن تحقق الدولة هدفيها حتى تضع بـ”المقاربة التشاركية” في الثلاجة في انتظارها تسخينها عندما يحمى النضال. وها هو مشروع النظام الأساسي النموذجي للمجموعات الصحية الترابية ومشروع قانون مالية 2025 والبيان المستعجَل لقياداتنا النقابية تؤكد ما كتبناه سابقا [8 أكتوبر 2024، “هل تكفي «المطالب ذات الأثر المالي» لتحسين الدخل؟”، https://www.almounadila.info/archives/24372].
لقد أثبتت “المقاربة التشاركية” و”الحوار الاجتماعي” لحدود الساعة أنهما جالِبا كوارث على الشغيلة، فليكن شعارنا في المرحلة الراهنة: لا مغادرة لسفينة المقاومة.. لا شيء غير النضال. وبدل الإصرار على مطالب وهمية (صفة الموظف العمومي، مركزية الأجور)، أو مطالب سريعة الزوال (المطالب ذات الأثر المالي)، وليكن ملفنا المطلبي مستهِدفا لجوهر هجوم الدولة علينا.
أمام تعديات الدولة والاستسلام الناجز لقياداتنا النقابية لا غنى لشغيلة الصحة عن إعادة صياغة برنامجها النضالي وملفها المطلبي على أرضية الدفاع عن الصحة العمومية كمدخل أساسي للحفاظ على الوظيفة العمومية بمكتسباتها، ولن يستقيم ذلك إلا بالنقاش من الأسفل والاعتماد على الجموع العامة في أماكن العمل كاملة الصلاحية في تحديد الملف المطلبي والخطوات النضالية وإفراز لجنة للتفاوض منبثقة من الأسفل غير دائمة. فالقاعدة هي من تقرر في الملف المطلبي وفي البرنامج النضالي (الخطوات الاستمرار أو التوقف)، وهي من تجعل من أشكال النضال مُعبرا حقيقيا على مستوى استعدادهم- هن وتنظيمهم- هن وتصميمهم- هن.
- مقترحات للملف المطلبي:
- مجانية وعمومية الخدمات الصحية وذلك عبر التراجع عن كل أشكال الخوصصة والتدبير المفوض وبيع المؤسسات وشراكة قطاع عام- قطاع خاص، وإلغاء التسعيرة المفروضة على الخدمات العلاجية، فهذه الخدمات يجب ألاُّ تطالها أيدي الرأسمال والاتجار فيها، بل يجب أن يتمتع بها جميع أفراد الشعب على قدم المساواة من طرف قطاع عمومي مجاني. هذا المطلب تلتقي فيه كل شرائح المجتمع وهو الضامن لتعاطف الشعب مع نضالاتنا.
- فرض ضريبة تصاعدية على أرباح الشركات الخاصة وتخصيص مداخيلها لدعم ميزانية قطاع التعليم والصحة.
- إلغاء التدبير المفوض لخدمات النظافة والحراسة والإيواء والإطعام والأوكسيجين…، وإدماج شغيلة هذه الخدمات في الوظيفة العمومية القارة.
- إلغاء صفة المؤسسة العمومية من النصوص القانونية المنظمة للمجموعات الصحية الترابية وتحويلها إلى مديريات جهوية تابعة للدولة كما كان عليه الأمر سابقا.
- إلحاق شغيلة القطاع الخاص لنفس القانون الذي يخضع له شغيلة القطاع العام تحت شعار نفس الواجبات (المهام، ساعات العمل…) نفس الحقوق (الأجور، الترقيات، الشغل القار…) والتراجع الفوري عن مشروع النظام الأساسي النموذجي الخاص بمهنيي الصحة.
- زيادة عامة وفعلية في الأجور مع إحياء شعار السلم المتحرك للأجور بدون عتبة يستفيد منه حتى المتقاعدون والطلبة…
- الدفاع عن المعايير الجماعية لاحتساب الترقية والنضال من أجل إلغاء التراجعات التي لحقت الحق في الترقية وعلى رأسها الترقية بالشهادة، ورفض مقاربة الترقية بالأداء الفردي للموظف
- التضامن مع نضالات طلبة الطب والصيدلة والدفاع عن تكوين طبي جيد.
- عودة شغيلة الصحة إلى النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية (1958)، ولن يستقيم ذلك الا بالنضال من أجل مجانية الخدمات الصحية وعموميتها وهذا هو الضامن الوحيد والأساسي للدفاع عن الوظيفة العمومية ومركزية الأجور. هذا المطلب تلتقي فيه كل شرائح المجتمع من شأنه أن يطلق دينامية نضالية في اتجاه الإضراب العام العمالي والشعبي ضد مجمل سياسة الدولة النيوليبرالية…
تستدعي هذه المطالب نضالا جماعيا، يضم مجمل شغيلة البلد وكادحيه وكادحاته، ضد مشروع قانون المالية لسنة 2025، كونُه يكثِّف استراتيجية الدولة القائمة على دعم سخي للرأسمال، وليس القبول بقانون المالية والمطالبة فقط بإيراد أجور شغيلة الصحة ضمنه.
اقرأ أيضا