فلسطين والأممية الرابعة
كتب إرنست ماندل (يوقّع أعماله بالاسم المستعار “جيرمان”) “مسودة أطروحات حول المسألة اليهودية اليوم” في الأول من كانون الثاني/ يناير 1947 واعتمدتها الأمانة العامة الدولية للأممية الرابعة بعد ذلك بعام ببيان:
في ضوء حقيقة أن هذا السؤال قد أثير في صفوفنا لأول مرة وأن المناقشة من المرجح أن تسفر عن مساهمات عديدة، تقدم الأمانة الدولية هذه الأطروحات كخط للوجهة العامة، مع الاستعداد في سياق المناقشة لتقديم توضيحات أو تعديلات أو تصحيحات إذا لزم الأمر…
تأسست الأممية الرابعة في سبتمبر 1938 في ظل ظروف قاسية للغاية بسبب رد الفعل الإمبريالي والفاشي والستاليني، وقد عقدت الأممية الرابعة مؤتمرها الثاني في أبريل 1948 عندما تمكنت من مناقشة الوضع في فلسطين.
لم تمنع الضجة الدولية بشأن الهولوكوست الأممية الرابعة الشابة من الدفاع عن حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، وفي حين عارضت الهجرة اليهودية إلى فلسطين، فقد دافعت عن فتح حدود الولايات المتحدة وأمريكا اللاتينية وأوروبا وأستراليا من أجل الهجرة اليهودية.
على العكس من ذلك، صوَّت ستالين والاتحاد السوفيتي لصالح تقسيم فلسطين في تشرين الثاني/ نوفمبر 1947 وقدموا أسلحة للميليشيات الصهيونية لطرد 800 ألف فلسطيني من أراضيهم خلال النكبة.
لعبت مجموعات التروتسكيين الصغيرة في مصر وفلسطين بالتأكيد دوراً في فضح طبيعة الاستعمار الصهيوني لفلسطين.
يرجى مراجعة موقعنا على الإنترنت (موقع: “الرابطة الأممية للعمال – الأممية الرابعة”)، الكرّاس المثير للاهتمام “عن الصهيونية” الذي كتبه التروتسكي المصري أنور كامل عام 1944، وهو من أولى المقالات ا-لطويلة التي تندد بالصهيونية والتي نُشرت آنذاك في الدول العربية.
بقلم، إرنست جيرمان
مسودة أطروحة حول المسألة اليهودية اليوم
أ- المسألة اليهودية في العالم الرأسمالي
1- على مر العصور كان قدر اليهود، وهم شعب من التجار الذين كان لبقائهم بين الشعوب الأخرى أسبابه المتجذرة في وظيفة اجتماعية خاصة، يتحدد بالتطور العام للمجتمع، التطور الذي أحدث تغيرات في علاقاتهم مع الطبقات المتعددة. فتحت الثورة البرجوازية في أوروبا الغربية الباب للأحياء اليهودية ودَمجت الجماهير اليهودية بالمجتمع المحيط. بدا استيعاب اليهود وكأنه واقع متحقق. ولكن بلدان أوروبا الوسطى والشرقية، هذا الخزان الاحتياطي الهائل لليهود المحتجزين منذ قرون لوظائف السمسرة، دخلت على طريق التطور الرأسمالي في الوقت الذي كانت فيه الرأسمالية العالمية قد شرعت بالفعل في مرحلتها الإمبريالية. ورغم أن علاقات التبادل والإنتاج القديمة شهدت انقلابا مفاجئا سلب اليهود الأساس المادي لوجودهم، لم يكن هنالك تصنيع على نطاق واسع بما يسمح لهذه الملايين من السماسرة عديمي النفع للاندماج في البروليتاريا. وهكذا تم إغلاق الباب أمام التمايز الاجتماعي للجماهير اليهودية. أصبح جزء صغير من اليهود رأسماليا أو بروليتاريا، وهاجر جزء أكبر منه، ما كان ينافي بالتالي الميل نحو الاندماج الكامل الذي كان يجري في البلدان الغربية. الجزء الأكبر منهم بقي في حالة بائسة لصغار التجار، “مسحوقا بين الإقطاع والرأسمالية، يغذي كل منهم تعفن الآخر” (أبراهام ليون).
2- كان للحركات المعادية للسامية في الماضي دوما قاعدة اجتماعية مباشرة أو غير مباشرة. كانت حركات من طبقات اجتماعية متعددة تناقضت مصالحها في وقت معين مع الوظيفة الاجتماعية لليهود. باتت معاداة السامية في بدايات القرن العشرين مختلفة.
استطاعت القوى السياسية الرجعية، في البلدان المتخلفة بأوروبا الشرقية، أن تحول استياء الجماهير ويأسهم إلى مجازر دورية، فكراهية قلة من الناس تجاه المرابين اليهود، وصغار التجار وأصحاب المتاجر اليهود، كانت واقعا اجتماعيا لا يمكن إنكاره.
في بلدان وسط أوروبا، كان لحركات معاداة السامية، مثل برجرمايستر لوغار في فينا، جذورها الاجتماعية في تأجيج المنافسة داخل الطبقة الوسطى الحرفية والتجارية التي أغرقها مدّ المهاجرين اليهود.
في فرنسا، كان لحركة معاداة السامية، التي اندلعت في وقت قضية ديرفوس أصلها الاجتماعي في كراهية أرستقراطية رجال البنوك اليهود الذين قاموا بشراء قلاعهم، وأبناء الأرستقراطيين الذين رأوا أن الحِرف التي سبق وأن كانت “محجوزة” لهم حصرا، باتت محتلة الآن من قبل هؤلاء المنافسين الخطرين. نجحت هذه الشرائح الاجتماعية لبعض الوقت في تأجيج المشاعر القومية الملتهبة لجزء كبير من البرجوازية الصغيرة ضد اليهود.
متجذرةً في صراعات اجتماعية معينة، اتخذت هذه الحركات المتعددة المعادية للسامية أكثر المظاهر تنوعا، على طول الخط من ظاهرة البربرية المطلقة (المذابح الروسية)، إلى صياغة النظريات القومية “المتقنة” والتي كانت من سمات الحقبة الإمبريالية (تشارلز موراس).
3- في أوروبا الغربية، خلقت الفرص الاجتماعية لاستيعاب اليهود حركة أيديولوجية قوية تجاه الاستيعاب الكامل. وفي أوروبا الشرقية أفضت استحالة استيعاب اليهود على نطاق واسع إلى تيار قوي باتجاه نهضة قومية والحفاظ على السمات الوطنية. كانت داخل التجمعات الكبيرة للجماهير اليهودية في بولندا، ولتوانيا، وروسيا الغربية، وهنغاريا، ورومانيا، وسلوفاكيا، حيث تطور هناك أدب جديد باليديشية، وفلكلور جديد، وحياة ثقافية، وحتى سياسية، مستقلة (“البوند” في الحركة العمالية). أينما كانت الجماهير اليهودية، التي هاجرت إلى الولايات المتحدة، مقيدة اجتماعيا مجددا في مجالات اقتصادية محددة، وحيث كانت تتركز جغرافيا، استمرت هذه الحركات حتى في هذه البلدان.
لينين، الذي فهم وحده من الأممية الثانية كيفية تطبيق الاستراتيجية الماركسية على المسألة القومية، رفض كل الصيغ المتحذلقة في تقييمه لهذا التيار. لقد انطلق من وجهة نظر مفادها أن مهمة الحزب الثوري هي أن يدمج في حركة تحرير البروليتاريا كل تيار ثقافي وقومي مستقل يتوافق مع التطلع الحقيقي للجماهير العاملة. لهذا السبب اعترف بشرعية الحركة اليهودية، من وجهة نظر اشتراكية، بقدر ما اعترف بالحركات البولندية أو التشيكية. كانت مهمة العمال اليهود تتمثل في النضال، إلى جانب عمال البلد الذي يعيشون فيه، من أجل إسقاط الرأسمالية، وبعد هذا يكونون أحرارا تماما لتولي تنظيم اقتصادهم الوطني والثقافي كما يختارون.
4- حقبة الرأسمالية المتدهورة هي أيضاً حقبة الأزمة الحادة للمشكلة اليهودية. دمر التضخم والضغط المتزايد لرأس المال المالي وأخيراً الأزمة الاقتصادية العميقة الملايين من صغار أصحاب المتاجر والتجار، وأشعلت جذوة كراهيتهم لمنافسيهم اليهود. في أوروبا الوسطى والشرقية، أدت البطالة المروعة بين العمال المثقفين، والبؤس المدقع للمهنيين، إلى خلق مناخ موات بشكل خاص لظهور حركات جماهيرية برجوازية صغيرة واسعة النطاق، والتي وجدت في معاداة السامية إحدى أسلحتها الأيديولوجية. في أوروبا الشرقية كشفت هذه الحركات عن تيار شعبي عميق للغاية، تجلى في العديد من الفورات الدموية. في ألمانيا، كانت سلطة الدولة، التي وقعت في أيدي الحكام النازيين، هي التي نظمت اضطهاد اليهود في البداية، ومن ثم إبادتهم. بهذا المعنى، فإن الرأسمالية المتعفنة، التي وضعت السلطة عمداً في أيدي عصابة من المجرمين الدمويين، هي التي تتحمل المسؤولية الكاملة عن المصير الفظيع للجماهير الأوروبية اليهودية خلال الحرب. إن إبادة يهود أوروبا على يد الإمبريالية الألمانية هي تحذير لجميع الشعوب الأخرى، لتبين لهم المصير الذي ينتظرهم طالما استمر المجتمع المعاصر في الانحلال.
5- نشأت الصهيونية في أوساط البرجوازية الصغيرة اليهودية لأوروبا الوسطى، كردة فعل ضد إعادة ولادة معاداة السامية في بداية القرن العشرين. حركة برجوازية صغيرة نمطية، بقيت لفترة طويلة دون دعم البرجوازية اليهودية، ومعزولة عن الجماهير الشعبية. خلال الحرب العالمية الأولى، الإمبريالية البريطانية، التي أرادت استخدام الصهيونية كأداة من أجل تأسيس نفسها في فلسطين، بدت وكأنها تقدم للصهيونية إمكانية أن تصبح واقعا من خلال وعد بلفور. في ذلك الوقت بدأ تدفق صغير من الواردات الرأسمالية، وحركة طفيفة للهجرة. لكن فقط بعد وصول هتلر إلى السلطة والسقوط المفاجئ ليهود أوروبا في الهاوية، “تسارعت” هاتان الحركتان، رغم عرقلتهما من قبل الهَبّات القومية للعرب وسياسة الإمبريالية البريطانية التي ألقت المزيد والمزيد من الحواجز ضد التغلغل اليهودي في فلسطين.
بالنسبة للبروليتاريا الثورية، يجب النظر إلى الصهيونية على أنها حركة طوباوية ورجعية:
الطابع اليوتوبي والرجعي للصهيونية
يوتوبيا:
أ- لأن الصهيونية تؤمن بإمكانية التطور “المتناغم” لقوى الإنتاج ضمن “اقتصاد منغلق” في فلسطين، في خضم عالم رأسمالي يمر باضطرابات اقتصادية أعظم من أي وقت مضى. التطور الهائل للاقتصاد الفلسطيني الذي سيكون ضروريا في حال استيعاب عدة ملايين من المهاجرين، لا يمكن تحقيقه في إطار الاقتصاد الرأسمالي العالمي الراهن.
ب- لأن الصهيونية تعتقد أن خلق دولة يهودية أو “ثنائية القومية” ممكن في ظل العداء المفتوح لـ 50 مليون عربي – في مواجهة حقيقة أن النمو السكاني العربي يتزايد بنفس نسبة الهجرة اليهودية والتصنيع التدريجي للبلاد.
جـ- لأن الصهيونية تأمل ببلوغ هذا الهدف عبر الاعتماد على المناورات بين القوى العظمى، والتي جميعها في الحقيقة، تريد ببساطة أن تستخدم الحركة الصهيونية كبيدق في لعبتها من أجل القوة في العالم العربي.
د- لأن الصهيونية تعتقد أنه من الممكن تحييد معاداة السامية في كافة أنحاء العالم بالضمانة البسيطة لقومية لليهود – في مواجهة حقيقة أن معاداة السامية لها جذور اجتماعية، وتاريخية، وأيديولوجية عميقة، والتي سيكون انتزاعها أكثر صعوبة طالما أن المعاناة المميتة للرأسمالية تتمدد.
رجعية:
أ- لأن الصهيونية تخدم كمساندة للهيمنة الإمبريالية البريطانية، بإعطاء الإمبريالية الذريعة للتصرف “كحكَم” بين اليهود والعرب، ومن خلال المطالبة بالإبقاء على الانتداب البريطاني، وعبر تطوير اقتصاد يهودي مصغر “مغلق”، يكون فيه للجماهير العاملة معايير أعلى للمستوى المعيشي ومصالح مباشرة مختلفة عن تلك التي لدى الجماهير العاملة العربية.
ب- لأنها تنتج ردة فعل قومية من جانب الجماهير العربية، متسببة بانقسام عرقي لحركة الطبقة العاملة، ما يعزز “الاتحاد المقدس” لكلا اليهود والعرب، ما يتيح للإمبريالية بالتالي إدامة الصراع عبر الاستمرار في إبقاء قواتها بفلسطين.
جـ- لأنها تؤخر الحركة من أجل الثورة الزراعية بشراء الأراضي من كبار ملاك الأراضي العرب، وتسخيرها، بفضل الإعانات الأجنبية، لزراعة يهودية “مغلقة” ضمن الزراعة العربية الفلسطينية. وبهذه الطريقة تجري إعادة تأسيس تموضع كبار ملاك الأراضي إلى حد ما، وتؤخذ الأراضي من الفلاحين العرب. والأهم من هذا كله، أن الجماهير اليهودية في فلسطين ليست لديها مصلحة في القتال من أجل تقسيم أراضي الأفنديين بين الجماهير العربية، حيث أن هذا سيعني نهاية عملية شرائهم للأراضي.
د- لأنها تعمل على إعاقة مشاركة الجماهير العاملة اليهودية في النضال الطبقي في بقية أنحاء العالم، وتفصلها عن البروليتاريا الأممية، وتعطيها أهدافًا مستقلة للكفاح من أجلها، وتخلق لها أوهاما حول إمكانية تحسين نصيبها في إطار الرأسمالية العالمية المتحللة.
لكل هذه الأسباب، كانت الحركة العمالية الثورية تخوض دوما نضالا ضاريا ضد الأيديولوجية الصهيونية وممارساتها. الحجج التي قدمها الممثلون “الاشتراكيون” للصهيونية لصالح قضيتهم هي إما الحجج الإصلاحية الكلاسيكية (“إمكانية تحسين وضع الجماهير اليهودية تدريجياً”)، أو الحجج الاجتماعية الوطنية (“لا بد أولاً من حل المسألة القومية لجميع اليهود قبل الاقتراب من حل المشاكل الاجتماعية للعمال اليهود”)، أو الحجج الكلاسيكية للمدافعين عن الإمبريالية (“لم يؤد تغلغل اليهود في فلسطين إلى تطوير الصناعة فحسب، بل أدى أيضا إلى تطور الحركة العمالية، والثقافة العامة للجماهير، ومستوى معيشتهم… إلخ) – أي الحجج التي يقدمها المدافعون عن الاستعمار في كل بلد.
ب- المظهر الحالي للمسألة اليهودية في كافة أنحاء العالم
6- بعد الحرب العالمية الثانية، ظهر الوضع المأساوي الخاص لليهود كرمز لمأساة الإنسانية بأسرها وهي تنزلق نحو البربرية. بعد مأساة اليهودية الأوروبية المروعة، بات اليهود في كل جزء من العالم يواجهون إحياء عداء شرائح واسعة من السكان ضدهم.
أ- في أوروبا، بعد سنتين من “التحرير”، كان لا يزال أكثر من 100 ألف يهودي يعيش تحت وطأة نظام معسكرات الاعتقال سيء الصيت. سادة الإمبريالية، الذين استطاعوا في سياق عملياتهم العسكرية نقل ملايين الرجال في غضون بضعة أيام، لم يكونوا قادرين، بعد البحث لعشرين شهرا، على العثور على أي ملجأ على الإطلاق لهؤلاء البائسين الناجين من المعسكرات النازية. في جميع أنحاء القارة، لم يتبق سوى مليون يهودي.
ب- في فلسطين، 700 ألف يهودي يواجهون عالما عربيا في ثوران كامل. يضيف تطور الرأسمالية المصرية والسورية عاملَ المنافسة الاقتصادية إلى الأسباب الكثيرة لمناهضة الصهيونية عسكريا. ستقوم الإمبريالية البريطانية وسادة الإقطاع العرب والبرجوازية من جانبهم ببذل كل ما في وسعهم لتحويل كراهية الجماهير العربية المضطهدة ضد اليهود ككبش فداء. لذا، فإن اليهود في فلسطين معرضون لخطر الاندثار في الانفجار واسع النطاق الذي يتهيأ في الشرق الأوسط.
جـ- في الاتحاد السوفياتي، استفادت البيروقراطية في صراعها ضد المعارضة من معاداة السامية، الكامنة داخل جماهير الفلاحين والشرائح المتخلفة في الطبقة العاملة. خلال فترة الخطة الخمسية الأولى والثانية تم جلب ملايين التجار والحرفيين اليهود إلى الرتب الدنيا والمتوسطة من البيروقراطية، كمهندسين وفنيين ومدراء تعاونيات، وإلى الطبقات العليا في المزارع الجماعية. في روسيا الغربية، كانوا يشكلون ذلك الجزء من البيروقراطية الأكثر اتصالًا بالجماهير المضطهدة، وبالتالي فإن كراهية الجماهير للطفيليات والمنتفعين من النظام باتت تتركز ضدهم. قدمت المذابح الدموية التي شنها السكان الأصليون وقت الغزو الألماني دليلاً واضحًا جدًا على اشتداد هذه الكراهية (قُتل 70000 يهودي في كييف في أربع وعشرين ساعة). اشتداد الأزمة الاجتماعية في روسيا وعمليات التطهير في الحرب الأهلية ستشهد بالتأكيد إبادة الجماهير اليهودية إذا انتصرت الثورة المضادة.
د- وأخيرا، في الولايات المتحدة، سيؤدي حصر اليهود في قطاعات معينة من الصناعات الصغيرة والتجارة والمهن التجارية والمهنية، خلال الأزمة الاقتصادية الحادة المقبلة، إلى تصعيد المنافسة، ما سيمنح قاعدة مادية قوية لمناهضي السامية، والكامنة منذ الآن. كان استغلال التحيزات الرجعية ضد “الأقليات العرقية” سلاحا مفضلا منذ زمن طويل لدى رجال العصابات الفاشيين الأمريكيين. بقدر ما يؤدي اشتداد الأزمة الاجتماعية إلى تسييس الحركة العمالية ويؤدي الانحلال السريع “للديمقراطية” الأمريكية إلى نشوء حزب جماهيري فاشي، فإن معاداة السامية وكذلك التحريض ضد الزنوج سيكون لهما أبعادا هائلة. إن مصير اليهود في الولايات المتحدة مرتبط بشكل وثيق بنتيجة النضال الهائل للطبقة العاملة الأمريكية ضد البرجوازية اليانكية. انتصار الأخيرة من خلال إقامة دكتاتورية من شأنه أن يعني كارثة لليهود، في غضون فترة قصيرة، بحيث لا يمكن مقارنتها إلا بالكارثة التي كان يعنيها بالنسبة لليهود وصول هتلر إلى السلطة في أوروبا.
7- أدت سلسلة العذابات اللامتناهية، التي مرت بها الجماهير اليهودية في أوروبا، بلا شك إلى تسريع تنامي الوعي القومي، سواء بين الناجين أو بين الجماهير اليهودية في أميركا وفلسطين، الذين يشعرون أنهم مرتبطون بشكل وثيق بقدر أخوتهم في أوروبا. هذا الوعي القومي تجلى عبر التالي:
أ- تريد الجماهير اليهودية بشكل عام الآن تأكيد جنسيتها ضد الشعوب الأخرى. القومية اليهودية العنيفة جاءت انسجاما مع عنف الاضطهاد ومعاداة السامية.
ب- تتجه أنظار الجماهير اليهودية في أوروبا نحو الهجرة. مع إغلاق جميع الحدود بإحكام، ونتيجة للظروف العامة لعالم ما بعد الحرب وتوافقا مع موجة القومية الغارقة، فإن رغبة اليهود في ترك قارة ليست بالنسبة لهم سوى مقبرة واسعة تجد تعبيرها في المقام الأول برغبة صهيونية في الذهاب إلى فلسطين.
جـ- داخل الحركة الصهيونية، فإن النضال من أجل “الدولة اليهودية”، الذي كان يديره حتى الآن حصرياً اليمين المتطرف (“التحريفون”)، قد تم تناوله الآن من قبل جميع الأحزاب (“برنامج بيلتمور”) باستثناء الوسطي هاشومير هاتزاير.
إحياء الوعي القومي للجماهير هو نتيجة لانحلال الرأسمالية الذي يثير مرة أخرى كل المشاكل التي تم حلها في فترة توسعها. على الأممية الرابعة، التي ترتكز بقوة على برنامجها وعلى تحليل علمي للوضع في فلسطين، ولكن في نفس الوقت مع مراعاة الحالة الذهنية الفعلية للجماهير اليهودية، أن تدرك أن رغبتهم في قيادة وجودهم القومي هي شرعية. يجب على الأممية الرابعة أن تظهر بشكل ملموس أن اكتسابهم لقوميتهم لا يمكن تحقيقه في ظل مجتمع رأسمالي متحلل، وهو أمر غير قابل للتحقيق ورجعي في فلسطين. يجب على الأممية الرابعة أن تظهر أنه بالنسبة لليهود كما هو الحال بالنسبة لجميع شعوب الأرض الأخرى، فإن الدفاع أو الفوز النهائي بقوميتهم لا يمكن تحقيقه من خلال بناء دول واقتصاديات “مغلقة”، لكن الاقتصاد الاشتراكي العالمي المخطط هو الإطار الواقعي الوحيد الذي يمكن من خلاله التطور الحر والطبيعي للشعب اليوم. يجب على الأممية الرابعة توعية الجماهير اليهودية بالكوارث الرهيبة التي تنتظرها إذا استمر اضمحلال الرأسمالية في مساره. إن اندماج حركة التحرر اليهودية في حركة الطبقة العاملة العالمية هو الشيء الوحيد الذي سيجعل من الممكن إيجاد حل منسجم للمشكلة اليهودية. إن الاقتصاد الاشتراكي المخطط، “الذي يغير تضاريس الكرة الأرضية بالكامل” (تروتسكي)، سيضمن لكل من يريده وجوده القومي في إطار الولايات المتحدة العالمية.
برنامج عمل
8- لكن الأممية الرابعة لن تكتسب أبدا تأثيرا حاسما على الجماهير اليهودية بمجرد إعلانها أن الثورة الاشتراكية هي وحدها التي ستحررهم. فقط من خلال تولي قيادة حركة عالمية واسعة للتضامن من جانب البروليتاريا تجاه ضحايا الاضطهاد الإمبريالي والفاشي، فقط من خلال الإظهار لليهود في الممارسة العملية أن الحلول التي اقترحتها الحركة الثورية توفر أملا أكبر وأكثر واقعية من “الحل” الصهيوني – بهذه الطريقة فقط ستنجح الأممية الرابعة في المنعطف التالي في جذب الجماهير اليهودية إلى النضال العالمي ضد الإمبريالية. والتقدم في المسيرة ضد التيار الصهيوني اليوم، ومعارضته بحل فوري وملموس آخر – هاذان هما العاملان اللذان لا غنى عنهما في التحضير للمرحلة المقبلة. بعدما مرت الجماهير اليهودية بتجربتها المخيبة للآمال مع الصهيونية وتعلمت عدم جدوى جهودهم وتضحياتهم، فسوف يتجهون نحونا – بشرط أن نفهم كيفية التحرك نحوهم اليوم بما نقدمه من حلول بالتوازي مع نقد عنيد للصهيونية.
أ- ينبغي على كافة قطاعات الأممية الرابعة أن ترفع شعار: “افتحوا أبواب كل الدول للاجئين اليهود! ألغوا جميع القيود المفروضة على الهجرة! ” لا بد من دعم هذا الشعار بشكل خاص في الولايات المتحدة من جهة، ومن قبل الأقسام الإنجليزية والكندية والفرنسية وأمريكا اللاتينية من جهة أخرى. يجب أن يضيف القسم الأخير، وخاصة القسمين الأرجنتيني والبرازيلي، وكذلك القسم الأسترالي لدينا، إلى هذا الشعار: “ألغوا جميع البنود العنصرية والدينية التمييزية في تشريعات الهجرة!”. يجب استخدام كل مناسبة ملموسة (شكاوى حول عدم كفاية القوى العاملة وانخفاض عدد السكان، والانفتاح الجزئي للبلاد أمام فئات معينة من المهاجرين، وإجراءات إحياء ذكرى ضحايا الفاشية، وما إلى ذلك) لإثارة الرأي العام للطبقة العاملة في البلد والمطالبة باتخاذ إجراءات ملموسة كطريقة لتحقيق نتائج فورية. يجب استخدام قرارات مثل تلك الصادرة عن رئيس قسم المعلومات كنقطة انطلاق للمطالبة باتخاذ إجراءات من الاتحاد العالمي لنقابات العمال، من أجل تنظيم حركات مشتركة في تلك القطاعات الاقتصادية والاجتماعية الأكثر استعدادا للتعبير عن تضامنها في العمل (البحارة، موظفو الحكومة، وما إلى ذلك) من خلال الإضرابات البطيئة، والتخريب المنظم للتدابير التمييزية، وأعمال الاحتجاج، والاجتماعات والمظاهر المشتركة، وما إلى ذلك. فقط بقدر ما تستطيع فروعنا أن تثبت لليهود أنها تخوض نضالا حقيقيا وفعالا من أجل فتح بلدها للهجرة – بذلك فقط ستنجح في جعل اليهود يختارون الهجرة إلى هذه البلدان بدلاً من فلسطين، لأن الهجرة إلى فلسطين ستكون عندئذ أكثر صعوبة، كما تشكل في نفس الوقت عملا مناقضا لمصالح الجماهير المناهضة للإمبريالية في الشرق الأوسط.
ب- يجب على جميع فروعنا الأممية الرابعة أن تكرس نفسها بجدية لمهمة مكافحة الأبخرة الكريهة للأيديولوجية المعادية للسامية الموجودة أو المتزايدة بإطراد في شرائح كبيرة من السكان في كل بلد. إن عمل التطهير هذا أكثر إلحاحا لأن حركة الطبقة العاملة “الرسمية”، سواء المحافظة أو الجبانة أو المبنية على الحسابات الحزبية الضيقة (لا يتم التعبير عن معاداة التروتسكية للحزب الشيوعي الفرنسي بشكل متكرر في الحجج المعادية للسامية) لا تفعل شيئا للقضاء على سم معاداة لليهود الذي أدخلته دعاية هتلر في وعي الجماهير.
في كل مناسبة ملموسة يجب على قطاعاتنا هدم الأكاذيب الفاشية حول “الرأسمالية اليهودية” أو “الاحتكاريين اليهود”. وعليها أن تحذر باستمرار المنظمات الجماهيرية البروليتارية من كل محاولة لإعادة بناء المنظمات المعادية للسامية. باستخدام الأمثلة المأساوية للسنوات الماضية، يجب عليها تخصيب وعي الجماهير بالحقيقة الأساسية التي مفادها أن مصيرها معرض للخطر في النضال ضد العصابات المعادية للسامية. فقط بقدر ما تستطيع فروعنا حث الجماهير على فهم هذه الحقيقة وترجمتها إلى أفعال – وهكذا فقط ستنجح في إقناع اليهود بأن اندماج حركة التحرر الخاصة بهم في حركة الطبقة العاملة العالمية هو الشيء الوحيد الذي سيضعهم في وضع يسمح لهم بالدفاع عن أنفسهم بفعالية ضد موجات جديدة من معاداة السامية.
جـ- يجب على جميع فروع الأممية الرابعة التي تواجه حركة فاشية منظمة تستفيد بشكل كامل من الديماغوجية المعادية للسامية وتشرع في الأعمال الإرهابية ضد اليهود، أن تسعى جاهدة لتعبئة الطبقة العاملة في تشكيلات مسلحة (مليشيات، إلخ) للدفاع عن الشعب اليهودي. وحيثما يتركز السكان اليهود جغرافيا في الأحياء اليهودية، يجب عليها أن تقترح وتساعد في إنشاء حراس دفاع مسلح، بينما تسعى لدمجهم مع ميليشيات العمال. يجب أن تشرح للجماهير اليهودية أن هذا الانصهار في الكفاح المسلح وحده ما يمكن أن يضمن دفاعا فعالا؛ كما يجب في نفس الوقت أن تحذر العمال من أن الدفاع المسلح عن اليهود وحده هو الذي يمكن أن يمنع سحق حركة الطبقة العاملة بأكملها في ما بعد بنفس الأسلحة الفاشية.
جـ- المظهر الحالي لمشكلة فلسطين
9- حظيت قضية فلسطين بأهمية جديدة وخاصة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية بسبب عدد من “العوامل الجديدة” التي غيرت ملامحها بشكل عميق:
* أدى التصنيع في الشرقين الأدنى والأوسط إلى تقوية البرجوازية العربية الأصلية إلى حد ما في مصر وفلسطين وسوريا ولبنان، وبدرجة أقل في البلدان العربية الأخرى. تم تسريع التمايز الاجتماعي بين المجتمع العربي الإقطاعي أو الأبوي القديم. ظهرت بروليتاريا عربية أكثر قوة بالفعل، من ناحية العدد والوعي السياسي، على الساحة السياسية، في العديد من بلدان الشرق الأوسط (الإضرابات في مصر وفلسطين وسوريا والعراق وإيران). أظهرت القومية العربية نفس الفروقات. إلى جانب الإسلاموية الإقطاعية والرجعية، يظهر الآن تيار عربي تقدمي يرى في تحقيق اتحاد الدول العربية في الشرق الأوسط الإطارَ الحقيقي الوحيد لتنمية القوى المنتجة ولتأسيس دولة عربية. لا يمكن للبرجوازية أن تدعم هذه الفكرة إلا بطريقة مترددة على مستوى أيديولوجي، بقدر ما ترغب في توسيع سوق صناعتها التي غرقت في أزمة عميقة منذ نهاية الحرب. القوة الوحيدة القادرة على إنجاز برنامج الثورة الديموقراطية القومية في العالم العربي هي البروليتاريا، التي تستطيع وحدها أن تنفذ حتى النهاية، من خلال آلية الثورة الدائمة، النضال ضد الإقطاع، من أجل الثورة الزراعية، وتحرر العالم العربي من التدخل الإمبريالي، ومن أجل تكوين وحدة العالم العربي.
* كان نمو الحركات المناهضة للإمبريالية في إطار الثورات الاستعمارية أهم الاضطرابات في فترة ما بعد الحرب مباشرة. كانت لإضعاف القوى الإمبريالية القديمة (بريطانيا العظمى وفرنسا وإيطاليا) نتائج في أن البرجوازية، وحتى بعض الفئات الإقطاعية، اغتنمت فرصة الحصول عن طريق الضغط – ودون الاضطرار إلى التخلص من النضالات الجماهيرية الحقيقية التي كانت دائما ما تتراجع عنها – على تنازلات هامة من قوى الاحتلال، مثل انسحاب القوات الفرنسية من سوريا ولبنان وخطوات تمهيدية لانسحاب القوات البريطانية من مصر. هذه التراجعات المختلفة من قبل الإمبريالية هي حافز للنضال ضد الإمبريالية في البلدان المستعمرة أو شبه المستعمرة الأخرى في الشرق الأوسط. إنها توجه ضربة قوية إلى هيبة الإمبريالية وتزيد من ثقة الجماهير المحلية في قوتها.
* تحويل فلسطين إلى موقع رئيسي في نظام الدفاع الإمبريالي في شرق المتوسط. بعد انسحاب القوات البريطانية من مصر، ستكون فلسطين القاعدة الرئيسية للأسطول البريطاني، والقوات الجوية، والجيش البري، والمخابرات في شرق البحر المتوسط، والموقع الرئيسي للدفاع عن قناة السويس والطريق الإمبريالي إلى الهند. إن الأعمال الإرهابية تُستخدم ببساطة كذريعة للتجمعات الكبيرة للقوات البريطانية في فلسطين. في الواقع، ما تنطوي عليه الإمبريالية البريطانية هو بناء قاعدة قوية بهدف مواجهة الصراعات القادمة والدفاع عن الإمبراطورية.
* تحول الشرق الأوسط إلى إحدى الرهانات الرئيسية في التنافس بين “الثلاثة الكبار”. قبل الحرب، كان الشرق الأوسط هو ذلك الجزء من العالم حيث كان النفوذ السائد للإمبريالية البريطانية أقل تعرضا للتهديد. منذ ذلك الحين، مسيرة رومل وصولاً إلى العلمين، وتنصيب “مراقبين” أمريكيين في مملكة آل سعود، واندلاع الخلاف الأنجلو أمريكي على النفط العربي، والنزاع الروسي الأنجلو أمريكي على النفط الإيراني، والتغلغل الروسي في أذربيجان الإيرانية، والمحاولات الروسية لتهديد سلامة الأراضي التركية، وتنظيم الكنيسة الأرثوذكسية في جميع أنحاء الشرق الأوسط كوكالة قوية لدبلوماسية الكرملين – كل ذلك أثار تساؤلات حول الهيمنة الحصرية لبريطانيا العظمى في هذا الجزء من العالم وحولته إلى ساحة صراعات مستمرة بين القوى العظمى. وبما أن الشرق الأوسط، علاوة على ذلك، هو أقل مصادر النفط استغلالاً وأهمها في العالم بأسره، فقد أصبح الآن المنطقة الرئيسية المتنازع عليها في الصراع العالمي على هذه المادة الخام الاستراتيجية، التي تتقلص احتياطياتها في الولايات المتحدة وفي الاتحاد السوفياتي بشكل كبير. يجب أن يُنظر إلى الحركات “التكتيكية” المختلفة للدبلوماسية الأمريكية والسوفياتية تجاه الحركة الصهيونية على أنها عناصر من مؤامراتها للحلول محل الهيمنة البريطانية في العالم العربي.
* مطلب الهجرة إلى فلسطين الذي تقدمت به جماهير اللاجئين اليهود في أوروبا وبدعم من حركة احتجاج قوية من جانب الصهيونية الأمريكية، وبلغت ذروتها في الأعمال “السلمية” للهاغانا في فلسطين إضافة إلى إرهاب الأرغون ومجموعة شتيرن.
نقطة انطلاقنا
10- يجب أن تتمثل نقطة البداية لموقف الأممية الرابعة بالنسبة للقضية الفلسطينية في فهم ضرورة النضال ضد الإمبريالية الذي يخوضه العرب، وتحديد هدف هذا النضال بإقامة وحدة الدول العربية. الشرق الأوسط. الجماهير العربية، العمال والفلاحين الفقراء، القوة الثورية تشكلت في الشرق الأوسط وكذلك في فلسطين، بسبب أعدادهم وظروفهم الاجتماعية والظروف المادية المحدّدة لوجودهم، ما يجعلهم في صراع مباشر مع الإمبريالية. يجب على الحزب الثوري أن يؤسس نفسه أولاً وقبل كل شيء على ديناميكيات الصراع الطبقي الذي يخوض معركة الدفاع عن مصالحهم. ينبغي أن يقود قطاع الشرق الأوسط للأممية الرابعة، الذي ينمو مع تنامي البروليتاريا العربية وقوتها، وبناء على قاعدة القوى القائمة في فلسطين ومصر، أعمال الجماهير في الدفاع عن مصالحهم اليومية، ووعي العمال لفهم ضرورة العمل السياسي، وعليهم أن يجتهدوا في الالتحام بكتلة المستغلين من البروليتاريا الثورية، من خلال النضال من أجل المطالب الأساسية الأربعة التالية:
أ- الانسحاب الفوري للقوات البريطانية. الاستقلال التام لفلسطين…
ب- دعوة فورية لعقد جمعية تأسيسية واحدة وذات سيادة.
ج- مصادرة أراضي الأفنديين، وإدارة الأراضي المصادرة من قبل لجان الفلاحين الفقراء، ومصادرة كافة المؤسسات المملوكة لرأس المال الأجنبي، مع إدارة العمال للمؤسسات المؤممة.
د- عبر النضال من أجل هذه الأهداف المركزية الأربعة، سيقوم الحزب الثوري بتثقيف الجماهير حول الحاجة إلى وضع أنفسهم بشكل متزايد في مواجهة البرجوازية العربية المرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالأفنديين. عندما يصل نضال الجماهير إلى ذروته، وتغطي لجان العمال والفلاحين في الشرق الأوسط بأسره وتطرح مسألة استيلاء البروليتاريا العربية على السلطة، يكون الحزب الثوري قد علم الجماهير ما فيه الكفاية. ليكون قادرا على قيادتها إلى مصادرة ملكية “البرجوازية الوطنية”.
11- هل يمكن أن تتحقق هذه الأهداف الأربعة في المرحلة الحالية عبر نضال مشترك بين الجماهير العربية وجماهير الطبقة العاملة اليهودية؟ للإجابة على هذا التساؤل يجب أن نبدأ ليس من الصيغ المجردة ولكن من الحقائق الاجتماعية والأيديولوجية للحياة اليهودية في فلسطين. باستثناء عدة آلاف من العمال اليهود، العاملين في السكك الحديدية، وفي مصافي التكرير ومرافق الموانئ، وكذلك البروليتاريا الصناعية والزراعية اليهودية بأكملها، العاملة في الصناعة اليهودية “المغلقة”، والتي تعمل على أساس ثابت يستورد رأس المال الأجنبي ويضمن للعمال اليهود مستوى معيشيا أعلى بكثير من مستوى العمال العرب. علاوة على ذلك، تعيش الجالية اليهودية في فلسطين في خوف دائم من انتفاضة عربية، وفي مواجهة هذا الخطر تضع كل آمالها في استمرار الهجرة والحفاظ على الاحتلال البريطاني. لذا، يمكن التأكيد على ما يلي:
أ) بعيدا عن الرغبة في الانسحاب الفوري لقوات الاحتلال البريطاني، فإن الجماهير اليهودية ترغب في احتفاظها بالبلاد. الشيء الوحيد الذي يطالب به القادة الصهاينة، البرجوازيون والعمال على حد سواء، هو تنازلات بشأن الهجرة وإقامة دولة يهودية. لكن الغالبية العظمى من اليهود في فلسطين (الهاغانا في المقام الأول) ليست مستعدة “للعمل” ضد الإمبريالية إلا بقدر ما لا يشكل هذا “العمل” خطراً على “الأمن” الأساسي للمجتمع اليهودي ضد العالم العربي. هذا هو السبب في أن الكفاح المسلح أو حتى التخريب واسع النطاق الذي تقوم به الجماهير اليهودية في المرحلة الحالية مستبعد فعليا. الهدف من العمل الصهيوني اليوم هو ببساطة ممارسة الضغط على الإمبريالية البريطانية من أجل كسب الامتيازات، وليس السعي لطرد الإمبريالية البريطانية من فلسطين.
لقد حددت الحركة الإرهابية وما يسمى بـ “اللجنة العبرية للتحرير الوطني” هدف طرد الإمبريالية البريطانية من فلسطين. لكنهم لا يستطيعون أن يتصوروا مثل هذا الطرد إلا في شكل تسليح عام لليهود في فلسطين من شأنه أن يكبح العالم العربي حتى يحين الوقت الذي تمنحه فيه الهجرة اليهودية على نطاق واسع القوة العسكرية لمعارضة “التهديد العربي”. هذه الأفكار، وهي فكرة مجردة تشكلت من طوباوية كاملة، شديدة الرجعية لا يمكنها إلا أن تعمق الهوة التي تفصل بين العمال اليهود والعمال العرب في فلسطين.
ب) يعارض جميع اليهود في فلسطين الدعوة الفورية إلى جمعية تأسيسية تضع السلطة في أيدي الأغلبية العربية من السكان.
يدعي الإرهابيون أنهم يكافحون من أجل فلسطين حرة ومستقلة وديمقراطية. لكن بما أنهم أكثر حماسة لكونهم أنصار “دولة يهودية”، عليهم أيضا أن يجدوا ذريعة لحرمان غالبية السكان من السيادة. يقولون إنهم ليسوا مستعدين لإجراء انتخابات عامة حتى يجري منح اليهود في المنفى “فرصة خلال فترة زمنية معينة” للعودة إلى بلادهم. بعبارة أخرى، إنهم لا يؤيدون الانتخابات العامة حتى اللحظة التي يشكل فيها اليهود أغلبية مطلقة من السكان.
ج) لا مصلحة لليهود في مصادرة ممتلكات الأفنديين، لأن ذلك سيحرمهم فعلياً من أيّة إمكانية لشراء أراضي جديدة وتوسيع “اقتصادهم اليهودي المغلق” في فلسطين.
د) إنهم يعارضون بشكل أكثر عنفا مصادرة الشركات التي أقيمت برأس مال أجنبي وإغلاق البلاد أمام الواردات الرأسمالية، لأن ذلك سيكون ضربة قاضية لاقتصادهم اليهودي.
وبالتالي فإن الاستنتاج الحتمي هو أن الجماهير اليهودية في فلسطين في المرحلة الحالية لا تشكل قوة معادية للإمبريالية، وأن إنشاء كتلة يهودية عربية مناهضة للإمبريالية لا يمكن أن يصبح شعارا للتحريض الفوري.
12- يجب النظر إلى مسألة الهجرة اليهودية إلى فلسطين في ضوء الاعتبارات السابقة. طالما أن الاقتصاد اليهودي والعربي موجودان كاقتصادين منفصلين في فلسطين، فإن السكان العرب العاملين سوف يعتبرون كل تدفق جديد للمهاجرين اليهود عملا من أعمال العداء الصريح. مع وجود جميع سكان فلسطين يعيشون تحت منظور اندلاع صراع دموي في الشرق الأوسط، يجب على الجماهير العربية بالضرورة أن تنظر إلى وصول المهاجرين الجدد على أنه وصول لجنود العدو؛ ووجهة النظر هذه تتأكد، علاوة على ذلك، من خلال الطريقة التي تنظر بها الجماهير اليهودية إلى هذه المسألة: الهجرة. لهذا السبب يجب أن نعترف بحقيقة أن استمرار الهجرة اليهودية إلى فلسطين يوسع الخلاف بين العمال اليهود والعمال العرب، ويقوي مواقف الإمبريالية البريطانية ويطيل أمدها، ولا يمكن لهذا إلا أن يمهد الطريق للإبادة للأقلية اليهودية عندما تأتي الانتفاضة العربية في المرحلة المقبلة.
لذلك يجب على الأممية الرابعة أن تبذل قصارى جهدها لثني اللاجئين اليهود عن الهجرة إلى فلسطين. وعليها أن تسعى في إطار حركة تضامن عالمي لفتح أبواب الدول الأخرى أمامها وتحذيرها من أن فلسطين بالنسبة لها فخ رهيب. وفي دعايتها الملموسة حول مسألة الهجرة اليهودية، يجب أن تنطلق من سيادة السكان العرب. السكان العرب فقط لهم الحق في تقرير ما إذا كانت الهجرة إلى فلسطين لليهود مفتوحة أم لا. يجب أن تقرر مسألة الهجرة من قبل الجمعية التأسيسية المنتخبة من قبل جميع السكان من سن 18 عاما. هذا هو الموقف الديمقراطي الوحيد بشأن هذه المسألة – وفي نفس الوقت هو موقف يتناسب مع إطار الاستراتيجية الثورية العامة في الشرق الأوسط.
علاوة على ذلك، يجب على الأممية الرابعة أن تدين وتكافح القمع البريطاني لهجرة اليهود، وأن تشجب جميع إجراءاتها البوليسية وأن تعارض باستمرار هذه المطالب الملموسة بانسحاب القوات البريطانية. لن يكون من الصعب أن نشرح للجماهير العربية أن هذا القمع الإمبريالي، الذي يقتصر الآن على اليهود، ما هو إلا تمهيد لقمع أكثر وحشية للحركات العربية المستقبلية. من مصلحة الجماهير العربية أن تستغل كل حركة احتجاجية ضد إرهاب الشرطة البريطانية لطرح مسألة انسحاب القوات البريطانية بشكل ملموس. علاوة على ذلك، سيتضح بعد ذلك أن “ضحايا” القمع لن يقبلوا على الإطلاق النضال المستمر ضد “مضطهديهم”.
وبالمثل، يجب على الأممية الرابعة أن تعارض كل “الحلول” المقترحة والتي قد تنفذها الإمبريالية، بمساعدة أو بدون مساعدة عملائها في الوكالة اليهودية. كل هذه الحلول، مثل تقسيم فلسطين، والهجرة المحدودة لـ 100 ألف يهودي، وتسليم الانتداب البريطاني للأمم المتحدة، تهدف إلى إطالة أمد وجود القوات البريطانية في البلاد، وكل هذا يحرم غالبية السكان من حق تقرير المصير.
13- راهنا، في هذه المرحلة، لا يمكن تحقيق وحدة واسعة النطاق بين اليهود والعرب في فلسطين. يمكن تحقيق هذا فقط على نطاق محدود للغاية وبقدر ما يتم توظيف قسم من العمال اليهود خارج الاقتصاد اليهودي “المغلق”، هل كان من الممكن حدوث إضرابات يهودية عربية مثل تلك التي حدثت في العام الماضي. لكن هذا لا يعني أن هذه الوحدة مستبعدة في كافة الأوقات. حتى الآن، كرس السكان اليهود في فلسطين كل جهودهم على تقوية مواقفهم الاقتصادية والسياسية المستقلة. لكن القسم الراديكالي من الشباب القومي اليهودي أدرك بالفعل عدم جدوى جهود الوكالة اليهودية في “المصالحة” و“المناورة” من أجل انتصار الإمبريالية، أو القوى العظمى، للهجرة غير المحدودة وإقامة دولة يهودية. إن موجات الإرهاب الحالية من جانب الإرغون زفاي لئومي وجماعة شتيرن هي أعمال يأس من جانب هذه الأقلية التي استخدمها القادة البرجوازيون في الحركة الصهيونية بداية ثم تخلوا عنها، والتي نشأت بسبب الطريق المسدود. التي تحولت فيها الحركة بأكملها. من الواضح أن إرهاب اليأس هذا ليس في حد ذاته الطريق إلى حل مشكلة فلسطين. بل على العكس تماما. ضد هذا الإرهاب، الإقطاعيون العرب والبرجوازية قادرون على خلق جو من “التضامن” المصطنع بين الجماهير والإمبريالية، وتعميق تفاقم العداء بين العمال العرب واليهود. من وجهة نظر عسكرية، لا يمكن للأعمال الإرهابية إلا أن تسرِّع في إنشاء قوة شرطة بريطانية في فلسطين، كهدف للسياسة الإمبريالية الكاملة بعد الحرب. ولكن كمرحلة نهائية للصهيونية، فإن الإرهاب، الذي لا يحقق نتائج ملموسة، قد يجعل العناصر الأكثر وعيا ونشاطا بين الجماهير اليهودية أكثر ميلا إلى إعادة النظر في المسألة الصهيونية برمتها. إعادة النظر في هذه المسألة هو ما ينبغي أن تعمل عليه الأممية الرابعة اليوم:
– يجب على أي وحدة محتملة بين اليهود والعرب أن تتحرك أولاً على طريق القضاء على جميع الأيديولوجيات والممارسات العرقية من جانب اليهود.
– إسقاط الشركات اليهودية حصرا! لتوظيف العمالة العربية في كل مجالات الصناعة في البلاد.
– لتسقط النقابات اليهودية والعربية المنفصلة! من أجل إنشاء نقابات يهودية وعربية.
– لتسقط المقاطعة الخفية للمنتجات العربية أو اليهودية! إسقاط “الاقتصاد اليهودي المغلق!” من أجل التكامل المتبادل بين الاقتصاد اليهودي والعربي.
– لتسقط فكرة “الدولة اليهودية” المفروضة على غالبية السكان! من أجل القضاء على المفاهيم الصهيونية في الحركة العمالية! من أجل اندماج العمال اليهود في الحركة الثورية القومية الديمقراطية للجماهير العربية!
– من أجل انفصال النقابات اليهودية والمنظمات العمالية عن الوكالة اليهودية، ونشر كامل الإجراءات السرية للوكالة.
– من أجل تفكك النقابات العمالية العربية والمنظمات العمالية من جامعة الدول العربية واللجنة العربية العليا لفلسطين، والنشر الكامل لجميع الإجراءات السرية لهذه المنظمات.
كل هذه الشعارات، التي لا يمكن طرحها اليوم إلا كشعارات دعائية عامة، ستقابل بالضرورة بمعارضة شديدة من الصهاينة، ليس فقط لأسباب أيديولوجية ولكن أيضا لأن الوضع المادي المميز لليهود بالنسبة للجماهير العربية يسهم في ذلك على نحو خاص. ولكن مع تجلي إفلاس الصهيونية بشكل أكثر وضوحا للجماهير. مع تباطؤ الهجرة واقتراب خطورة الانفجار العربي الرهيب. لأن دعايتنا تساعد في جعل الجماهير تدرك أنها مسألة حياة أو موت بالنسبة لهم لإيجاد أرضية مشتركة مع الجماهير العربية، حتى لو كان ثمن التنازل مؤقتا عن امتيازات معينة – في ظل هذه الظروف ستكون شعاراتنا قادرة على الانتقال من مرحلة الدعاية إلى مرحلة التحريض، وتساعد على إحداث انشقاق بين الحركة العمالية والصهيونية. هذا هو الشرط الذي لا غنى عنه لتحقيق وحدة العمل اليهودي العربي ضد الإمبريالية. هذا وحده يمكن أن يمنع الثورة العربية في الشرق الأوسط من المرور على جثة اليهودية الفلسطينية. في فلسطين وكذلك بين الجماهير اليهودية في بقية العالم، الموقف الثابت اليوم ضد التيار، وهذا هو الشيء الوحيد الذي سيجعل من الممكن العمل عليه لعكس التيار في المرحلة التالية.
وهذا يعني أيضا أنه من الضروري لقطاعات الأممية الرابعة أن تقوم بأعمال دعائية أولية داخل المنظمات الصهيونية لليسار المتطرف. بينما يُظهر أن شعار “الدولة ثنائية القومية” وهو شعار قومي مناهض للديمقراطية، والذي يتعارض مع حق تقرير المصير والاحتياجات الفورية للنضال ضد الإمبريالية في فلسطين، على أعضائنا في الوقت نفسه طرح مسألة التحقيق الملموس لشعار الوحدة اليهودية العربية باستمرار. يجب أن يواجهوا قادة الوسط بمسؤولياتهم.. عليهم أن يضعوا اليوم في ترتيباتهم تبني برنامج مناهضة العنصرية الموضح أعلاه. وبالتالي الإسراع في الارتقاء بوعي طليعة الطبقة العاملة اليهودية إلى ما بعد مرحلة الصهيونية.
1 كانون الثاني/ يناير 1947
اقرأ أيضا