مشروع النظام الأساسي النموذجي الخاص بمهنيي المجموعات الصحية الترابية: نظام مآسٍ آخر في الطريق
بقلم؛ شادي الجبالي
يوم 27 يوليوز 2024 بعد أكثر من خمسة أشهر من حراك الصحة، وقع التنسيق النقابي السداسي محضر اتفاق تضمن شق متعلق بالوضعية الاعتبارية وشق متعلق بالمطالب ذات الأثر المالي.
شكَّل هذا الاتفاق تراجعا عما كان متفقا عليه في المحاضر السابقة (ديسمبر 2023 ويناير 2024)، ومع ذلك كان على شغيلة الصحة الانتظار إلى غاية 02 أكتوبر 2024 ليصدر بلاغ جديد للتنسيق السداسي بعنوان «بلاغ حول تنفيذ الاتفاق الموقع يوم 23 يوليوز 2024»، وهو بنفس محتوى بلاغ 23 يوليوز 2024. تضمن البلاغ مجموعة من المطالب سواء المتعلق بالوضعية الاعتبارية أو بالمطالب المالية معظمها جاء مشروطا إما بإصلاح التقاعد أو بالنصوص التطبيقية للمنظومة الصحية وعلى رأسها النظام الأساسي النموذجي لمهنيي الصحة.
لا للعمل النقابي «السري»
أيام بعد صدور بلاغ 2 أكتوبر2024 بدأت تتسرب مجموعة من مشاريع المراسيم التطبيقية، والتي أخفتها القيادات النقابية عن الشغيلة بدعوى الحفاظ على أسرار «التفاوض»، وهذا فعل غير نقابي باعتبار أن النقابة أداة للنضال العمالي، وليس للتوافق مع الوزارة، وليست النقابة كاتم أسرار بقدر ما هي وسيلة للنضال الطبقي. ويتناقض هذا النهج مع ما قام به مناضل نقابتنا الكونفدرالية الديمقراطية للشغل، عبد الحق حيسان، الذي انتفض ضد محاولة تمرير إصلاح التقاعد في سرية مصرحا: «قد أكدت الكونفدرالية الديمقراطية للشغل أن إصلاح التقاعد شأن مجتمعي يهم كل المغاربة، ولا يمكن التداول فيها في سرية… ونعرف كيف تشتغل الأحزاب وبعض النقابات، فكما سبق وقلت هناك نقابات تتفق مع الحكومة في الاشتغال بسرية، وهو ما أثار استغرابي كثيرا»… وعلى غراره نقول: «إن مشروع النظام الأساسي النموذجي شأن يهم كل شغيلة الصحة وشأن مجتمعي»، وعلى قياداتنا النقابية أن تطرحه للنقاش في جموعات عامة مشتركة بين كل شغيلة القطاع.
علاقة شغل جديدة: التوظيف الجهوي
تمكنت الدولة منذ ماي 2021 من إخراج شغيلة الصحة من النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية لسنة 1958 عبر تعديل المادة 4 من هذا النظام، ولم يَلقَ هذا أي معارضة نقابية بل رحبت به واعتبرته مكسبا و»مدخلا» لتحسين الدخل عبر ما سمته بخصوصية القطاع. وفي صيف 2023 أصدرت قانون رقم 09-22 المتعلق بالوظيفة الصحية وقانون 08-22 المتعلق بإحداث المجموعات الصحية الترابية.
تمكنت الدولة من خلال هذه الترسانة القانونية الجديدة من تغيير نمط التوظيف عبر القطع مع التشريع القديم الذي كان فيه الموظف تربطه علاقة شغل مع الدولة مركزيا…وتغُّير علاقات الشغل يتبعه بالضرورة تغير في الحقوق والواجبات، أو بالأحرى شروط وظروف الاستغلال.
إن الإحالة على النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية في ديباجة النظام الأساسي النمودجي الخاص بمهنيي الصحة بالمجموعات الصحية الترابية لا تعني شيئا أمام تغيير نمط التشغيل والانتقال من علاقات شغل تربط الموظف مركزيا الوزارة/ الدولة الى علاقات شغل تربط الموظف مع جهاز أدنى «المجموعات الصحية الترابية».
ورد في المادة الأولى من مشروع النظام الأساسي النموذجي ما يلي: «يهدف هذا النظام الأساسي لنموذجي إلى تحديد الإطار المرجعي لإعداد الأنظمة الأساسية الخاصة بالعاملين بكل مجموعة صحية ترابية جهوية». ويذكِّرنا هذا بالأنظمة الأساسية لأطر الأكاديميات الجهوية في قطاع التعليم المُحدثة سنة 2018، والتي أُعلِن إلغاءها مع النظام الأساسي الجديد، ولكن مع تعديل مرسوم القانون المحدِث للأكاديمات (07.00) بما يمنحها صلاحيات توظيف شغيلة القطاع. الخلاصة: بعد إخراج شغيلة الصحة من النظام الأساسي للوظيفة العمومية (1958)، أُعد لها لها إطار تشريعي جديد يجعل علاقة شغلها مع المجموعات الصحية الترابية، بدل الوزارة كما كان معمولا به في نمط التوظيف القديم.
تنص المادة 7 من مشروع النظام الأساسي النموذجي على ما يلي: «تُفتح بمقرر للمدير العام للمجموعة، في حدود عدد المناصب المالية الشاغرة المقيدة في ميزانية المجموعة، مباريات توظيف مهنيي الصحة…»، وتنص المادة 8 من نفس المشروع على: «يعيَّن المرشحون الذين وقع توظيفهم… بالمجموعة بمقرر لمديرها العام…»، وهذا يعني بشكل واضح أن مدير المجموعة هو من يعين الموظف وليس الوزير كما كان منصوص في النظام الأساسي لسنة 1967 في الفصل الأول: «يعلن بقرار لوزير الصحة عن التعينات…».
عن أي ضمانات يتحدثون إذن؟ هل الانتقال من التوظيف مع وزارة الصحة بمباريات مركزية إلى التوظيف الجهوي بمقرر لمدير المجموعة الصحية الترابية يعتبر مكسبا؟
على غرار الأنظمة الجهوية لأطر الأكادميات التي أثارت نضالا جبارا طيلة سنتي 2018 و2019، تضمن مشروع النظام الأساسي النموذجي للمجموعات الصحية الترابية بنودا تعطي صلاحيات واسعة لمديريها، وضمنها صلاحيات التعيين والعزلوالإعفاء. كانت أهم انتقادات المؤسسات المالية الدولية لنظام الوظيفة العمومية هو حرمان مديري المؤسسات من صلاحية توظيف وإعفاء الموظفين، الصلاحية التي تظل في يد الأجهزة المركزية للدولة. إن مشروع النظام الأساسي النموذجي للمجموعات الصحية الترابية استجابة صريحة لمطالب تلك المؤسسات.
تنص المادة 8 من مشروع النظام الأساسي النموذجي في الفقرة الثانية على أنه «يمكن للمدير العام للمجموعة أن يعفي بمقرر معلل وفي أي وقت كل متدرب ثبت عدم كفاءته المهنية وذلك دون إشعار»، مما يهدد الاستقرار الوظيفي.
كما يمكن للمجموعة اللجوء الى العمل بالعقدة أو الاستعانةبالعرضيين والمتطوعين للعمل على إنجاز مهام بموجب عقود عمل. وتبقى شروط وكيفية تشغيل المتعاقدين بيد المدير العام لكل مجموعة، وهذا ما يخلق الهشاشة في التشغيل وتدمير وحدة الشغيلة، إذ سنجد في نفس المجموعة شغيلة من نفس الفئة تنجز نفس المهام وتتقاضى أجورا مختلفة وتخضع لقوانين مختلفة (المادة 10- 11). كما سنجد عرضيين يشتغلون بشروط مختلفة باختلاف المجموعة الصحية التي يشتغلون بها.
الأجر الثابت والمتغير: تكثيف الاستغلال
تتحدث المادة 13 من الباب الثالث من مشروع مرسوم النظام الأساسي النموذجي عن أجر شغيلة الصحة وتقسمه الى جزء ثابت وجزء متغير، وهو نفس ما ورد في المادة 7 من القانون 09-22.
إن تقسيم الأجر الى جزء ثابت وجزء متغير خطة قديمة تهدف الى التحكم في كتلة الأجور تحت مبرر «إصلاح منظومة الأجور». سبق أن تقدم المجلس الأعلى للوظيفة العمومية بمشروع أرضية لإصلاح منظومة الأجور في ديسيمبر 2005، ورد فيها: «تتمثل أهداف الإصلاح حسب هذه الأرضية في ما يلي:وضع منظومة جديدة للأجور محفزة ومنصفة وشفافة مرتكزة على الاستحقاق والمردودية وعلى تعويض الموظفيين على أساس العمل المنجز فعلا وذلك من أجل تحقيق النتائج المحددة سلفا من قبل الإدارة».أما المناظرة الوطنية الأولى حول الإصلاح الإداري بالمغرب المنعقدة في ماي 2002 فقد جاء في تقريرها التركيبي ما يلي «عند دراسة هيكل الأجر يلاحظ أن التعويضات تشكل جزءا هاما من الأجرة المرتبطة بالوضعية النظامية حيث أصبحت هذه التعويضات تكتسي طابعا قارا يتناقض مع المفهوم الحقيقي للتعويضات الذي يفترض أن يكون أداة لتشجيع الإنتاجية والمردودية أو تغطية بعض الأتعاب الخاصة ويجب أن تكون بالتالي قابلة للتغيير حسب هذه العوامل في اتجاه أو آخر».
من هذا المنطلق يتبين أن هدف إصلاح منظومة الأجور هو التحكم في كتلة الأجور عن طريق التراجع عن التعويضات القارة والمعممة وربطها بالاستحقاق والمردودية (وهي توصية قديمة للمجلس الأعلى للحسابات في تقرير له حول الوظيفة العمومية سنة 2017).إنها نفس الطريقة المتبعة في القطاع الخاص (العمل بالأهداف les objectifs) ويجري نقلها نقلا إلى الوظيفة العمومية، إذ ستتضاءل نسبة الأجر الثابت من الكتلة الأجرية، بينما ستتضخم نسبة الأجر المتغير، الذي ربطته المادة 13من مشروع مرسوم النظام الأساسي النموذجيبـ»الأعمال المهنية المنجَزة». والنتيجة: اعتصار أكبر قدر من العمل مقابل تعويضات (أجر متغير) تتغير بتغير «نسبة الأعمال المُنجزة». ولأن قطاع الصحة مُنهِك بفعل شروط الاشتغال السيئة جدا، والناتجة عن تقشف رهيب، فإن الطبيب والممرض لا يمكن أن يحافظ على نفس وتيرة العمل وقدرة الإنجاز.
لقد ناضلت الحركة العمالية من أجل ضمان نصيب أكبر من الثروة القومية المنتجة في أفق القضاء على مجمل نظام عبودية العمل المأجور ومنبين المطالب التي تمكن الحفاظ على القدرة الشرائية للشغيلة السلم المتحرك للأجور وهو ما يضمن الرفع التلقائي للأجور كلما ارتفعت الأسعار، وللأسف هذا المطلب أصبح مغيبا لدى القيادة النقابية التي تفاوض.
أما المادة 17 فهي مثال واضح لتكثيف الاستغلال، عن طريق زيادة في ساعات العمل من أجل الرفع من الأجر، حيث تنص المادة على ما يلي «يمكن لمهنيي الصحة طلب العمل بمؤسسة استشفائية أخرى تابعة لنفس المجموعة شريطة: ضمان استمرارية العلاجات بمقر العمل الأصلي…». هذه المادة تفتح الباب أمام مزيد من الاستغلال، والهدف منها هو تخفيض اليد العاملة، فعوض أن توظف المجموعة موظفين آخريين تلتجأ الى زيادة الساعات وبالتالي تتفادى أجورا إضافية وتعويضات إضافية (التغطية الصحية، التقاعد، وباقي الحقوق…). وهذا ما اعتبرته القيادة النقابية مكسبا ومدخلا للرفع من الأجور وبالتالي الزيادة في القدرة الشرائية. وعوض ذلك فالمطلب العمالي هو تخفيض ساعات العمل دون المساس بالأجور، وتوظيف شغيلة أخرى والسلم المتحرك لساعات العمل.
لا مغادرة لسفينة المقاومة…لا شيء غير النضال
تعتمد الدولة-وتسايرها القيادات النقابية في ذلك- على استثارة أحط النوازع في صفوف الشغيلة: الركض وراء المصلحة المادية والمكسب المالي، في حين تدمِّر مكاسب اجتماعية تاريخية وعلى رأسها مجانية وعمومية الخدمات الصحية وأنظمة تشريعية ضامنة للعمل القار. إن قياداتنا النقابية بمجاراتها لمنطق الدولة تحولنا إلى عبيد نتنافس على من سيقدم أعلى «نسبة من الأعمال المنجَزة» وسياطُ تراجعِ تعويضاتنا وأجورنا المتغيرة تُلهِب ظهورنا.
النظام الأساسي النمودجي الخاص بمهنيي الصحة شأنه شأن نظام الأساسي الجديد في قطاع التعليم، هو نظام مآسٍ على مستوى حقوق الشغيلة وتراجع كبير على مكتسباتها، ويجد جذوره في مآسي النظام الاقتصادي والاجتماعي المتبع في بلادنا. إنه توجه عام وشامل يستهدف الخدمة والوظيفة العموميتينبهدف تكييفها مع المنظور الليبرالي وحتىتتلاءم الشكل الجديد للرأسمالية.
يندرج هذا النظام « النموذجي» ضمن خطة إعادة ترتيب تشريعات الشغل خصوصا في القطاع العام، تحت مسمى التدبير العمومي الجديد (new public management NPM) وهي تقنية تسيير تستهدف المرافق العموميةبصفة عامة تنضاف إلى أدوات أخرى كالخوصصة وتشجيع القطاع الخاص بمختلف الطرق، والهدف واضح هو التجارة في الخدمات العمومية (التعليم والصحة…) عبر تسليعها سواء داخليا أو عالميا (الاتفاقية العامة للتجارة في الخدمات AGCS) وهو ما سيجعل كل مناحي الحياة سلعة يتاجر بها الرأسمال.
هذا الهجوم النيوليبرالي على الخدمات العمومية ليس جديدا بل قديم يجري تنزيله بالتدرج، ورغم ذلك لم يَلقَ أي مقاومة من التنظيمات النقابية لأن قياداتها غارقة في سياسة التعاون الطبقي والشراكة الاجتماعية والحوارات التوافقية، ومن جهة أخرى غياب حركة نقابية كفاحية وديمقراطية تعمل على توعية ضحايا هذا النظام وتربط بين المطالب النقابية ببعدها السياسي وتستند على بوصلة تحرر العمال من صنع العمال.
ليكن رفضُ مشروع النظام الأساسي النموذجي فرصة لاستئناف نضالنا الذي أوقفه قمع الدولة وتوقيع قيادات نقاباتنا على اتفاق 27 يوليوز 2024… مصيرنا ومصير شغيلة المستقبل على عاتقنا، لنصمد في مواقعنا ولا نغادر سفينة النضال، فكل ما ينتظرنا هو أمواج الاستغلال تغرقنا.
وليكن شعارنا ذاك المرفوع في لافتة رفعها عاليا أحد المناضلين في مواجهة القمع: «لا شيء غير النضال».
اقرأ أيضا