في الذكرى السنوية الأولى لحراك التعليم؛ الشغيلة قوة سياسية كامنة

بقلم؛ أ.د

 تحل يوم الخامس من أكتوبر الذكرى الأولي لانطلاق الحراك التعليمي الكبير والمديد الذي شمل إضرابات شلت القطاع لأكثر من ثلاثة أشهر، مصحوبة بمسيرات وطنية وجهوية ومحلية وباعتصامات وجموع عامة بالمؤسسات التعليمية.

شكل هذا الحراك صفعة على وجه سياسة الشراكة والمسايرة لسياسات الطبقة الحاكمة ومن ورائها المؤسسات المالية الدولية التي تنهجها القيادات النقابية. رفضت الشغيلة ما جاء به النظام الأساسي لموظفي قطاع التعليم، الذي كان ترجمة لما تحلم الدولة بتمريره منذ سنوات: ترسيخ التوظيف الجهوي، رفع ساعات العمل وتكثيف الاستغلال وإدخال معايير التدبير الرأسمالي في المقاولات للتعليم العمومي. وتغيير نمط تقييم أداء الموظفين والترقية. في النهاية خفض كتلة الأجور.

استغلت الدولة صدمة زلزال الحوز وأجواء التضامن التي خلقها مع الضحايا، في ظل غياب الفعالية والسرعة في التدخل الحكومي، لتنشر مسرعة النظام الأساسي الجديد وتقدمه كهدية للمؤسسات المالية الدولية التي عقدت مؤتمرها بمدينة مراكش في أكتوبر 2023 كعربون وفاء وخضوع لإملاءاتها.

كان لنجاح الإضراب الوطني يوم 05 أكتوبر 2023 والإنزال المصحوب بمسيرة في العاصمة الرباط، دور الصدمة المفرحة، التي أربكت حسابات الجميع، الدولة وشركائها في التنسيق النقابي الذي حاورها وتوسل لها لسنوات، كما لشتات التنسيقيات الفئوية التي اطمأنت الدولة لردودها المشتتة التي سبقت 5 أكتوبر والتي في أغلبها تروم حل ما تراه مشكلتها الخاصة دون اكتراث حقيقي لباقي شغيلة القطاع وعموم الأجراء.

تميز حراك شغيلة التعليم بمظاهرات حاشدة، محلية كانت أو وطنية، حيث بلغت مستوى لا سابق له في القطاع. وهي لا تقل أهمية عن الإضراب على العمل، سواء في الضغط أو فيما تنميه من روح جماعية. فالفعل الجماعي يزيل العجز المستشعر في الحياة اليومية، ويعزز الثقة بقدرات الشغيلة ويولد شعورا بالقوة. وقد كانت المسيرات في صلب كل الحركات ضد الاستبداد والاضطهاد، وأتاحت تحقيق تغييرات جذرية. فهي ليست مجرد وسيلة ضغط لانتزاع مطالب، بل هي أساسية لتحقيق تغيير اجتماعي أساسي.

ما حققه الحراك، لصالح شغيلة التعليم، ولعامة الطبقة العاملة، مكاسب سياسية ونضالية في المقام الأول. فهذه هي ذات المفعول في الأمد غير الآني، المتوسط والبعيد. فهي مفيدة في تطوير الوعي والمقدرات الكفاحية، وتوسيع الأفق النضالي، وبالتالي تخدم هدف الخلاص من الاستغلال وبناء بديل تعليمي ومجتمعي إجمالي.

هذا التحرك الهائل لقسم من الطبقة العاملة أتاح فرصة نهوض عام: يمثل نهوض مئات آلاف الأجراء إلى الكفاح دفاعا عن مصلحتهم بوجه الدولة، بإضراب مديد، ومسيرات محلية ووطنية، كسبا لا يقدر بثمن للحركة النقابية، لا سيما أنها بلغت دركا مخيفا من التفكك والتحكم البيروقراطي والابتعاد عن نبض القاعدة العمالية ومسايرة السياسات البرجوازية المدمرة لطفيف المكاسب. وفضلا عن هذا النهوض القطاعي غير المسبوق، مثل حراك التعليم فرصة لاستنهاض عام للطبقة العاملة، أولا في الوظيفة العمومية التي تتعرض بمجملها لعين العدوان التي استهدف التعليم، عنوانه العريض تطويع الشغيلة وفرط استغلالها.

 فقد كان متاحا التئام نقابي في قطاع الوظيفة العمومية بانضمام فيلقين رئيسيين كانا يعيشان مخاضا نضاليا موازيا للحراك، عنينا قطاعي الصحة والجماعات الترابية. وكان من شأن تكتلهما مع قطاع التعليم في جبهة موحدة المطالب والبرنامج النضالي أن يحفز أقساما إضافية من شغيلة الدولة في طور أول، ثم شغيلة القطاع الخاص في طور لاحق، بالنظر إلى اكتواء مجمل الطبقة العاملة بنار الغلاء التي أتت على القدرة الشرائية وأفقرت مزيدا من الشغيلة الذين كانوا سابقا أرفع وضعا اجتماعيا. هنا يبرز جرم القيادات في المركزيات النقابية التي وقفت متفرجة فعلية ولم تفعل مكاتبها التنفيذية ولا أمانتها الوطنية آلية التضامن بين مكونات الشغيلة، هذا التضامن من خلال الإضراب الموحد دفاعا عن الحريات النقابية واستقرار العمل وضد فرط الاستغلال وتدهور القدرة الشرائية يعد علة وجود مركزية نقابية. وها هي قيادات المركزيات النقابية هذه، تتعاون مع الدولة من أجل إصدار القانون الذي سيكبل يد الشغيلة، ويمنعهم من ممارسة حق الإضراب.

  فتح حراك التعليم إمكانية السير بالنضال العمالي إلى إضراب عام يوقف هجوم الدولة على الوظيفة العمومية أولا، ويوقف تدهور القدرة الشرائية ويحسنها بمطلب زيادة عامة في الأجور وتطبيق السلم المتحرك للأسعار والأجور، فضلا عن مطالب أخرى أساسية بمقدمتها الحرية النقابية.

 غير أن الشرط الذاتي لم يكن قائما، بمعنى انعدام فصائل كفاحية في قواعد النقابات لديها من المقدرة ما يكفي لحفز تلاقي النضالات مع ما يجري في التعليم رغم أنف القيادات التي استبد بها هلع من إمكان امتداد نار التعليم الى سائر القطاعات.

كشفت هذه الفرصة التاريخية التي أتاحها حراك التعليم قصور معظم اليسار عن إدراك الأهمية الحاسمة للفرصة وما تفتح من إمكان انعطاف نضالي حاسم يفتح صفحة جديدة في تاريخ النضال العمالي. فقد ساد منظور لا يرى في حراك التعليم غير نضال مطلبي قطاعي، منظور لم يبصر، أو بالأحرى يرفض أن يبصر، الطفرة التي يمثلها حراك التعليم وما ينطوي عليه من مقدرة الامتداد إلى سائر الحركة النقابية، وانعكاسه سياسيا.

وضع هذا الحراك مجمل استراتيجية القيادات النقابية على المحك؛ تلك الاستراتيجية القائمة على التعاون والشراكة مع الدولة، وبالتالي استجداء “الحوار” والمطالبة بـ “مأسسته”. وأثبتت قتالية الشغيلة جدوى النضال، ونقلت نَفَسَهَا الكفاحي إلى قطاعات أخرى (الجماعات المحلية، الصحة…). أصيب القطاع بالشلل عندما شاءت اليد القوية للشغيلة ذلك، وإذا بـ”المسرح” الذي كان البيروقراطيون يمثلون عليه مسرحياتهم الهزلية تقتحمه آلاف من الأساتذة-ات مجبرة الدولة على ما لم يتمكن منه استجداء البيروقراطيين الذليل. وإن لم ينجح الحراك في دفن استراتيجية البيروقراطية النقابية هذه، فسيكون-على الأقل-قد أشار إلى السبيل نحو ذلك.

كان من شأن النظر إلى حراك التعليم من زاوية سياسية عمالية أن يتيح إدراكا لشروط نجاحه. فما دامت المطالب موجه للدولة وتنبع من سياسة مطبقة على الجميع وليس على شغيلة التعليم وحدها، وجب السعي الى توسيع نطاق النضال بالتعاون مع شغيلة قطاعات أخرى للدولة، ومع سائر مكونات الطبقة العاملة، لبلوغ مستوى من القوى كاف لانتزاع المطالب. لكن وهم “الابتعاد عن السياسة” وأن “المطالب محض مهنية” أضعف حراك التعليم بنحو كبير، وهو وهم ساهم في تثبيته بعض من يزعمون قولا لا فعلا انتسابهم لمعسكر تحرر العمال.

إن ما تحققه النضالات من مكاسب، تلبية لمطالب آنية، عظيم الفائدة. فهو أولا برهان على جدوى التنظيم والنضال، قياسا ب “الحوارات” الفوقية المفعمة بروح “الشراكة الاجتماعية”. وثانيا، تسهم المكاسب الجزئية في تحسين الوضع الاجتماعي الآني للشغيلة، ومن ثمة مقدرتها النضالية، فوضع بالغ التردي إنما يشغل الشغيلة عن النضال تحت وطأة تدبير البؤس بنحو يحد من إمكانات إعطاءها وقتا وجهدا للعمل النضالي. غير أن الدولة بمعاونة قيادات النقابات الخمس تمكنت من ترسيم التوظيف الجهوي وبالتالي وضع الوظيفة العمومية المركزية على طريق الانقراض بالتعليم. لكن جولات نضال أضخم وأكبر قادمة حتما، وستدخلها الطبقة العاملة وقد اغتنت بدروس الحراك التعليمي المجيد، وهي الدروس التي لن يتم استيعابها إلا بتقييم الحراك تقييما شاملا من وجهة نظر السياسة العمالية.

شارك المقالة

اقرأ أيضا