“هل التصعيد، ربما، هو بالضبط ما تسعى إليه إسرائيل؟”

بقلم آدم شاتزAdam Shatz

 

منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول، منحت إدارة بايدن إسرائيل كل ما طلبت تقريبًا، بدءًا من الطائرات المقاتلة من طراز F-15 إلى قنابل الفسفور الأبيض، إلى التواطؤ الدبلوماسي في الأمم المتحدة. دعم جو بايدن وأنطوني بلينكن تدمير غزة و”إضفاء طابع غزاوي“ على الضفة الغربية، حيث قتلت القوات الإسرائيلية والمستوطنون أكثر من 600 شخص في العام الماضي، بمن فيهم المواطنة الأمريكيةآيسنور إزجي إيجي، البالغ عمرها 26 عامًا، قُتلت بالرصاص في مظاهرة سلمية بالقرب من نابلس [انظر مقال جيفري سانت كلير المنشور على هذا الموقع في 10 سبتمبر 2024]. (لم يتلق والدا إيجي – بعدُ – مكالمة هاتفية من إدارة بايدن التي تدعي أنها ”تجمع الحقائق“). وبإذن واشنطن على ما يبدو، كثفت حكومة نتنياهو أيضًا حرب الظل المديدة مع إيران، واغتالت مسؤولين إيرانيين في دمشق والزعيم السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية في طهران.

***

غير أن الأميركيين كانوا قد وضعوا ”خطاً أحمر“، متمثلا في حرب إسرائيلية ضد لبنان، والتي كانت حكومة نتنياهو سعت للحصول على موافقة عليها في الأيام التي تلت 7 تشرين الأول/أكتوبر. إذ أراد نتنياهو فتح جبهة ثانية، بقصد تدمير منظمة حزب الله الشيعية اللبنانية [1] حليفة حركة حماس. لكن الأميركيين اعترضوا، فأوقف الإسرائيليون خططهم. استمرت حرب حدود منخفضة الحدة مع حزب الله، ولكن ضمن نطاق يحترمه الطرفان إلى حد كبير. أطلق حزب الله صواريخ على بلدات حدودية في شمال إسرائيل، ما أسفر عن مقتل عشرين مدنيًا، وإجبار ما يقرب من مئة ألف شخص على إخلاء منازلهم. وقتلت إسرائيل مئات الأشخاص في جنوب لبنان، منهم مدنيين كُثر، ورحَّلت أكثر من مئة ألف شخص. ولكن حتى هذا الأسبوع، بدا أن حزب الله وإسرائيل كانا يعايران، على ما يبدو، ردودهما على هجمات بعضهما البعض لتجنب حرب شاملة. فمع استمرار الهجوم الإسرائيلي على غزة، بدا أن تحمس إسرائيل لفتح جبهة ثانية قد تضاءل: كيف يمكن لجيشها أن يواجه حزب الله إذا لم يستطع حتى هزيمة حركة حماس؟

كما أن لدى الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله سبب وجيه لتجنب التصعيد. فهو لا يريد تكرار حرب عام 2006، التي أسفرت عن تدمير جزء من بيروت وجنوب لبنان والبقاع، ومقتل أكثر من ألف مدني لبناني. وبعد تلك الحرب، قدم نصر الله اعتذاراً استثنائياً عن استفزازه لإسرائيل. وهو يعلم أيضًا أن إيران، راعيه وحليفه الرئيس، لا يريد أن تضيع صواريخ حزب الله، التي كانت تهدف إلى أن تكون درعًا ضد أي هجوم إسرائيلي على برنامج إيران النووي، في غزة: التضامن مع فلسطين له حدوده، حتى بالنسبة لزعيم ”محور المقاومة“.

***

فلماذا صعَّد حزب الله هجماته الصاروخية على شمال إسرائيل منذ 7 أكتوبر؟ يزعم المعلقون الإسرائيليون أن حزب الله هو المسؤول عن هذا الصراع لأنه لم ينسحب إلى نهر الليطاني [الذي يمر عبر جنوب لبنان إلى البحر الأبيض المتوسط] ولأن غزة ليست، بداهة، حربه. لكن نصر الله يصر على أنه يحترم الجزء الخاص به من تحالف حزب الله مع حركة حماس وإيران والحوثيين (ما يسمى باستراتيجية ”وحدة الساحات“)، وأنه يقدم الحد الأدنى من الدعم لسكان غزة المحاصرين، الذين تخلت عنهم الأنظمة العربية الأخرى. وقال أيضاً إن الصواريخ ستتوقف بمجرد الاتفاق على وقف إطلاق النار في غزة. وكما أشار المراسل العسكري لصحيفة هآرتس عاموس هارئيل، فقد أظهر نصر الله ضبطَ نفس كبير في مواجهة الاستفزازات الإسرائيلية المتكررة، بما في ذلك اغتيال [في 30 تموز/يوليو 2024] فؤاد شكر، أحد قادة حزب الله الرئيسيين، في بيروت [في حارة حريك، في الضاحية الجنوبية للعاصمة].

من الصعب أن نرى كيف سينجو حذر نصر الله من هجمات هذا الأسبوع باستخدام أجهزة البيجر وأجهزة الاتصال اللاسلكي، والتي أسفرت عن مقتل 37 شخصًا على الأقل، من بينهم أربعة أطفال، وإصابة آلاف آخرين. نجحت إسرائيلبهذه العملية – التي كانت قيد الإعداد منذ عام 2022، وفقًا لصحيفة نيويورك تايمز، أي قبل 7 أكتوبر بوقت طويل – على أقل تقدير، في تنفيذ واحدة من أكثر الهجمات المتزامنة إثارة في التاريخ الحديث. فقد ضربت إسرائيل مرتين، في يومين متتاليين، ولم تخسر أيًا من رجالها، وأجبرت أعداءها على التخلي عما لا يريد أحد في العالم الحديث التخلي عنه: أجهزتهم الإلكترونية. (في لبنان، رأينا الناس يحطمون هواتفهم). الصدمة النفسية على المدى القصير  مهولة.

***

تخيلوا لو أن منظمة متشددة مثل حزب الله نفذت هجوماً مماثلاً في إسرائيل، ففجرت هواتف الجنود وجنود الاحتياط وقتلت أطفالاً إسرائيليين. لم يكن الأمريكيون لينتظروا ”جمع الحقائق“ قبل التنديد بالهجوم. كما كان رد فعل الكثير من الصحافة الغربية ملفتًا للنظر، ومليئًا بالانبهار ببراعة الموساد. ما لا أثر له في هذه التقارير هو كلمة ”إرهاب“، والتي تعتبر من المحرمات مثل كلمة ”إبادة جماعية“ عندما يكون مرتكبها إسرائيل.

إن الإرهاب – أي استخدام العنف ضد غير المقاتلين لتحقيق أهداف سياسية – هو شكل من أشكال الدعاية، وهو رسالة موجهة إلى العدو وإلى ناخبي مرتكِبه على حد سواء. فما هي الرسالة التي تحملها هجمات أجهزة البيجر واللاسلكي؟ الرسالة، بالنسبة للجمهور الإسرائيلي اليهودي، الذي لا يزال مصدومًا من أحداث 7 أكتوبر، وخاصةً بالنسبة للإسرائيليين الذين فروا من منازلهم في الشمال، هي أن إسرائيل تعيد ترسيخ ”الردع“، وهو الركن الثالث من أركان الأيديولوجية في السلطة (الركنان الآخران هما الذاكرة المستغِلة للمحرقة [2] وتوطيد المستوطنات). أما بالنسبة لحزب الله والشعب اللبناني، فالرسالة هي أن إسرائيل يمكن أن تضرب في أي مكان وفي أي وقت، وأنها لا تكترث كثيرًا للضحايا المدنيين (هذه الرسالة زائدة عن الحاجة، لأن إسرائيل سيئة السمعة في لبنان بسبب عدم اكتراثها بحياة اللبنانيين).

وكان بعض المواطنين اللبنانيين المعادين لحزب الله ابتهجوا في البداية بشكل غير مباشر بهذه الهجمات. فحزب الله يسيطر على جزء كبير من لبنان، بما في ذلك مطار بيروت، وغالباً ما يُنظر إلى نفوذه نظرةسلبية. لكن ما أن اتضح أن هذا هجوم على لبنان، وأنه قد يكون مقدمة لغزو إسرائيلي – مثل تدمير سلاح الجو المصري في 5 حزيران/يونيو 1967، الذي سبق حرب الأيام الستة –حتى كف الناس عن السخرية من حزب الله. فلبنان الذي لا يزال يترنح من انهياره المالي وانفجار المرفأ في العام 2020، لا يبدو في منأى من غزو إسرائيلي أكثر من حزب الله.

نصر الله في مأزق. فقد تضرر نظام الاتصالات الخاص بحزب الله بشكل خطير، وقد تكون هناك تصدعات في التنظيم. وستكون إعادة بناء هذا النظام والقضاء على ”الواشين“ من أولوياته. لكنه لا يستطيع الرد بصبر الإيرانيين، الذين يتمثل أسلوبهم في التهديد بالانتقام والانتظار سنوات قبل تنفيذه، لأن حزب الله في الخط الأمامي في المعركة ضد إسرائيل. إذا لم يقم نصر الله برد فعل، سيُنظر إلى ضبط النفس على أنه جبن، وهذه ليست الرسالة التي يريد بعثها إلى أنصاره. أما إذا أخطأ في حساباته، أو ردّ بطريقة تعطي الإسرائيليين ذريعة لاجتياح البلد، فقد يجد نفسه في حرب تفوق بكثير كارثة 2006 وتعرّض موقع حزب الله في لبنان للخطر.

***

لم تعلن إسرائيل مسؤوليتها الرسمية عن الهجمات، ولكنها تتبختر في تبجحها. من الصعب التشكيك في نجاحها على المدى القصير. فقد وضعت هجمات أجهزة الاتصال حزب الله وإيران في موقف دفاعي. لقد صرفت الانتباه عن الفظائع التي تواصل إسرائيل إلحاقها بغزة والضفة الغربية، وعن فظاعة مركز ”سدي تيمان“، وهو مركز للتعذيب، بما في ذلك الاغتصاب [انظر صحيفة ”لوريان لوجور“ اليومية الصادرة في 24 أغسطس 2024، مقال بقلم معين رباني] في النقب حيث قُتل العشرات من أسرى غزة، وعن محنة الرهائن، وهو أكبر تهديد لمنصب نتنياهو كرئيس للوزراء. ولكن ماذا بعد؟ هل يراهن نتنياهو على رد فعل حزب الله المبالغ فيه؟ هل يحاول فتح جبهة ثانية وجر الإيرانيين – والأمريكيين – إلى الحرب؟ هل هذه الهجمات جزء من مساعيه لإعادة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، أم أنه يحاول ببساطة البقاء في السلطة من خلال استعراض القوة العسكرية؟ لقد جعلته الحرب في غزة أكثر شعبية من أي وقت مضى، على الرغم من المظاهرات الحاشدة المؤيدة لوقف إطلاق النار [بشأن الرهائن المدنيين لدى حركة حماس].

وأياً كانت دوافعه، رفع بنيامين نتنياهو احتمال الحرب كثيرا، وستكون حرباً أصعب بكثير من حرب غزة بالنسبة للقوات الإسرائيلية المنهكة والمحبطة معنوياً بالفعل. فحزب الله، الذي ظهر في أعقاب الغزو الإسرائيلي للبنان في عام 1982، هو خصم هائل، وربما يكون أكثر القوى العربية المقاتلة فعالية واجهتها الدولة اليهودية منذ إنشائها. قد يكون مقاتلوه البالغ عددهم 45,000 مقاتل، أو نحو ذلك، أقل عدداًوتسلحاً من الإسرائيليين، ولكنهم على عكس الإسرائيليين، يحظون بميزة القتال على أراضيهم. وقد أمضى الجنود الإسرائيليون عقدين من الزمن تحت النار في جنوب لبنان قبل أن يجبرهم حزب الله على الانسحاب من جانب واحد في عام 2000. يبدو للوهلة الأولى أن الهجوم بالبيجر، وهو نجاح تكتيكي من جميع النواحي، تصعيد متهور بلا أفق استراتيجي.

***

لكن الخط الفاصل بين التكتيك والاستراتيجية ربما لا يكون مفيدًا جدًا في حالة إسرائيل، الدولة التي كانت في حالة حرب منذ قيامها. تتغير هوية الأعداء – الجيوش العربية وعبد الناصر ومنظمة التحرير الفلسطينية والعراق وإيران وحزب الله وحركة حماس – لكن الحرب لا تتوقف أبدًا، لأن وجود إسرائيل برمته، وسعيها إلى ما تسميه الآن بلا خجل ”مساحة العيش“، يقوم على حرب دائمة مع الفلسطينيين، ومع كل من يدعم المقاومة الفلسطينية. ربما يكون التصعيد هو بالضبط ما تسعى إليه إسرائيل، أو ما هي مستعدة للمخاطرة به، لأنها ترى أن الحرب هي قدَرها، بل هي سبب وجودها. وقد أشار راندولف بورن [1886-1918] ذات مرة إلى أن ”الحرب هي صحة الدولة“ [3]، وهذه بالتأكيد وجهة نظر القيادة الإسرائيلية. ولكن المدنيين، العرب واليهود على حد سواء، هم الذين يدفعون في نهاية المطاف ثمن إدمان الدولة على القوة. ستستمر المنطقة في الاشتعال طالما أن ذكاء إسرائيل وإبداعها مكرسان للسعي وراء الحرب بدلاً من السلام.

(مقال نُشر في 19 سبتمبر على مدونة لندن ريفيو أوف بوكس).

ترجمة المناضل- ة مستعينة بـDeepl

[1] انظر كتاب جوزيف ضاهر عن حزب الله، حزب الله، ط. سيلبس، 2019. (بتصرف).

[2] حول هذا الموضوع، انظر مداخلة إنزو ترافيرسو بعنوان ”De l’use politique de la mémoire“ (فيديو) في المقال المؤرخ 19 أبريل 2024، على موقع alencontre.org.

[3] أشهر أعماله التي لم تكن قد اكتملت وقت وفاته، هو بعنوانLa santé de l’Etat, c’est la guerre. نُشرت النسخة الفرنسية من قبل Editions Le passager clandestin في مارس 2012.

شارك المقالة

اقرأ أيضا