المحجوب بن الصديق
بقلم رونيه غاليسو René Gallissot
تقديم :
يوم الثلاثاء الماضي 17 سبتمبر 2024 حلت الذكري الرابعة عشر لوفاة المحجوب بن الصديق، القائد النقابي الذي جثم بحاشيةٍ صنعها بالانتقاء و الإبعاد، وإغداق الامتيازات، على صدر المنظمة العمالية الاتحاد المغربي للشغل طيلة 55 سنة، بعد أن انتزع غصبا مكانة الأمين العام في مؤتمر التأسيس من الطيب بن بوعزة.
سيظل جانب كبير من تاريخ هذا البيروقراطي محجوبا، من جهة لأنه كان قليل التصريحات، نادرا ما يتعامل مع وسائل الإعلام، لا يكلف نفسه عناء الكتابة؛ ومن جهة أخرى لكون ارشيفات المنظمة النقابية مطموسة، والباحثين في التاريخ العمالي شبه منعدمين. ولا أدل على ذلك من استحالة الحصول، من النقابة على الوثيقة التي كتبها المحجوب قبل تأسيس الاتحاد المغربي للشغل بعنوان syndicalisme marocain en marche
لا يعرف عنه عامة شغيلة الحركة النقابية سوى انه كان زعيما كلي السلطة في جهاز الاتحاد المغربي للشغل. ولا يُتاح للمنقب اليوم في انترنت غير مقالات الصحافة البرجوازية، تلك التي تمجد دوره في خدمة الوطن (البرجوازية ودولتها)، وتسعى لمحو أي حد طبقي بين الشغيلة وأعدائهم، وتلك التي تستعمل فساد البروقراطية التي رعاها ونماها المحجوب بقصد النيل من التنظيم و الهوية العماليين لتنفير الشغيلة من النقابة ومن النضال.
بعد 14 سنة من غيابه، لم يغب إرثه، منهجيته في تسيير النقابة، خطها الموالي للدولة تحت غطاء دخان من الكلام “النضالي” الأجوف، وكذا الوضع الذي خلفه في قاعدة المنظمة، من انطواء مهني، وانتهازية فئوية، وهجر يكاد يكون كليا لأفضل تقاليد النضال العمالي، بمقدمتها التضامن، حيث لا يكترث هذا المكتب النقابي، ولا ذاك، بما يجري بجواره في القطاع، فما بالك بالبعيد قطاعيا، ولا يعبر عن التضامن حتى بالكلام، إلا إذا صدر التوجيه من فوق. مات المحجوب ولم تمت المحجوبية، لا بل توطدت، واستمر إضرارها بمصالح الطبقة العاملة، وكذا العجز عن التصدي لها من أجل شفاء الحركة النقابية منها.
إسهاما في ايضاح جزء من مسار أب البيروقراطية النقابية، نتيح للقاريء/ة ما جاء عنه في قاموس أعلام الحركة العمالية بالمغرب، الذي أشرف على إصداره فقيدنا ألبير عياش.
وُلد في 20 فبراير 1922 بمكناس (المغرب)، عامل بسكك الحديد، ثم مدير محطة؛ التحق بالعمل النقابي (1946-1947) عبْرَ حزب الاستقلال؛ ناطق باسم الوطنيين في الاتحاد العام للنقابات الكونفدرالية بالمغرب (الكونفدرالية العامة للشغلCGT )؛ عضو اللجنة التنفيذية والأمانة العامة للاتحاد العام للنقابات الكونفدرالية بالمغرب منذ نونبر 1950 الذي كان عضوا في مكتبه منذ يونيو 1951 والكاتب العام لاتحاد عمال سكك الحديد؛ سُجن في 1951 ومن نونبر 1952 إلى غاية سبتمبر 1954، وفي السجن، وبالتنسيق مع الكونفدرالية الدولية للنقابات الحرة، جرى إعداد مشروع الاتحاد النقابي الوطني الذي أصبح الاتحاد المغربي للشغل الذي أُنشئ في 20 مارس 1955؛ كاتب عام للاتحاد المغربي للشغل؛ كان زعيم العمل النقابي الوطني المغربي.
وُلد المحجوب بن الصديق لأسرة من الطبقة البورجوازية الصغيرة الحضرية – كان والده حِرفيًا. تمكن المحجوب بن الصديق من الالتحاق بالمدرسة الابتدائية الخاصة بأبناء الأعيان، وأنهى السنة الأولى من التعليم الثانوي في ثانوية تأهيلية في مكناس؛ وحصل على شهادة الدراسات الابتدائية (الفرنسية). استكمل المحجوب بن الصديق هذه العدة المدرسية بالتعلم العصامي، خاصة بقراءة الصحافة باللغتين العربية والفرنسية. اجتاز بنجاح، في سبتمبر 1938، امتحان القبول بسكك الحديد، وأصبح عامل سكك، وفي العام 1946، عُيّن رئيس محطة في سيدي قاسم التي كانت آنذاك مركزاً صغيراً لاستغلال النفط. وأصبح فيما بعد رئيس محطة في منطقة مكناس.
نظم المحجوب بن الصديق،الذي لم تكن له آنذاك روابط مع الكونفدرالية العامة للشغل، خلايا لحزب الاستقلال في صفوف عمال سكك الحديد (أطروحة فؤاد بن صديقLes attitudes politiques du syndicalisme dans le Maroc colonial 1930-1956, op. cit., p. 447 مرجع سابق، ص 447). وقد لفتت ديناميته انتباه قيادة حزب الاستقلال، وخاصة قادة اليسار الذين كانوا ينوون الاعتماد على العمل النقابي: عبد الرحيم بوعبيد وعبد الله إبراهيم والمهدي بن بركة (انظر هذه الأسماء بالقاموس). في البداية، اقتدوا في ذلك بعمل فرحات حشاد الذي انفصل عن الكونفدرالية العامة للشغل لتكوين اتحادات نقابية مستقلة، ثم أسس الاتحاد العام للعمال التونسيين. في العام 1947، أطلق فرحات حاشد “نداء إلى عمال شمال إفريقيا” لتشكيل “اتحاد نقابات شمال إفريقيا”.
على هذا الخط، خطُّ ابتعادٍ مُساجِلٍ بعنف للشيوعيين الذين كانوا يديرون النقابات، نشر المحجوب بن الصديق أولى مقالاته التي حملت توقيع “Le petit cheminot” فيأسبوعية “Le Jeune Maghrébin” (6 و13 ديسمبر 1946 ويناير وفبراير ومارس 1947). وندد بروابط الحماية بين إدارة سكك الحديد والكونفدرالية العامة للشغل وبالتالي الشيوعيين؛ ولفت الانتباه إلى تفاوت الأجور وعدم المساواة في المكانة المهنية بين المغاربة والفرنسيين؛ وكانت هذه نقطة الهجوم على ما أسماه “النقابية الاستعمارية” في مقال ذائع الصيت نشره في جريدة حزب الاستقلال الناطقة بالفرنسية L’Opinion du peuple في 20 شتنبر 1947؛ وقد تصدر المقال الصفحة الأولى للجريدة تحت عنوان عريض على صفحة كاملة وبخط كبير: “النقابية الوطنية والنقابية الاستعمارية”. بوجه كل من”النقابة الماركسية” التي كانت تمثلهاالكونفدرالية العامة للشغل CGTوالنقابة المسيحية التي كانت تمثلها نقابةCFTC الكونفدرالية الفرنسية للعمال المسيحيين، كانت هناك حاجة إلى “نقابة مسلمة”. بهذا النحو، كان المحجوب بن الصديق، الذي دفعه اليسار الاستقلالي إلى الأمام، يظهر كداعية شاب لنقابة عمالية مغربية ضد الشيوعيين. وقد لاحظ أن “النقابية المغربية لم تستطع أن ترى النور على الأقل رسميا…” لأن “أبوية” النقابات الأجنبية الوحيدة “المرخصة والمعتمدة”، أي الكونفدرالية العامة للشغل CGT و”الحزب الذي يدعمها”، “تزيف العمل النقابي وتجعله بغيضا”. وقد وقّع رئيس المحطة على هذا المقال بـ “EzZoufri”،” الزوفري”، أي “العامل”، وهو مصطلح يحمل في اللغة العربية المحكية معنىً مهينًا وحتى قدحيا. بطبيعة الحال، ردت أسبوعية “L’Actionsyndicale” (1 أكتوبر 1947) على هذه الهجمات (مقال لمأمون العلوي، النقابي الشيوعي في البريد والاتصالات PTT: “نزعة استعمارية لدى الكونفدرالية العامة للشغل؟ هراء استعماري”).
تبنى المحجوب بن الصديق الموقف الوطني الكلاسيكي الذي كان يرفض أولوية الصراع الطبقي، ويتحدث عن الجماعة الوطنية ويُخضع كل عمل للنضال الوطني: “يجب على العامل أن يناضل ليس ضد طبقة ما، بل ضد الإمبريالية وأتباعها” أو أيضا: “يجب أن يكون العمل النقابي في خدمة الأمة” (L’Opinion du peuple، 18 أكتوبر 1947). كلف المهدي بن بركة عندئد المحجوب بن الصديق بتنظيم مدرسة تكوين نقابي في الدار البيضاء، لكن المحاولة باءت بالفشل. استخلصت قيادة حزب الاستقلال دروس إضراب عمال سكك الحديد في مارس 1948، الذي أدى إلى أكبر حركة إضراب في تاريخ المغرب الاستعماري، وحصلت على زيادات في الأجور للجميع، وصلت إلى 50% من الحد الأدنى للأجور، وحصلت من السلطات الفرنسية على تجديد الوعد بـ”الحقوق النقابية غير المقيَّدة”، أي المفتوحة أمام المغاربة. كان الأخيرون يشكلون 5/4من أعضاء نقابة الاتحاد العام للنقابات الكونفدرالية بالمغرب (الكونفدرالية العامة للشغلCGT )، في حين كان الموظفون الفرنسيون ينضمون في كثير من الأحيان إلى نقابة “القوات العمالية” المرتبطة بـ”الوطن الفرنسي”. وبتحريض من اليسار “النقابي”، أو بالأحرى من المهدي بن بركة، قرر حزب الاستقلال تطبيق الدخولية في نقابة الكونفدرالية العامة للشغل CGT. وأصبح محجوب بن الصديق على رأس هذا الموقف الاستقلالي.
في تلك الفترة ذاتها، بدأ النقابيون الشيوعيون، المهيمنون على الاتحاد العام لنقابات المغرب، يتحركون نحو تحويل الاتحاد إلى “مركزية مغربية”. وعلى الرغم من التسامح مع عضويتهم، لم يلغَ ظهير 24 يونيو 1938، الذي كان يحظر على المغاربة الانضمام إلى النقابات، سوى في 20 يونيو 1950، وحتى دون إشهار ذلك. وهكذا بدأت في 1948-1949 مرحلة طويلة من صياغة نص جديد حول الحق النقابي؛ وكانت القضية العالقة هي عدم ممارسة ميز في إدارة النقابات، خاصة وأن المغاربة أصبحوا أغلبية كبيرة: إما التمثيل النسبي، أو الحصص، أو – وهذا ذاته لا يزال قيداً- المناصفة مع نصف الأعضاء الفرنسيين. هذه المناصفة غير المتكافئة هي التي كانت موقف الحزب الشيوعي ممارسا بذلك ضغطا على الإقامة العامة. بالمقابل، طالب المحجوب بن الصديق وحزب الاستقلال بحقوق نقابية “غير مقيَّدة” للمغاربة. وفي هذا السياق يجب تفسير الدور الذي لعبه المحجوب بن الصديق ضمن الوفد النقابي الذي أُستقبل في قصر فاس يوم 29 أبريل 1949. فبناء على توصية من المهدي بن بركة، حصل النقابيون الاستقلاليون على التزام السلطان الذي أعلن عن تأييده للحقوق النقابية “لجميع رعايانا”. وبوجه خطط الإقامة في فرض القيود، أيد السلطان مشروع ظهير “يضمن الحقوق الكاملة وغير المقيدة للعمال المغاربة”. كانت هذه بداية نوع من الاتفاق، إن لم يكن ميثاقاً، بين السلطان والزعيم النقابي الشاب (كان المحجوب في السادسة والعشرين من عمره آنذاك)، الذي كان يتحدث باسم العمال المغاربة.
كان 1 مايو 1949 فرصة سانحة للاتحاد العام لنقابات المغرب لإظهار حجم تنظيم المغاربة نقابيا، وقد دفع المؤتمر الذي انعقد في مكناس، خلال الأيام التي تلت، النقابيين المغاربة إلى مناصب قيادية، مع إرفاقهم بقادة شيوعيين “أوروبيين”. انضم محجوب بن الصديق إلى مجلس إدارة اتحاد عمال سكك الحديد. بعد أن كان عضوا في اللجنة التنفيذية، انتُخب عضوا في مكتب الاتحاد العام لنقابات المغرب، عندما قرر المؤتمر في نونبر 1950 وضع النظام الأساسي لنقابة مركزية مغربية وتقاسم المسؤوليات النقابية بالتساوي بين الوطنيين والشيوعيين؛ أصبح الطيب بن بوعزة أمينا عاما للاتحاد مع الشيوعي أندريه لوروا André Leroy. وفي هذا المؤتمر، نجح الاستقلاليون في إدراج التعديل الذي يدعو إلى إلغاء الحماية في البرنامج النقابي.
بدا المحجوب بن الصديق، في الناقشات والاجتماعات حول تشكيل مركزية نقابية مغربية ليس فقط ناطقا بنبرة عدائية شرسة باسم التيار الوطني، بل أيضا مسؤولا عن الالتفاف على مواقف الشيوعيين؛ فقد سعى إلى الحصول على دعم الاشتراكيين الفرنسيين في المغرب، بمن فيهم أولئك الذين كانوا أكثر معارضة للحركة الوطنية المغربية والذين انضموا، فضلا عن ذلك، إلى نقابة “القوة العمالية”؛ وربما كان ذلك معبرا للانفتاح على الاتحاد الدولي للنقابات الحرة، الذي كان على نفس منوال النقابية الأمريكية، والذي كانت النقابية الاشتراكية أو الاشتراكية الديمقراطية أو العمالية جزءا منه. في مارس 1951 بتونس، التقى المحجوب بن الصديق، حيث كان يحضر مؤتمر الاتحاد العام التونسي للشغل، وفدَ الاتحاد الدولي لنقابات العمال الحرة. وعاد مشروع انضمام اتحاد نقابي مغربي إلى الظهور. في المغرب، اعتمد المحجوب بن الصديق على اتحاد نقابات عمال سكك الحديد، الذي انتخبه في مؤتمر 3 و4 و5 يونيو 1951 في الأمانة العامة للاتحاد، لكن المقرر النهائي الذي جاء متماشيا مع خط الاتحاد العام لنقابات العمال- الكونفدرالية العامة للشغل الذي كان ينتمي إلى الاتحاد العالمي للنقابات الشيوعية السوفياتية، “الذي جرى التصويت عليه بحماس لا يوصف”، ختم مع ذلك بشعار: “عاشت الكونفدرالية العامة للشغل، عاشت الفيدرالية النقابية العالمية، عاش المركزية المغربية القادمة”. كانت الرهان بين الاتحاد العالمي لنقابات العمال والاتحاد الدولي لنقابات العمال الحرة.
اكتسب المحجوب بن صديق، وقد بات شخصية بارزة في الحركة النقابية الاستقلالية، بُعدا وطنيا في حملة التجمعات التي نظمت في صيف 1951 للمطالبة بإلغاء الحماية. وقد ماثلته هذه الحملة بالحركة الوطنية التي كانت متماثلة مع حزب الاستقلال. اشتد القمع أكثر فأكثر عندما تولى الجنرال غيومGuillaume رئاسة الإقامة العامة، خلفا للجنرال جوان Juin. ألقي القبض على المحجوب بن صديق في 5 نوفمبر 1951 وحُكم عليه بالسجن لمدة سنتين؛ وبعد الاستئناف، خُفف الحكم إلى سنة واحدة. وأُطلق سراحه قبل أسابيع قليلة من اغتيال فرحات حشاد في تونس، ثم اعتقل مرة أخرى في 8 ديسمبر عقب الإضراب الذي دعا إليه الفصيل الاستقلالي في الاتحاد العام لنقابات المغرب والمظاهرات التي تم قمعها بشكل رهيب في الدار البيضاء. وقد تعرض في بداية اعتقاله لأسوأ المعاملات، حيث تعرض للضرب والتعذيب، إلى جانب ثلاثة عشر زعيما نقابيا مغربيا آخر في السجن، وقضى في القنيطرة بالخصوص، اثنين وعشرين شهرا في السجن، حين جرى خلع السلطان (20 غشت 1953).
أصبحت الاتصالات بالعالم الخارجي ممكنة بفضل عمل لجنة فرنسا – المغرب العربي بفرنسا، وبعد زيارة لجنة برلمانية فرنسية ضمت الاشتراكي روبير فيردييه Robert Verdier للقنيطرة وقدمت تقريرا إلى المجموعة البرلمانية للفرع الفرنسي للأممية العمالية (SFIO). كان المحامي جورج إيزار Georges Izard مسؤولاً عن الاتصالات مع منظمة العمل الدولية في جنيف وقادة الاتحاد الدولي لنقابات العمال الحرة في بروكسيل. وبناء على طلب من السيد إيزار، كتب المحجوب بن صديق في دفتر مدرسي، أو ربما ببساطة مخطوطة مذكرة من حوالي خمسين صفحة موجهة إلى الاتحاد الدولي لنقابات العمال الحرة بعنوان “النقابية المغربية في سيرها”. وقد استلم الاتحاد الدولي لنقابات العمال الحرة النص في بروكسل في بداية أيار/مايو 1954. نشر روبير بارات Robert Barrat مقتطفات في العدد الثاني من نشرة “ Bulletin d’information de France-Maghreb ” بتاريخ أبريل 1954، والنص الكامل في كتابه “Justice pour le Maroc“. ونفى محجوب بن الصديق أي “تواطؤ مع الشيوعية”، خاصة وأن “النقابيين المغاربة من الاتجاه الاستقلالي كانوا يخوضون نضالا بلا هوادة ضد نفوذ الشيوعية الغازي”. وندد بوصاية الكونفدرالية العامة للشغل CGT وأعلن أن “عهد النقابية اللاسياسية قد انتهى”؛ لذلك انضمت الحركة النقابية المغربية إلى “النقابية الحرة”؛ وكانت تعمل “بالتوازي في الهدف” مع حزب الاستقلال. “لقد فرضت وحدة المصالح والخصم المشترك […] وحدة العمل […] كل منظمة تعمل في إطارها الخاص”. يبرر فؤاد بن صديق في أطروحته (مرجع سابق، ص 727) نبرة العداء للشيوعية هذه بالسياق، ولكن أيضا بكون المحجوب بن صديق كان مدفوعا بحماس “بإيديولوجيته الوطنية التي تغذيها عقيدة دينية متقدة”.
طالبت اللجنة التنفيذية للاتحاد الدولي لنقابات العمال الحرة CISL (بروكسل 24-29 مايو 1954) بإطلاق سراح النقابيين المغاربة، وطالبت على أساس مذكرة “النقابية المغربية في سيرها ” بحق تشكيل اتحاد نقابي مغربي. استقبل أولدنبروك Oldenbroek، الأمين العام للاتحاد الدولي لنقابات العمال الحرة في بروكسيل، في 3 غشت 1954 من قبل رئيس الوزراء الفرنسي بيير مينديس فرانس Pierre Mendès-France. في 28 شتنبر 1954، رفضت المحكمة العسكرية الفرنسية في المغرب اعتقالات 1952؛ وجرى إطلاق سراح النقابيين المغاربة، لكن عودة السلطان كانت لا تزال معلقة.
في 5 يناير 1955، أطلقت “لجنة تأسيس وتطوير العمل النقابي الحر في المغرب” بياناً يدعو إلى إنشاء اتحاد نقابي مغربي، مستبقة بذلك خطة الكونفدرالية العامة للشغل CGT لتحويل الاتحاد العام لنقابات المغرب إلى مركزية مغربية تابعة للاتحاد العالمي لنقابات العمال FSM. حظي المحجوب بن الصديق بدعم قادة الاتحاد الدولي لنقابات العمال الحرةالذين التقاهم في باريس في مؤتمر “القوات العمالية” في نونبر 1954 ثم في بروكسيل. عاد إلى المغرب في 9 يناير 1955، في حين عمل الطيب بن بوعزة على جمع شمل النقابيين المغاربة. وفي 11 يناير، استقبل الأمين العام للحماية، موريس بابون Maurice Papon، وهو موظف سابق في نظام فيشي Vichy ووالي سابق في الجزائر قبل أن يصبح محافظا للشرطة في باريس، أعضاء اللجنة التحضيرية الذين تلقوا الضوء الأخضر من السلطات الفرنسية. كان ذلك “موافقة ضمنية”، لأن حق التنظيم النقابي لن يعترف به “للرعايا المغاربة” إلا بظهير 12 شتنبر 1955، أي خلال الفترة الانتقالية قبل تشكيل أول حكومة للمغرب المستقل.
وأخيراً جرى الترخيص لوفد من الاتحاد الدولي لنقابات العمال الحرة فأقام في المغرب في الفترة من 7 إلى 11 مارس. عُقد الاجتماع الحاسم في 11 مارس في منزل المهدي بن بركة بحضور عمر بيكو Omar Becu، رئيس الاتحاد الدولي لنقابات العمال الحرة CISL، وأمينه العام Oldenbroek الذي جعل ممثلي نقابة القوة العمالية Force Ouvrière الحاضرين يخضعون أيضًا؛ وكان رجلهم هو محجوب بن الصديق. في 20 مارس 1955، في منزل الطيب بن بوعزة، في قلب المدينة في الدار البيضاء، انعقد اجتماع لحوالي أربعين نقابيا مغربيا يمثلون حوالي عشرين نقابة محلية، خاصة في الدار البيضاء ولكن أيضا في الرباط وسلا وآسفي والقنيطرة ومكناس، أعلنوا تأسيس الاتحاد المغربي للشغل. وحدد هذا الاجتماع المقلَّص وشبه السري تشكيل اللجنة التنفيذية الأولى، واختار الطيب بن بوعزة كاتبًا عامًا. لكن البيان “النهائي”- الذي كان المحجوب بن الصديق قد أرسله إلى الوكالات الصحفية والذي كان من المقرر نشره في 21 مارس – أدرج المحجوب بن الصديق أمينا عاما والطيب بن بوعزة نائبا للأمين العام، ما وافق عليه هذا الاخير بعد أن استأنف الأمر أمام اللجنة التنفيذية للحزب (الاستقلال) ثم أمام مجلس المقاومة تحت مسؤولية محمد البصري الذي اتخذ القرار. كان المحجوب بن الصديق مرتبطا ارتباطا كاملا بيسار حزب الاستقلال، خاصة في تلك الفترة بالمهدي بن بركة وعبد الله إبراهيم، في حين أن تكوين الطيب بن بوعزة جرى كله في الكونفدرالية العامة للشغل.
بعد الاعتراف بحقوق المغاربة النقابية والتحاق الشيوعيين، طوعا أوكرها، بعد أن حاولوا تشكيل مركزية مغربية منفصلة، كان مؤتمر الاتحاد المغربي للشغل الكبير هو المنعقد يومي 24 و 25 دجنبر 1955. وقد بلغ عدد أعضاء الاتحاد المغربي للشغل آنذاك 180 ألف عضو، ووزع أكثر من 560 ألف بطاقة سنة 1956، واحتل الاتحاد المغربي للشغل مكانته في الهيئات الاجتماعية وبورصات الشغل ثم التعاونيات والجمعيات التعاضدية، بما فيها التعاضدية الوطنية للتعليم، ممارسا احتكار تمثيل عالم الشغل. وقد وسع ظهير 17 يوليوز 1957 حق التنظيم ليشمل جميع المهن باستثناء رجال الأمن والجيش، وانتقاما من الاستعمار، نص الظهير على أن يكون مسيرو النقابة من الجنسية المغربية فقط. كان المحجوب بن الصديق هو الممثل الأعلى (الزعيم) لمجتمع العمل. وفي عام 1996، كان لا يزال أميناً عاماً للاتحاد المغربي للشغل.
بعد الاستقلال، أصبح مصير المحجوب بن صديق مرتبطا بتاريخ العمل النقابي المغربي، الذي كان أيضا تاريخا لتبقرطه ونهاية العمل النقابي الوحيد. وقد رافق الانقسام إلى عدة نقابات الانشقاقات في حزب الاستقلال، الذي كان قد تطور كحزب وحيد للحركة الوطنية. ومع ذلك ظل نموذج المركزية الشيوعية، المتمثل في قيادة الثنائي الحزبي النقابي لما يسمى بالمنظمات الجماهيرية، هو نمط عمل الاتحاد المغربي للشغل، ما أدى إلى شخصنة قوية وإن لم تكن حصرية حول المحجوب بن الصديق. في العام 1957، أنشأ الاتحاد المغربي للشغل منظمته الشبابية الخاصة به، وهي الشبيبة العاملة المغربية (Jeunesseouvrière marocaine)، ودخل فيما بعد في تنافس مع الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، حيث أفلتت منه النقابية الطلابية.
روجت حكومة عبد الله إبراهيم من دجنبر 1958 إلى مايو 1960 لسياسة اجتماعية كان الاتحاد المغربي للشغل شريكها المؤسسي. وكانت هذه الفترة أيضا فترة الانقسام في حزب الاستقلال، الذي أدى إلى ظهور الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وهو حزب دافع فيه الاتحاد المغربي للشغل عن خط معتدل مستقل، وخاض إضرابات معتدلة خلف عبد الله إبراهيم. كان هذا التحالف بين الاتحاد المغربي للشغل بزعامة المحجوب بن الصديق وما يسمى التيار العمالي أو “فصيل الدار البيضاء” تحالفًا دائمًا.
رد حزب الاستقلال على هذا الانقسام بتأسيس الاتحاد العام للشغالين بالمغرب في مارس 1960، الذي فرض نفسه كتيار ثانوي في الوظيفة العمومية وفي صفوف الأساتذة، في حين أن الاتحاد المغربي للشغل الذي احتفظ بقواعد العمال والموظفين الأجراء، نأى بنفسه عن خيارات الاشتراكية الوطنية الراديكالية، خيارات بن بركة الذي دافع عن “الاختيار الثوري” (1962)، متهما المركزية النقابية بامتثالية مؤسسية. واستمر التحالف بين الاتحاد المغربي للشغل بزعامة المحجوب بن الصديق وتيار عبد الله إبراهيم، وتأكد في الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بعد تشكيل الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية سنة 1972. وقد أفسحت هذه النزعة الاستقلالية القائمة على الخصومة المجالَ أمام اندفاعات هروب إلى أمام، مثل الحملة “المعادية للصهيونية” إبان حرب الأيام الستة في حزيران/يونيو 1967، والتي تسببت في سجن المحجوب بن الصديق 18 شهراً.والواقع أن شقيقه عبد الرحمن بن صديق الذي كان مسؤولا عن المكتب النقابي بمكتب الفوسفاط بخريبكة، هو الذي كان في الأصل صاحب النصوص التي تندد بـ”تأثير الصهيونية على عصب سلطة الدولة” من خلال وجود مهندسين ومديرين “يهود”. بعد خروجه من السجن، أعاد المحجوب بن الصديق علاقاته مع القصر واستأنف منصبه على رأس الاتحاد المغربي للشغل. لكن الاتحاد المغربي للشغل واجه تحدياً أكبر من خلال إنشاء مركزية نقابية جديدة في نوفمبر 1978 من طرف الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية: الكونفدرالية الديمقراطية للشغل، التي كان زعيمها، الذي اتهم الاتحاد المغربي للشغل بـ”الطفولية” و”الجهاز النقابي الفاسد” هو الشاب محمد الأموي. وقد طغى نشاطه الحماسي على زعيم الاتحاد المغربي للشغل، المحجوب بن صديق.
المصادر: جريدة “: Jeune Maghrébin “، أسبوعية (غشت 1946-يونيو 1948)، مقالات محجوب بن صديق بتوقيع “Le petit cheminot”. – أسبوعية (L’Opinion du peuple)، (مارس 1947-يونيو 1948)، مقالات بتوقيع “EzZoufri “. – محجوب بن الصديق، Le syndicalisme marocain en marche، متعدد الصفحات، 47 ص، 1954 و83 ص. متعدد الصفحات، أرشيف جورج أوفيد، باريس الثامن. – R. Barrat, Justice pour le Maroc, Paris, Le Seuil, 1954. – بيان صحفي مؤرخ في 20 مارس 1955 نشر في Maroc-Presse، 21 مارس 1955. ¬ Capitaine F. Honoré, Le syndicalisme marocain de la CGT à l’UMT، تقرير غير منشور، 1956، رقم 2612، CHEAM، باريس. ¬ ج. و س. Lacouture, Le Maroc à l’épreuve, Paris, Le Seuil, 1958. – ميشيل أوهانا، La doctrine politique de l’UMT، DES de Sciences politiques، باريس، 1960، مكتبة كوجاس. – H. Berenguer, “Le syndicalisme marocain”, L’Afriqueet l’Asie, no. 53, 1st quarter 1961. – حول اختيار المحجوب بن الصديق كاتبا عاما للاتحاد المغربي للشغل وتحكيم مجلس المقاومة: عرض قدمه محمد البصري في مؤتمر الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، 14 فبراير 1974. – G. Oved, La gauche française et le nationalisme marocain, vol. 2 – A. Ayash, Le mouvement syndical au Maroc, vol. 2 and 3. – F. Ben Sedik, Les atti¬tudes politiques du syndicalisme dans le Maroc colonial 1930-1956, thèse d’Etat, 1989, vol. 2. – مذكرات الطيب بن بوعزة، La naissance du syndicalisme ouvrier libre au Maroc الدار البيضاء، Les Éditions Maghrébines ، 1992.
- R. غاليسو
المصدر : قاموس أعلام الحركة العمالية المغاربية – المغرب
البير عياش بتعاون مع رونيه غاليسو و جورج أوفيد
ترمة المناضل-ة
اقرأ أيضا