عملية سبتة: من أجل تدفق للشباب مغاير …

الافتتاحية, سياسة20 سبتمبر، 2024

تدفقُ مئات الشباب، معظمهم مراهقون، سعيا إلى دخول مدينة سبتة المحتلة، باباً نحو أوروبا، هرباً من وضع اجتماعي لا يُحتمل وبلا أفق، حدثٌ سفَّه مجمل الدعاية الرسمية لمغرب «الديمقراطية والنموذج التنموي والدولة الاجتماعية». صورة تلخص مفعول الويلات التي سببتها عقود من السياسة النيوليبرالية، وإخضاع البلد لاستعمار جديد بإحكام تبعيته للاتحاد الأوربي والمؤسسات المالية للامبريالية.

أَلاَّ يسعى الشباب المقهور، توقاً إلى حياة أفضل، سوى إلى مغادرة البلد، واقعٌ تتحمل قوى النضال العمالي والشعبي مسؤوليته، هي دون غيرها.
شكل الشباب تاريخيا رافدا لقوى النضال تلك لمَّا كان الأفقُ بديلاً إجماليا لنظام الاستبداد والاستغلال والاضطهاد. حقبةَ كان الهدفُ المنشود إطاحةَ الاستبداد السياسي، وبناء مجتمع المساواة اللا طبقي. ماذا يُتاح اليوم نضاليا للشباب كي لا يستبد به اليأس، ويلوذ بالفرار خارج البلد؟ حصيلة القوى التي سادت بساحة النضال محبطة: انتهت استراتيجية «النضال الديمقراطي» إلى إفلاس ناجز، وانتقالٍ صريح لقسم من أنصارها إلى صف الاستبداد والقهر الرأسمالي، وملازمةِ القسم الباقي نفس الأوهام، أوهام «تعاقد جديد بين الدولة والمجتمع» و»التوافق طريقا إلى الديمقراطية». وأهلك نفس المنطق، في لبوس «الشراكة الاجتماعية»، منظمات النضال العمالي، مفروضا بإعدام الديمقراطية الداخلية، وحرية التعبير عن الرأي المعارض، وطرد المتمسكين بحريتهم في الاعتراض.
ويعمل نسيج عريض من الجمعيات الفاعلة بالأرياف وبالأحياء الشعبية، بخطاب تحسين الأوضاع و»التنمية»، ليخدم أهداف الدولة في امتصاص الغضب وتحريف طاقة الفعل الكفاحي نحو الترقيع وتسكين آلام وقع السياسات النيوليبرالية.
وتُترك النضالات الشعبية، التي ينهض فيها الشباب بدور رئيس، لحالها؛ في عزلة عن أي تضامن، وعن أي سعي لتوحيدها، مطالبَ وتنظيماً، في حركة على نطاق وطني، بما يغير فعلا ميزان القوى وينتزع مكاسب جزئية تعزز الثقة في المقدرات النضالية الذاتية. وتتبد طاقة الشباب النضالية في معارك دفاعية، محصورة في الجامعات والمعاهد، لتنتكس واحدة تلو الأخرى، لانعدام أي سعي لتضافر التحركات النضالية.
وعلى المنوال ذاته، تضيع مقدرات الكفاح العمالي في مناوشات، محلية وقطاعية، بأهداف فئوية ضيقة، وتفوت فرصة دفع حراك التعليم، الذي دام ثلاثة أشهر، نحو نهوض عمالي شامل، ببرنامج نضال إجمالي، لتحسين الوضع الآني ولأجل بديل مجتمعي، بديل تغيير شامل وعميق.
باختصار، كل إمكانات فتح آفاق تغيير حقيقي، نحو مستقبل أفضل، يجري تدميرها ومعها كل ما سيُضفي مصداقية، بأعين الشباب، على منظمات النضال، وعلى مشروع مغرب مغاير، مغرب الحياة اللائقة للجميع بعد الانعتاق من الاستبداد السياسي و من الرأسمالية وكل صنوف الاضطهاد الملازمة لها. فكيف لا يُنظم الشباب عملياتِ الهجرة، مخاطرين بحياتهم، وعمليةَ الفرار الجماعي من هذا السجن الكبير الذي اسمه المملكة المغربية؟
وعلى غرار موقفهم من اندفاعات التمرد التلقائية، بلا تنظيم ولا أهداف واضحة، يرى دعاة «التعاقد الجديد مع الدولة»، ملتمسو التغيير من أعدائه، في محاولة الشباب المقهور العبور إلى سبتة ضغطا على النظام من شأنه دفعه لقبول «التوافق». ضغط يحبذونه لأنه لا يكلفهم، ولأنه لا يهدد بإطلاق سيرورة نضالية واعية ومنظمة من شأنها نسف أسس نظام سياسي واقتصادي واجتماعي لا «يعارضونه» من داخله إلا حرصا على استمراره. ما ساد في المغرب عقودا من «معارضة»، ولا يزال له تأثير ضار أكثر مما هو نافع، لم يكن ديمقراطيا بمعنى الكلمة الجوهري، ولا كان يروم حلا جذريا للمسألة الاجتماعية. وكل ما سبب من هزائم وخيبات، ودوره الراهن في تلويث راية النضال، عاملان وازنان فيما بلغَ شباب البلد من يأس، وسعي إلى حلول فردية، يتجلى في ظواهر عديدة ليس التدفق إلى سبتة غير أشدها إثارة للانتباه.

لكن، بالمغرب شباب آخر يقاوم يوميا نظام القهر الطبقي، منه مجموعات تقاتل لتحافظ على جذوة كفاح المعطلين متقدة، وتجارب نضال متواترة يخوضها طلاب التعليم العالي، وأخرى تتصدى لفرط الاستغلال وهضم الحقوق بأماكن العمل، منها اليوم معركة شغيلة مناجم بوازار، وشباب شغيل بالتعليم خاض تجربة حراك الأشهر الثلاثة المجيد، والكثير من بؤر المقاومة العمالية والشعبية لا تصلها أضواء الإعلام. شباب وشابات في عراك من أجل حياة لائقة، يتلمسون طريقا بما أوتوا نحو الهدف. هؤلاء بحاجة إلى من ينقل إليهم دروس النضالات السابقة، ومن يساند الجارية، وينير نهج النضال ببرنامج مطالب وأساليب تنظيم، وتكتيكات، مطابقة لهدف التحرر الشامل.
إن رسم الحد الفاصل بين خط نضال جذري، بمطالبه، وأشكال كفاحه، ومشروعه التحرري الشامل (السيادة الوطنية-السيادة الشعبية-الحل الجذري للمسألة الاجتماعية-تحرر النساء-حماية البيئة) وبين خط «التدرج في الإصلاح»، وبمنهجية «التوافقات»، بمراهنة رئيسية على المؤسسات، والتحركات المتحكم بها بيروقراطيا، وسعي لتلطيف وقع السياسة النيولبرالية عوض إسقاطها، إنما هو شرط أول لإعادة المصداقية لخطاب النضال من أجل التغيير. هذه المصداقية أحد عناصر بت الأمل في صفوف الشباب المتحرق إلى الفرار من البلد، مغامرا ومخاطرا بحياته، يحركه وهم حياة لائقة في ديار رأسمالية لا تقل قهرا للبشر، في نوع من المقامرة يشارك فيها آلاف ويربح فيها فرد أو فردان.

هذه المصداقية شرط لإقناع الشباب اليائس بالتدفق إلى عمل الإعداد للثورة التي ستلغي كل استعباد، وتحطم كل القيود، وتفتح أفق الحياة اللائقة للجميع.

شارك المقالة

اقرأ أيضا