نضال الحركة النسوية العراقية ضد مشروع تعديل قانون الأحوال الشخصية

النساء16 سبتمبر، 2024

قياسا بشدة وطأة الاضطهاد والقهر اللذان يلازمان حياة النساء فإن بعض المكاسب القانونية الذي تضمنته قوانين الأحوال الشخصية في بلدان منطقتنا يُعَدُّ هامًّا، وإن بدا طفيفا وهشا. ويبقى النزر القليل من الحقوق الذي انتزع بفضل نضالات أجيال من الحركة النسوية، وأقرتها مؤسسات الأنظمة الحاكمة، سعيا منها لتدبير وضع فرضه تغير أوضاع النساء الاقتصادية والاجتماعية في مجتمع رأسمالي- أبوي، محط تهديد دائم من قبل كل صنوف الرجعيات. ويظل كل ما من شأنه أن يعزز ظفر النساء بحقوقهن الإنسانية الأولية، وينتصر لسيرورة وتحرر النساء وانعتاقهن الشامل، ساحة حرب أيديولوجية مفضلة لقوى سياسية رجعية لتعبئة أتباعها بخطاب أخلاقي زائف. وتحرص كل أطياف الرجعية الدينية، سواء أشدها عداء لحقوق النساء أو التي تبدي بعض التكيف لمجاراة واقع متحول، على إبقاء الاضطهاد جاثما على صدور النساء. إنه لبنة مشروعها السياسي المجتمعي القروسطي المعادي لتطلعات شعوب المنطقة التحررية.

يجري فتح باب تعديل قوانين التشريع الأسري ببلدان عديدة بمنطقتنا، رغم تباين خلفيات الأنظمة الحاكمة في كل بلد من دعوتها لتلك التعديلات، غير أن غايتها جميعها هو إدامة سيطرتها على من ستقنن تلك القوانين حياتهم- هن، لا سيما وأن الأسرة تعد بنية أساسية لإعادة إنتاج نفس علاقات الهيمنة والقهر في مجتمع قائم على الاضطهاد والاستغلال.

تواجه الحركة النسوية والديمقراطية بالعراق محاولات لإقرار تعديلات تعد تراجعية وخطيرة مقارنة بقانون الأحوال الشخصية رقم 188 النافذ حاليا والصادر عام 1959، ما سيؤدي إلى اضطهاد واستعباد أكثر للنساء العراقيات. ترفض المنظمات المناضلة إتمام عملية المصادقة على تلك التعديلات برلمانيا باعتبارها إعداما لمكاسب قانونية ظلت صامدة بوجه الردة العنيفة ضد حقوق النساء ومجمل الحريات الديمقراطية.

لتسليط الضوء على هذا الموضوع اتصلت جريدة المناضل-ة بمناضلات نسويات عراقيات وباحثات في قضايا النساء ومدافعات عن حقوق الانسان، وكذا ناشطات منخرطات في الدينامية النضالية لإسقاط مشروع التعديلات التراجعية دفاعا عن حقوق النساء العراقيات.

ما سياق مساعي فرض تعديل تراجعي لقانون الأحوال الشخصية النافذ؟

تُجمع من حاورتهن جريدة المناضل-ة على أن القانون المعتمد حاليا يضمن جملة حقوق للنساء العراقيات، ويساوي بين جميع العراقيات والعراقيين في ما يخص أحوالهن- هم الشخصية، بغض النظر عن اختلاف المذاهب والمعتقد. ويتبين من خلال توضيحاتهن حول محاولات فرض تعديل القانون رقم 188 النافذ أن ذلك يشكل نكوصا مجتمعيا، وهجمة عنيفة على المزايا القانونية التي جاء بها. عبرت المحامية تأميم جليل العزاوي في تناولها لهذا التشريع الأسري بقولها: “يعد  القانون النافذ للأحوال الشخصية العراقي رقم 188 لسنة 1959، منذ صدوره، قفزة نوعية لضمان حقوق الأسرة العراقية، لما تضمنه من مبادئ إنسانية قائمة على تحقيق العدالة والموازنة بين الحقوق والواجبات بين أفراد الأسرة، مستمداً أحكامه من بطون الشريعة الإسلامية على اختلاف مشاربها وتوجهاتها، فضلا عن مراعاته المبادئ الإنسانية الدولية في مجال حماية حقوق جميع أفراد الأسرة. واستقر العمل بهذا القانون واستندت المحاكم بقراراتها على أحكامه وأصبح مكمن استقرار للمجتمع العراقي بشكل عام. واعتُبر قانون الأحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959 من القوانين الرائدة في منطقة الشرق الأوسط. وجرت عليه تعديلات عام 1978 لتجعله أكثر موائمة مع التغييرات المجتمعية والحاجات الإنسانية.

وأشارت نفس المتحدثة في توضيحها لسياق محاولات تغيير بنود القانون السالف الذكر أنه: “بعد الاحتلال الأمريكي للعراق في 9/04/ 2003 وتغيير نظام الحكم، صدر القرار 137 بتاريخ 29/12/2003، وكان ينص على إلغاء قانون الأحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959، والاعتماد على فقه المذاهب الإسلامية في كل ما كان تحت مظلة القانون المذكور.  استقبلت الحركة النسوية العراقية هذا القرار بالشجب والرفض والمطالبة بإلغائه والإبقاء على القانون النافذ. ولاقى موقف الحركة النسوية هذا تضامنا واسعاً وجديا من قبل القوى السياسية التقدمية والحركات المدنية والمفكرين والأكاديميين والنقابات المهنية والعمالية وكل من يحمل فكرا مدنيا تطلعيا”.

وتضيف تأميم جليل العزاوي: “إن محاولات إلغاء قانون الأحوال الشخصية لم تتوقف عند إلغاء قرار 137، بل بات التلويح بما نص عليه هذا القرار بكامل محتواه قائما وصيغ على شكل مادة دستورية ضمن نص المادة 41 من الدستور العراقي، والتي تنص على: (العراقيون أحرارٌ في الالتزام بأحوالهم الشخصية، حسب دياناتهم أو مذاهبهم أو معتقداتهم أو اختياراتهم، وينظم ذلك بقانون)، والتي تسمح بأن يكون لكل مذهب أو طائفة أو من أصحاب معتقد معين قانونهم الخاص بأحوالهم الشخصية. وقوبلت هذه المادة هي الأخرى بالرفض من قبل الحركة النسوية العراقية والجهات السياسية ذات النهج التقدمي والعلماني والمدني، حيث في حالِ تطبيقها تدعو إلى أن يكون هناك أكثر من قانون للأحوال الشخصية للعراقيين، الأمر الذي يؤدي إلى خلخلة التماسك المجتمعي ونتيجة لهذا الضغط المدني اعتبرت هذه المادة الدستورية مادة خلافية، إلا أنها ضلت متربعة في موضعها ضمن الدستور العراقي. ورغم اعتبار هذه المادة الدستورية من المواد غير المتفق عليها، إلا أن ذلك لم يمنع بعض الجهات السياسية الإسلامية من أن تتقدم بمشروع قانون للأحوال الشخصية لمقلدي المذهب الجعفري، وتم عرضه على البرلمان.  وهذا الآخر لم يلق أي تأييد من قبل القوى المدنية وبعض الجهات السياسية والمدنية وبعض المنظمات الحقوقية، ومن خلال عرض تقرير العراق لتطبيق اتفاقية إلغاء كافة أشكال التمييز ضد المرأة تم عرض تقارير موازية للمنظمات غير الحكومية، والذي تناول النتائج التي ستترتب على هذا القانون في حال نفاده“.

وأعطت تأميم العزاوي أمثلة أخرى عن استمرار التربص بقانون الأحوال الشخصية لتعديله وفق رؤية مذهبية، حيث جاء في سياق حديثها: “استمر العمل على محاولات عديدة من أجل تناول أهم مبادئ الأحوال الشخصية  لتعديلها وفقاً لمنظور المذاهب، كتعديل المادة 57 من قانون الأحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959، والمطالبة بانتزاع حضانة الأم المطلقة أو الأرملة لأولادها ومنح الأب أو أب الأب حضانة الأطفال، وإبعاد الأم وعائلتها عن حضانة الأولاد عند حصول الافتراق بين الزوجين سواء بالطلاق أو الموت، الأمر الذي  واجهته الحركة النسوية العراقية بالرفض والاحتجاج كونه يشكل انتهاكا لحقوق الطفل العراقي دون مراعاة لمصلحته العليا التي تعلو على جميع المصالح الأخرى، فضلاً عن أن ذلك يشكل خرقاً لالتزام العراق الدولي باتفاقيتي القضاء على كافة أشكال التمييز ضد المرأة وحقوق الطفل الدولية“.

من يقف وراءه هذا التعديلات؟ وما مضمونها؟

توضح المحامية تأميم العزاوي فيما يتعلق بالتعديلات ومحتواها ومن يدفع باتجاه إقرارها أنه: “في الوقت الحالي نحن نواجه تقديم مقترح من قبل بعض الجهات السياسية الدينية يهدف إلى:

“أولا: المادة 1: تعديل نص المادة 2 من قانون الأحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959 وإضافة فقرة 3 إلى المادة 2 والتي مضمونها”:

  • تخيير العراقيين عند إبرام عقد الزواج باختيار المذهب الذي يريدون أن يكونوا وفقا لأحكامه في أحوالهم الشخصية، معنى ذلك أنهم لن يخضعوا لقانون الأحوال الشخصية النافذ، عن طريق تقديم طلب إلى المحكمة المختصة يطلبون فيها أن يكون عقد زواجهم وفقاً لأحكام مذهب معين سنياً كان أم شيعياً وفي حال عدم توافق الزوجين على مذهب معين يكون عقد زواجهم خاضعا لأحكام مذهب الزوج”.
  • “تخضع أحكام القضاء في المحاكم إلى قواعد المدونة الخاصة بالأحكام الشرعية وهذه تشمل بابين: مدونة خاصة بالمذهب الشيعي الجعفري، وأخرى في مسائل الأحوال الشخصية بالنسبة للمذهب السني، على أن تعد هذه المدونات خلال فترة ستة شهر من تاريخ الموافقة على مقترح القانون وتقدم إلى مجلس النواب للموافقة. ويعتمد في وضعها على الرأي المشهور عند فقهاء كل مذهب في العراق. وفي حال تعذر تحديد الحكم المشهور في الفقه الشيعي الجعفري، يعتمد المجلس العلمي رأي المرجع الديني الذي يرجع إليه في التقليد أكثر الشيعة في العراق من فقهاء النجف الأشرف. أما بالنسبة للمذهب السني ففي حال تعذر الحكم المشهور فيؤخذ برأي المجلس العلمي والإفتائي“.

كما عرضت تأميم التعديل الثاني الذي يرد في المادة 2: “وتنص على إلغاء نص الفقرة 5 من المادة 10 من القانون النافذ ويحل محله ما يأتي”:

مضمون الفقرة 5: (تقوم محاكم الأحوال الشخصية بتصديق عقود الزواج للأفراد البالغين من المسلمين من قبل من لهم تخويلاً شرعيا أو قضائيا، أو لهم تخويل من أحد الوقفين الشيعي أو السني وتبرم عقود الزواج بعد التأكد من توافر أركان العقد وشروطه وانتفاء الموانع من الزوجين).

يظهر من مضمون هذا التعديل المقترح أنه منح صلاحيات أوسع للمكاتب الدينية التابعة للوقفين الشيعي والسني في إبرام عقود الزواج، ويقوض ذلك سلطة القضاء بجعل إبرام العقود في المحاكم أمرا ثانويا، ولهذا أضرار وخيمة على حقوق الأطفال والزوجة لغياب التزامات قانونية، كون العقود تتم خارج المحكمة، كما أن هذا التعديل يفتح الباب على مصراعيه أمام زواج القاصرات.

ما المكاسب التي يتيحها قانون الأحوال الشخصية النافذ للنساء العراقيات؟ 

تعبر الحركة النسوية والديمقراطية العراقية عن خوف من تراجع خطير يهدد الحقوق المكتسبة للنساء العراقيات. فقانون الأحوال الشخصية المرقم 188 لسنة 1959 المعدل والنافذ لحد الآن يضمن مكاسب قانونية للنساء العراقيات، لاعتماده منظورا عابرا للمذاهب بترجيح أفضل الأحكام لصالح المرأة يسري على جميع العراقيين- ات في إطار قانون موحد.

تسرد ذ. فائزة بابا خان جملة مقارنات توضح ما تعتبره من إيجابيات قانون الأحوال الشخصية بصيغته الحالية بمقياس ما يتيحه من حقوق للنساء العراقيات، ونورد بعض الأمثلة التي تبين حجم التراجعات القانونية التي ستلحق بحياة النساء العراقيات كما الأطفال في حال تم التصديق على التعديلات:

من حق الزوجة المطلقة في السكنى لمدة ثلاث سنوات عند التفريق أو الطلاق استنادا للقرار رقم 77 لسنة 1983 وتعديلاته”. وبخصوص هذا الحق تقول المحامية الباحثة بابا خان: “إن هذا الحق المكتسب في قانون الأحوال الشخصية المرقم 188 ستحرم منه الزوجة إن تزوجت وفق قانون الفقه الجعفري أو السني للأحوال الشخصية”، كما تضيف أنه وحسب القانون الحالي: “الأم أحق بحضانة أولادها وتربيتهم حال قيام الزوجية وبعد الفرقة مالم يتضرر المحضون من ذلك استناداً للمادة 57/1 من القانون. وتستمر حضانتها لعمر 15 سنة ويخير الطفل حينها استناداً للمادة 57/5، وكذلك احتفاظ المطلقة بحضانة طفلها بعد زواجها بشرط أن يتعهد الزوج برعاية الصغير وعدم الإضرار به”.

وجاء في توضيحها أنه “وفق الفقه الجعفري هذا الحق المكتسب ستخسره الزوجة وتفقد حضانة طفلها بعمر سنتين إن كان ذكرا والبنت بعمر سبع سنوات، والأب يكون أحق بحضانة أطفاله في باقي المدة حتى البلوغ. وإن تزوجت المطلقة تسقط حضانة أطفالها حتى إن كان محرماً على الصغير وإن طلقت تعود إليها الحضانة”.

وحسب الفقه السني فيما يخص مسألة الحضانة تشير أيضا أنه “وفق الفقه السني فالأم أحق بحضانة ولدها وفق الفقه الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي، فتقدم الأم على الأب ومدة الحضانة سبع سنين للغلام وتسع سنين للبنت مع اختلاف المدة بين المذاهب السنية وتسقط حضانة المطلقة إن تزوجت”.

وتطرقت بابا خان لجوانب أخرى من القانون الحالي والتي تعتبرها ميزات ايجابية وهي تلك المتعلقة بـ: “حق الزوجة في التعويض عن الطلاق التعسفي على ألا تتجاوز نفقتها لمدة سنتين”، في حين بينت أنه “وفق المذهبين لن تستطيع الزوجة الحصول على التعويض نتيجة الطلاق التعسفي”. وفيما يتعلق بمسألة الزواج والطلاق تشرح بابا خان أنه: “من حق الزوجة أن تشترط أن يكون أمر طلاقها بيدها استناداً للمادة 34”. كما “ومن حق الزوجة أن تشترط في عقد الزواج ما شاءت من الشروط على ألا يخالف النظام العام والآداب العامة استناداً لأحكام المادة 6/2”. غير أن الطلاق يبقى حصرا بيد الزوج حسب المذهبين السني والجعفري كما أوضحت الباحثة والتي سبق لها أن أجرت بحثا مقارنا (1): “لكن وفق المذهبين السني والجعفري فإن الطلاق يبقى حصرا بيد الزوج فقط، ولا تستطيع الزوجة طلب التفريق لأن الفقه الجعفري والسني مستندا في حكم الطلاق على الحديث النبوي “الطلاق بيد من له الساق”، ولكن من حق الزوجة ألا يتزوج عليها زوجها إلا بأذن القاضي وتحقق الشروط، استناداً للمادة 3/أ، ب”.

تقول ذ. فائزة بابا خان “إن ما أوردته من مكاسب في القانون النافذ، هي على سبيل المثال وليس الحصر، لأن المكاسب عديدة لصالح النساء والأطفال. لكن في حالة المصادقة على مقترح تعديل القانون وفتح الباب لمدونات الفقه الجعفري والفقه السني فإن غالبية تلك الحقوق المكتسبة ستحرم منها المرأة والطفل، لأنها غير موجودة في الفقه الجعفري والفقه السني”. وساقت بابا خان أمثلة كثيرة عن نوع الانتهاكات التي ستطال حقوق النساء بالعراق نذكر منها، ربط النفقة على المرأة بتمكين الزوج من الاستمتاع بها، وشرعنة زواج القاصرات… إلخ، وهذا ما قالت عنه أنه بمثابة «أحكام مجحفة بحق المرأة التي لا تتلاءم مع مكانة النساء وأوضاعهن في الزمن الحالي، وتتناقض مع بنود الاتفاقيات الدولية التي صادق عليها العراق وبات ملزماً أن تتوائم مع بنودها، وتعتبر انتهاكاً لمبادئ حقوق الإنسان والمعايير الدولية”.

وأكدت في الأخير على أن “الزواج وفق المذاهب الفقهية سيمعن في تقسيم المجتمع طائفياً والتمييز ما بين النساء أنفسهن لأن أحكام المذهبين تختلف غالبيتها، لذلك سوف تتباين الحقوق والالتزامات بين النساء المتزوجات في قضية واحدة”.

تعديلات القانون رقم 188: تسلط ذكوري وتطييف للشعب العراقي

ستقضي التعديلات الأخيرة لقانون الأحوال الشخصية العراقية على المكتسبات القانونية التي تتمتع بها النساء العراقيات، ويفتح الباب عكسيا لتطبيق أشد الآراء الفقهية تشددا وعداء لحقوقهن ويفكك سريان القانون الواحد على الصعيد الوطني، معوِّضا إياه بتشريع طائفي مذهبي يعادي صراحة النساء ويعتبرهن قاصرات الأهلية ومحور الفتن.

تناول د. فارس كمال نظمي (2) في مقاله “تهميش القضاء وتفكيك العقل الحقوقي للدولة وتقويض الهوية الجامعة. عواقب التعديل المقترح لقانون الأحوال الشخصية”، مخاطر التعديلات الأخيرة ومن بين ما ذكره: “أما مسودة التعديل الجوهري للقانون، والمقدمة مؤخراً من نواب في البرلمان يمثلون توجهات إسلاموية مدعومة من مراكز قرار أساسية في المنظومة الحاكمة، فإن المقصود بها هو إعادة إنتاج المجتمع وفق رؤية ثيوقراطية استعلائية محددة، تزدري محددات الطبيعة البشرية وتنكر التطور العقلاني لمفهوم الأسرة عبر التأريخ”.

فبنود هذا التعديل المقترح تعني مثلاً- من بين أشياء أخرى كثيرة- تطبيق أحكام فقهية لا تميز بين سن البلوغ الجنسي Age of Puberty وسن الرشد العقلي Age of Majority  (سن الرشد) إذ من البديهي علمياً أن النضج الجنسي أمر متمايز عن النضج العقلي. وهذا يعني شرعنة تزويج القاصرات في أعمار مبكرة- قد تصل إلى سن 9 سنوات- أي ممارسة الانتهاك الجنسي نحوهن ما دمن لم يبلغن سن الرشد بعد. يضاف إلى ذلك أصناف متنوعة من الانتهاكات التي ستمارس ضد المرأة في قضايا الطلاق والحضانة والنفقة والإرث، طبقاً لمسودة التعديل هذه.

إن هذه المساعي المحمومة لتعديل قانون الأحوال الشخصية بهذا الاتجاه الاستبدادي، تعكس- قبل كل شيء- نزوعاً سياسياً لممارسة هيمنة ثقافية ذكورية على المجتمع، وتكريساً لقبضة الإكراه والتسلط والاستئثار، سعياً لتثبيت أركان الحكم الهش بأعمدة أيديولوجية “متينة”. فالمروجون للتعديل يريدون إظهار الأمر كما لو أنه تفعيل ديمقراطي لحرية دينية يمارسها أتباع كل مذهب في أحوالهم الشخصية بشكل مجتزأ ومنعزل، مع تغافلهم المقصود عن النظر في العواقب الكلية لهذا التعديل وما سينتجه من اعتلالات دستورية وقانونية وقضائية واجتماعية ونفسية ذات طابع كارثي.

تتفق الحركة النسائية والديمقراطية العراقية أن تعديل قانون الأحوال الشخصية جزء من هجمة عامة ضد الحريات الديمقراطية، وخطوة ضمن مسار هدفه تشديد القبضة الديكتاتورية باسم الدين والطائفية والقومية وهو نهج ترعاه أحزاب سياسية تتحكم في قدرات العراق الوطنية، ومسعاها الدائم تفكيك مرتكزات وحدة شعبه وكسر تطلعاته للتحرر من الاستعمار والاستبداد والتبعية.

 قالت المناضلة بشرى أبو العيس “مارست الحركة النسوية العراقية أشكال التعبئة الجماهيرية وللنساء خاصة، بعد أحداث عام ٢٠٠٣، وخاصة منذ انطلاق الحركة الاحتجاجية بنسختها الأولى عام ٢٠١١ ولباقي نسخها وصولا لانتفاضة تشرين ٢٠١٩، أشكالًا متعددة منها تحالفات جماهيرية ومنها شبكات نسوية مدافعة عن حقوق النساء والأطفال والأسرة وحقوق الانسان والإغاثة وتمكين سياسي أو شبابي و تمكين ديمقراطي… التعبئة اليوم لمواجهة تعديل قانون الأحوال الشخصية نتاج لتراكم خبراتية ومعرفية، والمتابعين أشروا سرعة تشكيل تحالف ١٨٨ الذي يضم قوى مدنية ديمقراطية بأطر تنظيمية مختلفة وناشطين أفراد ومدافعين، وأيضاً لأهمية الموضوع وأبعاده الاجتماعية والسياسية والمجتمعية واستقرائنا خطورة التعديل لمستقبل الأسرة العراقية وأفرادها ولإخضاعها لتقسيمات طائفية مذهبية“. والأخطر من ذلك كما نبهت له بشرى أبو العيس هو “الذهاب أبعد من ذلك: تقسيمات على أساس المرجعيات المذهبية في كل مذهب وترسيخ الهويات الفرعية بدلا من استمرار البناء الديمقراطي والهوية الوطنية...”. وعن التعبئة الجارية لصد محاولات التعديل الرجعي لقانون الأحوال الشخصية قالت ذ. أبو العيس والناشطة كذلك في تحالف 188 (1) “إن مردود التعبئة النسوية اليوم لمواجهة هذا الخطر يسجل انجازا ديمقراطيا لوحدة خطاب النساء وأهدافهن، بل وذهبت التعبئة إلى أبعد من ذلك بضم الشباب والرجال المساندين للحفاظ على سيادة القانون والبناء المؤسساتي للدولة العراقية”.

تشرح ذ. بشرى أبو العيس الخلفيات السياسية لطرح هذه التعديلات بقولها التالي: “طرح التعديل في هذا التوقيت بالذات يؤشر أنه هدفه سياسي موجه لجمهور معين، هو جمهور الكتل المهيمنة لاستمرار كسب أصواته الانتخابية والتعديل استند لمادة دستورية واحدة هي المادة 41 دون التوازن مع باقي المواد، والأدهى تم توجيه الاتهام لكل من يعارض مشروع التعديل بأنه لا يحترم الدين والمذاهب ويعارض حرية اختيار الأحوال الشخصية بناء عليها، وتحويل الصراع إلى مسميات فرعية (ديني/ مدني) متناسين وجوب سيادة القانون ومساواة العراقيين والعراقيات أمام القانون وعلوية الدستور”. كما تشير إلى أن محاولات تمرير مقترح التعديلات في جلسات البرلمان يأتي كذلك في سياق “هيمنة أحزاب السلطة وفرض التقسيم المجتمعي على أساس طائفي وترسيخ ذلك حتى على مستوى القضاء والقانون. وسحب سلطة القانون من الأحوال الشخصية وتنظيمها للمجتمع والذهاب إلى فوضى مجتمعية خطرة، مثلا شرعنة الزواج خارج المحاكم وعدم تثبيت سن الزواج للذكور والإناث حسب القانون بل حسب المذاهب، وجميعها تجيز زواج القاصرات والذكور الصغار، وغيرها من المخاطر التي تهدد تكامل الأسرة وبنائها وتقويض حقوق المرأة والطفل بهيمنة ذكورية واضحة، وعدم توازن بين المواد الدستورية وترسيخ التميز بين النساء والرجال”، ومن شأن هذا كله كما جاء في قول المحامية والناشطة النسوية أن يعمل على “تهديم أسس البناء المدني الديمقراطي لعراقنا بعد ٢٠٠٣ الذي ناضل من أجل ترسيخه التيار المدني الديمقراطي في العراق بمختلف تشكيلاته أحزابا ومنظمات مجتمع مدني وحركات احتجاجية ومثقفين وناشطين”.

تتعبأ الحركة النسائية والديمقراطية العراقية لإسقاط التعديلات الأخيرة ووقف الهجمة التي تريد إعادة أوضاع النساء إلى الوراء على الصعيد القانوني، مع وعيها أن اضطهاد النساء العراقيات متعدد، معقد ومتجدر في بنية المجتمع الاقتصادي والثقافة الذكورية شديدة العداء لتحرر النساء، ما يطرح مهاما ومسارا طويلا أمام نضال النساء وكل الديمقراطيين- ات. تشير المحامية والمدافعة عن حقوق الإنسان زينب جواد حسن مثلا إلى أنه: على عكس ما جاء في مقترح قانون التعديل المطروح حالياً، والذي يقوم على سحق حقوق المرأة وإعطائها إلى الرجل على سبيل الامتيازات والتعكُّز على الشريعة وتقويل المذهب من أجل تقويض حقوق النساء بدلاً من طرح تعديلات قانونية تحمي حياة المرأة، مثال نحن بحاجة إلى طرح تعديل للمادة 409 من قانون العقوبات النافذ، والتي تبرر القتل بدافع الشرف في حين لا يوجد في الشريعة الاسلامية قتل من أجل الشرف، ولا يوجد غسيل عار أو ما شابه وأن أكثر النساء التي تُقتل كانت تُقتل بدوافع عصبية أو تعسف من قبل الأولياء أو من أجل الأموال كما في قضايا الإرث“. وترى زينب جواد أن هذا القانون النافذ حاليا هو “قانون رصين ومهذب”، وأنه “لا توجد مكاسب لصالح النساء على حساب الرجال ولا العكس لكن يوجد ميزان لتعادل الحقوق والواجبات“.

وجوابا على تأثير الوضع السياسي المتضارب في العراق على أوضاع النساء، وكيف انعكس ذلك على مسار قانون الأحوال الشخصية، توضح المحامية والناشطة في مجال حقوق الإنسان أن “الوضع السياسي المتضارب أدى إلى أن يسير المجتمع إلى المجهول بسبب الجهل بالقانون أو تبني أعراف وتقاليد متطرفة بعيدا عن المدنية في المجتمع. وهذا  بدوره أدى إلى انحراف بعض القوانين من ناحية تطبيقها عن المسار المحدد لها في العلو والوصول إلى هرم العدالة، مما أدى إلى تراجع في بعض القوانين وتطبيقاتها وحلول قانون القوة والتطرف بغطاء ديني”.

فصلت بدورها الدكتورة بشرى العبيدي في ماهية تعديلات قانون الأحوال الشخصية في نسختها الأخيرة قائلة أنها “تذهب نحو تطبيق الشريعة الاسلامية بفقهها المختلف بدل القانون، ومعنى ذلك أن أطراف النزاع سيحتكمون إلى أحكام الشريعة الإسلامية حسب المذهب والمرجع الذي يقلده كل طرف إن كان له مرجع، ونعرف أن هناك اختلافات آراء فقهاء كل مذهب حول أمور الأحوال الشخصية. بالنسبة مثلا للمذهب الشيعي هناك الإمامية والزيدية، وهناك الأحناف والحنابلة والمالكية والشافعية في المذهب السني. ويجعل هذا الكم الهائل من الآراء الفقهية، في المسألة المتعلقة بالأحوال الشخصية، تطبيق القاعدة القانونية بشروطها ومبادئها العامة أقرب إلى المستحيل”. وتعليقا على ركون المدافعين عن التعديل  إلى ذريعة أن ذلك يعد تمسكا  بأحكام الشريعة الاسلامية، ترد بشرى العبيدي بأن “آراء الفقهاء لا تعد ثوابتا في الإسلام بل هي اجتهادات بشرية، وكما هناك فقهاء بالشريعة الإسلامية هناك أيضا فقهاء بالقانون وفي التاريخ…”، كما تضيف أنه “بالاحتكام إلى الشريعة الاسلامية بموجب هذا التعديل لن تعود هناك مساواة بين العراقيين والعراقيات أمام القانون  حسب ما نص عليه الدستور في المادة 14، وستلغى أيضا مسألة أن القاضي لا سيد عليه إلا القانون وسيكون بدلا من ذلك الاحتكام إلى رجال الدين، وهؤلاء ليسوا مشرعين ولا يمكنهم أن يحلوا محل السلطة التشريعية التي تضع القانون محط النفاذ وليس هناك شيئ اسمه رجل الدين. ونطالب نحن في الأصل بقانون مدني، وحتى قانون الأحوال الشخصية النافذ هو مستمد بالأساس من الشريعة الاسلامية، بحيث يحيل في المادة 1 والمادة 2 على المذاهب في كل ما لم يرد به تنظيم في ذات القانون، ونعتبر هذا التعديل تميزا ضدنا نحن النساء وبالتالي نطالب بأمرين، سواء أن نحافظ على القانون الحالي أو قانون مدني لا علاقة له بكل تلك الأمور الفقهية الجعفرية والسنية، أما القول بالعودة إلى ما قبل 1400 سنة فيعد جنونا ولا قيمة له“.  وتتساءل د. بشرى العبيدى “هل المواطن العراقي أصلا يواجه مشاكل في قانون الأحوال الشخصية؟ أم في الخدمات والتعينات والعمل والوضع الاقتصادي والأمني والفساد المستشري في الدولة؟ هذه هي مشاكل الإنسان العراقي، ومنذ 1959 ليست هناك مشاكل فيما يتعلق بأمورنا المتعلقة بالطلاق والزواج، لذا نرفض مطلقا المساس بالقانون الحالي إلى أن تتهيأ الظروف والأجواء من كل النواحي لطرح الرؤية في ما يتعلق بمشروع قانون الأحوال الشخصية مدني، ولكن الوضع غير مهيأ لهذا الطرح لعدم أهلية مجلس النواب الحالي لاستقبال هذه الرؤية لأنه ذو توجه طائفي“.

مند شهر غشت الماضي انطلقت دينامية نضالية ضد التعديلات الرجعية لقانون الأحوال الشخصية العراقي وتعددت صيغ التعبئة وتشكل ائتلاف واسع، ونُظمت تظاهرات احتجاجية في عدة مدن، واخترق النقاش الأوساط الإعلامية والثقافية. وبدوره تحرك المعسكر الطائفي الرجعي باستهداف الجماهير بالضرب على الوتر الطائفي والمشاعر الدينية وتحريك البرك الآسنة للتخلف السياسي والثقافي الذي يسحق شعبا طحنته عقود من الأزمات العنيفة والمأساة الاجتماعية. وأُطلقت رسائل التهديد والوعيد واستهداف المناضلين- ات والمنصات الإعلامية والحزبية. ليست التهديدات مزحة بل دلت التجربة أن المليشيات الطائفية تترجم وعيدها إلى أفعال دموية مرعبة وتلك من الإرث السياسي البغيض الذي تواجهه الحركة النسوية والديمقراطية العراقية عموما.

أحرار العراق وحرائره المناضلات لأجل حقوق نساء العراق ولأجل تحرره الديمقراطي في أمس الحاجة لتضامن عالمي واقليمي ودعم نضالهن وفضح التحرشات والتهديدات المتربصة بهن.

(1)- رابط تحالف 188 على الفايسبوك Facebook

(2)- https://almadapaper.net/373070/

شارك المقالة

اقرأ أيضا