«من النهر إلى البحر»: نضال فلسطين لتقسيم الأرض ضد استراتيجية الرفض الإسرائيلية

16 كانون الثاني/يناير عام 2024 بقلم ميكائيل كارادجيس  Michael Karadjis

 

يناقش ميكائيل كارادجيس، المناضل الأسترالي، مطلب «من النهر إلى البحر» مدافعاً عن شرعيته، كما يناقش الانتكاسة الكبيرة التي مثلها مطلب إقامة دولة فلسطينية مستقلة، كهدف اقترن في الواقع ببناء البانتوستانات والوضع الحالي.

كان شعار «من النهر إلى البحر»، في تظاهرات مؤيدة لفلسطين في جميع أنحاء العالم، مثار انتقادات كُثر لا أساس لها من الصحة. يحظى بانتقادات في تعليقات وسائل الإعلام والنقاشات التلفزيونية، باعتباره دعوة إلى «تدمير إسرائيل»، ودليلا على رفض الفلسطينيين/ات السلام وكل تسوية مع إسرائيل، أو حتى، بشكل أوضح، نداءاً إلى «إبادة جماعية»، لـ«رمي اليهود في البحر».

أدانت غالبية أصوات أعضاء مجلس النواب الأمريكي المرأةَ الفلسطينية الوحيدة في الكونغرس الأمريكي، رشيدة طليب، بسبب اثارة هذا الشعار، في حين تحظى إبادة جماعية حقيقية ضد الفلسطينيين/ات بتشجيع وتسهيل فعّالين، كما كانت رشيدة طليب أكدت سابقا (1). اعتبر اقتراح حجب الثقة عن رشيدة طليب هذه الجملة «دعوة إلى إبادة جماعية بالعنف لتدمير دولة إسرائيل وشعبها وابدالها بدولة فلسطينية تمتد من نهر الأردن إلى البحر الأبيض المتوسط». ردت السيدة طليب بصرامة على هذا الافتراء المخزي.

وعلى النحو ذاته، زعمت الكاتبة الأسترالية اليمينية بيتا كريدلين زورا في صحيفة ديلي تلغراف، يوم 12 تشرين الثاني/نوفمبر أن «عشرات آلاف الأستراليين ساروا دعما لما قد يرقى إلى مستوى محرقة جديدة، وتدمير إسرائيل وطرد ملايين اليهود من المنطقة القائمة من “النهر إلى البحر”».

يشير تعبير «من النهر إلى البحر» إلى منطقة فلسطين التاريخية برمتها، أي من نهر الأردن شرقاً إلى البحر الأبيض المتوسط غرباً. تخضع هذه المنطقة بأكملها حالياً لحكم إسرائيل، وهي مقسمة إلى ثلاثة أجزاء: إسرائيل (داخل حدود ما قبل هزيمة عام 1967)، والضفة الغربية الفلسطينية المحتلة، وغزة التي أصبحت معسكر اعتقال للفلسطينيين، تحت الحصار، ورمادا حالياً بسبب عمليات القصف.

وبعبارات أخرى، تقوم حاليا دولة إسرائيل، التي تمثل دولة الشعب اليهودي (وفقا لـ«إعلان الاستقلال» والقوانين الأساسية، وقانون الدولة القومية)، ببسط حكمها «من النهر إلى البحر» بوصفها دولة فصل عنصري، كما أقرت منظمة العفو الدولية، وهيومن رايتس ووتش، ومنظمة حقوق الإنسان الإسرائيلية بتسيلم B’Tselem، وحتى سفراء إسرائيليون سابقاً في نظام الفصل العنصري بجنوب أفريقيا. وعلاوة على ذلك، يتضمن ميثاق حزب الليكود اليميني المتطرف بقيادة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو (2)، وجميع الأحزاب الأخرى في اليمين الإسرائيلي المهيمن، فكرة لزوم إقرار حكم إسرائيل في كل مكان، من النهر إلى البحر، وعدم السماح بإقامة أية دويلة فلسطينية.

يطرح السؤال التالي والحالة هذه: هل من ينتقدون الشعار عندما يرفعه الفلسطينيون/ات يدينون أيضا العنصرية المتأصلة في سيطرة إسرائيل في كل مكان «من النهر إلى البحر»، وهل يدركون أن الإبادة الجماعية المتصاعدة على أمد طويل ضد الشعب الفلسطيني قائمة بالفعل في هذه المنطقة منذ 75 عاما، وأنها ليست مجرد شعار؟

والسؤال الثاني هو التالي: بما أن الفلسطينيين هم السكان الأصليون في هذه المنطقة برمتها من “النهر والبحر”، وأنهم لا يزالون يعيشون فيها، على الرغم من جهود إسرائيل، في جميع أنحاء هذه المنطقة، فلما الاستياء من شعار يدعو إلى أن يكون الفلسطينيون/ات الذين يعيشون في كل مكان من “النهر والبحر” «أحرارا»؟ هل يعتقد هؤلاء المستاؤون ضرورة أن يكون الفلسطينيون أحرارا في بعض أجزاء معينة من فلسطين وحسب، وعبيدا في أجزاء أخرى؟ أم أنهم يوصون بألا يكون الفلسطينيون/ات أحرارا؟

هل الشعار دعوة إلى إبادة جماعية بالفعل أو متعذر تصور ضرورة ألا يظل الفلسطينيون، في أي جزء من أجزاء فلسطين، محرومين من حريتهم، وخاضعين للاحتلال، ومجردين من ممتلكاتهم، ومعتقلين في البانتوستانات، يتعرضون يومياً، للإذلال، والقتل مع الإفلات من العقاب، والذبح كل سنتين، بأعداد كبيرة، والدفن تحت الأنقاض؟

على من يعتقدون لزوم «رمي اليهود في البحر» ليكون الفلسطينيون/ات في كل مكان أحرارا، قراءة برنامج حركة التحرير الفلسطينية طويل الأمد، وتوسيع آفاقهم السياسية وتصورهم.

وفي الوقت نفسه، إذا اعتقد شخص ما ببساطة أن حرية الفلسطينيين/ات في كل مكان بالعالم تعني «تدمير إسرائيل»، عليه تحديد قصده بـ«إسرائيل» وما قد تؤدي حرية الفلسطينيين/ات إلى «تدميره» في إسرائيل. صحيح إلى حد ما، أن تمتع الفلسطينيين/ات بالحرية من النهر إلى البحر، وضمان الحقوق المتساوية لجميع السكان – يهودا/ات ومسيحيين/ات ومسلمين/ات وملحدين/ات وإسرائيليين/ات وفلسطينيين/ات – قد «يدمران» فعلا دولة طائفية قائمة صراحة على التفوق اليهودي.

عندما كافح سود جنوب إفريقيا، رجالا ونساء، من أجل الحرية في بلدهم، لم يقرروا/ن أنهم سيكونون/ن أحرارا/ات فقط في إطار بعض ما حددته سلطات الفصل العنصري من بانتوستانات. أدى انتصارهم من أجل تمتع السود بالحرية في جميع أنحاء البلد فعلاً إلى «تدمير» دولة الفصل العنصري البيضاء في جنوب إفريقيا، واقرار الحقوق السياسية المتساوية للجميع. لم يستلزم ذلك ممارسة «الإبادة الجماعية» ضد البيض في جنوب إفريقيا عبر «رميهم في البحر».

سياق النقاش

سيقال عن هذا مجرد تصور مثالي، وأن الواقع قائم في أن الفلسطينيين يريدون فلسطين «بالفعل» لأنفسهم وحسب، عندما يرفعون هذا الشعار. «أين سيذهب الإسرائيليون؟» غالبا ما أسمع هذا السؤال من جهلة تاريخ نصف القرن الماضي إلى حد كبير. لا يهم قيام إسرائيليين/ات يمينيين/ات أو مناضلين فلسطينيين من أجل الحرية بطرح هذا السؤال، على الرغم من اعتقاد البعض بأن قادة إسرائيل «على نفس القدر من السوء»، إذ يرفض الشعار فكرة «حل الدولتين» المقدسة، التي قد تشكل «الحل الوحيد الممكن».

إليكم في هذا الصدد، بعض العناصر التي سنوضحها فيما يلي:

  • تتمثل الحقيقة في مطالبة الفلسطينيين/ات دوما بإقامة دولة ديمقراطية متساوية في كل مكان « من النهر إلى البحر»، منذ سنوات 1960، ورفض قادة إسرائيل من جميع التوجهات السياسية الفكرة دوماً.
  • يمثل «حل الدولتين» -أي تقسيم المنطقة «من النهر إلى البحر» بين «إسرائيل» بحصولها على نسبة 78٪ من الأراضي و«فلسطين» على نسبة 22٪، في حين يتساوى عدد السكان الذين يعيشون فيها اليوم تقريبا، دون احتساب ملايين اللاجئين أثناء نكبة عام 1948 – حلا بعيد كليا عن العدالة ولا سبب لتفسيره. مع ذلك، على الرغم من هذا …
  • … قبلت القيادة الفلسطينية منذ فترة طويلة سيناريو الدولتين، بشكل أو بآخر منذ سنوات 1970، سواء كمنطلق نحو الحل الأمثل أو كـ«حل» في حد ذاته، بينما رفضته إسرائيل دوماً وعملت بفعالية على تدمير أي إمكانية تجسيده.
  • حتى لو كان هذا اقتراحا غير عادل بشكل واضح لفلسطين، إذا اقترن بحق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى نسبة 78٪ من أراضي «إسرائيل»، وتمتيع الفلسطينيين المقيمين هناك (هم حاليا مواطنون من الدرجة الثانية) بالمساواة الكاملة، قد يشكل أيضاً نسخة معدلة من الحرية الفلسطينية «من النهر إلى البحر». تشكل كل دولة سكان أصليين ذات سيادة تحمل اسم فلسطين (على عكس جملة بانتوستانات شبه مستقلة)، في منطقة صغيرة المساحة، تهديدا سياسيا دائما بوجه فكرة انتماء الأرض إلى إسرائيل.

يجب أيضا استحضار انعدام مساواة في هذه النقاش برمته: يشكل الفلسطينيون السكان الأصليين لفلسطين بأسرها؛ وتوجد إسرائيل بسبب قيام الاستعمار بتهجير شعب فلسطين منذ عام 1948. ينبغي عدم إجبار الفلسطينيين باستمرار على «قبول» «حق وجود» إسرائيل (التي تستعمرهم) كشرط لتمتيعهم بالحرية أو حتى كشرط لمجرد فتح نقاش حول إمكانية قيام دويلة فلسطينية ضعيفة؛ بل يجب ارغام القوة الاستعمارية على الاعتراف بسيادة الشعب الفلسطيني في فلسطين.

في خطة تقسيم فلسطين التي قدمتها منظمة الأمم المتحدة عام 1947، حصل ثلث السكان، المكونين آنذاك من مهاجرين يهود (إلى جانب عدد قليل من السكان اليهود الأصليين)، على نسبة 56٪ من الأراضي. وحصلت الأغلبية التي تشكل ثلثي الفلسطينيين، على نسبة 43%.  رفض الفلسطينيون والحالة هذه هذا الاقتراح الفاضح. وتجدر الإشارة إلى أن حكومات البلدان العربية كان اقترحت عام 1946 خطة بديلة: دولة ديمقراطية موحدة «يُمثل فيها جميع المواطنين ويضمن لهم التمتع بالحقوق المدنية والسياسية» وحيث يتمتع اليهود بـ«وضع دائم وآمن في البلد مع مشاركة كاملة في حياتها السياسية بمساواة مطلقة مع العرب» (3).

أدى ردَّ إسرائيل عام 1948 إلى النكبة، يعني الكارثة التي أسفرت عن تطهير عرقي جماعي، وجملة مذابح وطرد مروعة، وتدمير 400 مدينة. أثناء هذه الحقبة، بسطت دولة إسرائيل الجديدة سلطتها على 78% من فلسطين، وفي نسبة 22% المتبقية، أصبحت الضفة الغربية، تحت حكم الأردن، وقطاع غزة تحت سيطرة مصر. لم يسمح بأي وجه لـ 750000 فلسطيني تعرضوا للتطهير العرقي بالعودة إلى ديارهم، على الرغم من قرار منظمة الأمم المتحدة رقم 194 عام 1948 (4) الذي كان ينص ذلك. يبلغ عددهم وأحفادهم الآن ما يناهز عشرة أضعاف عددهم سابقاً.

برنامج حركة فتح (عام 1969): من «أجل إقامة فلسطين ديمقراطية وعلمانية»، للمسيحيين، والمسلمين، واليهود

بعد مهاجمة جميع جيرانها عام 1967 والاستيلاء على الضفة الغربية (بما في ذلك القدس الشرقية) وقطاع غزة (وكذلك سيناء المصرية والجولان السوري)، أثبتت إسرائيل وضعا جديدا عبر توحيد كل فلسطين التاريخية تحت حكومة واحدة – حكومة ذات طابع غير تمثيلي.

بوجه هذا الوضع، قامت حركة فتح بقيادة ياسر عرفات، التي أصبحت الفصيل المهيمن داخل منظمة التحرير الفلسطينية، في كانون الثاني/يناير عام 1969 بتقديم البرنامج الفلسطيني التاريخي «في سبيل إقامة دولة فلسطينية ديمقراطية، يعيش فيها الفلسطينيون بكل طوائفهم… مسلمين ومسيحيين ويهود في مجتمع ديمقراطي تقدمي، ويمارسون عباداتهم وأعمالهم مثلما يتمتعون بحقوق متساوية» (5). تبني المجلس الوطني الفلسطيني الخامس (PNC) هذا البرنامج في شباط/فبراير عام 1969، بهدف «إقامة مجتمع ديمقراطي حر في فلسطين بجميع الفلسطينيين مسلمين ومسيحيين ويهوداً». كانت هذه التعابير تهم فلسطين بأكملها «من النهر إلى البحر». وكانت ضد البرنامج الصهيوني القائم على فكرة تفوق اليهود الإسرائيليين من النهر إلى البحر.

ثم، في أيار/مايو 1969، اقترحت الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، المنظمة الرئيسية الأخرى في منظمة التحرير الفلسطينية، صيغة مختلفة إلى حد ما: «إزالة الكيان الصهيوني… وإنشاء دولة فلسطينية ديمقراطية شعبية، يعيش فيها العرب واليهود دون تمييز» (6)، أي من النهر إلى البحر، مع التركيز على المجموعتين القوميتين بدلا من الديانات الثلاث. هذا حل ديمقراطي إلى حد كبير، مهما كانت وجهة النظر.

هذا هو برنامج الفلسطينيين/ات التاريخي، الذي لم يتخلوا/ن عنه بأي وجه؛ وليس حديث العهد، بل يعود إلى ما يفوق نصف قرن. إن الافتراء برغبة الفلسطينيين في «رمي اليهود في البحر» ببساطة غير ذي صلة بالموضوع. حاولوا عدم تكرارها، إلا إذا كنتم ترغبون في الظهور بمظهر الجهلة.

بالنظر إلى الاحتلال العسكري الإسرائيلي الغاشم، كان الكفاح المسلح لتحقيق فلسطين الديمقراطية والعلمانية هذه ملاذ المقاومة الفلسطينية الطبيعي، كما كان دوماً حال النضالات ضد الاستعمار، وهو حق تقره منظمة الأمم المتحدة.

مع ذلك، اقترح زعيم منظمة التحرير الفلسطينية، ياسر عرفات في خطاب أمام الجمعية العامة لمنظمة لأمم المتحدة عام 1974 (7)، «غصن الزيتون» كبديل لـ«البندقية» لتحقيق هذه التصور، وطرح على السكان اليهود الإسرائيليين السير معا على طريق إحلال السلام:

لماذا لا أحلم يا سيادة الرئيس، وآمل؟ والثورة هي صناعة تحقيق الأحلام والآمال، فلنعمل معاً على تحقيق الحلم في أن أعود مع شعبي من منفاي؛ لأعيش مع هذا المناضل اليهودي ورفاقه، ومع هذا المناضل الراهب المسيحي وإخوانه، في ظل دولة واحدة ديمقراطية يعيش فيها المسيحي والمسلم في كنف المساواة والعدل والإخاء.

 

لقد ناضل اليهود يا سيادة الرئيس في أوروبا، وهنا في أمريكا، من أجل أوطان لا طائفية، تنفصل فيها الدول عن الكنيسة، وقاتلوا ضد التمييز على أساس الدين، فكيف يمكن لهم أن يرفضوا هذا النموذج الإنساني المشرف على الأرض المقدسة؟ أرض السلام والمساواة، وكيف يمكن لهم أن يستمروا في دعم أكثر دول العالم انغلاقاً وتمييزاً وتعصباً؟

إنني أعلن أمامكم هنا كرئيس لمنظمة التحرير الفلسطينية، وقائد للثورة الفلسطينية، أننا عندما نتحدث عن آمالنا المشتركة من أجل فلسطين الغد، فنحن نشمل في تطلعاتنا كل اليهود الذين يعيشون الآن في فلسطين، ويقبلون العيش معنا في سلام ودون تمييز على أرض فلسطين.

إنني بصفتي رئيساً لمنظمة التحرير، وقائداً لقوات الثورة الفلسطينية، أدعوا اليهود فرداً فرداً ليعيدوا النظر في طريق الهاوية الذي تقودهم إليه الصهيونية والقيادات الإسرائيلية، وهي التي لم تقدم لهم غير النزيف الدموي الدائم، والاستمرار في خوض الحروب واستخدامهم كوقود دائم لها.

إننا نقدم لكم أكرم دعوة، أن نعيش معاً في إطار السلام العادل في فلسطيننا الديمقراطية.

وأنهى هذا الخطاب بأسلوب مارتن لوثر كينغ قائلاً: « لقد جئتكم يا سيادة الرئيس بغصن الزيتون مع بندقية ثائر، فلا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي. أكرر: لا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي».

أصول استراتيجية الدويلة الفلسطينية

لكن، طبعاً، يتعلم الخاضعون للاضطهاد أحيانا ضرورة وجود درجة معينة من البراغماتية، سواء كانت صحيحة أو خاطئة، بما أن السلطة هي ما هي عليه في عالم الإمبريالية اليوم. رفضت إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية فكرة دولة ديمقراطية ذات حقوق متساوية لجميع شعوب إسرائيل/فلسطين؛ وكان متعذراً إقناع غالبية يهود إسرائيل، المحظوظين بوجود دولة عرقية وعنصرية خاصة بهم في نسبة 80% من أراضي فلسطين، بتقاسمها مع الشعب الفلسطيني على أساس ديمقراطي، وفق اقتراح منظمة التحرير الفلسطينية.

وبناء على ذلك، شهدنا بروز مفهوم الدويلة الفلسطينية القائمة أولا على كل جزء من الأراضي الفلسطينية المحررة. بلورت الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين هذه الصياغة، بحيث دعت في تموز/يوليو عام 1971 إلى إقامة «قاعدة ارتكاز أمينة ومحررة فى الأراضي الفلسطينية المحتلة تكفل استمرار الثورة الفلسطينية الى أن تحقق أهدافها». كان «برنامج النقاط العشر» لمنظمة التحرير الفلسطينية المقر من المجلس الوطني الفلسطيني في دورة انعقاده الثانية عشرة، يواصل رفض قرار منظمة الأمم المتحدة رقم 242 (الذي وقعته مصر والأردن وسوريا) الذي كان يعالج المسألة الفلسطينية فقط كمشكلة لاجئين بدلا من كونها مسألة تقرير المصير الوطني. مع ذلك، كان بعض الصياغات تشير بداية إلى امكانية قبول دويلة في جزء من فلسطين كمرحلة من مراحل الصراع الجاري.

ينص البند 2 بوجه خاص على ما يلي: «تناضل منظمة التحرير بكافة الوسائل وعلى رأسها الكفاح المسلح لتحرير الأرض الفلسطينية، وإقامة سلطة الشعب الوطنية المستقلة المقاتلة عل كل جزء من الأرض الفلسطينية التي يتم تحريرها. وهذا يستدعي إحداث المزيد من التغيير في ميزان القوى لصالح شعبنا ونضاله.»

 

وجاء في البند الثالث: «تناضل منظمة التحرير ضد أي مشروع كيان فلسطيني ثمنه الاعتراف والصلح والحدود الآمنة والتنازل عن الحق الوطني وحرمان شعبنا من حقوقه في العودة وتقرير مصيره فوق ترابه الوطن»، والبند الرابع: «إن أية خطوة تحريرية تتم هي حلقة لمتابعة تحقيق إستراتيجية منظمة التحرير في إقامة الدولة الفلسطينية الديمقراطية المنصوص عليها في قرارات المجالس الوطنية السابقة»، أي فلسطين ديمقراطية وعلمانية، من النهر إلى البحر.

لكن، بينما كانت النقطة 2 تنص على شن الكفاح «بكافة الوسائل»، كان هناك مجال لعقد اتفاقات كُثر، حتى لو اعتبر الكفاح المسلح آنذاك العنصر «الأول والرئيسي». كان فكرة إقامة سلطة فلسطينية على كل جزء من الأرض الفلسطينية المحررة عموما تشير إلى نسبة 22٪ من فلسطين التي احتلتها إسرائيل حديثا عام 1967، أي الضفة الغربية (بما في ذلك القدس الشرقية) وغزة. كان من الواضح ضرورة الكفاح المسلح لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي غير المشروع لهذه الأراضي؛ في حين أن افتراض خوض أشكال نضال أخرى قد يعني أن النضال الجاري لدمقرطة نسبة 78٪ من أرض «إسرائيل عام 1948»، وحق عودة اللاجئين/ات الفلسطينيين/ات، ضحايا/ت التطهير العرقي عام 1948، في جميع أنحاء فلسطين، قد ينهج طريق المقاومة المدنية والسياسية، والمفاوضات، والنضال الدبلوماسي، على مدى حقبة زمنية أطول، إذا أقيمت سلطة فلسطينية في أراضي عام 1967. وهكذا، على الرغم من أن «سلاما» كاملا مع إسرائيل، و«اعترافا» بإسرائيل، أمر غير وارد، فإن إقامة هدنة طويلة الأمد ممكنة.

على الرغم من أن كل ذلك لم يكن إلا ضمنياً في برنامج عام 1974، كانت التعابير بالضرورة تعني عقد تسوية بين مختلف فصائل منظمة التحرير الفلسطينية. كانت منظمة فتح المهيمنة، بزعامة ياسر عرفات، وفصائل منظمة التحرير الفلسطينية المتحالفة معها (على سبيل المثال، آنذاك، الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين) تبرره على نطاق أوسع في أواخر سنوات 1970 (في حين تشكلت أيضاً «جبهة رفض» مؤلفة من أكثر فصائل منظمة التحرير الفلسطينية راديكالية ومعارضة لكل التسوية). كانت الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين رائدة التغيير مرة أخرى عام 1975 عبر الدعوة إلى تأسيس «دولة وطنية فلسطينية ذات سيادة كاملة بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية» في الأراضي المحتلة، مع حق عودة اللاجئين في جميع أنحاء فلسطين. عزز المجلس الوطني الفلسطيني في دورته انعقاده الثالث عشرة عام 1977، «السلطة القتالية» التي نص عليها مقرر المجلس الوطني الفلسطيني في دورة انعقاده الثانية عشرة، حيث من حق الفلسطينيين/ات «إقامة دولته الوطنية المستقلة فوق ترابه الوطني».  بالإضافة إلى ذلك، أقر المجلس الوطني الفلسطيني «أهمية العلاقة والتنسيق مع القوى اليهودية الديمقراطية والتقدمية المناضلة داخل الوطن المحتل وخارجه ضد الصهيونية كعقيدة وممارسة».

منظمة التحرير الفلسطينية و«حل الدولتين»

لكن إذا كان حتى أكثر فصائل منظمة التحرير الفلسطينية «اعتدالاً» لا يتوانى عن رسم خطوط حمراء صارمة للغاية (حق العودة: لا تشكل الدويلة سوى مرحلة نحو التحرير الكامل وبالتالي ينعدم أي اعتراف بـ«إسرائيل»)، بعد فترة وجيزة، قامت الدول العربية والاتحاد السوفيتي وحلفائه، ولاحقا، بلدان أوربا الغربية، باعتماد توجه إقامة دويلة، ثم ترسخ في شكل «حل» الدولتين، مما يعني ضمنيا استتباب وضع دائم. من وجهة النظر هذه، يلزم أن يؤدي عمل إسرائيل على اتاحة إقامة دولة فلسطينية في نسبة 22٪ من فلسطين المعتبرة قانونيا «أراضي محتلة»، إلى اعتراف متبادل بين إسرائيل الكبرى هذه وفلسطين الصغيرة المساحة، واقتصار حق عودة اللاجئين/ات إلى إسرائيل بالذات تدريجيا، على عودة «البعض» و«تعويض» آخرين ماديا أو على الغاء كلي. قد يعتبر بالفعل «حل الدولتين» هذا اجمالا تخل عن تمتع الفلسطينيين/ات بالحرية «من النهر إلى البحر».

كانت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية-فتح أدركت ضرورة التحرك دبلوماسيا، في إطار هذين الموقفين. كان موقفها أساسا على النحو التالي: إذا كان الكفاح الفلسطيني المسلح والدبلوماسي قادراً على إقامة دويلة علمانية وديمقراطية مع تأمين حق عودة اللاجئين/ات إلى دولة إسرائيل، وإذا تمكن نضال مدني داخل إسرائيل من إنهاء الدولة العرقية والعنصرية واحلال دولة علمانية ديمقراطية مكانها، فلا معنى لوجود دولتين ديمقراطيتين وعلمانيتين،   بحيث قد ينتهي بهما الأمر إلى تشكيل دولة واحدة؛ وقد تؤدي عودة اللاجئين/ات إلى إسرائيل وتمتع «عرب فلسطينيين في إسرائيل بالمساواة»، «في نهاية المطاف إلى حل نهائي للمسألة الوطنية الفلسطينية عبر  إقامة دولة واحدة موحدة وديمقراطية على كامل أرض فلسطين، حيث تسود المساواة بين جميع المواطنين بغض النظر عن أصولهم العرقية أو الدينية أو القومية،  بما في ذلك المساواة بين الجنسين». قد يشكل تعايش الدولتين بهدنة في إطار نضال المواطنين/ات من أجل الديمقراطية مرحلة ضرورية لكسب الطبقة العاملة الإسرائيلية بعيداً عن جنون العظمة الذي تقوم عليه الأيديولوجية الصهيونية.

وبالعودة إلى الوراء، يؤكد ليبراليون عديدون أن منظمة التحرير الفلسطينية قبلت التخل عن فكرة «من النهر إلى البحر»، باعتمادها تدريجيا شكلا من أشكال سيناريو الدولتين، وكل من يرفع هذا الشعار اليوم، متطرف يسعى إلى «تدمير إسرائيل»، الخ. لكن نقادا يساريين عديدين، بما في ذلك داخل منظمة التحرير الفلسطينية، رأوا في ذلك استسلاما ورفض منظور التحرير من النهر في البحر. مع ذلك، وبالنظر إلى الطريقة المذكورة أعلاه، لم يكن قبول منظمة التحرير الفلسطينية تدريجيا بطور انتقالي نحو الدولتين تخليا عن حرية الفلسطينيين/ات «من النهر إلى البحر»؛ إذ أن العنصر الأساسي متمثل في صون حق لاجئي/ات عام 1948 في العودة.

في كانون الثاني/يناير 1976، قدمت دول عديدة من الجنوب قرارا (9) إلى مجلس الأمن التابع لمنظمة الأمم المتحدة (10) يدعو إلى إقامة دولة فلسطينية مستقلة في الأراضي المحتلة بعد الانسحاب الإسرائيلي والاعتراف بسيادة «جميع الدول في المنطقة». أعربت منظمة التحرير الفلسطينية عن تأييدها للاقتراح، الذي استخدمت الولايات المتحدة الأمريكية حق النقض ضده (أيدت فرنسا القرار بينما امتنعت المملكة المتحدة عن التصويت). وعلى النحو ذاته، رحبت منظمة التحرير الفلسطينية بقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 35/207 في عام 1980 (11)، والذي كان يدعم الشعب الفلسطيني في «إقامة دولته المستقلة في فلسطين» بالإضافة إلى الدعوات السنوية إلى انسحاب إسرائيل الكامل من الأراضي المحتلة عام 1967، وعودة اللاجئين. كما أعربت منظمة التحرير الفلسطينية عن دعمها لمقترحات مماثلة قدمها الزعيم السوفيتي ليونيد بريجنيف (12) عام 1981، والتي تنص على وجوب أن يؤدي انسحاب إسرائيل وإقامة دويلة فلسطين إلى «تأمين حق جميع دول المنطقة في الوجود والتطور السلميين والآمنين، وعلى إنهاء حالة الحرب، وإحلال السلام بين الدول العربية وإسرائيل». تركت هذه التعابير نسبة 78٪ من أراضي فلسطين لإسرائيل (على الرغم من استمرار النضال غير العسكري من أجل الديمقراطية وعودة اللاجئين). لذا لا يعبر هذا التنازل الكبير عن فكرة «رمي اليهود في البحر».

بالطبع، رفضت إسرائيل دوماً الانسحاب من الأراضي المحتلة وإقامة أي دولة فلسطينية حتى على مساحة متر مربع واحد من فلسطين. أقدمت إسرائيل تدريجياً، منذ سنوات 1970، على ملء الضفة الغربية بـ «مستوطنين/ات» (إسرائيليين/ات) متعصبين ومسلحين ومتدينين، يسلبون مساحات واسعة من أراضي فلسطين ويقتلون دون عقاب، وهذا دليل على تطرف إسرائيل في المطالبة بكامل فلسطين. وعلى هذا النحو، تشير دولة إسرائيل إلى الضفة الغربية باسم «يهودا والسامرة»، الذي حملته هذه المناطق منذ آلاف السنين. ارتكبت إسرائيل في عام 1980، عملا من أعمال اللصوصية الدولية بضم القدس الشرقية الفلسطينية رسميا (بدلا من مجرد «احتلالها»)، بعد أن استولت عليها بشكل غير قانوني عام 1967 (كما ضمت مرتفعات الجولان عام 1981، وهي أرض تحت سيادة سوريا).

ومنذ ذلك الحين، دعمت الولايات المتحدة الأمريكية إسرائيل بالكامل في تشبثها بهذا الموقف الرافض مطلقاً، حتى مع تبني معظم دول الاتحاد الأوربي تدريجيا موقف حل الدولتين. رفضت إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية بشكل مشترك أي مفاوضات مع منظمة التحرير الفلسطينية، التي كانت جميع الدول العربية (والجمعية العامة لمنظمة الأمم المتحدة) اعترفت بها باعتبارها «الممثل الشرعي والوحيد» للشعب الفلسطيني. في حين لم يعترف أي بلد في العالم بضم إسرائيل للقدس الشرقية، ولا بوصفها «عاصمة» جديدة لإسرائيل، تبنت إدارة ترامب في الولايات المتحدة الأمريكية في آخر المطاف هذا القرار غير القانوني للغاية عام 2017، ولم تتراجع إدارة بايدن حالياً عن هذا الانتهاك الصارخ للقانون الدولي.

وباختصار: كانت إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، منذ أواخر سنوات 1970، الدولتين الرافضتين لما أصبح الإجماع الدولي، الذي يحظى بتصويت الأغلبية الساحقة كل عام في الجمعية العامة لمنظمة لأمم المتحدة، والمتمثل في إقامة دولة فلسطينية ذات سيادة عاصمتها القدس على نسبة 22٪ من أراضي فلسطين – كما لو أن اتاحة إقامة دولة للسكان الأصليين على خمس أراضيهم وحسب تنازل سخي للفلسطينيين/ات!

خطة فاس للسلام وإعلان استقلال فلسطين

في عام 1982، في أعقاب الحرب الدموية الرهيبة التي شنتها إسرائيل على مدى ثلاثة أشهر ضد الفلسطينيين/ات في لبنان، عُقدت القمة العربية الثانية عشرة في المغرب، في فاس، واقترحت خطة فاس للسلام (13)، لإقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية، وقطاع غزة وعاصمتها القدس الشرقية.  مقابل اعتراف عربي ضمنا بإسرائيل داخل حدودها القانونية (أي نسبة 78٪ من أراضي فلسطين)، ويشمل الإعلان «ضمانات السلام بين جميع دول المنطقة، بما فيها الدولة الفلسطينية المستقلة». ويطالب بحق الفلسطينيين/ات في ممارسة «حقوقه الوطنية الثابتة غير القابلة للتصرف»، دون الدعوة صراحة إلى العودة، لكن يضيف نداء إلى «تعويض من لا يرغب في العودة»، مما يعني لزوم السماح بالعودة للراغبين فيها. وقعت منظمة التحرير الفلسطينية وجميع الدول العربية، على هذه الخطة، باستثناء ليبيا برئاسة القذافي.

بالطبع، رفضت إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية هذا الاقتراح، وجسدت إسرائيل هذا الرفض عبر تنظيم وتسهيل عملية قتل 3000 لاجئ/ة فلسطيني/ة في مذبحة صبرا شاتيلا في لبنان، عن طريق حزب الكتائب اللبناني اليميني المتطرف (قاد المجزرة إيلي حبيقة، الذي أصبح لاحقاً زعيم الجناح الموالي للأسد في حزب الكتائب).

أعلن ياسر عرفات إعلان استقلال فلسطين (الذي صاغه الشاعر الفلسطيني محمود درويش) في 15 تشرين الثاني/نوفمبر عام 1988 في الجزائر العاصمة (14)، في نهاية الاجتماع التاسع عشر للمجلس الوطني الفلسطيني، الذي كان اعتمد الإعلان بأغلبية ساحقة. ومن الجدير بالذكر أن الاعلان يستشهد بقرار منظمة الأمم المتحدة رقم 181 عام 1947، الذي كان نص على تقسيم فلسطين بداية إلى دولة يهودية بنسبة 56% ودولة عربية بنسبة 43%، وبالتالي الاعتراف ضمنا بإسرائيل. قد تكون مطالبة بنسبة 43% من فلسطين (بما في ذلك حق العودة إلى بقية الأراضي)، في ظل الظروف الراهنة، حلا منصفاً أكثر من نسبة 22٪، بالنظر إلى عدد الإسرائيليين/ات والفلسطينيين/ات بين منطقة النهر والبحر. لكن هذا يعني عملياً، محاولة أكثر فعالية لتأمين سيادة فلسطينية معترف بها على نسبة 22%   المعتبرة «محتلة». ومن اللافت للنظر أن الإعلان يشير وفقا لروح اتفاق عام 1969، إلى فلسطين على أنها «أرض الديانات التوحيدية الثلاث».

حظي إعلان استقلال فلسطين (15)، في الجمعية العامة لمنظمة الأمم المتحدة، بتصويت الأغلبية الساحقة من الدول الأعضاء، ومعارضة دولتين وحسب وهما: الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل.

كانت مرحلة مفعمة بالأمل: اندلعت الانتفاضة الفلسطينية الأولى في أواخر عام 1987. كان آلاف الشبان الفلسطينيين واجهوا قوات الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية، وقطاع غزة بالحجارة، لكن دون أسلحة نارية. وبطبيعة الحال، كانت إسرائيل ردت بارتكاب مجازر. كان العالم بدأ يرى إسرائيل وفلسطين بشكل مختلف. مع ذلك، أدى حدثان تاريخيان في العالم – انهيار الكتلة الشرقية والاتحاد السوفياتي في 1989-1991، فضلا عن غزو العراق للكويت والحرب التي قادتها الولايات المتحدة الأمريكية لهزم العراق عام 1991 – إلى تداعيات كارثية على فلسطين، لأسباب تتجاوز نطاق هذا المقال.

اتفاقات أوسلو المشؤومة

كانت النتيجة مزيدا من جهود التسوية، على الرغم من الإعلان الجريء في عام 1988. وافقت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية/فتح، في عام 1993، على سيرورة اتفاقات أوسلو، التي تنص على الاعتراف بإسرائيل مقابل إرساء سلطة فلسطينية ضعيفة على جزء صغير وحسب من الأراضي المحتلة، التي سحبت منها إسرائيل قواتها (لكن ليس تحكمها الشامل). وبطبيعة الحال، كان ذلك يفترض أنها مجرد مرحلة أولى، وستليها مفاوضات مع إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية حول الحدود النهائية، ووضع القدس الاعتباري، ومسألة اللاجئين/ات، وما إلى ذلك، على أمل انسحاب إسرائيل تدريجيا من جزء هام باطراد من فلسطين. وبعبارات أخرى، ظل موقف منظمة التحرير الفلسطينية الرسمي مدافعاً عن إقامة دولة فلسطينية على نسبة 22% برمتها، لكن مهما كان الأمر، كان تنازلا كبيرا آخر بشأن الاعتراف بإسرائيل، على أساس الثقة بالكامل.

في حين أن كل ما قدمته منظمة التحرير الفلسطينية من أشكال دعم أولية لسيناريو الدولتين كان يشمل حق عودة اللاجئين/ات في جميع أنحاء فلسطين/إسرائيل – والذي لم يكن بالضرورة والحالة هذه متناقضا مع تعبير «من النهر إلى البحر»- قد توصف اتفاقات أوسلو بأنها المرة الأولى التي تتنازل فيها قادة منظمة التحرير الفلسطينية/فتح فعلا عن هذا الحق. وبطبيعة الحال، واصلوا تأكيد أنها كانت سياستهم، لكن اعتمدوا بالفعل على حسن نية إسرائيل بشأن مسألة كانت رفضتها دوماً، عبر اعترافهم بها في حين أن مسألة اللاجئين/ات قد أحيلت ببساطة إلى مفاوضات قادمة حول «الوضع النهائي».

وعلى هذا النحو، من يزعمون اليوم أن منظمة التحرير الفلسطينية تخلت عن فكرة «من النهر إلى البحر» باعتماد «حل» الدولتين، وأنها اليوم مجرد شعار «متطرف» أو شعار «حركة حماس»، يمجدون الاستسلام الكامل في اتفاقات أوسلو بوصفه «نموذج سلام». من المهم الإشارة إلى أن اتفاقات أوسلو لم تحظ برفض جميع الفصائل الأخرى في منظمة التحرير الفلسطينية وحسب، لكن أيضاً بمعارضة داخل فتح، حتى من قبل قادتها. ما من شك في أن الأغلبية الساحقة داخل منظمة التحرير الفلسطينية برمتها ترفض استسلام اتفاقات أوسلو، وتواصل اعتبار فلسطين بلدا ممتدا من النهر إلى البحر، مهما كان شكل مساحتها.

بالطبع، كما كان كثر يتوقعون، استفادت إسرائيل تماماً من ذلك، ورفضت حتى نقاش مسائل الوضع النهائي وملأت الضفة الغربية والقدس بمئات آلاف المستوطنين الإسرائيليين غير الشرعيين (حوالي 700000 اليوم) الذين سلبوا نصف الأراضي ويعيشون حياة الملوك حول بانتوستانات فلسطينية منفصلة ومغلقة، حيث لا تتمتع «السلطة» الفلسطينية بأية سلطة حقيقية، في حين يعيش سكان فلسطين دون حقوق في إسرائيل بلد الفصل العنصري، ويجردون باستمرار من ممتلكاتهم ويعانون من الطرد والاذلال عند حواجز التفتيش والقتل مع الإفلات من العقاب.

أدت مباشرة هذه الخيانة الإسرائيلية الكاملة والمطلقة لوعود اتفاقات أوسلو الزائفة إلى اندلاع الانتفاضة الثانية الأعنف إلى حد كبير في عام 2000، وإلى صعود حركة حماس، التي تمثل تشكلا «إسلاميا» راديكاليا خارج منظمة التحرير الفلسطينية، والتي من شأن أيديولوجيتها وممارستها (في البداية تفجيراتها الانتحارية) أن تفضي إلى تدمير رسالة السلام والتعايش التي كانت منظمة التحرير الفلسطينية تطرحها منذ عام 1969 – لصالح نظام إسرائيل، التي استغلت الوضع كذريعة واهية للغاية لإعلان انعدام «شريك سلام» في فلسطين!

مسخرة «العرض السخي» في عام 2000

ينبغي هنا تناول حدث هام: ما يردده غالباً الصهاينة وأنصارهم من ادعاء مفاده أن منظمة التحرير الفلسطينية تلقت من الرئيس الأمريكي كلينتون ورئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود باراك عرضا يعادل نسبة «95%» مما كانت تريده عام 2000، لكن عرفات «تخلى» عن هذا «العرض السخي»، وأشعل الانتفاضة الثانية، بدلا من ذلك.

السؤال الأول هو ما إذا كان من حق عرفات قبول نسبة «95%» مما لم يشكل سوى نسبة 22٪ وحسب من فلسطين، عندما بات نصف سكان المنطقة فلسطينيين – كما أوضح باراك – دون مطلب حق عودة ملايين اللاجئين/ات في أعقاب نكبة عام 1948. من المؤكد، من باب الإنصاف، أن أي تسوية إقليمية كان ينبغي أن تأتي من الطرف الذي يملك نسبة 78% من فلسطين المطهرة عرقيا.

ثانيا، لا تشمل نسبة 95% منطقة القدس الشرقية، أو البحر الميت، أو وادي الأردن، أو مستوطنات إسرائيل، مما يعني أنها تمثل 70% من الأراضي المحتلة، أي ما يناهز 15% من فلسطين.

ثالثا، إن تجاهل نظام الاحتلال غير الشرعي للقدس الشرقية التي ضمتها، أي الجزء الفلسطيني المحتل، أمر حاسم. أعلنت إسرائيل هذه المدينة عاصمتها الأبدية «غير القابلة للتقسيم»، ورفضت أي تقسيم أو حتى أي تقسيم للقدس الشرقية (أثيرت فكرة جعل القدس الشرقية عاصمة مشتركة لدولتين في مقترحات سلام عديدة). من الواضح لكل من استفسر عن الوضع بعيدا عن المستوى الظاهري، أو زار عين المكان، أن القدس الشرقية ليست منطقة اختيارية لدولة فلسطينية، بل قلب الضفة الغربية الجغرافي والاقتصادي والثقافي؛ وكل الطرق تؤدي إلى القدس. إن عدم إدراج القدس يعني فقط تحويلها إلى بانتوستانات. بالإضافة إلى ذلك، وسعت إسرائيل القدس الشرقية المحتلة لتضم ما يناهز 70 كيلومترا مربعا، مع ما يحيط بالمدينة من مستوطنات إسرائيلية، تعتبر أيضا خارج فلسطين.

في الواقع، كما يوضح نصير عاروري، أستاذ فخري للعلوم السياسية في جامعة ماساتشوستس، «كانت أسطورة “العرض السخي” مكونة من أربعة جيوب، مقسمة إلى نصفين، تضم مستوطنات مبنية بشكل غير قانوني وطرق التفافية لليهود وحسب، من شأنها منع الفلسطينيين/ات من إقامة دولة قابلة للحياة ومستقلة ومتصلة جغرافيا في المنطقة الواقعة بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط». (16) على الرغم من حمل الكانتونات الأربعة (شمال الضفة الغربية، ووسط الضفة الغربية، وجنوب الضفة الغربية وقطاع غزة) اسم «دولة»، كانت متطلبات الدولة القومية منعدمة إلى حد كبير. تعني دولة دون سيادة وبلا استمرارية جغرافية ودون تحكمها بحدودها، ومجالها الجوي، ومواردها الاقتصادية، والمائية. وفي الواقع، كان مفترضاً أن تتكون من 64 مجموعة جزر وسط إسرائيل – «دولة» قائمة داخل إسرائيل، لكن ليس بجوار إسرائيل.

وكما يتضح، كان كلينتون وباراك يرومان رفض الفلسطينيين/ات هذا «العرض» المروع.

خطة السلام العربية

 كانت خطة السلام، التي قدمتها المملكة العربية السعودية العربية عام 2002 وأيدتها جامعة الدول العربية بأكملها، بما في ذلك منظمة التحرير الفلسطينية، تعتمد خطة فاس أساساً، لكن جعلت الاعتراف بإسرائيل صريحاً هذه المرة، وأعلنت «انتهاء» النزاع العربي الإسرائيلي إذا انسحبت إسرائيل من الأراضي التي احتلتها عام 1967 (بما في ذلك مرتفعات الجولان السورية)، وأتاحت إقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية. وتدعو فيما يتعلق باللاجئين/ات، وحسب إلى «التوصل إلى حل عادل لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين يتفق عليه وفقا لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194». (17)

رفضت إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية طبعاً هذا الاقتراح

من الواضح والحالة هذه بعد عقود، أن إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية ترفضان دوماً أي حل ديمقراطي، في حين تروم القيادة الفلسطينية رسميا تحقيق الحرية للفلسطينيين/ات، من النهر إلى البحر، بأمثل التسويات الممكنة. إن الوضع عمليا أسوأ بكثير، حيث تحولت السلطة الفلسطينية بقيادة فتح، في ظل اتفاقات أوسلو، إلى أداة بيد الاحتلال الإسرائيلي في البانتوستانات، التي تتمتع بإدارتها، وتشن حملات «أمنية» على أكثر المناضلين الفلسطينيين/ات كفاحية.

حركة حماس

لكن ماذا عن حماس؟ من المؤكد أن حركة حماس – حركة المقاومة الإسلامية –تروم إقامة «فلسطين إسلامية» وبالتالي تمثل أيضا قوة رافضة كل حل ديمقراطي. تمخضت هذه القوة عن الاستعمار والسلب والوحشية الإسرائيلية وموقف السلطة الفلسطينية القائم على التسوية، لكنها قوة رافضة للحل الديمقراطي بطريقة تهدد وجود السكان اليهود في إسرائيل. كما يشير طبعا خطابها، وممارستها الأولية، وميثاقها.

على الرغم من أن هذه المسألة جديرة بمقال منفصل، من المهم الإشارة في هذا السياق إلى أن حماس لا تشكل أول منظمة مقاومة في العالم كانت «متطرفة» بداية قبل تكيفها مع الواقع. والجدير بالذكر إلى أنه، عندما قدمت خطة السلام العربية في قمة جامعة الدول العربية التالية في الرياض عام 2007، وأيدتها جميع الدول مرة أخرى، امتنعت حماس، التي أصبح زعيمها رئيس وزراء السلطة الوطنية الفلسطينية، عن التصويت دون التصويت ضدها (رفضتها إسرائيل مرة أخرى).

لا يشكل هذا التصويت حدثا معزولاً. تخلت حماس عن التفجيرات الانتحارية في عام 2003، ثم بشكل أكثر حسما في عام 2005، وهزمت فتح في الانتخابات التشريعية الفلسطينية عام 2006، وطرحت المقترحات الشهيرة لاستتباب الهدنة (وقف إطلاق النار). تشكل الهدنة أساساً، نفس مقترح الدولتين، لكن مع احلال وقف إطلاق نار طويل الأمد مكان سلام كامل مع اعتراف بإسرائيل (18). أكدت حماس ضرورة الكفاح المسلح لتحرير الضفة الغربية وقطاع غزة، لكن إذا تم إنشاء دويلة فلسطينية هناك عاصمتها القدس، قد توقف إطلاق النار مدة عشر سنوات مع إسرائيل، وقد يمتد إلى عقود إذا حافظت إسرائيل على السلام، وسيستمر خلالها النضال المدني من أجل حرية الفلسطينيين/ات (بما في ذلك العودة) في إسرائيل.  تزامن ذلك مع تصريحات قادة حماس الرئيسيين مفادها أن نضالهم كان ضد الصهيونية والاحتلال، وليس ضد اليهود، الذين لا يسعون إلى «رميهم في البحر»، وهذا ما جرى إدراجه لاحقاً في برنامجهم السياسي الجديد (19). تشكل حتى مسألة الاعتراف بإسرائيل «قرار الشعب الفلسطيني» كما نص مشروع حكومة حماس عام 2006.

لكنها مثلت مشكلة للقادة إسرائيل. لم تكن حماس مفيدة لإسرائيل إلا بوصفها قطبا «متطرفا» قد يبرر مواصلة الرفض الإسرائيلي (21). كانت حماس الأكثر براغماتية مشكلة كارثية بالنسبة لإسرائيل. كانت إسرائيل مرعوبة من السلام لدرجة أنها اغتالت وسيط حماس أحمد الجعبري مباشرة بعد استلامه مسودة اتفاق الهدنة الدائمة مع إسرائيل، والتي كانت تتضمن آليات لوقف إطلاق النار (22)، تفاوضت عليها مع الوسيط الإسرائيلي غيرشون باسكن. كان رد إسرائيل إجمالاً تطويق غزة، حيث كانت حماس مهيمنة، وفرض حصار بري وبحري وجوي دام 16 عاما جعل الظروف في غزة «غير قابلة للحياة» على حد تعبير منظمة الأمم المتحدة (23)، والعمل بانتظام على قصف هذا الغيتو المغلق والمكتظ بالسكان إلى حد كبير، وتحويله إلى رماد، وقتل آلاف المدنيين. كان كل ذلك يسعى، ضمن أمور أخرى، إلى إضعاف حماس سياسياً وجعلها «شريك حرب»، على حد تعبير قادة إسرائيل المتطرفين، وهو ما تحقق على ما يبدو، وإلى الحفاظ على تقسيم فلسطين عام 1967 بين غزة، التي تحكمها حماس، والضفة الغربية، التي تديرها السلطة الفلسطينية المثيرة للشفقة. أدى هذا الوضع المروع أيضا إلى تسهيل إقامة نظام داخلي أكثر قمعا بقيادة حماس في غزة.

كانت عواقب تحويل غزة هذا إلى معسكر اعتقال تحت عمليات قصف متجلية من خلال العنف المروع الذي اندلع في جنوب إسرائيل في 7 تشرين الأول/أكتوبر عام 2023، والذي اتاح لإسرائيل محاولة تنفيذ برنامجها الفعلي طويل الأمد: تطهير غزة والضفة الغربية عرقيا بالكامل، وتحقيق برنامج الليكود القائم على تفوق إسرائيل من النهر إلى البحر. هل كان ذلك لا مفر منه؟

غزة، والمكانة الرئيسية لعودة اللاجئين/ات، ومنعطف مسيرة العودة الكبرى [احتجاجات غزة الحدودية 2018–2019- المترجم]

 

قد شكلت حركة «مسيرة العودة الكبرى» الشهيرة في غزة في 2018-2019 منعطفاً.  لفهم ذلك، من المهم العودة إلى المسألة الرئيسية المتمثلة في حق عودة اللاجئين/ات الفلسطينيين/ات. هل «يطالب الفلسطينيون/ات بالمزيد» على أمل التمتع بحق العودة إلى فلسطين عام 1948 (إسرائيل)، ودولة ذات سيادة في نسبة 22٪ من فلسطين؟ وفي الواقع، لا يمكن تبرير ضآلة نسبة 22٪ إلا بإدراج حق العودة. مما يسمح خاصة بقبول اتفاق حل الدولتين في سياق حرية الفلسطينيين/ات من النهر إلى البحر (هناك أيضا مسألة المواطنة من الدرجة الثانية لنسبة 20٪ من الفلسطينيين/ات داخل إسرائيل عام 1948).

تعمل غزة أكثر من غيرها على تسليط الضوء على هذا الأمر. حتى لو قبلنا جدلا، بإلغاء قرار منظمة الأمم المتحدة رقم 194، والقرار المتعلق بحقوق الإنسان الأساسية (الذي ينص على أن حق عودة اللاجئين غير قابل للتفاوض)، وتجاهلنا ملايين اللاجئين/ات الفلسطينيين/ات في لبنان وسوريا والأردن وأماكن أخرى، لا يمكن تفادي المسألة في غزة، حيث تكتسي أهمية أساسية لفهم الكارثة.

يشكل الحديث عن دولة فلسطينية في الضفة الغربية «وقطاع غزة» اختلالا صارخا في التوازن. تبلغ مساحة الضفة الغربية 5860 كيلومتر مربع وقطاع غزة 360 كيلومتر مربع. لا تمثل غزة والحالة هذه سوى ما يناهز نسبة 6% من الأراضي المحتلة. مع ذلك، يوجد حوالي 3 ملايين فلسطيني/ة في الضفة الغربية و2.3 مليون في غزة. إذا أدرجنا القدس الشرقية، يمكن القول إن الضفة الغربية تتمتع بقدرة معينة على البقاء كجزء من دولة مستقلة، وهذا لا ينطبق على حالة «قطاع» غزة.

لا يعود ذلك إلى أي حادث معين، لكن إلى أن نسبة 80٪ من «سكان غزة» ليسوا «غزيين»: بل لاجئون، طرد أحفادهم مما أصبح إسرائيل في عام 1948 (24). تمثل المدن والقرى التي طردوا منها إلى حد كبير تلك الموجودة على الجانب الآخر من «الحدود»، شمال وشرق غزة (في الواقع، كان معظمها داخل حدود «الدولة العربية» المقترحة عام 1947، قبل انتهاك إسرائيل تلك الحدود). ينطبق ذلك على من تعرضوا للهجوم في يوم 7 تشرين الأول/أكتوبر. ينظر الفلسطينيون في غزة إلى المستوطنات الإسرائيلية في هذه المناطق على أنها عمليات احتلال غير قانوني لأراضيهم المسلوبة. لا أقول هذه الملاحظة لتبرير ما شهده ذلك اليوم من عنف مروع، لكنها بالتأكيد من أسباب هذا الغضب، عندما قام المطرودون من هذه المناطق بالتسلل من معسكر الاعتقال.

مهما يكن الرأي حول ذلك اليوم المشؤوم – الذي كان في اعتقادي كارثة تامة للشعب الفلسطيني، بغض النظر عن الغبطة الأولية التي أثارها «تدمير جدار السجن» الأولية -، يؤكد طبعاً أن عودة اللاجئين ليست عنصرا إضافيا لحل المسألة الفلسطينية، بل عنصر أساسيا فيها، ما لم تتكون الدولة الفلسطينية من حوالي نسبة 50% من الأراضي.

وهنا يأتي دور مسيرة العودة الكبرى. سار آلاف الفلسطينيين/ات  في 2018-2019، عزلا/ي، احتجاجا ضد الجدار الذي يفصل سجنهم عن أراضيهم داخل إسرائيل. استمرت هذه التظاهرات الجماهيرية السلمية تماما مدة عام، لإخبار العالم وشعب إسرائيل «نحن ما زلنا هنا». كان رد النظام الصهيوني إطلاق النار بهدف القتل والتشويه: قتل 266 فلسطينيا، ضمنهم 50 طفلا، وأصيب ما يفوق 30000 شخص، بينهم 3000 طفل (25).  تشير التقديرات وفقا لمنظمة الأمم المتحدة، إلى ما يلي: «في عام 2020 سيعاني 10400 شخص من مشاكل في صحتهم العقلية بسبب تظاهرات مسيرة العودة الكبرى، وسيواجه ما يناهز 42000 شخص مشاكل طفيفة إلى متوسطة. تشمل هذه الأرقام ما يفوق 22500 طفل» (26). من المثير للدهشة تجاهل هذه الحدث الهائل من الإرهاب الصهيوني.

كان من شبه المؤكد أن هذه بداية اللاعودة.

سيادة السكان الأصليين في أستراليا «من محيط إلى آخر».  

يعبر شعار «ستكون فلسطين حرة من النهر إلى البحر» عن وجهة النظر القائلة بأن «فلسطين» موجودة في جميع أنحاء فلسطين؛ ولا يمكن ببساطة إلغاء سيادة السكان الأصليين. ومهما كانت الاتفاقات المبرمة «بين الدول» مؤقتا أو حتى دائماً، لا تشكل «الحدود» التي تحاصر مليوني لاجئ/ة فلسطيني/ة في «قطاع» أو «جيب» غزة (أي غيتو) حدودَ فلسطين. تعيش فلسطين في غزة والضفة الغربية والقدس وإسرائيل (فلسطين عام 1948) والشتات، في إطار حق العودة، أساسا إلى إسرائيل.

هل هذا يلغي حق الأمة الإسرائيلية، الموجودة اليوم أيضا (بقدر ما أن غالبية السكان ولدوا بعد عام 1948)، على الرغم من أصولها القائمة على العنف؟ حسنا، ليس وفقا لموقف منظمة التحرير الفلسطينية منذ عام 1969، ولا أي اتفاقات دولية وقعتها فلسطين دوما، كما هو موضح أعلاه. لكن ثمة أيضا طريقة أخرى للنظر إلى الأمور، عند التفكير في نضالات الشعوب الأصلية في الدول الأخرى الخاضعة للاستعمار.

سآخذ مثال أستراليا، حيث أعيش. كما كان استعمار فلسطين الصهيوني مبنياً تماما على أساس أسطورة أن فلسطين كانت «أرضا بلا شعب لشعب بلا أرض»، كان استعمار أستراليا البريطاني قائماً على أسطورة «الأرض المباحة»، أي أرض خالية، بلا مالك (مبدأ قوضته في آخر المطاف المحكمة العليا الأسترالية بإصدار قرا إيدي مابو عام 1993).

تعتبر الأمم الأولى للسكان الأصليين في أستراليا نفسها «ذات سيادة» على أستراليا بأكملها. يقر معظم الأستراليين اليساريين والتقدميين – وحتى قسما كبيراً من الرأي الليبرالي السائد – أن هذا المفهوم يعني «عدم التنازل عن السيادة بأي وجه»، كما ذكرنا في وثيقة اعترافات بالبلد Acknowledgements to Country ، وأن ارتباط الأمم الأولى بأرضها يهم جميع أنحاء أرضها،  بغض النظر عمن يعيشون اليوم فيها والتشكيلات السياسية القائمة فيها. باستثناء الرجعيين الظلاميين حقاً، ما من أحد يعتقد جدياً أن الاعتراف بسيادة السكان الأصليين تعني عزمهم على «رمي الأستراليين غير الأصليين إلى البحر».

لا يعني ذلك أن أستراليا البيضاء ذات طابع مستنير بوجه خاص: صوتت نسبة 60٪ من الأستراليين، في الاستفتاء الأخير، ضد اقتراح من أمم السكان الأصليين يقضي بنص الدستور على مجرد «صوت» استشاري لها في البرلمان، لتمثيل سيادتها جزئيا. على أي حال، يستمر النضال، حيث تضغط الأمم الأولى لنزع مطالب أمثل من «الصوت» المرفوض، وعديم الأهمية، أي معاهدة بين الأمم الأولى ذات السيادة والأمة الأسترالية ذات السيادة المتحدرة من الاستعمار. كما اعترض سكان أصليون عديدون من أستراليا على «الصوت» بسبب مناقض لمبرر معظم الناخبين البيض: لأنه كان اقتراحا ضعيفا للغاية بينما كان أملهم في معاهدة تنص على تمثيلية أكثر جدية وحق تقرير المصير فيما يتعلق  بشؤونهم الخاصة.

طرح الحوار الوطني للأمم الأولى المنعقد في أولورو في أستراليا عام 2017، والداعي إلى سيرورة قائمة على شعار «معاهدة -صوت -حقيقة»، مسألة السيادة على هذا النحو في «ﺑﻴﺎن أوﻟﻮرو ﻣﻦ ﻗﻠﺐ اﻟﻮﻃﻦ» الشهير:

كانت قبائلنا الأصلية وسكان جزر مضيق توريس أول الأمم ذات السيادة على قارة أستراليا والجزر المجاورة لها، وكانت أراضيها في ملكيتهم وفقا لقوانينهم وأعرافهم الخاصة. […] تمثل هذه السيادة مفهوما روحيا: صلة موروثة قائمة بين الأرض، أو «الطبيعة الأم»، والشعوب الأصلية وسكان جزر مضيق توريس التي أنجبتهم، ثم يظلون مرتبطين بها، ولا بد أن يعودوا إليها يوما ما لالتئام شملهم مع أسلافهم. يشكل هذا الرابط أساس ملكية الأرض، أو بالأحرى، السيادة، التي لم يتم التنازل عنها أو اسقاطها بأي وجه، والتي تتعايش مع سيادة التاج. (27)

بالنسبة لمن يقرؤون ذلك، رجالا ونساء، من خارج أستراليا: تمثل سيادة «التاج»، الطريقة التي تشير بها أستراليا البيضاء الاستعمارية إلى دولة أستراليا حالياً، والتي لا تزال، على الرغم من 122 عاما من الاستقلال، قائمة رسميا تحت حكم بقايا النظام الإقطاعي البشعة لبلد على الجانب الآخر من العالم. «تتعايش» سيادة الأمم الأولى مع سيادة «التاج» في جميع أنحاء أستراليا، من ساحل المحيط الهندي إلى ساحل جنوب المحيط الهادي؛ ولا تترسخ سيادتهم وحسب على بعض المناطق القاحلة إلى حد كبير حيث خاضوا نضالات ظافرة لتثبيت حقوق الأرض أو على بعض المناطق ذات تركز كبير من السكان الأصليين.

وينتهي بيان قلب أولورو قائلا: «ندعوكم للانخراط معنا في حركة شعب أستراليا من أجل مستقبل أفضل».

كما تضمن بيان ياسر عرفات في مقر منظمة الأمم المتحدة في عام 1974 ما يلي: إننا نقدم لكم [يهود إسرائيل] أكرم دعوة، أن نعيش معاً في إطار السلام العادل في فلسطيننا الديمقراطية.»

من محيط إلى آخر، من النهر إلى البحر.

********

ميكائيل كارادجيس، أستاذ العلوم الاجتماعية في جامعة سيدني، وعضو منظمة التضامن مع سوريا في أستراليا

 

نُشر هذا المقال لأول مرة باللغة الإنجليزية بعنوان  « “From the River to the Sea” : Palestine’s historic struggle to share the land versus Israeli rejectionism »  في مدونة  Their Anti-impérialism and Ours، ثم نشرت من بعد في مجلة ”لينكس“ Linksالأسترالية الإلكترونية.

إحالات

1) « Rashida Tlaib Posts Video Accusing Biden of Supporting ‘Genocide’ », New York Times, 3 novembre 2023.

2) « The Hateful Likud Charter Calls for Destruction of Any Palestinian State », Jonathan Weiler, Informed comment, 8 avril 2014.

3) Palestine : The solution – The Arabs proposals and the case on which they rest, The Arab Office, Wardman Partk, Washington, D. C., April 1947. The Arab Office de Washington était alors sponsorisé par les gouvernements des États arabes (Égypte, Irak, Liban, Arabie saoudite, Syrie, Transjordanie et Yémen) et enregistré auprès du Département de Justice des États-Unis. Disponible en PDF.

4) https://www.unrwa.org/content/resolution-194

5) Address by the Al-Fateh Delegation to the Second International Conference in Support of the Arab Peoples, Le Caire, janvier 1996.

6) Présentation du FDLP, par Maher Charif, historien palestinien marxiste.

7) https://al-bab.com/documents-section/speech-yasser-arafat-1974#sthash.aThCyhr3.dpbs

8) 10 Point Program of the PLO (1974), Political Program Adopted at the 12th Session of the Palestine National Council, Cairo, 8 June 1974.

9) S/11940.

10) Palestine question core of conflict – Vetoed draft resolution.

11) Résolution 35/207.

12) « The question of Palestine », Nations unies, 1991.

13) « Déclaration finale », 9 septembre 1982.

14) « Palestinian Declaration of Independence », 18 novembre 1988.

15) Résolution 43/177, 15 décembre 1988.

16) « Palestine: The reality of Israel’s “generous offer” », entretien de Naseer Aruri avec Anthony Arnove, 24 avril 2002, Socialist Worker.

17) « Plan de paix » de la Ligue arabe, 27 mars 2002.

18) « Hamas touts 10-year ceasefire to break deadlock over Israel », Ewen MacAskill et Harriet Sherwood, 1er novembre 2006, The Guardian.

19) « We will not sell our people or principles for foreign aid », Khalid Mish’al, 1er février 2006, The Guardian, « We Do Not Wish to Throw Them Into the Sea », 26 février 2006, et « Khaled Meshaal: Struggle is against Israel, not Jews », 6 mai 2017, Al Jazeera.

20) Projet de programme gouvernemental du Hamas, 12 mars 2006.

21) L’auteur utilise ici le terme « rejectionism », comme dans le titre initial de l’article.

22) « Israeli Peace Activist: Hamas Leader Jabari Killed Amid Talks on Long-term Truce », Nir Hasson, 15 novembre 2012, Haaretz.

23) « Gaza “invivable”, rapporteur spécial de l’ONU pour la situation des droits humains dans les territoires palestiniens occupés à la troisième commission – communiqué de presse (extraits) », 24 octobre 2018.

24) « Where we work », Unrwa, août 2023, « Gaza’s Untold Story: From Displacement to Death », infographie, 17 septembre 2015, Al Mezan.

25) « Gaza’s Great March of Return protests explained », Huthifa Fayyad, 30 mars 2019, Al Jazeera.

26) « Two Years On: People Injured and Traumatized During the “Great March of Return” are Still Struggling », ONU, 6 avril 2020.

27) « Uluru statement from the heart ».

شارك المقالة

اقرأ أيضا