الصهيونية ومعاداة الصهيونية وإزالة الصهيونية
نعيد نشر مقال من مجلة “الأممية الرابعة” عدد 46 تشرين الثاني/نوفمبر 1970. على قرائنا عدم تفويت الاطلاع على هذه الوثيقة لأهميتها وراهنيتها.
1 .
كان غموض رهيب حول إسرائيل والصهيونية سائداً داخل أقصى اليسار، لحظة حرب حزيران/يونيو 1967. وكان مناضلون ثوريون مقتنعون حائرين ومترددين في اتخاذ موقف جلي. كانت البلبلة طبعاً أوضح في اليسار غير الثوري. دافع عن الدولة الصهيونية، بدون قيود، مثقفون غربيون كُثر كانوا حاربوا بشجاعة الاستعمار الفرنسي في الجزائر والإمبريالية الأمريكية في فيتنام.
غالبا ما تقدم تبريرات حول هذا التيه، وأحيانا بدت الأطراف المهتمة نفسها، مثل جان بول سارتر، على دراية إلى هذا الحد أو ذاك، بتناقض الآراء التي كانت تمزقها. إن المسألة اليهودية، التي تستحضر حتما الإبادة الجماعية النازية، تثير شعورا عميقا بالذنب في الغرب. جرت العادة منذ صعود الفاشية في ألمانيا، على اعتبار اليهودي بما هو رمز الانسان المضطهد البارز. فضلا عن ذلك، أدى نقص صارخ في المعلومات حول الوضع الحقيقي في فلسطين، وانتشار دعاية ماكرة بوجه خاص، إلى انتقال أقصى قدر من التعاطف الذي كان الناجون من المحرقة متمتعين به لصالح الحركة الصهيونية. كانت إسرائيل على ما يبدو، تجسيدَ تعويض تاريخي لليهود: إن هذا الشعب الذي كان عانى كثيرا من الاضطهاد والمعاناة حصل أخيرا على دولة لجوء، وملاذ محتمل يقي طوائف اليهود في جميع أنحاء العالم من كل عودة نزعة معادية للسامية.
وتجذر الإشارة إلى أن ما من دراسة موضوعية جادة حول مسألة الصهيونية باللغة الفرنسية كانت قائمة، قبل مقال مكسيم رودنسون عام 1967 بعنوان «إسرائيل، واقع استعماري»، نشر في عدد من مجلة “الأزمنة الحديث” خاص بالنزاع العربي الإسرائيلي. كانت الصحافة الغربية نجحت في محو وجود الشعب الفلسطيني من وعيها. كانت تذكر أحيانا وجود اللاجئين العرب بصورة مقتضبة.
عصفت المقاومة الفلسطينية بظلام هذا الجهل الهادئ وأثارت في مقدمة الأحداث وعيا بظاهرة الصهيونية. لم تبدد بعد كل ضروب الالتباس، وهذا أمر مفهوم لأن النظرية الثورية دوماً ثمرة بلورة سياسية وليست انعكاس النضالات الجارية من حولنا انعكاساً آلياً.
2 .
بما أننا لم نكن على وعي بمشكلة فلسطين إلا مؤخراً إلى حد ما، فإن فهم دوافع المسألة لا يزال ذي طابع مجزئ. علاوة على ذلك، يجب أن يبدأ التفكير النظري تقريبا من الصفر لأن أي جهد تحليل سياسي حول هذا الموضوع منذ الحرب العالمية الثانية، لم يبذل إلا في بعض القطاعات الطليعية داخل الحركة الثورية -أساساً الأممية الرابعة-. قامت الستالينية هنا بدور سلبي خاصة من خلال تجاهل التقليد الشيوعي النقدي ضد الصهيونية، أو الأسوأ من ذلك، عبر نهج سياسة معادية للسامية صراحة تحت ستار «معاداة الصهيونية». إن محاكمات براغ البغيضة عام 1952، وبعدها في الاتحاد السوفييتي «مؤامرة» «الأطباء القتلة»، إنما سبقت في هذا الاتجاه ما شنته بيروقراطية بولندا، وبدرجة أقل، قادة الاتحاد السوفييتي، من حملة شعواء ضد اليهود.
بالإضافة إلى ذلك، غالبا ما كانت هناك دعاية معادية للسامية في الأوساط العربية الرجعية. لم يكن بالإمكان إلا تنامي جمهور الحركة الصهيونية بوجه معارضين من هذا الوزن. يمكن للجميع اليوم ملاحظة آثار هذا الماضي، الذي ما أبعد تجاوزه. يكفي فقط النظر ملياً في تعبير «صهيونية». يستخدم بدوره، على التوالي، إشارة إلى حقيقة الاستيطان اليهودي في فلسطين، ودولة إسرائيل، وجميع مؤيدي هذه الدولة، واليهود الذين يدعمونها، وسكان إسرائيل، إلخ. من الواضح تماما أن الغموض القائم لا يمكن إلا مفاقمته، من خلال تسمية «صهيوني» كل ما يتعلق بإسرائيل على نحو ما. ومن هنا تأتي الحاجة إلى توضيح أيديولوجي.
سنسمي الصهيونية التيارَ الأيديولوجي والحركة السياسية للاستعمار اليهودي في فلسطين. وعلى هذا الأساس، تبدو الصهيونية والحالة هذه أولاً كنظام علاقات اجتماعية معين بين يهود فلسطين (أي الإسرائيليين)، من جهة، وعرب فلسطين من جهة أخرى، تماما كما يتلخص كل استعمار في نوع علاقة محددة بين مُستعمرِين ومستعمرَين.
وفي الواقع، لا يمكن تحقيق المشروع الصهيوني إلا بالعنف، للإلزامية فرضه على السكان الأصليين بالقوة. وعلى هذا النحو ظل اعتماد المستوطنة اليهودية في فلسطين على الإمبريالية ثابتا لا مفر منه في الحركة الصهيونية. تؤدي تبعية إسرائيل حالياً للولايات المتحدة الأمريكية إلى استمرار التحالف الأولي مع السلطة العثمانية في فلسطين الذي أعقبته حقبة تعاون مديدة مع الاستعمار البريطاني.
يتيح هذا التعريف تبديد جملة تصورات خاطئة تحول دون فهم المسألة وتضر بحركة التضامن مع الثورة الفلسطينية.
يتجلى طابع إسرائيل الصهيوني عمليا، في ما أقرته من تشريعات ذات طابع تمييزي تنص على منح امتيازات قومية لليهود (قانون العودة وقوانين الجنسية) بينما تحرم العرب منها، وفي تشريعات استعمارية موروثة من بريطانيا تطبق على سكان فلسطين (نظام الدفاع (الطوارئ)»)، وفي مصادرة الأراضي العربية و«إعادة توطين» المناطق التي يسكنها الفلسطينيون، وفي تعدد أوجه التمييز ضد العرب اجتماعيا وسياسياً واقتصادياً، وفي قمع الحركات السياسية الفلسطينية، وفي ديكتاتورية الطبقة الرأسمالية واندماج الحركة العمالية في الدولة البرجوازية بمبرر الوحدة القومية (الصهيونية)، وفي اعتماد الدولة العبرية على الجهات المانحة الأجنبية والقوى الإمبريالية كما تقتضيه السياسة الصهيونية بالذات، وفي توجه العلاقات الخارجية لدولة إسرائيل المبني على محاربة الحركات التقدمية في العالم العربي وعلى النزعة التوسعية.
تحدد السياسة الإسرائيلية برمتها من خلال طابع هيكلة الدولة التمييزي وعبر العواقب السياسية – مثل ما يترتب عنها من عمق عداء الجماهير العربية ضد واقع الاستعمار الإسرائيلي –. ومن الواضح أن سياسة الاستغلال الاستعماري المباشر المعتمدة بعد الغزوات الإقليمية في حزيران/يونيو عام 1967 أدت إلى تفاقم هذه الاتجاهات الكامنة للصهيونية.
أ) ينبغي عدم الخلط بين الصهيونية وواقع الاستيطان اليهودي في فلسطين. على الرغم من أن سكان إسرائيل نتاج الاستعمار الصهيوني على حساب الفلسطينيين في الآونة الأخيرة -بحيث لا يزال الفلسطينيون يشعرون بعدم اندمال جروح عميقة، هذا الشعب الذي صدمه المنفى وفظاظة اغتصاب أرضه – لا يمكن لأي ماركسي جدير بهذا الاسم الشك في استيطان الإسرائيليين في فلسطين. يستهدف الثوريون الهياكل الاجتماعية والسياسية، وليس التوازن الديموغرافي أو الاثني.
يستهدف النضال ضد الاستعمار النظام الاستعماري وما يمنحه من امتيازات، وليس الوجود المادي لمجتمع من أصل أجنبي في البلد الخاضع للاستعمار. لم تدع جبهة التحرير الوطني الجزائرية بأي وجه إلى رحيل الأوروبيين من الجزائر، تماما كما أن ثوار جنوب أفريقيا اليوم لا يطالبون بطرد البيض. أقر هذا المبدأ رسميا ليس وحسب الجناح اليساري في حركة المقاومة الفلسطينية ولكن أيضا أكثر فصيلها البرجوازي عدداً، يعني منظمة فتح. ومن ثم، من العبث تسمية الإسرائيليين بـ«الصهاينة» ونعث الشعب الأمريكي برمته بـلقب «إمبريالي». لأن التصرف بهذه الطريقة، يؤكد فكرة أن المعركة موجهة ضد السكان اليهود بدلا من النظام السياسي الصهيوني.
ب) يستهدف النضال هياكل دولة إسرائيل وليس مؤيدي إسرائيل. صحيح أن معظم الإسرائيليين واليهود يناصرون بشدة سياسة الصهيونية. ويستخلص من ذلك ضرورة شن صراع سياسي طويل النفس داخل المجتمع العبري والسكان اليهود لإنقاذهم من تحكم الأيديولوجية الصهيونية. وبقدر ما تدرج جميع الحركات التي تمثل الثورة الفلسطينية نضالها –بحق- في إطار منظور تعايش بين يهود وعرب في فلسطين مستقبلا، يتضح أن جماهير إسرائيل، التي لا تزال مخدوعة بالأيديولوجية الصهيونية اليوم، ستكون بوجه التحديد رفيقة الثورة الفلسطينية مستقبلا. وهذا يكفي لإثبات مدى أهمية نشاط الطليعة المناهضة للصهيونية التي تتحرك اليوم داخل الدولة اليهودية. من الواضح أن القيام بالثورة مع يهود فلسطين يفترض مسبقا تنامي القوى الثورية في صفوف سكان إسرائيل. ومع ذلك، من المهم فهم العوامل التي تفسر دعم الإسرائيليين وطوائف اليهود للصهيونية. إنها نزعة شوفينية بلا شك.
لا بد أيضاً من فهم جذور هذه النزعة القومية اليهودية. وهذا يتضح من ناحية عبر مأساة اليهود المعاصرة، ومن جهة أخرى، فيما يتعلق بالإسرائيليين بالذات، عن طريق عقود من الدعاية الشوفينية والعنصرية العربية التي سهلت مهام برجوازية إسرائيل، وأيضاً عبر ضعف الطليعة الأممية العربية. وبالتالي، تكمن مهام الثوار الفلسطينيين في تقديم منظور تعايش ضامن مستقبل يهود إسرائيل. وعلى الرغم من أن تصورات معظم المنظمات الفلسطينية حالياً بشأن هذا الموضوع قد تعتبر غير كافية، فمن المؤكد احراز تقدم كبير في هذا الاتجاه. لكن في آخر المطاف سيكون انخراط الإسرائيليين بفاعلية في الثورة العربية أمثل ضمان، مما يعني إعادة التشديد على دور الطليعة المناهضة للصهيونية الحاسم داخل الدولة اليهودية. وفيما يتعلق بالمجتمعات اليهودية، فإن الدعم الهائل التي تحظى به القيادة الصهيونية الإسرائيلية يفسر أساسا من خلال عمق شكوك جماهير اليهود حيال الاشتراكية كحل لنزعة معاداة السامية. لا يمكن هنا أن تأتي الإجابة إلا من الجيل الثوري الجديد الذي يتمثل دوره التاريخي بوجه التحديد في بناء الأحزاب الجماهيرية التي ستتيح عموما إحياء الأمل الاشتراكي على الرغم من ستالين وخلفائه، وغومولكا وموتسار وبريجنيف.
3 .
يعني النضال جذرياً ضد التيار الصهيوني محاربة هذا الأخير من جذوره وبالتالي كشف ما يلزم تدميره من الأسس المادية للصهيونية. لأنه مهما كان وزن العوامل النفسية والتاريخية – في هذه الحالة لا يمكن إنكار أنه وزن كبير على ما يبدو- يجب أولا العودة إلى البنية التحتية للحركة. ومن ثم، يمكن تمييز ثلاثة عناصر أساسية تقوم عليها البنية الاجتماعية الصهيونية، ويؤدي وجودها إلى تحديد الوعي الصهيوني وتغذيته:
أ) البرجوازية الإسرائيلية. كانت سابقا في فلسطين قبل إنشاء دولة إسرائيل، قطاعات أقلية داخل الرأسمالية اليهودية، وكانت تعارض الخط السياسي الصهيوني بسبب تهديده بفصلها عن الأسواق العربية في منطقة الشرق الأوسط (كان هذا هو الحال خاصة مع انبعاث المهاجرين الألمان الجدد السياسي في سنوات الثلاثينيات). لكن الرأسمالية الإسرائيلية برمتها ترى اليوم مستقبلها في إطار توطيد هياكل الصهيونية (إن الحزب البرجوازي الكبير الذي تشكل من تحالف حزب حيروت الفاشي وتيار الصهاينة العموميين يدعم بقوة التوسع الإقليمي بحثاً عن سوق أكبر من الحدود الضيقة لعام 1949). حددت سياستها الحالية تاريخيا، من خلال سيرورة حتى تأسيسها. إن قدرة الثورة الفلسطينية على مناهضة الرأسمالية تزيد حدة اعتماد البرجوازية الإسرائيلية على الإمبريالية- اقتصادياً وسياسياً ودبلوماسياً وعسكرياً. وعلى الرغم من تمتع برجوازية إسرائيل باستقلال سياسي نسبياً، فإنها غير قادرة على الاشتغال اقتصاديا إلا كوسيط للإمبريالية، ومجبرة سياسياً دفاعا عن مصالحها، على الاضطلاع بهذا الدور بوجه الثورة العربية. أكدت حرب عام 1967 هذا التوجه لأن حدود إسرائيل الجديدة وضعت تحت تصرف طبقتها في شخص عرب فلسطين، بروليتاريا رثة حقيقية خاضعة للاستعمار، ومصدر فوائض أرباح.
باختصار، ترتبط برجوازية إسرائيل هيكليا بالإمبريالية، وتفاقم هذه التبعية جوهر الصهيونية لإن إسرائيل غير مفيدة، في نظر حماتها، إلا بصفتها مجرد دركي الشرق الأوسط. وبالتالي فإن الطبيعة الصهيونية للبرجوازية الإسرائيلية محددة بعوامل مختلفة متضافرة إلى حد ما.
ب) البيروقراطية العمالية. من المعلوم، أن الحركة العمالية الصهيونية هي العمود الفقري للدولة العبرية. وكإحدى صناع الاستعمار اليهودي الرئيسيين، حددت الشكل الخاص لطابع تمييز الدولة العبرية العنصري. يعتمد توازن إسرائيل اجتماعياَ على اندماج الطبقة العاملة اليهودية في الدولة البرجوازية، وهو ما تحقق من خلال الهستدروت، التي تمثل النقابة الوحيدة، وأيضا نقابة –ربة عمل، ومن خلال تداخل الأحزاب العمالية (حزب العمال أساسا) مع بيروقراطية الدولة وجهاز الإدارة وأطر المنظمات الصهيونية.
تشكل البيروقراطية العمالية جزء لا يتجزأ من هياكل الدولة والجيش (كانت تهيمن بالفعل على جهاز ما قبل بناء الدولة في مرحلة سلطة الانتداب البريطاني). إنها تفرض نفسها كحليف ضروري للبرجوازية لمنع بروز تيار أصيل بروليتاري أو سياسي أو نقابي. إن المؤسسات التي تمارس من خلالها هيمنتها (تعاونيات، ومقاولات صناعية وتجارية، وأحزاب سياسية، وكيبوتسات نشأت على أساس طرد السكان العرب، الخ.) مرتبطة هيكليا وتاريخيا بالصراع ضد الفلسطينيين. يضاف إلى هذه العوامل الدور اللازم الذي قامت به عن طريق احلال النزعة الشوفينية الصهيونية مكان الوعي الطبقي. وبالتالي، تشكل تصفية الأسس السياسية والاجتماعية للبيروقراطية العمالية الشرط الأولي والضروري لإطاحة الصهيونية.
ج) البنية التحتية الصهيونية الخارجية. يقترن اعتماد إسرائيل على الإمبريالية بالروابط القائمة بين الوضع السياسي الإسرائيلي والمنظمة الصهيونية العالمية، التي تضطلع خاصة بدور الجهات المانحة للدولة العبرية.
غالبا ما كانت المنظمة الصهيونية العالمية التي أنشأتها أساسا جماهير اليهود، تعارض الرأسماليين اليهود بحصر المعنى (على غرار مجلس نواب اليهود البريطانيين واللجنة اليهودية الأمريكية وهيئات مماثلة في البلدان الغربية الأخرى)، سنوات عديدة. والحال أن تنامي الدور الاستراتيجي الذي قامت به إسرائيل في إطار النزاع ضد الثورة العربية وأهميتها الجديدة – خاصة منذ عام 1967، كوسيط اقتصادي للإمبريالية في الشرق الأوسط – قد حدد تغييرا كبيرا في تشكل شبكة الدعم المنظمة للدولة اليهودية. منذ عام 1967، سعت الطبقة الحاكمة الإسرائيلية قسراً إلى الحصول على دعم عضوي من مختلف الرأسماليين الكبار من أصل يهودي، ومن الرأسمالية العالمية عموماً -انظر برقية رويترز المنشورة في صحيفة لوموند في 9 نيسان/أبريل عام 1970 حول وفد مصرفيي أوربا الذين ذهبوا إلى إسرائيل للتفاوض حول مشاريع استثمارية -تبعية تفرضها الصعوبات الاقتصادية، والهيكلية والمشاكل التي تطرحها «التحولات» التي تشهدها الأراضي المحتلة. أدى تحول مركز ثقل الهيكلة السياسية الإسرائيلية لصالح أحزاب برجوازية إلى تيسير إعادة هذا التوجه. في المقابل، فرضت الجهات المانحة الجديدة (انظر مؤتمرات أصحاب الملايير اليهود) تخلي جهاز البيروقراطية الصهيونية عن عدد معين من الامتيازات لصالحها (التغلغل الاقتصادي الأجنبي، وإلغاء عمليات التأميم، والمشاركة في المقاولات التعاونية أو التابعة للدولة)، والاستثمار في قطاعات اقتصاد إسرائيل المربحة. يمر النضال ضد الصهيونية بالضرورة عبر قطيعة جذرية مع الرأسمالية الأجنبية.
4 .
قد يعترض البعض على أن احتمال التحالف بين الطليعة الإسرائيلية والثورة الفلسطينية مجرد وهم على أي حال لأن شعب إسرائيل نتاج الاستعمار الصهيوني ولا يمكنه التشكيك في مصالحه وامتيازاته الجماعية. هذا الموقف خاطئ لأنه لا يأخذ في الاعتبار الطابع الخاص للاستعمار الصهيوني. وفي الواقع، لا يقوم الاقتصاد الإسرائيلي على استغلال اليد العاملة الفلسطينية (على الرغم من أنها تقوم فيه بدور متزايد منذ توسعات عام 1967)، بل على استغلال الطبقة العاملة اليهودية.
لكن العمال الإسرائيليين غير مرتبطين هيكليا بالصهيونية، التي لا يستفيدون منها بحد ذاتها. أدى التمييز العنصري الخاص بالحركة العمالية الصهيونية إلى تطوير اقتصاد يهودي مغلق ومنعزل في فلسطين يرفض تشغيل الفلسطينيين وليس إلى مجتمع متمحور حول استغلال السكان الأصليين. وبالتالي، فإن العمال اليهود في إسرائيل لا يشكلون اليوم، ككل، أرستقراطية عمالية من النوع الاستعماري الذي يحتل مكانا وسطيا في التراتب الطبقي الاجتماعي بين الرأسمالية الاستعمارية من جهة وبروليتاريا السكان الأصليين من جهة أخرى. ولا يرتبط وضعهم الاعتباري بهيمنة طبقة استعمارية حاكمة على جماهير العرب.
ومن ثم، لا مصلحة لديها في صون هيكلة الاستعمار الصهيوني، إذ لا تتمتع بامتيازات اقتصادية بفضل افراط الاستعمار في استغلال السكان الأصليين (من الواضح أن هذا المنطق ينطبق فقط على الطبقة العاملة الإسرائيلية ككل وليس على بعض الطبقات العليا المحظوظة بامتيازات).
أدى تطور الطائفة اليهودية المنفصل في فلسطين –وهو نتاج سياسة الحركة العمالية الصهيونية التي كانت حريصة على ضمان مكان للعمال اليهود في الإنتاج من خلال تأمين احتكار تشغيلهم داخل اقتصاد يهودي صرف– إلى تحول المستوطنين اليهود إلى أمة إسرائيلية ذات هيكل اجتماعي خاص (برجوازية وبروليتاريا)، واقتصاد خاص (مغلق) وثقافة خاصة (عبرية)، مختلفة عن عرب فلسطين الذين كانوا استبعدوا مبدئياً من النظام الاجتماعي الصهيوني، وعن يهود جميع أنحاء العالم، المندمجين اقتصاديا في البنية الاجتماعية والاقتصادية للبلدان التي يعيشون فيها. يمكن تسمية يهود إسرائيل بـ «الفلسطينيين اليهود»، ولكن فقط بشرط استحضار أن عرب فلسطين يشكلون الأمة العربية في فلسطين. عندما تصر بعض المنظمات الفلسطينية على الطابع «الفلسطيني» للإسرائيليين، تنبغي الاشادة بالفكرة التي تحركهم: رغبة اعتبار هؤلاء اليهود مواطنين كاملي الأهلية في فلسطين مستقبلاً. ومع ذلك، لا يمكن تجاهل بأن الفرق بين الشعبين في الأساس اختلاف قومي وليس دينيا.
إن تشكل هذه الأمة الإسرائيلية على حساب السكان الأصليين من خلال طرد العرب (صنوف المقاطعة والمصادرة، وإبعاد) لا يغير واقع وجودها كأمة، ولاسيما حقيقة أن البروليتاريا الإسرائيلية لها مصالح مختلفة عن برجوازيتها. لذلك، فإن تطور صراع الطبقات داخل مجتمع إسرائيل حاسم على ما يبدو لمستقبل الإسرائيليين في الشرق الأوسط. من هذا المنطلق، تتحدد «حالة» إسرائيل وتختلف جوهريا عن الاستعمار الكلاسيكي.
5 .
بعد بلوغ هذه القسم من استدلالنا، بوسعنا معالجة مسألة إزالة الصهيونية. يقصد ثوار إسرائيل بها تدمير الهياكل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية القمعية والاستعمارية في إسرائيل. لكن من الواضح أن هذا الهدف يفترض مسبقا وجود نضال ثوري داخل إسرائيل.
وفي الواقع، لا يمكن تحقيق تصفية الهياكل الصهيونية إلا بمشاركة قطاع هام من الطبقة العاملة الإسرائيلية. إذا كان لا بد من انهيارها بمجرد تأثير من قوة خارجية، فما من شيء قد يحل لأن الطائفة القومية العبرية، حتى لو كانت محرومة من دولة خاصة بها، قد تقيم من جديد مرة أخرى بنية من نوع استعماري عبر مجرد عملية تداول الرساميل، وتقدم إسرائيل تكنولوجياً، ووجود برجوازية صناعية ومالية يهودية قوية. على القاعدة العمالية الإسرائيلية والحالة هذه، العمل خلال تطور السيرورة الثورية، على بسط الهيمنة السياسية داخل الأمة عبر إسقاط برجوازيتها وحلفائها في البيروقراطية العمالية بعد صراع طبقي. وعلاوة على ذلك، فإن الظروف الخاصة بنضال الفدائيين (جيش من الأنصار على حدود الدولة الصهيونية، معظمهم من الفلسطينيين الذين اجبروا على المنفى، والعيش في ظروف جغرافية غير مواتية لشن حرب الغوار، وبنسب عددية في صالح الإسرائيليين) تفرض هذا التحالف كمحور استراتيجي أساسي، تماما كما تجبر ربط الثورة الفلسطينية بالثورة العربية ارتباطاً عضوياً. سيتقرر مستقبل النضال الفلسطيني على حلبة منطقة الشرق الأوسط بأسره، بما في ذلك النضال الاجتماعي الجاري داخل إسرائيل.
لكن ألا يمكن أن تشكل إزالة الصهيونية ستاراً يخفي صون الوضع الراهن تحت «غطاء» قانوني جديد؟ لا. بل تتطلب سلفاً تدمير الهياكل السياسية والاجتماعية القائمة تدميراً جذرياً، وإلا يتعذر تحقيقها. مع ذلك، سيقول البعض، إن نزع الطابع الصهيوني عن إسرائيل يعني في نهاية المطاف العمل من أجل وجود دولة إسرائيلية، ما يتعارض مع أهداف الفلسطينيين الذين يسعون بوجه التحديد إلى إلغاء هذا الكيان الأحادي العرق والاستعماري القائم على أرضهم. وفي الواقع، لا يمكن توقع ما سيكون عليه شكل الدستور المحدد لفلسطين مستقبلا، تحت طائلة التفكير في فراغ، أو الأسوأ من ذلك، الاحلال مكان الأطراف المعنية الأولى. ولا يسع القول إلا ذكر مبادئ معينة: حق عودة اللاجئين، وحق الفلسطينيين في تقرير المصير، وممارسة الإسرائيليين حقوقهم القومية بحرية. يمكن تصور مثل هذا البرنامج في إطار اتحادي فلسطيني، كما هو الحال في هيكل فيدرالي أو كونفدرالي أو حتى في إطار وحدة عربية. من المهم فهم تعذر اخفاء المشكلة الوطنية الإسرائيلية تحت ستار تفنن لفظي.
دعونا نترك للعاجزين متعة التلذذ بصيغ فارغة من نوع: «ما يسمى بالدولة الإسرائيلية»، «ما يسمى بالأمة الإسرائيلية»، «مستوطنة صهيونية في فلسطين المحتلة»… والتي تعكس ضعفهم الأيديولوجي؛ إنهم يعتقدون بحل الصعوبة من خلال إنكارها. وبالتالي فإن تدمير الهياكل الصهيونية الإسرائيلية -والذي يتطلب بالضرورة اسهام الثوريين الإسرائيليين أنفسهم- يفسح والحالة هذه، مجال بلورة صيغ عديدة ذات طابع مؤسسي. ما يهم هو حاجة المجتمع الإسرائيلي إلى الاندماج بطريقة أو بأخرى في الحركة الثورية العربية.
من السابق لأوانه معرفة ما إذا كان هذا الإطار سيقتصر على منطقة فلسطين جغرافياً. إن هذه المسألة، مثل مسألة الإطار المؤسسي، معتمدة في نهاية التحليل على تطور الصراع الطبقي مستقبلاً داخل إسرائيل وتنامي التيار الثوري العربي لاحقاً. لكن الاعتراف بالحقوق الوطنية الإسرائيلية لا علاقة له بالحفاظ على العلاقات الاستعمارية الحالية بين الإسرائيليين والعرب. إن استحالة التعايش مع إسرائيل غير نابعة من واقع أن الدولة العبرية يهودية، لكن من جوهرها الاستعماري. لذلك، لا يمكن بلورة التفاوض الإسرائيلي الفلسطيني وتحقيق مستقبل كلا الشعبين إلا في إطار الثورة ضد الهياكل القمعية.
ترجمة جريدة المناضل-ة
اقرأ أيضا