البطريركية و/أو الرأسمالية: إعادة فتح النقاش

النساء1 ديسمبر، 2024

بقلم، سينزيا أروزا   Cinzia Arruzza

  من المألوف جدًا أن نجد  في النصوص والمنشورات والمقالات والوثائق النسوية إشارات إلى النظام البطريركي والعلاقات الأبوية. غالبًا ما يُستخدم مصطلح النظام البطريركي للدلالة على واقع أن الاضطهاد وعدم المساواة بين الجنسين ليسا حالات عرضية أو استثنائية. لا يمكن اختزالها في ظواهر تحدث فقط ضمن العلاقات بين الأشخاص، بل على العكس، هي قضايا تتخلل كل المجتمع، ويعاد إنتاجها على أساس آليات لا يمكن تفسيرها على أساس فردي.

باختصار، غالبًا ما يُستخدم مصطلح النظام البطريركي للتأكيد على أن الاضطهاد الجندري ظاهرة ذات ثبات معين وطابع اجتماعي وليس مجرد ظاهرة بين الأشخاص. رغم ذلك، تصبح الأمور أكثر تعقيدًا بعض الشيء إذا أردنا أن نكون أكثر دقة حول ما نعنيه بالضبط بـ”البطريركية” و”النظام البطريركي”. وخطوة أخرى في التعقيد إذا ما بدأنا في التساؤل عن العلاقة بين النظام البطريركي والرأسمالية وما العلاقة بينهما.

خط سير المسألة

 خلال فترة قصيرة ما بين السبعينيات ومنتصف الثمانينيات، شكلت مسألة العلاقة البنيوية بين النظام البطريركي والرأسمالية موضوع نقاش حيوي بين المنظرين والناشطين في التيار النسوي المادي والماركسي (من النسوية الماركسية إلى النسوية المادية ذات الأصل الفرنسي، مرورا بالصيغ المختلفة لما يسمى بـ”النسوية الاشتراكية”؛ النسوية الماركسية أو النسوية المادية الأفريقية-الأميركية الأفريقية، والنسوية المادية المثلية… إلخ). كانت الأسئلة الأساسية المطروحة تدور بشكل أو بآخر حول محورين:

1) هل النظام الأبوي نظام مستقل في علاقته بالرأسمالية؟

2) هل من الصحيح استخدام مصطلح “النظام البطريركي” للإشارة إلى الاضطهاد وعدم المساواة بين الجنسين؟

تراجع هذا النقاش، الذي أثمر بعض الكتابات المثيرة للاهتمام، تدريجيًا مع تدهور نقد الرأسمالية، ومع تأكيد التيارات النسوية نفسها التي إما أنها لا تشكك في الأفق الليبرالي ; أو جعلت من العلاقات بين الذكور والإناث جوهرية وبالتالي أخرجت الجندر من سياقه التاريخي؛ أو تهربت من مسألة الطبقة والرأسمالية بينما مطورةً مفاهيم أثبتت أنها مثمرة للغاية في تفكيك الجندر (خاصة النظرية الكويرية في التسعينيات).

وبالطبع، لا يعني الاضمحلال الاختفاء، وخلال العقود المتعاقبة ، واصل العديد من المنظرين النسويين العمل على هذه القضايا، مع المخاطرة أحيانا بأن يُنظر إليهم على أنهم رجعيون ومخلفات حرب يجري التسامح مع وجودهم. وقد كانوا بالتأكيد على حق في الدأب. بينما نعيش أزمة اقتصادية واجتماعية، فإننا نشهد حاليًا عودة جزئية ولكن مهمة للاهتمام بالعلاقة الهيكلية بين القمع الجنساني والرأسمالية.

في السنوات الأخيرة، لم يكن هناك بالتأكيد نقص في التحليلات التجريبية أو الوصفية لظواهر أو قضايا محددة، مثل تأنيث العمل، أو تأثير السياسات الليبرالية على ظروف معيشة وعمل المرأة، أو تقاطع القمع بين الجنس والعرق والطبقة، أو العلاقة بين مختلف أشكال الهوية الجنسية وأنظمة التراكم الرأسمالي.رغم ذلك، فإن “وصف” ظاهرة أو مجموعة من الظواهر الاجتماعية التي تكون فيها الصلة بين الرأسمالية والقمع الجندري واضحة إلى حد ما. أما أن نقدم تفسيرًا “نظريًا” لسبب تحديد هذه الصلة بين الرأسمالية والقمع الجندري في هذه الظواهر، وكيفية عملها فهو شيء آخر تمامًا. علينا بعد ذلك أن نتساءل عما إذا كان هناك “مبدأ منظم” لهذا الرابط.

من أجل الإيجاز والوضوح، سأحاول تلخيص الفرضيات الأكثر إثارة للاهتمام التي تم اقتراحها حتى الآن. في “التفكير الجنساني” التالي، سأقوم بتحليل هذه الفرضيات المختلفة وطرح الأسئلة حولها بشكل منفصل. وتوخياً للأمانة الفكرية وتجنباً لسوء الفهم، أود أن أوضح على الفور أن إعادة بنائي لوجهات النظر المختلفة ليست محايدة. في الواقع يمكن تلخيص وجهة نظري بالفرضية 3 أدناه.

ثلاث فرضيات

الفرضية الأولى هي “نظرية النظم المزدوجة أو الثلاثية”. ويمكن تلخيص الرؤية الأصلية لهذه الفرضية على النحو التالي: تشكل العلاقات بين الجنسين والعلاقات الجنسية نظاماً مستقلاً ذاتياً يرتبط بالرأسمالية ويمتزج بها، ويعيد تشكيل العلاقات الطبقية، ولكنه هو نفسه يتعدل في علاقة تأثير وتفاعل متبادل. وتشمل أحدث نسخة من هذه النظرية أيضًا العلاقات العرقية، التي يُنظر إليها أيضًا على أنها نظام مستقل من العلاقات الاجتماعية المتداخلة مع العلاقات بين الجنسين والعلاقات الطبقية.

وضمن النسوية المادية، تقترن هذه الاعتبارات بأخرى تتعلق بالعلاقات بين الجنسين والعلاقات العرقية، والتي يُنظر إليها كنظم لعلاقات القهر وكذلك علاقات الاستغلال. وبوجه عام، تفهم هذه الفرضيات العلاقات الطبقية من منظور اقتصادي في جوهره: فالتفاعل بين النظام البطريركي ونظام الهيمنة العرقية هو الذي يعطيها طابعًا يتجاوز الاستغلال الاقتصادي الأساسي. ومن أشكال هذه الفرضية تلك التي ترى العلاقات بين الجنسين كنظام من العلاقات الثقافية والأيديولوجية المستمدة من أنماط الإنتاج والتشكيلات الاجتماعية التي تسبق الرأسمالية ومستقلة عنها، والتي تتدخل في العلاقات الرأسمالية بإعطائها بعدًا جندريًا.

الفرضية الثانية: “الرأسمالية غير المكثرتة”. يشكل الاضطهاد  واللامساواة بين الجنسين بقايا تشكيلات اجتماعية وأنماط إنتاج سابقة، حيث كان النظام البطريركي ينظم الإنتاج بشكل مباشر ويحدد تقسيمًا جندريًا صارمًا للعمل. فالرأسمالية في حد ذاتها غير مبالية بالعلاقات بين الجنسين ويمكنها الاستغناء عنها، لدرجة أن الرأسمالية نفسها هي التي حلت النظام البطريركي في البلدان الرأسمالية المتقدمة وأعادت هيكلة العلاقات الأسرية بشكل جذري. بشكل عام، للرأسمالية علاقة هيكلية أساسية مع عدم المساواة بين الجنسين: فهي تستخدمها حيثما كانت مفيدة، وتضعها في أزمة حيثما كانت عقبة.

لوجهة النظر هذه عدة تنويعات. يمكننا أن ننتقل من أولئك الذين يؤكدون أن المرأة شهدت تحررًا داخل الرأسمالية لم يسبق له مثيل بالنسبة لأنواع أخرى من المجتمعات، وهو ما من شأنه أن يثبت أن الرأسمالية لا تمثل عقبة هيكلية أمام تحرير المرأة، إلى أولئك الذين يؤكدون، على العكس من ذلك، أننا بحاجة إلى التمييز بشكل صحيح بين المستويين المنطقي والتاريخي للتحليل. من وجهة نظر منطقية، يمكن للرأسمالية أن تستغني بسهولة عن عدم المساواة بين الجنسين، ولكن إذا انتقلنا من التجارب النظرية إلى الواقع التاريخي، فإن الأمر ليس كذلك بالضبط.

الفرضية الثالثة: “النظرية الوحدوية”. وفقًا لهذه النظرية، لم يعد هناك نظام بطريركي مستقل عن الرأسمالية في البلدان الرأسمالية. لكن الحديث عن العلاقات البطريركية التي تستمر في الوجود دون أن تشكل نظاماً مستقلاً بذاته أمر آخر. ومع ذلك، فإن إنكار كون النظام البطريركي نظامًا في البلدان الرأسمالية لا يعني إنكار وجود الاضطهاد الجندري وأنه نابع من العلاقات الاجتماعية والشخصية ككل. كما أنه لا يعني اختزال أي جانب من جوانب هذا الاضطهاد إلى نتيجة ميكانيكية ومباشرة للرأسمالية، أو تفسيره بمصطلحات اقتصادية بحتة.

باختصار، وهذا ليس بأي حال من الأحوال اختزاليًا أو اقتصاديًا أو التقليل من مركزية الاضطهاد الجندري. بل  يتعلق الأمر بتطوير تعريفاته والمفاهيم التي يستخدمها هذا الاضطهاد، وعدم تبسيط ما هو بطبيعته معقد. على وجه الخصوص، رفضت المُنظّرات اللاتي حاولن تطوير النظرية الوحدوية فكرة أن النظام البطريركي اليوم هو نظام ذو قواعد عمل مستقلة وآليات إعادة إنتاج. وفي الوقت نفسه، أصررن على ضرورة النظر إلى الرأسمالية ليس كمجموعة من القوانين والآليات الاقتصادية البحتة، بل كنظام اجتماعي معقد ومفصّل، يحتوي في داخله على علاقات استغلال وهيمنة واغتراب.

من وجهة النظر هذه، تتمثل المحاولة  في فهم كيفية استمرار ديناميكيات التراكم الرأسمالي في إنتاج وإعادة إنتاج وتحويل وتجديد والحفاظ على علاقات التراتبية والاضطهاد دون ترجمة هذه الآليات إلى مصطلحات اقتصادية بحتة وتلقائية.

التفكير الجنساني (2): نظام واحد أو نظامان أو ثلاثة؟
كتبت كريستين دلفي في العام 1970، مقالة قصيرة جدا بعنوان « العدو الرئيس L’ennemi principal»، نظّرت فيها لوجود نمط إنتاج أبوي وعلاقته وعدم تطابقه مع نمط الإنتاج الرأسمالي. عرّفت ربات البيوت كطبقة، بالمعنى الاقتصادي للمصطلح.
بعد تسع سنوات، نشرت هايدي هارتمان Heidi Hartmann مقالًة بعنوان «الزواج غير السعيد بين الماركسية والنسوية»، دعمت فيه أطروحة بأن النظام الأبوي والرأسمالية نظامان مستقلان ولكنهما متشابكان تاريخيًا. من وجهة نظرها، كانت قوانين التراكم الرأسمالي غير مراعية لجنس قوة العمل، وبينما كانت الرأسمالية بحاجة إلى خلق علاقات هرمية في تقسيم العمل، كانت العنصرية والأبوية هي التي تحدد من يجب أن يشغل المناصب الهرمية وبأي طريقة.
عُرفت هذه الفرضية باسم «نظرية النظم المزدوجة». اقترحت سيلفيا والبي Sylvia Walby في العام 1990، في كتابها « Theorizing Patriarchy « إعادة صياغة نظرية النظامين هذه بإضافة نظام ثالث، وهو النظام العنصري واقترحت اعتبار النظام الأبوي نظامًا متغيرًا للعلاقات الاجتماعية مكونًا من ست هياكل: نمط الإنتاج الأبوي والعلاقات الأبوية بين العمل المأجور والأجر والعلاقات الأبوية في الدولة والعنف الذكوري والعلاقات الأبوية في الجنسانية والعلاقات الأبوية في المؤسسات الثقافية. هذه الهياكل الستة تكَّمل بعضها بعضًا بينما تبقى مستقلة بذاتها؛ بالإضافة إلى ذلك، قد تكون عامة أو خاصة. ومؤخرًا، اقترحت دانييل كيرغوا Danièle Kergoat نظرية عن جوهر العلاقات الأبوية والطبقية والعرقية: إنها ثلاثة أنظمة من العلاقات القائمة على الاستغلال والهيمنة تتقاطع وتتشارك في الجوهر نفسه (الاستغلال والهيمنة)، ولكنها في الوقت نفسه متمايزة مثل الأجزاء الثلاثة للثالوث المسيحي.
لا يوجد تعريف قاطع
هذا المسح الموجز للمؤلفين والمقالات ما هو إلا مثال واحد فقط على الطرق المختلفة التي جرى من خلالها التنظير للتقاطع بين النظام الأبوي والنظام الرأسمالي، وما يميز أحدهما عن الآخر. هناك أمثلة أخرى، ولكنني مضطرة إلى الاقتصار على حصر هذه الأمثلة، وهي أيضًا الأوضح وأكثرها منهجية وتعقيدًا. كما سبق أن أتيحت لي الفرصة للإشارة إلى أن الصعوبة في هذا النقاش تتعلق بتعريف النظام الأبوي. لا يوجد تعريف قاطع، بل هناك مجموعة من المقترحات، بعضها متوافق مع بعضها البعض وبعضها الآخر متناقض. بما أنني لا أستطيع تحليلها جميعًا، أقترح في الوقت الحالي العمل على مفهوم النظام الأبوي الذي يُفهم على أنه نظام علاقات، مادية وثقافية على حد سواء، من الهيمنة والاستغلال للمرأة من قبل الرجل. إنه نظام له منطقه الخاص، لكنه نظام قابل للتغيير التاريخي، مرتبط باستمرار بالرأسمالية.
قبل تحليل المشاكل التي تثيرها هذه المقاربة النظرية، علينا أن نعرّف الاستغلال ونضع بعض الفروق. من وجهة نظر العلاقات الطبقية، يُعرّف الاستغلال بأنه عملية أو آلية مصادرة الفائض الذي تنتجه طبقة عاملة لصالح طبقة عاملة أخرى. وهذا يمكن أن يحدث إما من خلال آليات تلقائية مثل الأجور، أو من خلال المصادرة العنيفة لمنتوج عمل الآخرين – كما كان الحال مع السخرة التي أجبر عليها الأقنان من قبل أسيادهم الإقطاعيين الذين فرضوها بالسلطة ووسائل الإكراه العنيفة. إن الاستغلال الرأسمالي، بالمعنى الماركسي للمصطلح، هو شكل محدد من أشكال الاستغلال الذي يتمثل في ابتزاز فائض القيمة التي ينتجها العامل لصالح الرأسمالي. بصفة عامة، لكي نتمكن من الحديث عن الاستغلال الرأسمالي يجب أن نكون في مجال إنتاج السلع، والعمل المجرد، ووقت العمل الضروري اجتماعياً، والقيمة وشكل الأجر.
من الواضح أنني أترك جانبًا هنا فرضيات أخرى، مثل الفرضية القائمة على الدمج (الدمج يعني علاقة تراتبية بين المفاهيم، في منطق الوصف. هذا المفهوم قريب من العلاقة «المتضمنة بـ» في المنطق الكلاسيكي. ملاحظة المترجم) للمجتمع ككل، والتي دافع عنها التقليد العمالي وما بعد العمالي. يتطلب الأمر مقالاً آخر من أجل معالجة هذا الموضوع وعواقب مراعاة العلاقات بين الجنسين. باختصار: بالنسبة لماركس، فإن ابتزاز فائض القيمة هو سر رأس المال، بمعنى أنه أصل الثروة الاجتماعية المنتجة وآليات توزيعها.
إن الاستغلال بمعنى ابتزاز فائض القيمة ليس الشكل الوحيد للاستغلال الموجود داخل المجتمع الرأسمالي: ببساطة، يمكننا القول أن الموظف في قطاع غير منتج (من حيث القيمة) هو أيضا مستغَل ضمن معنى ابتزاز فائض القيمة. وقد يكون أجر ومعيشة وظروف عمل بائع/ة المتجر أسوأ من ظروف عمل عامل المصنع. علاوة على ذلك، وبعيداً عن مراوغات ونقاشات الماضي الاقتصادية، من المهم أن نحدد أنه من وجهة نظر عمليات التخصيص السياسي، فإن التمييز بين العمال المنتجين وغير المنتجين (بمعنى إنتاج القيمة أو فائض القيمة) غير ذي فائدة. وإذا كان هناك أي شيء، فإن آليات وأشكال تنظيم وتقسيم عملية العمل أكثر أهمية.
لنعد الآن إلى نظرية النظامين ومشكلة النظام الأبوي.
المشكلة الأولى
إذا عرّفنا النظام الأبوي على أنه نظام استغلال، يترتب على ذلك أن هناك طبقة مستغِلة وطبقة مستغَلة، أو بعبارة أدق طبقة مُصَادِرة وطبقة مُصَادَرة. من إذن يشكل هاتين الطبقتين؟ قد تكون الإجابات: كل النساء وكل الرجال، أو بعض النساء وبعض الرجال فقط (مثلا، في الحالة التي ذكرتها كريستين دلفي، ربات البيوت والأفراد الذكور البالغين من عائلاتهن). إذا كنا نتحدث عن النظام الأبوي كنظام للاستغلال في المجال «العام»، فيمكننا أن نطرح فرضية أن المستغِل أو المُصَادِر هو الدولة. لقد طبقت «النسويات العمالية» مفهوم الاستغلال الرأسمالي للعمل المنزلي، لكن لا يمكن أخذ موقفهن في سياق هذا المقال لأنه، وفقًا لهن، المصادرة الحقيقية للعمل المنزلي هي رأس المال، ما يعني في الواقع أن النظام الأبوي ليس نظامًا مستقلًا للاستغلال.
لكن في حالة أعمال كريسين دلفي، فإن الفرضية القائلة بأن ربات البيوت يشكلن طبقة وأقربائهن الذكور (خاصة الأزواج) هم الطبقة المستغِلة لا يتم التعبير عنها بشكل كامل فحسب، بل يجري أخذها إلى أقصى نتائجها. فمن الناحية المنطقية، يعني ذلك أن ربة منزل العامل المهاجر تنتمي إلى نفس الطبقة الاجتماعية التي تنتمي إليها زوجة برلسكوني Berlusconi السابقة، فيرونيكا لاريو Veronica Lario : فكلاهما أنتجت قيم الاستعمال (في حالة واحدة، عمل الرعاية الخالص والبسيط، وفي الحالة الأخرى عمل «لتمثيل» وضع اجتماعي معين، من خلال تنظيم حفلات الاستقبال مثلا) وفعلت ذلك في علاقة استغلال خادم، أي من خلال تقديم عملها مقابل إعالة الزوج لها ماليًا.

التفكير الجنساني؛ البطريركية و/أو الرأسمالية: لنُعِدْ فتح النقاش
الجزء 3
تُصرّ دلفي في رواية «L’ennemi principal» على أن الانتماء إلى الطبقة الأبوية يجب أن يكون أكثر أهمية من الانتماء إلى الطبقة الرأسمالية. لذا، فإن التضامن بين فيرونيكا لاريو Veronica Larioوزوجة العامل المهاجر يجب أن يكون له الأسبقية على التضامن الطبقي بين زوجة العامل المهاجر وزوجها أو أعضاء آخرين من طبقة زوجها (أو، وهذا أكثر تفاؤلاً من أي شيء آخر، يجب أن يكون له الأسبقية على التضامن الطبقي بين Veronica Lario وأصدقائها في نادي الغولف). في النهاية، كانت الممارسة السياسية لدلفي في تناقض واضح مع النتائج المنطقية لنظريتها، وهو ما يسلط الضوء على حدودها التحليلية.
بالإضافة إلى ذلك، إذا ما عرّفنا الرجل والمرأة (في نسخة أو أخرى) على أنهما طبقتان من المستغلَين والمستغلِين، فلا بد أن نصل إلى استنتاج مفاده أننا أمام تضاد بين الطبقات لا يمكن التوفيق بينهما والتي تتناقض مصالحها بشكل متبادل. ولكن هل علينا بالتالي أن ننكر أن الرجال يستفيدون من عمل المرأة غير المأجور؟ كلا، لأن ذلك سيكون خطأ متماثلًا يرتكبه للأسف العديد من الماركسيين الذين أخذوا المنطق إلى نقيضه. من الواضح أن وجود شخص يطبخ لكِ وجبة ساخنة في المساء هو ميزة وأكثر عملية من الاضطرار إلى إخراج الطنجرات والمقالي بعد يوم عمل. لذلك من «الطبيعي» أن يميل الرجال إلى التمسك بهذا الامتياز. باختصار، لا يمكن إنكار أن هناك علاقات هيمنة وتراتبية اجتماعية قائمة على أساس الجنس، وأن الرجال، بما في ذلك المنتمين إلى الطبقات الدنيا، يستفيدون منها.
رغم ذلك، هذا لا يعني تلقائيًا أن هناك عداء طبقي. يمكننا أن نعمل على فرضية أخرى: في المجتمع الرأسمالي، تحدد «الخوصصة» الكاملة أو الجزئية لأعمال الرعاية، أي تركزها داخل الأسرة (مهما كانت طبيعة الأسرة، بما في ذلك الأسر ذات العائل الواحد)، وغياب التنشئة الاجتماعية الواسعة النطاق لأعمال الرعاية هذه، من خلال الدولة الاجتماعية أو بأشكال أخرى، كل ذلك يحدد عبء العمل الذي يجب أن يقدم داخل المجال الخاص، خارج السوق وخارج المؤسسات. تحدد علاقات الهيمنة والاضطهاد بين الجنسين الطريقة والنسب التي سيجري بها توزيع عبء العمل هذا، مما يؤدي إلى توزيع غير متساو: تعمل النساء أكثر ويعمل الرجال أقل. لكن هذا لا يعني وجود «فائض».
هل هناك أي دليل معاكس؟ كل ما علينا فعله هو إجراء تجربة فكرية صغيرة. لن يخسر الرجل الذكوري المناوب في نهاية المطاف شيئًا من حيث توزيع عبء العمل إذا كانت أعمال الرعاية اجتماعية بالكامل بدلًا من أن تقوم بها زوجته. لذلك، من الناحية الهيكلية، لا توجد مصالح متضادة أو متعارضة على المدى الطويل. بالطبع، هذا لا يعني أنه مدرك لذلك؛ فربما يكون قد اندمج في الثقافة المتحيزة ضد المرأة إلى حد أنه قد طور نوعًا من النرجسية الحادة القائمة على فكرة تفوقه الذكوري المفترض، ما يدفعه بطبيعة الحال إلى معارضة أي محاولة لإضفاء الطابع الاجتماعي على أعمال الرعاية أو تحرير زوجته. أما الرأسمالي، بالمقابل، لديه ما يخسره إذا ما تم إضفاء الطابع الاجتماعي على وسائل الإنتاج، والأمر لا يتعلق فقط بقناعاته حول الطريقة التي يعمل بها العالم ومكانته فيه، بل يتعلق أيضًا بالنهب الذي استولى عليه بسعادة من البروليتاريين.
المشكلة الثانية
تتمثل الإشكالية الثانية في أن العلاقات الأبوية تشكل اليوم نظاماً مستقلاً داخل المجتمع الرأسمالي المتقدم، وهو ما يطرح السؤال الشائك في تبرير القوة الدافعة لها: لماذا يعيد هذا النظام إنتاج نفسه باستمرار؟ لماذا يستمر؟ إذا كان نظامًا مستقلًا، فلا بد أن يكون السبب داخليًا وليس خارجيًا. فالرأسمالية، مثلا، هي نمط إنتاج ونظام علاقات اجتماعية، يمكن تحديد منطقها والاعتراف به: وفقًا لماركس، هي عملية تثمين للقيمة. وبالطبع، فإن تحديد القوة الدافعة وراء عملية تثمين القيمة لا يعني أننا قلنا كل ما يمكن قوله عن الرأسمالية. سيكون ذلك مثل الادعاء بأن شرح تشريح القلب وكيفية عمله يكفي لشرح تشريح جسم الإنسان. إن الرأسمالية مجموعة معقدة من الأشياء. رغم ذلك، يبدو لي أن فهم القلب وكيفية عمله ضرورة تحليلية أساسية.
حيثما تلعب العلاقات الأبوية دورًا مباشرًا في تنظيم علاقات الإنتاج (من ينتج، وكيف، ومن يستحوذ على ماذا، وكيف يتم تنظيم إعادة إنتاج شروط الإنتاج، إلخ) من السهل إلى حد ما تحديد القوة الدافعة وراء النظام الأبوي. هذا هو الحال، مثلا، في المجتمعات الزراعية، حيث تشكل الأسرة الأبوية بشكل مباشر الوحدة الأساسية للإنتاج. لكن الأمر أكثر تعقيدًا في المجتمع الرأسمالي، حيث لا تقوم العلاقات الأبوية بتنظيم الإنتاج بشكل مباشر، على الرغم من أنها تلعب دورًا في تقسيم العمل، وحيث جرى إقصاء الأسرة إلى المجال الخاص وإعادة الإنتاج.
عند هذه النقطة، إما أن نفعل ما تفعله دلفي والعديد من الماديات النسويات: نحدد في النظام الأبوي المعاصر نمطًا محددًا للإنتاج أو على الأقل مجموعة من علاقات الاستغلال، ولكننا نعود إلى المشكلة الأولى التي سبق أن ذكرناها. فيما عدا ذلك، هناك خيارات قليلة متاحة.
إحدى الفرضيات التي جرى طرحها في الماضي هي أن النظام الأبوي هو نظام أيديولوجي مستقل، تكمن قوته الدافعة في عملية إنتاج الدلالات والتفسيرات للعالم. ولكننا هنا نواجه مشاكل أخرى: إذا كانت الأيديولوجيا هي الطريقة التي نفسر بها ظروف وجودنا وعلاقتنا بها، فلا بد أن يكون هناك رابط بين الأيديولوجيا وظروف الوجود الاجتماعية. رابط ليس بالتأكيد ميكانيكيًا أو آليًا أو أحادي الاتجاه. لكن يجب أن يكون نوعًا معينًا من الارتباط، وإلا فإننا نخاطر بأن يكون لدينا مفهومًا صنمياً وتاريخياً للثقافة والأيديولوجيا. الآن، يبدو لي أن حقيقة فهم النظام الأبوي كنظام أيديولوجي وإعادة إنتاجه الذاتي باستمرار، رغم التغييرات المذهلة التي أدخلتها الرأسمالية على الحياة والعلاقات الاجتماعية خلال القرنين الأخيرين على الأقل، تبدو لي غير مقنعة. الفرضية الأخرى هي أن القوة الدافعة يمكن أن تكون سيكولوجية، لكنها في هذه الحالة أيضًا قد تؤدي إلى تصور صنمي، وتاريخي للنفس البشرية.

التفكير الجنساني. البطريركية و/أو الرأسمالية: لنعيد فتح النقاش
الحلقة 4
العرق والطبقة

في كتابها الرائع «النساء والعرق والطبقة»، توضح أنجيلا ديفيس الطريقة التي أدى بها تدمير الأسرة وجميع علاقات القرابة بين العبيد الأمريكيين من أصل أفريقي، بالإضافة إلى الشكل المحدد لعمل العبيد، إلى التغلب بشكل كبير على علاقات القوة بين العبيد على أساس النوع الاجتماعي. هذا لا يعني أن النساء العبيد لم يعانين من اضطهاد محدد كنساء، بل على العكس: إنهن يعانينه بالفعل، ولكن من مالكي العبيد البيض، وليس من زملائهن العبيد. بعبارة أخرى، يرتبط استمرار العلاقات بين الجنسين وصياغتها ارتباطًا وثيقًا بالظروف الاجتماعية والعلاقات الطبقية وعلاقات الإنتاج وإعادة الإنتاج. لا يمكن للنظرة العابرة للتاريخ والمجردة لقمع النساء أن تأخذ في الحسبان هذه المفاصل والاختلافات المهمة، ولا يمكنها تفسيرها.
كما كتبت أعلاه، لم تعد علاقات القوة بين الجنسين تشكل نظامًا مستقلًا في البلدان التي حلّ فيها نمط الإنتاج الرأسمالي محل نمط الإنتاج السابق ما أدى إلى تحول جذري في الأسرة ودورها.
لا ينطبق هذا بالطبع على البلدان التي لم يتحول هيكل إنتاجها بالكامل في الاتجاه الرأسمالي والتي لا تزال على هامش الاقتصاد الرأسمالي العالمي. في الواقع، تتعايش داخل هذه الأخيرة مجتمعات لا تزال إلى حد كبير «ما قبل رأسمالية». شدد كلود ميلاسو Claude Meillassoux على استمرار «نمط الإنتاج المحلي» في مختلف البلدان الأفريقية، حيث ظلت عملية البلترة (أي فصل الفلاحين عن أراضيهم) محدودة إلى حد ما. لكن علينا هنا أن نتفق على ما نعنيه بـ «ما قبل الرأسمالية».
في الواقع، حتى في الأماكن التي جرى فيها الحفاظ على نمط الإنتاج المحلي، فإن هذا الأخير يخضع للضغط الذي يمارسه اندماج البلد في النظام الرأسمالي العالمي. إن آثار الاستعمار، والإمبريالية، ونهب الموارد الطبيعية من قبل البلدان الرأسمالية المتقدمة، والضغوط الموضوعية التي يمارسها اقتصاد السوق العالمي، إلخ…، لها تأثير بليغ على العلاقات الاجتماعية والأسرية التي تنظم إنتاج الموارد وتوزيعها، وغالبًا ما تؤدي إلى تفاقم استغلال المرأة والعنف القائم على النوع الاجتماعي.
كلٌّ متناقض
لنعد الآن إلى البلدان الرأسمالية المتقدمة. يشكل اعتراض النسوية الماركسية باختزالية الأطروحة القائلة بأن النظام الأبوي ليس نظاما مستقلا من الاعتراضات التقليدية، في الأساس. بعبارة أخرى، إنها تحاول اختزال التعقيد التعددي للمنطق الاجتماعي والاقتصادي دون أن تأخذ في الحسبان عدم قابلية علاقات القوة للاختزال. لكن هذا الاعتراض لن يكون منطقيًا إلا بشرطين: الأول هو اعتبار الرأسمالية مجرد عملية اقتصادية بحتة لاغتصاب فائض القيمة وأيضا مجموعة القواعد الاقتصادية التي تحددها؛ والثاني هو اعتبار علاقات القوة نتيجة ميكانيكية وتلقائية لعملية نهب فائض القيمة. الحقيقة أن الماركسية الأرثوذكسية والمبتذلة هي وحدها التي يمكن أن تقترح هذا النوع من الاختزال، الذي لا يتوافق مع ثراء وتعقيد فكر ماركس، بل ولا يتوافق مع البراعة الاستثنائية لجزء كبير من التقليد النظري الماركسي.
كما قلت في الفقرة السابقة، إن التفكير في شرح ماهية المجتمع الرأسمالي فقط من حيث ابتزاز فائض القيمة عند نقطة الإنتاج يشبه محاولة شرح تشريح جسم الإنسان من خلال الاقتصار على وصف القلب.
إن الرأسمالية كيان متناقض ومتنوع ومتغير باستمرار، وتتحول علاقات الاستغلال والهيمنة والتغريب فيه باستمرار. رغم أن ماركس في الكتاب الأول من «رأس المال» يعزو طابعًا تلقائيًا ظاهريًا لتثمين القيمة – وهي عملية تكون فيها القيمة هي الموضوع حقًا، بينما يجري اختزال الرأسماليين والأفراد إلى أدوار المبعوثين – إلا أن «السيد رأس المال» لا وجود له في الحقيقة، إلا كفئة منطقية. عليك أن تصل إلى الكتاب الثالث من «رأس المال» لتدرك ذلك. فالرأسمالية ليست مولوخًا Moloch أو إلهًا خفيًا أو محركًا للعرائس أو آلة، بل هي مجموعة حية من العلاقات الاجتماعية التي ترسم العلاقات الطبقية في إطارها خطوطًا وتضع حدودًا تنعكس على جميع أشكال العلاقات الأخرى. من بين هذه العلاقات نجد أيضًا علاقات القوة المرتبطة بالنوع الاجتماعي والتوجه الجنسي و»العرق» والجنسية والدين، وكلها توضع في خدمة تراكم رأس المال وإعادة إنتاجه، وغالبًا بطرق متناقضة وغير متماسكة  ومتغيرة.
التفكير الجنساني (3): هل الرأسمالية «غير مبالية» باضطهاد المرأة؟
من أكثر الآراء شيوعًا التي يتبناها المنظرون الماركسيون أن اضطهاد النوع هو أمر غير ضروري للاضطهاد الذي يمارسه رأس المال. هذا لا يعني أن الرأسمالية لا تستخدم وتستفيد من عدم المساواة بين الجنسين التي أنتجتها التكوينات الاجتماعية السابقة. لكنها علاقة انتهازية وطارئة. في الواقع، لا حاجة حقيقية للرأسمالية للاستفادة من الاضطهاد الجندري بشكل محدد، وقد حققت النساء بالفعل مستوى من الحرية والتحرر في ظل الرأسمالية لم يسبق له مثيل في العصور التاريخية. باختصار، لا توجد علاقة تعارض بين تحرير المرأة والرأسمالية.
ينظر إلى وجهة النظر هذه بتأييد كبير بين المنظرين الماركسيين من أكثر المدارس تنوعًا لدرجة أنه يجدر بنا تحليلها من وجهة نظر مقال كتبته واحدة من أكثر المحللين الماركسيين إثارة للاهتمام وذكاءً في العقود الأخيرة، تمثل إيلين ميكسينز وود Ellen Meiksins Wood ، التي تمثل مع روبرت برينر Robert Brenner ما يشار إليه على نحو متكرر بـ»مدرسة الماركسية السياسية» (أي الاتجاه المناهض للحتمية داخل الماركسية الذي يفضل الصراع الطبقي على التناقض بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج كمفتاح لتفسير الانتقال من نمط إنتاج إلى آخر).
في مقال بعنوان «الرأسمالية والتحرر الإنساني: العرق والجنس والديمقراطية» (في «المشروع النسوي الاشتراكي»، تنسيق نانسي هولمستروم Nancy Holmstrom ، 2002)، تبدأ ميكسينز وود بشرح الاختلافات الأساسية بين الرأسمالية وأنماط الإنتاج السابقة. وفقا لها لا ترتبط الرأسمالية جوهريًا بالهوية وعدم المساواة والاختلافات غير الاقتصادية والقانونية والسياسية. بل على العكس من ذلك، يجري اغتصاب فائض القيمة في إطار علاقة بين أفراد أحرار ومتساوين من الناحية الشكلية ودون اعتبار للاختلافات في الوضع القانوني والسياسي. وبالتالي، فإن الرأسمالية لا تميل هيكليًا إلى خلق تفاوتات بين الجنسين، بل إن لديها ميلًا طبيعيًا إلى وضع هذه الاختلافات موضع تساؤل وتمييع الهويات الجنسانية و»العرقية».

التفكير الجنساني. البطريركية و/أو الرأسمالية: لنعد فتح النقاش

بقلم، سينزيا أروزا Cinzia Arruzza
الحلقة 6
علاقة انتهازية أم وظيفية؟

علاوة على ذلك، أوجد التطور الرأسمالي الظروف الاجتماعية لنقد هذه التفاوتات والضغط الاجتماعي من أجل تقليصها بشكل لم يسبق له مثيل في فترات تاريخية أخرى – يكفي فقط التفكير في مثال الأدب اليوناني الروماني، الفلسفي والتاريخي على حد سواء، حيث المواقف المنادية بإلغاء العبودية غير موجودة عمليًا، على الرغم من الاستخدام الهائل للعبيد لأغراض إنتاجية.
في الوقت نفسه، تميل الرأسمالية إلى الاستفادة الانتهازية من الاختلافات القائمة الموروثة من المجتمعات السابقة. فهي تستخدم، على سبيل المثال، الاختلافات في «العرق» والجنس لخلق تراتبية بين قطاعات معينة أكثر أو أقل حظًا من الطبقة المستغلة، وتمرير هذه التراتبية على أنها نتيجة للاختلافات الطبيعية، وبالتالي إخفاء الطبيعة الحقيقية لهذه التراتبية وعدم المساواة، وهي أنها نتاج منطق المنافسة الرأسمالية ذاتها.
بالطبع، هذه ليست خطة واعية تتبعها الرأسمالية، بل هي نتاج سلسلة من الممارسات والسياسات التي ترجع إلى حقيقة أن عدم المساواة بين الجنسين و»العرق» هي في الواقع مفيدة من وجهة نظر الرأسماليين. وختامًا، تستخدم الرأسمالية الاضطهاد الجندري كأداة لها، ولكنها تستطيع البقاء بدونه. ومن ناحية أخرى، لا يمكن أن توجد بدون الاستغلال الطبقي.
تجدر الإشارة إلى أن مقال ميسكينز وود هو جزء من سلسلة من الأسئلة الأساسية، وكلها ذات طبيعة سياسية وتدور حول مسألة نوع السلع غير الاقتصادية التي يمكن – ولا يمكن – الحصول عليها في مجتمع رأسمالي (على سبيل المثال، الحفاظ على البيئة في الكوكب).
نقطة الانطلاق لهذا التأمل هي ملاحظة أن تركيز النضالات الاجتماعية قد تحول من المجال الاقتصادي إلى مجال السلع غير الاقتصادية (التحرر الجندري والعرقي، والسلام، والصحة البيئية، والمواطنة، إلخ). وهنا تكمن المشكلة. إذا كنت أقتبس من إطار مقال ميكسينز وود، فليس بحثاً عن قمل في النص، بل لأن مقاله يستند من جهة إلى فصل ضمني واضح (وقابل للنقاش تماماً) بين البنية المنطقية لرأس المال وأبعاده التاريخية، ومن جهة أخرى، لأنه ينتهي إلى الخلط بين المستويات، وبالتالي إعادة إنتاج خلط كلاسيكي شائع للأسف لدى العديد من المنظرين الماركسيين الذين يؤيدون أطروحات هذا المقال. بعبارة أوضح: منذ اللحظة التي نقبل فيها هذا التمييز بين البنية المنطقية لرأس المال وأبعاده التاريخية، يمكننا قبول فكرة أن ابتزاز فائض القيمة يتم في إطار العلاقة بين أفراد أحرار ومتساوين من الناحية الشكلية، دون افتراض وجود اختلافات في الوضع القانوني والسياسي، ولكن فقط على مستوى عالٍ جداً من التجريد، أي على مستوى البنية المنطقية. من وجهة نظر تاريخية ملموسة، تتغير الأمور بشكل جذري. لنتناول هذه المسألة نقطة بنقطة:
1. دعونا نبدأ بحقيقة: لم يوجد قط تشكيل اجتماعي رأسمالي بدون اضطهاد جنسي. وما إذا كانت الرأسمالية، في هذه العملية، قد اقتصرت على استخدام أوجه عدم المساواة الموجودة من قبل، يبقى أمرًا قابلًا للنقاش: فقد ساهم الاستعمار والإمبريالية بشكل كبير في إدخال التسلسل الهرمي الجندري إلى مجتمعات لم تكن موجودة فيها، أو على الأقل بطريقة أكثر دقة.

وقد ترافقت عملية التراكم الرأسمالي مع تجريد النساء من مختلف أشكال الملكية التي كان بإمكانهن الوصول إليها ومن المهن التي كان بإمكانهن ممارستها خلال العصور الوسطى العليا (انظر كتاب سيلفيا فيديريتشي «Le grand Caliban»)؛ ويساهم التعاقب بين عمليات تأنيث العمل ونزع أنوثة العمل في إعادة التشكيل المستمر للعلاقات الأسرية, وقد خلق ذلك أشكالًا جديدة من القمع على أساس النوع الاجتماعي. وقد ساهم تسليع الهوية الجنسية منذ نهاية القرن التاسع عشر في تعزيز مصفوفة الغيرية المعيارية التي كانت لها عواقب قمعية على النساء، وليس عليهن فقط.
يمكننا أن نستمر في ذكر الأمثلة. إن القول بأن النساء لم يحصلن على الحريات الرسمية والحقوق السياسية التي لم يكن من الممكن تصورها سابقًا إلا في ظل الرأسمالية لأن هذا النظام قد خلق الظروف الاجتماعية لعملية التحرر هذه، ليس فقط حقيقة لا تغير الحقائق، بل هي أيضًا حجة مشكوك في صحتها.
يمكن للمرء أن يقول الشيء نفسه بالضبط بالنسبة للطبقة العاملة ككل: أنه في ظل الرأسمالية فقط تهيأت الظروف للتحرر السياسي للجماهير من الطبقات الدنيا ولكي تصبح هذه الطبقة ذاتاً سياسية قادرة على انتزاع فتوحات ديمقراطية كبيرة. فماذا يعني هذا إذن؟ هل هذا يدل على أن الرأسمالية يمكن أن تستغني بسهولة عن استغلال الطبقة العاملة؟ لا أعتقد ذلك. إذا كانت النساء قد حققن شيئًا، فذلك لأنهن ناضلن من أجله، ولأن الرأسمالية خلقت الظروف الاجتماعية التي كانت مواتية لولادة الحركات الاجتماعية والسياسية الحديثة العظيمة. ولكن الأمر نفسه ينطبق على الطبقة العاملة.

التفكير الجنساني. البطريركية و/أو الرأسمالية: لنُعـِد فتح النقاش

سينزيا أروزا Cinzia Arruzza

الحلقة 7

2 . علينا أن نميز بين ما هو وظيفي وخاص بالرأسمالية وما هو نتيجة ضرورية لها. فالمفهومان مختلفان. ربما يكون من الصعب أن نثبت، على مستوى عالٍ من التجريد، أن الاضطهاد بين الجنسين ضروري لعمل الرأسمالية. صحيح أن التنافس الرأسمالي يخلق باستمرار اختلافات وعدم مساواة، لكن هذه التفاوتات، من وجهة نظر مجردة، ليس بالضرورة أن تكون تفاوتات بين الجنسين. ومن وجهة النظر هذه، إذا قمنا بالتجربة الذهنية المتمثلة في التفكير في رأسمالية «نقية»، نحللها فقط على أساس آلياتها الأساسية، فربما تكون ميكسينز وود Meiksins Wood على حق. رغم ذلك، فإن هذا لا يثبت أن الرأسمالية لن يكون من نتائج عملها الملموس إعادة الإنتاج المستمر للقمع بين الجنسين، وغالبًا بأشكال مختلفة. سأقول المزيد عن هذا الأمر في التأمل الجنساني الرابع، الذي سيتناول مفهوم إعادة الإنتاج الاجتماعية.
3. أخيرًا، دعونا نعود إلى مسألة التمييز بين المستوى التحليلي والمستوى التاريخي. إن ما هو ممكن من وجهة نظر تحليلية بحتة وما يحدث من وجهة نظر تاريخية هما شيئان مختلفان تمامًا. توجد الرأسمالية دائمًا في تشكيلات اجتماعية ملموسة لها تاريخها الخاص. وكما قلت سابقًا، لطالما اتسمت هذه التشكيلات الاجتماعية بوجود مستمر ودائم للقمع الجنساني.
لنفترض الآن، على المستوى النظري تمامًا، أن هذه التسلسلات الهرمية في تقسيمات العمل تمليها أشكال أخرى من عدم المساواة (الطويل والقصير، الكبير والصغير، النحيف والبدين، من يتحدثون لغة هندو أوروبية ضد الآخرين…). يمكننا الافتراض حتى أن الحمل والولادة أصبحا ميكانيكيين بالكامل، وأن مجال العلاقات العاطفية بأكمله يمكن تسليعه وإدارته من قبل الخدمات الخاصة… باختصار، لنفترض كل ذلك. هل هذه رؤية ذات مصداقية تاريخية؟ هل يمكن بسهولة إبدال الاضطهاد الجندري بأنواع أخرى من التراتبية التي من شأنها أن تعمل على نفس القضايا، والتي تبدو طبيعية ومتجذرة في النفس وفي عمليات التكوين الإيحائي؟ يبدو أن الشك في ذلك أكثر من مشروع.
الانطلاق من تحليل تاريخي ملموس
في الختام، وللإجابة عن السؤال حول ما إذا كان التحرر الكامل للمرأة وتحريرها يمكن أن يتحقق في إطار نمط الإنتاج الرأسمالي، يجب البحث عن الإجابة ليس على أعلى مستوى تجريدي لتحليل رأس المال، على العكس، على مستوى التحليل التاريخي الملموس.
هنا يكمن الخطأ، ليس فقط لدى ميسكينز وود، بل أيضاً لدى العديد من الماركسيين المتمسكين بشدة بفكرة التسلسل الهرمي بين الاستغلال (الأساسي) والاضطهاد (الثانوي). إذا أردنا أن نطرح على أنفسنا سؤال الطبيعة السياسية لهذا السؤال ونحاول الإجابة عليه، فعلينا أن نفعل ذلك من خلال تصور تاريخي لماهية الرأسمالية وما كانت عليه. هذه هي إحدى نقاط انطلاق النسوية الماركسية التي يجب أن يلعب فيها مفهوم إعادة الإنتاج الاجتماعي دورًا مركزيًا.
التفكير الجنساني ((4: إعادة التفكير في رأس المال من أجل إعادة التفكير في النوع الاجتماعي
سعيت في «التفكير الجنساني» السابق إلى توضيح حدود «التفكير المجزأ»، ذلك الذي يصور مختلف أنواع القمع والهيمنة دون فهم وحدتها الجوهرية، من خلال اختزال كل وجه من هذه الأوجه إلى نظام مستقل. كما انتقدت أيضًا قراءة العلاقة بين الرأسمالية والقمع الجندري استنادًا إلى ما عرّفته بفكرة «الرأسمالية اللامبالية». حان الوقت الآن لتناول هذه «النظرية الوحدوية» الشهيرة، ومفهوم «إعادة الإنتاج الاجتماعي».
إعادة صياغة مفهوم رأس المال
تنطلق المواقف «الثنائية» غالباً من فكرة أن النقد الماركسي للاقتصاد السياسي يحلل القوانين الاقتصادية البحتة لرأس المال من خلال مقولات اقتصادية بحتة. وبالتالي لن يكون كافياً لفهم الظواهر المعقدة مثل تعدد علاقات القوة أو الممارسات الخطابية التي تشكلنا كذوات. لهذا السبب، تعتبر المقاربات المعرفية البديلة – القادرة على استيعاب أسباب أخرى غير الأسباب الاقتصادية – أكثر ملاءمة لفهم خصوصية هذه العلاقات الاجتماعية وعدم قابليتها للاختزال.
يتقاسم هذه الفرضية طيف واسع من المنظرات النسويات. اقترح البعض منهن أننا بحاجة إلى «تزاوج» أو مزيج إنتقائي من أنواع مختلفة من التحليل النقدي، بعضها مخصص للقوانين الاقتصادية «الخالصة» للتراكم الرأسمالي، والبعض الآخر يشير إلى أشكال أخرى من العلاقات الاجتماعية. اكتفت أخريات بتبني ما يسمى بـ»الانعطاف اللغوي» في النظرية النسوية، وفصلوا نقد القمع الجنساني عن نقد القمع الرأسمالي.
في كلتا الحالتين، الافتراض الشائع هو أن هناك «قوانين اقتصادية خالصة» مستقلة عن علاقات الهيمنة والاغتراب المحددة. هذه الافتراضات بالتحديد هي التي نحتاج حقًا إلى التشكيك فيها. لضيق الحيز المتاح، سأقتصر هنا على تسليط الضوء على جانبين من النقد الماركسي للاقتصاد السياسي.
1. علاقة الاستغلال تنطوي دائمًا على علاقة هيمنة واغتراب
لا تنفصل هذه الجوانب الثلاثة أبدًا في النقد الماركسي للاقتصاد السياسي. فالمرأة العاملة هي أولًا وقبل كل شيء جسدٌ حيٌّ مفكّرٌ خاضعٌ لأشكالٍ محددةٍ من الانضباط الذي يعيد تشكيلها. وكما كتب ماركس، فإن العملية الإنتاجية «تنتج» العاملة بنفس النسب التي تعيد بها إنتاج العلاقة الرأسمالية. بما أن كل عملية إنتاجية هي دائمًا عملية ملموسة، أي تتميز بجوانب محددة تاريخيًا وجغرافيًا، فمن الممكن إدراك أن كل عملية إنتاجية مرتبطة بعملية انضباطية تشكل جزئيًا نوع الذات التي تصبح العاملة جزءًا منها.
يمكن قول الشيء نفسه بالنسبة لاستهلاك السلع؛ فكما أوضح كيفن فلويد Kevin Floyd في تحليله لتكوين الهوية الجنسية، فإن استهلاك السلع له طابع تأديبي ويساهم في إعادة تحديد الهوية الجنسية. وبالتالي فإن هذا الاستهلاك هو جزء من عملية تشكيل الذاتية subjectivité.
2. بالنسبة لماركس، يشكل الإنتاج وإعادة الإنتاج وحدة لا تتجزأ
بعبارة أخرى، بينما يتميز وينفصل كل من الانتاج وإعادة الإنتاج بخصائص محددة، إلا أنهما يتحدان بطريقة ضرورية كلحظات ملموسة لكلٍ مفصلي. تعني «إعادة الإنتاج» هنا عملية إعادة إنتاج المجتمع ككل، أو بعبارة ألثوسرية (Louis Althusser): إعادة إنتاج شروط الإنتاج: التعليم والصناعة الثقافية والكنيسة والشرطة والجيش ونظام الرعاية الصحية والعلم والخطاب الجنساني، والعادات الاستهلاكية… كل هذه الجوانب تلعب دورًا حاسمًا في إعادة إنتاج علاقات إنتاج محددة. يلاحظ ألثوسر في كتابه «الأيديولوجيا وأجهزة الدولة الأيديولوجية» أنه بدون إعادة إنتاج شروط الإنتاج، لن يستمر التكوين الاجتماعي أكثر من عام.
ينبغي عدم النظر إلى العلاقة بين الإنتاج وإعادة الإنتاج بطريقة ميكانيكية أو حتمية. في الواقع، في رأيي أنه على الرغم من أن ماركس يعتبر المجتمع الرأسمالي كلاًّ، إلا أنه لا يعتبره كلاًّ «معبراً». وبعبارة أخرى، لا يوجد «انعكاس» مباشر وتلقائي بين اللحظات المختلفة لهذه الكلية (الفن، الثقافة، البنية الاقتصادية، إلخ)، أو بين لحظة معينة والكلية ككل.
وفي الوقت نفسه، فإن تحليل الرأسمالية دون الأخذ بعين الاعتبار هذه الوحدة بين الإنتاج وإعادة الإنتاج هو الوقوع في المادية المبتذلة أو الاقتصادية. لكن ماركس لا يرتكب هذا الخطأ. كل ما علينا فعله هو أن نقرأ ليس فقط كتاباته السياسية، ولكن أيضًا كتاب «رأس المال» نفسه، مثلا في المقاطع التي تتناول الصراع على يوم العمل أو التراكم البدائي. من الواضح في هذه المقاطع أن الإكراه والتدخل النشط للدولة والصراع الطبقي هي عناصر مكونة لعلاقة الاستغلال التي لا تحددها القوانين الاقتصادية والميكانيكية البحتة. تعمل هذه الملاحظات على التأكيد على حقيقة أن الفكرة القائلة بأن ماركس يدرك الرأسمالية من الناحية الاقتصادية فقط لا يمكن الدفاع عنها. هذا لا يعني أنه لا توجد، أو لم تكن هناك نزعات اختزالية أو مادية مبتذلة داخل التقليد الماركسي. لكن هذا يعني أن هذه النزعات تستند إلى سوء فهم أساسي لطبيعة النقد الماركسي للاقتصاد السياسي وتصور القوانين الاقتصادية كأشياء إحصائية أو هياكل مجردة وليس كأشكال من النشاط البشري أو العلاقات الإنسانية.
أما الفرضية البديلة والمعارِضة فهي أن الفصل بين القوانين الاقتصادية البحتة للرأسمالية وأنظمة الهيمنة الأخرى يرقى إلى تصور الوحدة بين الإنتاج وإعادة الإنتاج من حيث الهوية المباشرة. إن وجهة النظر هذه تميز جزءًا من الفكر النسوي الماركسي، لا سيما ذا الأصل العمالي، الذي أصر على اعتبار العمل الإنجابي منتجًا لفائض القيمة بشكل مباشر، وبالتالي محكومًا بالقوانين نفسها.
ولأسباب تتعلق بالحيز، سأقتصر هنا على إبداء ملاحظة نقدية مفادها أن وجهة نظر من هذا النوع ترقى في رأيي إلى شكل من أشكال الاختزال، الذي يحجب الفرق بين العلاقات الاجتماعية المختلفة ولا يساعد في فهم الخصائص المحددة لعلاقات الهيمنة المختلفة، التي يعاد إنتاجها باستمرار ولكن أيضاً المتحولة، التي نجدها في كل تشكيل اجتماعي رأسمالي.
كما أنه لا يساعدنا، أيضا، على تحليل الطريقة المحددة التي تتم بها بعض علاقات السلطة خارج سوق العمل، بينما تظل موجهة بشكل غير مباشر من قبل نفس السوق: مثلا، من خلال أشكال مختلفة من استهلاك السلع، أو من خلال القيود الموضوعية التي يفرضها العمل المأجور (أو ما يعادله: البطالة) على الحياة الفردية والعلاقات بين الأشخاص.
في الختام، أقترح أن نفكر في النقد الماركسي للرأسمالية كنقد لمجموعة مفصلية ومتناقضة من علاقات الاستغلال والهيمنة والاغتراب.

 

التفكير الجنساني. البطريركية و/أو الرأسمالية: لنعد فتح النقاش

بقلم سينزيا أروزا Cinzia Arruzza

الحلقة الأخيرة

إعادة الإنتاج الاجتماعية و»النظرية الوحدوية»
في ضوء هذا التوضيح المنهجي الموجز، يجب أن ننتقل الآن إلى مسألة ما المقصود بـ»إعادة الإنتاج الاجتماعية» في ما يسمى بـ»النظرية الوحدوية». في إطار التقليد الماركسي، يُستخدم مصطلح «إعادة الإنتاج الاجتماعية» بشكل عام للإشارة، كما ذكرنا سابقًا، إلى عملية إعادة إنتاج المجتمع ككل. لكن في إطار النسوية الماركسية، يشير مصطلح «إعادة الإنتاج الاجتماعية» إلى مجال أكثر تقييدًا: مجال الحفاظ على الحياة وإعادة إنتاجها، على أساس يومي أو بين الأجيال. في هذا السياق، تعني إعادة الإنتاج الاجتماعية طريقة تنظيم العمل البدني والعقلي والعاطفي اللازم لتكاثر السكان داخل المجتمع: من إعداد الطعام إلى تعليم الأطفال، ومن رعاية العجزة والمسنين إلى مسألة السكن والجنس…
يتيح مفهوم إعادة الإنتاج الاجتماعية توسيع الرؤية مقارنةً بمفهوم «العمل المنزلي» السابق الذي ركز عليه جزء لا بأس به من النسوية الماركسية. تشمل إعادة الإنتاج الاجتماعية نطاقًا أوسع من الممارسات الاجتماعية وأنواع العمل من مجرد العمل المنزلي. كما أنه يجعل من الممكن أيضًا توسيع نطاق التحليل إلى ما وراء جدران المنزل، حيث أن عمل إعادة الإنتاج الاجتماعية لا تجري دائمًا بنفس الطريقة: أيًا كان الجزء الذي يوفره السوق أو دولة الرفاه أو العلاقات الأسرية، فإنه يظل مسألة طارئة تعتمد على ديناميكيات تاريخية محددة والتي يشكل نضال المرأة جزءًا أساسيا منها.
من خلال مفهوم إعادة الإنتاج الاجتماعية، مثلا، من الممكن تجسيد الطبيعة «المتحركة» و»سهلة الاختراق» لجدران المنزل بشكل أكثر دقة؛ وبعبارات أخرى، العلاقة بين الحياة داخل جدران المنزل من جهة وظواهر التسليع وجنسنة تقسيم العمل وسياسات دولة الرفاه من جهة أخرى. وعلاوة على ذلك، هناك مسألة أساسية تتمثل في حقيقة أن الحديث عن إعادة الإنتاج الاجتماعية يجعل من الممكن تحليل ظواهر أكثر فعالية مثل العلاقة بين تسليع عمل الرعاية و»عنصريته» من خلال سياسات الهجرة القمعية. تهدف هذه السياسات إلى خفض تكاليف عمل المهاجرين- ات وإجبارهم- هن على قبول ظروف شبه العبودية.
أخيرًا، وهذه هي النقطة المركزية، إن الطريقة التي تعمل بها إعادة الإنتاج الاجتماعية في تشكيل اجتماعي معين ترتبط ارتباطًا جوهريًا بالطريقة التي يجري بها تنظيم إنتاج وإعادة إنتاج المجتمعات ككل، بما في ذلك العلاقات بين الطبقات. بعبارة أخرى، لا يتعلق الأمر بتصور هذه العلاقات على أنها مجرد تقاطعات عرضية وطارئة: بل على العكس، يجعل الحديث عن إعادة الإنتاج الاجتماعية من الممكن تحديد المنطق الذي ينظم هذه التقاطعات، دون استبعاد دور الصراع والظواهر والممارسات الطارئة بشكل عام.
يجب أن نضع في الحسبان أن مجال إعادة الإنتاج الاجتماعية يساهم بشكل حاسم في تشكيل الذاتية، وبالتالي في تشكيل علاقات القوة. إذا أخذنا في الاعتبار العلاقات القائمة في كل مجتمع رأسمالي بين علاقات إعادة الإنتاج الاجتماعية وإعادة إنتاج المجتمع وعلاقات الإنتاج، يمكننا أن نلاحظ أن علاقات الهيمنة والسلطة هذه ليست في مستويات منفصلة أو في بنى منفصلة، فهي ليست متشابكة بطريقة خارجية، ولا تقيم علاقة طارئة فقط مع علاقات الإنتاج.
هكذا تظهر علاقات الهيمنة والسلطة المختلفة كتعبيرات ملموسة لوحدة متناقضة ومفصلية هي وحدة المجتمع الرأسمالي. يجب ألا تُفهم هذه العملية بطريقة ميكانيكية وتلقائية. إن البعد الذي يجب ألا ننساه أبدًا هو، كما قلنا سابقًا، بُعد الممارسة البشرية: الرأسمالية ليست آلة أو إنسان آلي؛ إنها علاقة اجتماعية، وهي على هذا النحو، تخضع للطوارئ والحوادث والصراعات. تستبعد الحوادث والصراعات وجود منطق، منطق التراكم الرأسمالي، الذي يفرض أغلالاً موضوعية، ليس فقط على ممارستنا، على ما نفعله وكيف نختبره، بل أيضًا على المعنى الذي يمكننا إنتاجه وصياغته، أي على الطريقة التي نتصور بها أنفسنا، وعلاقاتنا مع الآخرين، وموقعنا في العالم وعلاقتنا بشروط وجودنا.
هذا هو بالضبط ما تحاول «النظرية الوحدوية» فهمه، أي النظ إلى علاقات القوة القائمة على أساس الجندر أو التوجه الجنسي كلحظات ملموسة في الكل المفصلي والمعقد والمتناقض الذي هو المجتمع الرأسمالي. يتعلق الأمر بالنسبة لها بلحظات لها بدون شك خصائص خاصة ومميزة، بعضها يستدعي تحليلا بأدوات ملائمة وخاصة ( من التحليل النفسي إلى النقد الأدبي) لكنها تُيقي علاقة داخلية مع هذا الكل، وبالتالي مع عملية إعادة إنتاج المجتمع وفق منطق التراكم الرأسمالي.
تتمثل فرضية «النظرية الوحدوية» أساسًا في أن الاضطهاد الجندري والاضطهاد العرقي لم يعودا يطابقان، بنظر النسوية الماركسية، نظامين مستقلين، لكل منهما أسبابه الخاصة؛ بل أصبحا، عبر عملية تاريخية طويلة من تفكك أشكال الحياة الاجتماعية السابقة، جزءًا لا يتجزأ من المجتمع الرأسمالي.
سيكون خطأ، من وجهة النظر هذه، اعتبارهما من مخلفات التشكيلات الاجتماعية السابقة التي لا تزال قائمة داخل المجتمع الرأسمالي لأسباب تتراوح بين رسوخها في النفس البشرية والتضاد بين «الطبقات» المضفى عليها طابع جنسي، إلخ. ليس القصد هنا تقليل شأن البعد النفسي للاضطهاد الجندري والجنسي، أو التناقضات بين ممارسي الاضطهاد وضحاياه. لكن، المقصود تحديد الظروف الاجتماعية وسياق العلاقات الطبقية التي تتيح وتعيد إنتاج وتؤثر على إدراكنا لأنفسنا وعلاقتنا بالآخرين وسلوكنا وممارساتنا.
هذا السياق هو منطق التراكم الرأسمالي الذي يفرض حدودًا وأغلالًا أساسية على تجربتنا وطريقة تفسيرنا لها. إن كون قسم كبير من الحركة النسوية في العقود الأخيرة قد غض الطرف عن تحليل هذه العمليات والدور الحاسم الذي تلعبه الرأسمالية في الاضطهاد الجندري ومتغيراته، لأمر يكشف كثيرا قدرة رأس المال على استمالة أفكارنا والتأثير على طريقة تفكيرنا.

الترجمة الفرنسية لموقع Avanti4.be :سيلفيا نيرينا

شارك المقالة

اقرأ أيضا