2024: الاستبداد يحتفل بالذكرى الستين لتأسيس واجهته البرلمانية

سياسة19 أغسطس، 2024

بعد أسبوع من احتفال الاستبداد وأحزاب البرجوازية (وللأ سف من بوأتهم ظروف لا يتسع هذا النص لتوصيفها قيادةَ المنظمات العمالية) بذكرى استئثار البرجوازية بقيادة نضال الشعب المغربي ضد الاستعمار (ذكرى وثيقة 11 يناير 1944)، احتفل الاستبداد بالذكرى الستين لتأسيس واجهته البرلمانية. وجدير بالذكر أن الذكرى الأولى (11 يناير) هي ما أفضى إلى تكريس الاستبداد، بفعل سعي القوى البرجوازية (الحركة الوطنية) إلى توافق مع الملكية، انتهى باستئثار هذه الأخيرة بالحكم، بعد استئصال كل أشكال المعارضة.
على مدى ثلاثة أيام، تناوب على منصة البرلمان أساتذة جامعيون، احترفوا تمجيد الاستبداد والشهادة له بتفرده الديمقراطي والطابع الاستثنائي للتجربة الديمقراطية المغربية، وهُمْ من يشكل دوما الكتيبة الأيديولوجية التي تتقدم بوعي للتصدي لكل نضال عمالي وشعبي، عبر مبادرات وساطة ونصح الكادحين- ات بالابتعاد عن السياسة، أي تركها للسادة البرجوازيين والمعبرين الفكريين عنهم، وضمنهم هؤلاء الجامعيون ذاتهم.
تعني فرادة وتميز التجربة الديمقراطية بالنسبة للمَلكية وخدامها الأيديولوجيين، تفردها عن الديمقراطية الفعلية التي تعني أساسا إخضاع كل سلطة للانتخاب والمساءلة والعزل، وأن الوثيقة الدستورية يجب أن تكون نتاج مجلس تأسيسي منتَخب بكل ديمقراطية وحرية من قبل الشعب، لا عن آلية المَنح (كما ألفت المَلكية) أو التوافق (كما تنادي قوى معارضة برجوازية ناقصة النزعة الديمقراطية).
كان البرلمانُ مطلبَ الحركات الثورية الكبرى في التاريخ الحديث (إلى جانب الاقتراع السري المباشر)، وبعد أن تمكنت البرجوازية من السلطة وصعدت الحركات الجماهيرية (وعلى رأسها العمالية)، نقلت البرجوازية السلطة من البرلمان إلى خارجه (السلطة التنفيذية، اللجان والخبراء، المؤسسات المالية الدولية… إلخ)، وأضحى معها البرلمان مجرد غرفة تسجيل لما يُملى عليه من خارجه.
ولأن “فرادة” التجربة الديمقراطية المغربية تتميز بإخضاع الديمقراطية للسلطة المطلقة للمؤسسة الملكية، فإن الاحتفال بالذكرى الستين لتأسيس البرلمان جرى تأطيره برسالة ملكية، تحدد بالتفصيل المراد من هذا الاحتفال: “تذكير الأجيال الحالية والصاعدة بالمسار الديمقراطي والمؤسساتي الوطني، وبما راكمه من إصلاحات في إطار التوافق الوطني”؛ أي الاستمرار في عملية خداع الكادحين- ات بأن كل شيء يسير على ما يرام، وفي نفس الوقت مواصلة عملية التضليل التي افتتحتها هيئة الإنصاف والمصالحة من تبرئة الاستبداد من جرائم القمع طيلة نصف قرن، للتمكن من مواصلة الحكم بآليات ناعمة (المؤسسات، دولة القانون، العهد الجديد…)، مع اللجوء دوما إلى عصا القمع عندما يهُب الكادحون- ات للنضال، أو عندما تشق الأقلام عصا الطاعة.
اختصرت الرسالة الملكية ما جرى في تلك الحقبة القاتمة من تاريخ البلد بقول: “رغم التحولات التي عرفتها تلك المرحلة”، والمقصود بتلك التحولات القمع الذي سلَّطته الملكية على أقسام من المعارضة البرجوازية والحركة الماركسية اللينينية من جهة، ومن جهة أخرى القمع الذي ووجه به الكادحون- ات كلما قاموا للنضال (انتفاضة الريف 1958- 1959، 23 مارس 1965، يونيو 1981… إلخ). هكذا أرست المَلكية سلطتها وواجهتها المؤسساتية بالقمع وليس بالتوافق الوطني. عندما يكتب المستبدون المنتصرون التاريخ فهم يكتبونه على مقاسهم، مطاردين ضحاياهم المنهزمين- ات إلى تخوم ذاك التاريخ.
سعي دائم لاحتكار السلطة المطلقة
ورد في الرسالة ما يفيد سعي الملكية الدائم (منذ محمد الخامس) لتمكين البلاد من مجلس وطني استشاري، كلبنة لبناء ديمقراطية تمثيلية. لكن ما وقع أن محمد الخامس تنكَّر لوعده بتشكيل مجلس تأسيسي يضع دستورا ينشئ ملكية دستورية، وكان المجلس الوطني الاستشاري أداة ذلك التنكر. وبعد ذلك تمكن النظام في عهد الحسن الثاني من تمرير دستور 1962 بشتى أساليب القمع والتزوير، بشهادة من كانوا آنذاك ضحايا قمع الملكية، و ممجدين لها حاليا.
كان دستور 1962، وثيقة تثبيت السلطات المُطلقة للملكية في مواجهة معارضة سياسية. أقر الفصل 23 من الدستور قدسية شخص الملك الذي لا تُتنهك حرمته، بينما أقر الفصل 19 سلطته المطلقة التي تتجاوز كل المؤسسات.
حافظ دستور 2011 على نفس الهندسة التي أرساها دستور 1962، مع تغييرات فرضها السياق الثوري وامتداده المحلي في المغرب آنذاك (حراك 20 فبراير)، إذ اضطرت الملكية إلى تعديل الفصل الذي ينص على قدسية شخص الملك، وعوضته بفصل عن واجب التوقير والاحترام للملك الذي لا تُنتهَك حرمته. لكن السلط كلها مركِّزة في يد الملك، حسب الفصل 42: “الملك رئيس الدولة، وممثلها الأسمى، ورمز وحدة الأمة، وضامن دوام الدولة واستمرارها، والحَكَم الأسمى بين مؤسساتها، يسهر على احترام الدستور، وحسن سير المؤسسات الدستورية، وعلى صيانة الاختيار الديمقراطي، وحقوق وحريات المواطنين والمواطنات والجماعات، وعلى احترام التعهدات الدولية للمملكة. الملك هو ضامن استقلال البلاد وحوزة المملكة في دائرة حدودها الحقة. يمارس الملك هذه المهام، بمقتضى ظهائر، من خلال السلطات المخولة له صراحة بنص الدستور”. أمام هذه الترسانة الضخمة من السلطات تتحول المؤسسات كلها (حكومة وبرلمانا) إلى ظلال باهتة لا حول لها وقوة.
حافظ الملك على السلطة الفعلية عبر حكومة ظل من مستشاريه ومعاونيه الخبراء، فيما شكلت الحكومة الرسمية مجرد واجهة. أبقى الدستور الجديد على القوة الاقتصادية للملكية حيث يستأثر الملك بصلاحيات تحديد قائمة الشركات والمؤسسات “الاستراتيجية” وتعيين مديريها ويتمتع مجلس الوزراء الذي يترأسه الملك بصلاحية تقرير “التوجهات الاستراتيجية لسياسات الدولة”، بينما قَنَعَ مجلس الحكومة بالجانب التدبيري والإجرائي. ولخطابات الملك قوة تشريعية مُلزِمة، هي قوة لا يتمتع بها البرنامج الحكومي الذي تصرح به الحكومة عند تنصيبها أمام البرلمان.
ومن آلية حرمان المؤسسات (حكومة وبرلمان) من أي سلطة، بنك المغرب الذي يعين الملك واليه باقتراح من رئيس الحكومة (الفصل 49 من الدستور)، هذا البنك مستقل تماما عن أي رقابة من الحكومة والبرلمان، بمبرر حمايته “ضد أي تدخل غير مشروع أو أي حالة تضارب للمصالح في عملية صنع القرار”!! كما يلجأ الملك إلى اللجان ينزع بها من البرلمان صلاحية التشريع ومن الحكومة سلطة التنفيذ.

أول برلمان في سياق قمعي ومطوَّق بالسلطة المطلقة للملكية
في سياق أول برلمان في تاريخ البلد، شن نظام الحسن الثاني عملية القمع ضد الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، بعد ادعائه أن هذا الحزب يتآمر ضد حكمه، أو ما عُرف بمؤامرة يوليو 1963. جرى اعتقال وتعذيب الكادر التنظيمي للحزب بما فيه برلمانيوه. وبعد ذلك جرى الإفراج على البرلمانيين للمشاركة في جلسات برلمان حدد الحسن الثاني صلاحياته بمناسبة افتتاح دورته الأولى- السنة التشريعية 1963- 1964، فبعد الإشارة إلى أن الدستور حدد بدقة سلطات مؤسسات الدولة بما يجعلها تضمن “استقرار شؤون الدولة وأوضاعها”، وجه تنبيها إلى البرلمانيين: “لهذا فإن من شأن كل اختلال يصيب هذا التوازن أن يعرض الأوضاع، التي يَحسُن بها الاستقرار والاستتباب، إلى القلق والاضطراب، وعلينا أن نثير انتباهكم- حضرات السادة- إلى واجب المحافظة على هذا التوازن، ونحضكم على ملازمة السير في الطريق الذي سنه دستور البلاد… فبإبقائكم على هذا التوازن ومحافظتكم على هذا التعادل، تجلبون للبلاد كل خير، وتجنبونها كل شر وضير”. إنه ليس مجرد تنبيه، بل تحذير. وقد نفذت الملكية ذلك التحذير بإعلان حالة الاستثناء في 7 يونيو 1965، وما وازاها وتلاها من قمع لا تزال آثاره بارزة.
قمعت المَلكية الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، لا لأنه قاد مؤامرة ضدها، بل لأنه ظل مصرا على المطالبة بالوفاء بوعد محمد الخامس الخاص بمجلس تأسيسي يضع دستورا يُنشئ ملكية دستورية، أي كان يطالب ببرلمان كامل الصلاحيات وبدستور يقي المؤسسات من تعسفات القصر.
جعل الحسن الثاني من البرلمان إذن مجالا للثرثرة يضفي واجهة ديمقراطية على استبداد كرسه دستور 1962، ولن نجد أفضل تعبير عن ذلك من ما رواه عبد الواحد الراضي عن أجواء جلسات البرلمان ذاك، عندما استحضر اعتراض علال الفاسي على تحديد المدة الزمنية للتدخل أو السؤال الشفوي: “حين كنا بصدد تبادل الرأي حول تحديد التدخل في ربع ساعة أول أقل أو أكثر، أذكر أن المرحوم علال الفاسي أبدى اعتراضه، داخل اللجنة، على تحديد الزمن، متسائلا عما إذا كنا نريد وضع محددات قانونية لمنع النواب من حقهم في الكلام! وما هي وظيفة البرلماني غير أن نتكلم بحرية ونستغرق الوقت الذي نحتاجه؟”. لقد كانت وظيفة البرلمانيين هي الكلام واستغراق الوقت الذي يحتاجونه في ذلك، وأيضا “غرقا في روتينية جلساته وأعماله” ، على حد تعبير عبد الواحد الراضي، بينما السلطات كلها في مركَّزة بيد المؤسسة الملكية.
بعد هذا يصفو الجو للملكية كي تدعي أن التطور الدستوري بالمغرب أفرز “تعددية حزبية… ومشاريع مجتمعة متنوعة”. فقد أعدمت كل معارضة جذرية، ما جعل تلك التعددية مجرد تنويعات لنفس البرنامج الاقتصادي والاجتماعي الذي تشرف عليه الملكية، بينما لا يزال من يعارضها إما مقصيا من حق الوجود السياسي (بفعل قانون الأحزاب)، أو متعرضا للقمع والتضييق.
من يُفقد البرلمان مصداقيته؟
تحدث النعم ميارة (رئيس مجلس المستشارين)، في إحدى جلسات الاحتفال، عن “جسامة التحديات التي تواجه المؤسسة البرلمانية”، وذكر ضمنها “اللجوء المكثف لشبكات الانترنت ومواقع التواصل الاجتماعي… مع ما يرافق ذلك من تشكيك في مصداقية المؤسسات المنتخَبة، وبالتالي العجز في منسوب الثقة تجاهها”!! مضيفا أن “أزمة الديمقراطية التمثيلية تؤدي إلى تنامي النزعة العدائية للبرلمان”. لكنه يقلب السببَ نتيجةً، فـ”النزعة المعادية للبرلمان” هي التي “تؤدي إلى أزمة الديمقراطية التمثيلية”. وتتجلى النزعة المعادية للبرلمان في الحالة المغربية في استئثار الملكية بكل سلطة التشريع، تاركة للبرلمان فتاتا يتنازع حوله مع حكومة الواجهة.
إلى يومنا هذا، حافظ البرلمان المغربي على المهمة التي أوكلها إياه الحسن الثاني، منذ أول مجلس منتخب له سنة 1963، أي المحافظة على استقرار الدولة، وفي نفس الوقت الإيهام بوجود حياة سياسية عبر “الثرثرة والجلسات الروتينية”، مع ادعاء أن تلك المؤسسة تشهد تطورا وتحسينا.
ورد في الرسالة الملكية: “كانت المؤسسة التشريعية في صلب هذه الإصلاحات المهيكلة… بتوسيع اختصاصاتها…”، واقتفت كل مداخلات الندوات طيلة الأيام الثلاثة من الاحتفال آثار هذا المديح الذاتي.
تحدث أحد المتدخلين، بافتخار، عن تلك الإصلاحات التي عالجت حالات شذوذ في “الدستورانية البرلمانية”، لكن دون امتلاك ذرة شجاعة للحديث عن الشذوذ الأصلي: السلطة الفعلية، أي المؤسسة الملكية، غير معنية بأي شكل بآليات الديمقراطية: الانتخاب والمساءلة والعزل. فكل المؤسسات (حكومة وبرلمان…) مسؤولة أمام الملك، بينما الملك مسؤول أمام نفسه وحده.
البرلمان رغم الصلاحيات التي ادُّعي أنه نالها طيلة تطوره، يحرمه الفصل 52 من دستور 2011 حتى من نقاش خطاب الملك: “للملك أن يخاطب الأمة والبرلمان، ويتلى خطابه أمام كلا المجلسين، ولا يمكن أن يكون مضمونه موضع أي نقاش داخلهما”.
الخطابات الملكية: قوة تشريع قائمة الذات
إلى جانب صلاحية حل مجلسي البرلمان أو أحدهما التي منحها الملك لنفسه بمنطوق الفصل 51 من الدستور، يتحكم الملك في البرلمان وسير أشغاله. ولخطاباته أمام البرلمان قوة التشريع أكثر مما لدى هذه المؤسسة، وتحظى بأهمية دستورية كبيرة؛ إذ يُعتبر الخطاب الملكي الموجَّه للأمة في البرلمان خلال افتتاح الدورة التشريعية الأولى، مرجعا أساسيا للعمل البرلماني أو السياسي على حد سواء، وذلك لما للملك من سلطة توجيهية بمقتضى أحكام الدستور، دون أن يملك البرلمان حق مناقشة تلك الخطابات، وبالتالي فهي ملزِمة للبرلمان ولحكومات الواجهة التي تفرزها الأغلبية البرلمانية.
ما الذي يتبقى إذن للبرلمان من صلاحيات تشريع إذا كانت السلط كلها مركَّزة في يد المؤسسة المَلكية؟
قانون المالية: صلب التشريع خارج سلطة البرلمان
يشكل قانون المالية صلب التشريع لأنه يركز السياسة المالية للدولة ويحدد وجهة صرفها وطريقة تمويلها. وطيلة التاريخ شكلت المالية (خصوصا الضرائب) محور الصراع بين البرلمان والمَلكيات المُطلقة، وأدت إلى اندلاع ثورات (الثورة الفرنسية الكبرى).
ورد في بنود الدستور في ما يخص صلاحيات البرلمان حول قوانين المالية: “يعقد البرلمان جلسات مشتركة بمجلسيه، وعلى وجه الخصوص” من أجل “عرض مشروع قانون المالية السنوي” (الفصل 68)، والفصل 75 حول مسطرة إيداع مشروع قانون المالية لدى البرلمان والمصادقة عليه.
لكن حكومة الواجهة تستأثر بحق التشريع، فهي وحدها التي تمتلك صلاحية تقديم مشروعه [بموجب المادة 46 القانون التنظيمي لقانون المالية رقم 130.13، 2 يونيو 2015].
قيد الدستور عملية التشريع في ما يخص قانون المالية، بطريقة تجعلها كلها خاضعة لـ”السلطة التنفيذية/ حكومة الواجهة”. فالفصل 77 من الدستور يمنح حق فيتو للحكومة لرفض أي مقترح من طرف الفرق البرلمانية، من شأنه أن يؤدي بالنسبة لقانون المالية إلى تخفيض الموارد العمومية، أو إلى إحداث تكليف عمومي أو الزيادة في تكليف موجود. كما فرض على البرلمان أن يحافظ على توازن مالية الدولة. وكلها عبارات متعددة لوصف سياسة التقشف. أما القانون التنظيمي للمالية فقد ألزمت مادته السابعة كل تشريع مالي بأن يحترم “أحكام معاهدات التجارة والاتفاقيات أو الاتفاقات التي تترتب عليها تكاليف تلزم مالية الدولة”.
ولأن مجلس الحكومة الذي يرأسه رئيس الحكومة يأتي في المرتبة الثانية بعد المجلس الوزاري الذي يرأسه الملك (الفصل 49 من دستور 2011)، فإن هذا ينتهي إلى أن كلا السلطتين التشريعية والتنفيذية تقعان في يد الملك وحده لا غيره.
عن المعارضة البرلمانية
في خطاب لمحمد الخامس في أول اجتماع للمجلس الوطني الاستشاري يوم 10 يونيو 1957، حدد وظيفة المعارضة في: “معارضة الحكومة، لكن بكيفية بناءة إيجابية بحيث لا يقتصر على الانتقاد فحسب بل باقتراح سياسة أخرى جديدة متقنة كفيلة بأن تأتي بنتائج محسوسة”، ونبه إلى “أخطار الانتقاد السلبي الذي لا يخلق إلا الأحقاد في النفوس والبلبلة في الأفكار” .
كان همُّ الملكية الأساسي هو أن تكون المعارضة جناحا لها كما هو الحكومة، وقد قدم الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، بعد موجة القمع الشرسة لسنة 1963، مثالا عن ذاك النوع من المعارضة الذي يُطلق عليه “معارضة جلالة الملك” التي تعارض “حكومة جلالة الملك”. فملتمس الرقابة الشهير لسنة 1964، انصب كله على الحكومة، جاعلا من الملكية ودورها الوطني مرجعا لمحاكمة تلك الحكومة. ويحكي عبد الواحد الراضي أن جلسات تقديم ذاك المتلمس كانت تُبثُّ مباشرة على التلفيزيون، “ولما تأكدت الحكومة من رجحان كفة النواب [الاتحاديين] أسرع أحمد العلوي كوزير للأنباء إلى الفريق التقني للتلفزيون ليأمرهم: “سدوا.. سدوا التلفزيون”…. وما إن أغلق الوزير العلوي البث، حتى اتصل الحسن الثاني تلفونيا- كما أشيع آنذاك- وأمره باستئناف البث التلفزيوني. وأعيد البث” .
حافظ الدستور الحالي على نفس الدور للمعارضة، إذ أطر الفصل 10 منه دور المعارضة كالتالي: “يجب على فرق المعارضة المساهمة في العمل البرلماني بكيفية فعالة وبناءة”. وقد سبق أن عوقِب عضو مجلس المستشارين عبد الحق حيسان (الكونفدرالية الديمقراطية للشغل)، بسبب “معارضته غير البناءة” لزيارة وزير الحرب الصهيوني عامير بيريز (8 أكتوبر 2017) .
المبرر الدائم: عجز الشعب الفطري
لتبرير وضع البرلمان هذا، تقدم أساتذة جامعيون بذريعة: “لاعتبارات تقنية أصبحت الحكومة تستأثر بتحضير مشروع قانون المالية” ، ووسع جامعي آخر تلك المبررات لتشمل حقل التشريع كله، وليس فقط قوانين المالية: “ولأسباب تقنية تعود إلى تعقد عملية إعداد مشاريع النصوص التشريعية، فإن ممارسة أعضاء البرلمانات للتشريع انتقلت من مرحلة المبادرة إلى مرحلة التعديل” .
وهكذا يستعير الأساتذة الجامعيون، لتبرير الاستبداد، من التاريخ والخصوصية كون المَلكية ثابتا، ومن التحولات العالمية ما يقلص صلاحيات البرلمان ويقوي تلك العائدة للسلطة التنفيذية، حيث استند أحدهم إلى خلاصات إحدى مناظرات الاتحاد الدولي للبرلمانات، القائلة بـ”أن التطور الاقتصادي والاجتماعي وكذا الرؤيا الجديدة لمسؤوليات الدولة، قد زادت بشكل كبير من حجم وتعقيد المشاكل التي تعترض السلطات العمومية في كل البلدان… وقد اتفقوا [المشاركون في المناظرة] على أن هذا العامل يقود إلى تقوية السلطة التنفيذية، التي بإداراتها وخبرائها، تمتلك أكثر من البرلمان الوسائل الضرورية للتحكم في المادة موضوع التشريع” .
هكذا تنتقل سلطة التشريع من البرلمان إلى الحكومة، وهذه الأخيرة خاضعة كليا لسلطة الملك المطلقة، وفي نفس الوقت يستمر الاستبداد (عبر أدواته الأيديولوجية) في ترويج الفكرة القديمة عن عجز الشعب الفطري عن ممارسة السلطة، ما يخول له احتكارها السرمدي. وهو المبرر الذي قدمه إدريس البصري في كتابه “رجل السلطة”، لتبرير السلطات الواسعة لرجال السلطة: “إن رجل السلطة يواجه أكثر من أي عون آخر من أعوان الدولة مهاما ترتبط ارتباطا وثيقا بالسكان الذين يُعتبَر جلهم من الأميين غير البالغين الدرجة المطلوبة من التطور والرقي، ولهذا فإن البيئة التي يجب على رجل السلطة العمل فيها ستفرض عليه هي الأخرى اتجاهات لم يكن ليتبعها في ظروف غير هذه الظروف لأن مواجهة المشاكل العديدة التي يتخبط فيها المجتمع المتخلف ستستوجب التخلي عن… وعدم التمسك بالشكليات والتنقل للبث في الأمور بعين المكان” . وقد سبق للمستشار الملكي الراحل (محمد المعتصم) تبرير التدخل في تشكيل الحكومات بقول: “ضرورة مزج التمثيلية الديمقراطية بالكفاءة العالية” .
تختلف المبررات ويظل الاستبداد واحد، بالنسبة للبصري: “السكان الأميين غير البالغين الدرجة المطلوبة من التطور والرقي”، وبالنسبة للأ ستاذ الجامعي: “السلطة التنفيذية، التي بإداراتها وخبرائها، تمتلك أكثر من البرلمان الوسائل الضرورية للتحكم في المادة موضوع التشريع”.
تركيبة البرلمان: أرجحية الرأسماليين
سبقَ للمستشار الكونفدرالي السابق عبد الحق حيسان أن عبَّر عن هذا أحسن تعبير، بناءً على تجربته الخاصة في مجلس المستشارين: “سيكون ممثلو أرباب العمل أكثر، هؤلاء الذين منحهم دستور 2011 فريقا من ثمانية أعضاء. كما نجح أرباب العمل في الانتخابات الجماعية وأكيد ستزداد نسبتهم في مجلس المستشارين. وأكيد سيدافعون عن مصالحهم في هذه المؤسسة التشريعية. وبتجربتي الخاصة داخل المجلس كنت ألاحظ كيف أن من يتكلم باسم الطبقة العاملة في هذه المؤسسة يبدو وكأنه قادم من كوكب آخر” ، وهو فعلا قادم من كوكب آخر.
عند الحديث عن تفرد وتميز النظام البرلماني المغربي، أشار الأستاذ الجامعي محمد أشركي إلى “تركيبة مجلس المستشارين [التي] تنطوي على تمثيلية أوسع للمجتمع بأطيافه المتعددة فإلى جانب التمثيل الترابي، يفتح الدستور المجال لتمثيل الأنشطة الاقتصادية من خلال الغرف المهنية والمنظمات المهنية للمشغلين، وكذا لتمثيل القوة العاملة في المجتمع عبر ممثلي المأجورين” . لكن التميز الفعلي هو في ما أشار إليه عبد الحق حيسان، فثلاثة أخماس مجلس المستشارين مخصصة لممثلي الجهات والجماعات الترابية، ومعروف من يفوز بتلك المقاعد باستحضار تحكم وزارة الداخلية في التقطيع الانتخابي وانتشار ما يسمى “المال الانتخابي”، أما خُمسا المقاعد المتبقيان فموزعان بين كالتالي: 20 مقعد لممثلي الغرف المهنية و8 مقاعد لممثلي المنظمات المهنية للمشغِّلين و20 مقعدا لممثلي المأجورين.
يستأثر أرباب العمل (كبارهم وصغارهم) بتمثيلية غرفتي البرلمان، بينما تظل الطبقة العاملة مثل اليتيمة على مائدة اللئام. هذا، أخذ بعين الاعتبار أن رئيس الدولة ذاته، هو رجل أعمال، وأن الدولة بكل مؤسساتها هي أداة الرأسماليين، المستعمَلة لتيسيير الاستثمار باستغلال المالية العمومية والاستئثار بخيرات الأرض وقمع الشغيلة. فدساتير المغرب كلها تقوم على المِلكية الخاصة: “حق المِلك مضمون” (الفصل 15 من دستور 1962)، بينما دستور 2011 أكثر صراحة في فصله 35: “تضمن الدولة حرية المبادرة والمقاولة، والتنافس الحر”.

من أجل سياسة عمالية ثورية
طيلة تاريخ المغرب ظلت الطبقة العاملة دون حزبها السياسي، ويُعزى ذلك إلى القمع أساسا، وإلى أخطاء من تقدم للنهوض لتلك المهمة (الحزب الشيوعي المغربي، الحركة الماركسية اللينينية المغربية).
أسهم هذا إلى جعل الطبقة العاملة وتنظيماتها عجلةً مربوطة بإحكام بعربة دولة البرجوازية وأحزابها، ما سهَّل لحدود الساعة على الاستبداد الاستئثار بالحكم وعلى الرأسماليين استغلال الشعب وضمنه الشغيلة.
عندما لا تُطرَح مهمة إطاحة المؤسسات، فإن السياسة هي الاهتمام بتلك المؤسسات وما يجري فيها وبها. وعلى الثوريين- ات استعمال كل ما يدور داخلها من أجل إيقاظ الوعي السياسي للطبقة العاملة وصغار المنتجين- ات بالمدن والقرى وضحايا البطالة والنساء والقوميات المضطهدة… إلخ.
عندما لا يستطيع الثوريون- ات إطاحة المؤسسات فليس أمامهم سوى استعمالها. فتلك المؤسسات تظل هي أحد مراكز الحياة السياسية للبلد، وفيها تتجلى آليات الاستبداد لحكم البلد لصالح طبقة الرأسماليين. ويتيح منبر البرلمان فرصة لا غنى عنها- في ظروف الجزر والتخلف السياسي- لمخاطبة ملايين من الكادحين- ات؛ أولا لفتح أعينهم- هن على حقيقة وطبيعة تلك المؤسسات، وثانيا للدعاوة من أجل مؤسسات بديلة ومضادة للسلطة الطبقية للبرجوازية.
يؤدي الاستبداد إلى ظهور معارضات برجوازية تطالب بتخفيف حدته، أو تقاسم السلطة معه. وتتلبس تلك المعارضات صفات الديمقراطية، بل وأحيانا حتى الاشتراكية. يطالب الحزب الاشتراكي الموحَّد مثلا بأن “جميع سلطات التقرير والتشريع والتنفيذ يجب أن تُوضع بين أيدي المنتخبين”، لكنه يريد تحقيق هذا المطلب عبر توافق مع المَلكية، ما يجعل هذه الأخيرة خارج “أيدي المنتخَبين”. لكن على الثوريين- ات استعمال مثل هذه المناوشات مناسبة للتحريض السياسي ضد الاستبداد ولفتح أعين الكادحين- ات على حقيقة تلك المعارضات ذات الطبيعة البرجوازية.
بسبب الاستبداد قد يكون برلمان بكامل الصلاحيات مطلبا من مطالب النضال، كما وقع سنة 2011، وعلى الثوريين- ات أن يكونوا أكثر المدافعين عن ذاك المطلب، لكن مع التذكير بأنه ما دامت السلطة الاقتصادية في يد الرأسماليين، فإن أكثر المؤسسات ديمقراطية، ستنتهي بأن تكون في خدمة طبقة الرأسماليين تلك. لذلك فمحتوم إلى جانب المطالب الديمقراطية السياسية عدم فصلها عن الديمقراطية الاجتماعية، التي لا تعني سوى إسقاط سلطة الرأسماليين الاقتصادية والسياسية، وبناء سلطة الطبقة العاملة وحلفائها من صغار منتجي القرى والمدن، تلك السلطة التي ستضع على كاهلها بناء نظام اقتصادي واجتماعي آخر، هو الاشتراكية الإيكولوجية.
أزنزار

شارك المقالة

اقرأ أيضا