بصدد “صفة الموظف العمومي”

  • لا تنتصر الدولة بالقمع فقط، بل بالخداع والتضليل أيضا. في نهاية ديسمبر 2023 تمكنت الدولة من رد حراك التعليم على أعقابه، ملتجئة إلى حيلة، تعمل حاليا على استعمالها من أجل هزيمة نضال شغيلة الصحة: “الحفاظ على صفة الموظف العمومي”.

المصيبة أن هذه الحيلة تنجح- دوما- بمساعدة من يُفترَض فيه أن يكون قيادة نضال الشغيلة؛ أي القيادات النقابية. ففي قطاع التعليم روجت تلك القيادات لـ”إضفاء صفة الموظف العمومي” لمطأنة قسم مهم من أجراء التعليم، وفي الصحة الأمر أفدح، إذ جعلته القيادات النقابية مطلبا.

عودة إلى السياق

في 21 يونيو 2013 عُقدت مناظرة الصخيرات حول “المراجعة الشاملة للنظام الأساسي العام للوظيفة العمومية”، انتقد المشاركون- ات فيها “الدولة الموظِّفة” مطالبين- ات بتعويضها بـ”الدولة المخطِّطة”، وهذا بدوره ليس إلا تنفيذا لمبدأ التفريع الوارد في الفصل 140 من الدستور. في سنة 2017 صدر تقرير عن البنك الدولي، ورد فيه: “ينبغي أن يطلق المغرب بحزم عملية الجهوية الموسعة النسقية وإلغاء الطابع المركزي عبر النقل الحقيقي والتدريجي لسلطات صنع القرار، والموارد والإمكانيات المطابقة للمستويات الترابية المناسبة… وتعزيز الوظيفة العمومية المحلية فرصة فريدة لإعادة النظر في وضعية الوظيفة العمومية لتتناسب مع متطلبات الممارسات الفضلى في مجالات التدبير الحديث والحكامة الجيدة”[1].

بدأت المراجعة الشاملة تلك في قطاع التعليم منذ سنة 2015، حيث انطلقت حوارات موضوعاتية بين الوزارة والقيادات النقابية من أجل إصدار “النظام الأساسي لمهن التربية والتكوين”. وفي نوفمبر 2016 بدأت أول موجة توظيف واسعة بموجب عقود، أي خارج النظام الأساسي لموظفي- ات وزارة التربية الوطنية لسنة 2003. وفي 26 ديسمبر 2023- وبعد حراك كبير- توافقت الوزارة والقيادات النقابية على إصدار نظام أساسي جديد (النظام الأساسي لموظفي- ات قطاع التربية الوطنية)، أُلغيَ بموجبه النظام الأساسي القديم (2003)، وأُدمج فيه النظاميون- ات إلى جانب المفروض عليهم- هن التعاقد/ “أطر الأكاديميات”.

بتاريخ 13 يوليوز 2021، صادق مجلس المستشارين، الذي يضم تمثيلية الشغيلة، على القانون 39.21، الذي عدَّل المادة 4 من ظهير سنة 1958، لإضافة “مهنيي الصحة العاملين بالقطاع العام إلى الفئات التي لا تطبَّق عليها أحكام هذا الظهير الشريف، وذلك حتى يتسنى إعداد نظام أساسي خاص بهم…”، وقبل ذلك، في 8 يوليوز 2021 صودق على نفس القانون بمجلس النواب. وفي عرض وزير الصحة أثناء تقديم القانون للتصويت أمام مجلس المستشارين أشار إلى أن “الغاية الأساسية من هذا الإصلاح تكمن في إحداث وظيفة عمومية صحية. ولضمان ذلك عدَّد الوزير مرتكزات ضمنها “اعتماد التدبير الجهوي للموارد البشرية”[2]. وفي 26 يوليوز 2023 صدر هذا القانون في الجريدة الرسمية، وردت فيه الصيغة كالتالي: “الفصل 4 (الفقرة الأولى): يطبَّق هذا النظام الأساسي على… إلا أنه لا يُطبَّق على رجال القضاء والعسكريين التابعين للقوات المسلحة الملكية ومهنيي الصحة، ولا على هيئة المتصرفين بوزارة الداخلية”.

منذ ذلك التاريخ إذن أصبح مهنيو- ات الصحة خارج الوظيفة العمومية، وما كل التأكيدات الصادرة حاليا، سواء عن الدولة أو عن القيادات النقابية بخصوص الحفاظ على صفة الموظف العمومي، إلا تغطية لشمس الواقع بغربال الخدع الكلامية.

التشريع/ القانون: مرآة عاكسة للواقع

تعتقد أقسام واسعة من الشغيلة، أن للقوانين مفعول السحر الضامن لحقوقها. لكن الواقع الأكيد أن القوانين (قوانين الشغل هنا) لا تعكس إلا ميزان القوى القائم في المجتمع؛ بين الرأسماليين ودولتهم من جهة أولى، والشغيلة وتنظيمات نضالهم- هن من جهة ثانية. والطرف الأقوى هو الذي يستأثر بصلاحية التشريع، بينما الطرف الأضعف يصارع ليُضمِّنها ما يستطيع من مكاسب، لا يحافظ عليها إلا بقوة النضال، وليس بمحض وجودها في وثيقة قانونية، والبرهان الأسطع هنا هو “مدونة الشغل” و”جهاز تفتيش الشغل”[3] الذي لا يطبَّق رغم أنه قانون.

استطاعت الدولة منذ أكثر من عقدين فتح قطاعي الصحة والتعليم أمام الاستثمار الخاص، وقد أدى ذلك إلى تغير جذري في نمط تقديم تلك الخدمتين (وغيرها)؛ حيث غلب القطاعُ الخاص القطاعَ العام وساد الأداء المالي مقابل تلك الخدمات، خصوصا في قطاع الصحة. هذا التغير الجذري في نمط تقديم الخدمة، ترتب عنه تغير آخر على صعيد تشريعات تشغيل/ توظيف مُقدِّمي- ات تلك الخدمات: شغيلة الصحة والتعليم وباقي الخدمات العمومية والاجتماعية.

لا تخفي الدولة ذلك في وثائقها. ورد في مذكرة تقديم مشروع القانون 39.21 ما يلي: “إن الإطار القانوني الحالي لمهنيي الصحة العاملين بالقطاع العام لا يُسعف في تجسيد هذا التحول الذي تعرفه المنظومة الصحية، مما يجعل مراجعة هذا الإطار من بين أهم التدابير اللازم اتخاذها لإصلاح المنظومة المذكورة”. والمقصود بـ”التحول الذي تعرفه المنظومة الصحية” طبعا هو التسليع المعمَّم لخدماتها واستهداف الأقسام الأفقر غير القادرة على الأداء بحماية اجتماعية.

لا يضمن القانون إلا ما تضمنه القوة الواقعية. وما دامت الدولة هي الأقوى فإن أي استناد على ترسانتها القانونية، سيخدم أغراضها لا محالة، وليس مطالب الشغيلة.

تمكنت الدولة بعد إخراج موظفي الصحة من الوظيفة العمومية سنة 2021، من إصدار القانون رقم 22-09 المتعلق بالوظيفة الصحية والقانون رقم 08.22 بإحداث المجموعات الصحية الترابية. ويضمن هذين القانونين تطبيق علاقة الشغل/ التوظيف الجديدة: جهويا مع المجموعات الصحية الترابية، وليس مركزيا مع الوزارة، كما كان الأمر في إطار النظام الأساسي لسنة 1967. تماما كما وقع في قطاع التعليم إذ أقر النظام الأساسي الجديد علاقة الشغل/ التوظيف جهويا مع الأكاديميات الجهوية، وليس مركزيا مع وزارة التربية الوطنية، كما كان الأمر في إطار النظام الأساسي لسنة 2003.

قانون المجموعات الصحية الترابية واضح في هذا المضمار، إذ أشارت مادته 21 إلى ما يلي: “تحل عبارة “المجموعات الصحية الترابية المعنية” محل عبارتي “الإدارة” أو “السلطة الحكومية المختصة”.

ما موقع “الحفاظ على صفة الموظف العمومي” إذن؟

رغم وضوح النصوص القانونية إلا أن قياداتنا النقابية تصر على طمأنة الشغيلة، أو بلغة صريحة الإسهام في تضليل الشغيلة. وسنورد هنا تصريحين:

الأول- قطاع التعليم: حسن الحيموتي (نائب الكاتب الوطني لجامعة التوجه الديمقراطي): “جميع الموظفين، جميع الشغيلة التعليمية، تٌعتبر موظفا عموميا… والمفروض عليهم التعاقد تقريبا أصبحوا موظفين عموميين”[4].

الثاني- قطاع الصحة: مصطفى الشناوي (الكاتب العام للنقابة الوطني للصحة- كدش): “ليس هناك أبدا أي استثناء من النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية والفصل 4 من هذا النظام ‘SGFP’ يؤكد ذلك، وقد أوضحننا هذا مرارا”[5].

سنركز هنا على تصريح مصطفى الشناوي، الذي قال بأن توضيحاته جاءت ردا على ما أسماه “مغالطات رائجة حول الوضعية القانونية والإدارية والوظيفية لمهنيي الصحة وحقيقة نزع صفة موظف التي تثير مخاوف الأطر الصحية”.

أول ما ينبغي توضيحه هو أن الوظيفة العمومية هي علاقة شغل وليست صفة تُطلق على الموظفين- ات. في النظام الأساسي القديم 2 فبراير 1967 في إطار نظام 1958، كانت علاقة الشغل تربط مهنيي- ات الصحة مع وزارة الصحة العمومية. يقول الفصل 1 من نظام 1967: “يتكون موظفو وزارة الصحة العمومية من الأسلاك التقنية والإدارية التالية…”، وبعد جردها يضيف الفصل 1: “يُعلَن بقرار لوزير الصحة العمومية عن التعيينات والترقيات في الدرجة والرتبة المتعلقة بهؤلاء الموظفين”.

هل حافظ القانون رقم 22-09 المتعلق بالوظيفة الصحية، على نفس علاقة الشغل؟ لنقرأ مادته الأولى: “يحدد هذا القانون الضمانات الأساسية الممنوحة لمهنيي الصحة العاملين بالمجموعات الصحية الترابية”.

لا يتعلق الأمر إذن بـ”صفة”، بل بعلاقة شغل تعرضت لتغيير كلي وجذري: الانتقال من نط التوظيف القديم (مركزيا مع الوزارة) إلى نمط توظيف جديد (جهويا مع المجموعات الصحية الترابية). ليس الأمر إذن بمغالطة، بل بواقع يقره القانون/ التشريع.

إن “الحفاظ على صفة الموظف العمومي” لا تعني شيئا هنا، سوى التضليل. فالموظف- ة بناء على الفصل 3 من النظام الأساسي للوظيفة العمومية (1958) يكون: “في حالة قانونية ونظامية إزاء الإدارة”، و”الإدارة” حسب النظام الأساسي لسنة 1967 هي “وزارة الصحة العمومية”، بينما العكس مع قانون الوظيفة الصحية، حيث تحيل “الإدارة” على “المجموعات الصحية الترابية”، التي ستحل محل “الإدارة” و”السلطة الحكومية المختصة” حسب المادة 21 من قانون المجموعات الصحية الترابية.

صرح به مصطفى الشناوي: “كل هذه الأنظمة الأساسية الخاصة بكل فئات مهنيي الصحة المطبقة عليهم، تتضمن كلها في بناءاتها الأولى إحالة صريحة على مقتضيات النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية بصيغة: بناء على الظهير الشريف رقم 008-58-1 الصادر في 4 شعبان 1377 (24 فبراير 1958) بمثابة النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية، كما تم تغييره وتتميمه”. لكن هذا غير صحيح، إذ لم تَرِد الإحالة على النظام الأساسي لسنة 1958 (حتى بالتلميح، فبالأحرى بالإحالة الصريحة) في ديباجة القانون 08.22 المحدث للمجموعات الصحية الترابية ولا في ديباجة القانون 09.22 المتعلق بالوظيفة الصحية.

وحتى إذا ما استدركت الدولة الأمر، وضمَّنت نظام الوظيفة الصحية وقانون المجوعات الصحية الترابية إحالة إلى نظام 1958، كما حدث مع الصيغة الأخيرة من النظام الأساسي الجديد لموظفي قطاع التربية الوطنية، فإن تلك الإحالة لن يترتب عنها أي شيء في علاقة الشغل/ التوظيف الجديدة، بل سيكون الأمر مجرد خدعة إضافية.

إن عبارة “وفق التشريع الجاري به العمل” الواردة في المادة 2 من القانون رقم 22-09 المتعلق بالوظيفة الصحية، لا علاقة لها إطلاقا بالنظام الأساسي لسنة 1958، بل بـ”القانون 34.09 المتعلق بالمنظومة الصحية وبعرض العلاجات- 2011″ وبـ”ـالقانون المنظم للمالية- 2015″ وبـ”ـمرسوم اللاتمركز الإداري- ديسمبر 2018″. وهي ترسانة قانونية جاءت في سياق المراجعة الشاملة للنظام الأساسي للوظيفة العمومية، بما يضفي الطابع التشريعي على التوظيف الجهوي وما يوازيه من آليات فرط الاستغلال يُطلَق عليها “آليات حديثة لتدبير الموارد البشرية”.

لا وزن لـ”صفة الموظف العمومي” عند الحديث عن الضمانات الوظيفية، أو بالتعبير الدقيق عن علاقة الشغل. فالقانون الجنائي مثلا يعرف الموضف العمومي في فصله 224 كما يلي: “يُعَدُّ موظفا عموميا في تطبيق أحكام التشريع الجنائي، كل شخص كيفما كانت صفته، يُعهد إليه في حدود معينة، بمباشرة وظيفته أو مهمة ولو مؤقتة، بأجر أو بدون أجر، ويساهم في خدمة الدولة، أو المصالح العمومية، أو الهيئات البلدية، أو المؤسسات العمومية، أو مصلحة ذات نفع عام”. هكذا فصفة “موظف عمومي” فضفاضة إلى حدود يمكن أن تشمل كل من يشتغل داخل مؤسسات الدولة، كيفما كانت علاقة الشغل ومن تربطه معه.

هذا النقاش مغلوط من أساسه، لكنه يقصي أقساما مهما من الشغيلة. فقسم من شغيلة قطاع الصحة يشتغل مع القطاع الخاص (المصحات الخاصة)، وقسم آخر يشتغل داخل القطاع العمومي، ولكن مع شركات خاصة (عمال وعاملات الحراسة والنظافة والطبخ… إلخ). وهؤلاء غير معنيين- ات نهائيا بوهم مكتسب “الحفاظ على صفة الموظف العمومي”.

كيف فسر الشناوي تعديل الفصل 4 من نظام 1958؟

تَغيُّر علاقة الشغل هذه هي ما يتهرب منه قادتنا النقابيون،و ينصرفون إلى تلاعب كلامي وحيل بلاغية لتغطية التغير في علاقة الشغل تلك.

صرح مطصفى الشناوي قائلا إن الفصل 4 “واضح جدا وليس هناك أي استثناء من الوظيفة العمومية”، مبرزا أن “المعنى من إدخال مهنيي الصحة في هذا الفصل هو تجسيد الاعتراف بخصوصية مهنيي الصحة وقطاع الصحة بمنحهم مقتضيات إضافية خاصة وتحفيزات إضافية مختلفة على غرار الموظفين الذين أدخلونا معهم في الفصل 4”. لا ندري كيف جرت ترجمة “عبارة “لا تطبَّق أحكام هذا الظهير الشريف” إلى “ليس هناك استثناء”!

وتساءل الشناوي: “أين قرأ من يدعون ذلك كلمة استثناء وإخراجنا من الوظيفة العمومية؟”. إن كلام الدولة (كما ورد على لسان وزير الصحة) واضح ولا غبار عليه: “يهدف مشروع هذا القانون إلى تتميم الفصل 4 من الظهير الشريف المذكور، بإضافة مهنيي الصحة العاملين بالقطاع العام إلى الفئات التي لا تطبق عليها أحكام هذا الظهير الشريف”، وهو ما ورد في نص القانون كما صدر في الجريدة الرسمية. فمن سيصدق الشغيلةُ إذن، الدولة؟ أم قيادي نقابي يسعى إلى طمأنة الشغيلة بأن لا شيء تغير في وضعيتم- هنا النظامية؟ ليس للأمر إذن علاقة بـ”الاعتراف بخصوصية مهنيي الصحة وقطاع الصحة”، كما ورد في كلام الشناوي، فنفس الهجوم طُبِّق في قطاع التعليم، وسيشمل كل الوظيفة والإدارات العمومية: إرساء الوظيفة الجهوية وكل ما تنطوي عليه من “أساليب تدبير حديثة للموارد البشرية”.

ما يُغفله الشناوي أن “الاعتراف بخصوصية مهنيي- ات الصحة وقطاع الصحة”، لا يعني تمتيعهم- هن بحقوق إضافية، بل حرمانهم- هن من الضمانات الواردة في نظام 1958، الذي لم يعد يتلاءم مع الواقع الجديد للمنظومة الصحية، وضِمنَه ما ورد في تقديم وزير الصحة للقانون 39.21 أمام مجلس المستشارين: “اعتماد التدبير الجهوي للموارد البشرية”.

لتبرير تعديل الفصل 4 قال الوزير أيضا: “حتى يتسنى إعداد نظام أساسي خاص بهم بموجب نص تشريعي، يحدد على، الخصوص، الضمانات الأساسية الممنوحة لهم والواجبات الملقاة عليهم، بما يتلاءم وخصوصيات المهام التي يضطلعون بها داخل المنظومة الصحية وطبيعة التحديات والمخاطر التي تواجههم”.

لقد نقل مصطفى الشناوي كلمة “الخصوصيات” نقلا من كلام الوزير، دون أدنى تمحيص نقدي. فـ”الخصوصيات” هنا هي معول لتبرير التخلي عن علاقة الشغل/ التوظيف القديمة (مركزيا مع الوزارة) وتعويضها بعلاقة الشغل/ التوظيف الجديدة (جهويا مع المجموعات الصحية الترابية).

في كلام آخر للشناوي ورد ما يلي: “إذا أصبحنا حسب الفهم الخاطئ للفصل بأننا لم نبق موظفين عموميين، فإن رجال القضاء وموظفو الداخلية والأمن والشرطة والقياد و… هم كذلك ليسوا الآن بالموظفين العموميين بل شيء آخر لا يعلمه إلا الله وربما من يفكر هكذا”. لكن كما يقال “لا قياس مع وجود فارق”. فرجال القضاء وموظفو الداخلية والأمن والشرطة والقياد، هم جزء من جهاز الدولة ومِلاكِها السياسي الذي يضمن الاستقرار السياسي. كما أن تلك الفئات هي مستثناةُ من النظام الأساسي للوظيفة العمومية منذ إقراره سنة 1958، ولم يجرِ حذفها منه كما وقع حاليا لمهنيي- ات الصحة. وواهم من يضع شغيلة الصحة والتعليم في نفس الكفة مع الأولين. تعمل الدولة دوما على تحسين ظروف جهازها القمعي والإداري (ضمانات وظيفية وأجور وترقيات)، دون حتى حاجة إلى مطالبة هؤلاء بذلك، إذ هم محرومون من حق الانتماء النقابي. لذلك فـ”مغالطة” كبيرة الاستناد إلى هذه الحجة.

ماذا حققت الخصوصيات لمهنيي- ات الصحة؟

لا ضير إذن من مواكبة منطق الدولة وتبرير مصطفى الشناوي المتعلق بـ”الخصوصيات”، التي ستضمن- حسب تصريح الشناوي- “استفادتنا من أمور إضافية في إطار خصوصية قطاع الصحة وخصوصية المهن الصحية”. ما هي إذن هذه الأمور الإضافية؟ لنقرأ “التشريع الجاري به العمل” لنتعرف عليها:

  • في ما يخص طريقة/ نمط التوظيف

في السابق كان التوظيف يتم مع وزارة الصحة العمومية بمباريات مركزية؟ فهل حافظ التشريع الجديد على هذا المكسب أم تراجع عنه؟

بمقتضى المادة 18 من قانون رقم 22-09 المتعلق بالوظيفة الصحية: “يتم توظيف مهنيي الصحة، بناء على حاجيات المجموعات الصحية الترابية من الموارد البشرية”.

أما قانون رقم 08.22 بإحداث المجموعات الصحية الترابية، فواضح في ما يخص التوظيف. إذ تنص مادته 15 على أن “مهنيي الصحة يتم توظيفهم طبقا للنظام الأساسي للمجموعة”، كما تنص على نقل الموظفين- ات القدامى إلى المجموعات. يبدو إذن، أن “الخصوصيات” و”الاستثناء” تعني القضاء على نمط التوظيف القديم (مركزيا مع الوزارة) وتعويضه بنمط توظيف جديد (جهويا مع المجموعات الصحية الترابية). فهل هذه هي “الأمور الإضافية في إطار خصوصية قطاع الصحة…”، كما صرح الشناوي.

أدخل قانون الوظيفة الصحية أيضا “التوظيف بموجب عقود، لمدة محددة قابلة للتجديد” [المادة 19]. فهل هذه الصيغة من التوظيف التي أثارت رفضا ونضالا عارما في قطاع التعليم العمومي، هي من “الأمور الإضافية في إطار خصوصية قطاع الصحة”؟

  • الأجور

نص قانون الوظيفة الصحية في مادته 7 على ما يلي: “يستفيد مهنيو الصحة من أجرة تتكون من جزء ثابت يشتمل على المرتب والتعويضات المخولة لهم بموجب الأنظمة الأساسية الخاصة المطبقة عليهم، وجزء متغير يخول، وفق المبالغ والشروط والكيفيات المحددة بنص تنظيمي، على أساس الأعمال المهنية المنجزة”.

إن تقسيم الأجر إلى قسم ثابت وآخر متغير، من توصيات مكاتب الدراسات والبنك الدولي، وهي آلية للتحكم في كتلة الأجور. إذ ستتضاءل نسبة الأجر الثابت من الكتلة الأجرية، بينما ستتضخم نسبة الأجر المتغير، الذي ربطته المادة 7 بـ”الأعمال المهنية المنجَزة”[6]. وهي طريقة مجرَّبة بنجاح في القطاع الخاص (العمل بالأهداف les objectifs)، ويجري نقلها نقلا إلى الوظيفة والإدارات العمومية. فهل هذا أيضا يدخل ضمن “الأمور الإضافية في إطار خصوصية قطاع الصحة”؟

  • الترقيات

ربط قانون الوظيفة الصحية ترقية مهنيي- الصحة بالمردودية، إلى جانب الأقدمية. نصت المادة 20 على ما يلي: “يخضع مهنيو الصحة لتقييم دوري للأداء وفق مبادئ الشفافية والموضوعية والحياد وعدم التمييز. تعتمد نتائج هذا التقييم في التحفيز والتكوين”، وأضافت المادة 21: “تتم الترقية بصفة منتظمة بناء على شبكة معايير موضوعية تحدد في الأنظمة الأساسية الخاصة المشار إليها في المادة 2 أعلاه، ونتائج التقييم المشار إليها في المادة 20 أعلاه والأقدمية”. وهي طريقة للتحكم في الترقية، لتفادي ما نبه إليه تقرير المجلس الأعلى للحسابات حول الوظيفة العمومية سنة 2017، من “ترقية تلقائية وسريعة” تضخم كتلة الأجور.

وكما وقع مع الأجر الثابت والأجر المتغير، ستتقلص حصة الأقدمية في احتساب معايير الترقية، بينما ستتضخم حصة معايير المردودية والاستحقاق. فهل هذه ضمن “الأمور الإضافية في إطار خصوصية قطاع الصحة”؟

يبدو أن بوصلة قياداتنا النقابية أصيبت بعطل بالغ إلى حد أصبح فيه مستحيلا التمييزُ بين المكاسب/ “الأمور الإضافية” وبين الهجمات والإجهاز على الحقوق.

وهمُ سند الضمانات القانونية

الضمانات القانونية وهم صارخ. بدَّدت تنسيقية المفروض عليهم- هن التقاعد جهودا هائلة في نقاش قانوني، وأسست لذلك الغرض “اللجنة القانونية”. ومرة أخرى، بدل استنتاج قيادات نقابات الصحة درس ذلك وتتفاداه، ها هي تُوقِعُ شغيلةَ الصحة في نفس الفخ. إذ طالبت قيادات نقابات القطاع بالاعتماد على الدستور وجعل القانون التنظيمي للمالية من البناءات الأساسية للنصوص التطبيقية، رغم أن الدستور هو الذي شرَّع مبدأ “التفريع” الذي منح صلاحيات التوظيف للجماعات الترابية والجهات، والقانون التنظيمي للمالية الذي يعتبر آلية أساسية لتطبيق سياسة التقشف التي نص عليها الفص 77 من الدستور.

يستطيع نضال الشغيلة تضمين القوانين بعضا من حقوقها، ولكن نقطة الاستناد هو نضال الشغيلة ذاته، وليس نص القانون. إلا أن نضال الشغيلة هذا يجري كبحه- وحتى هزمه- بواسطة “الشراكة الاجتماعية” و”الحوار الاجتماعي” و”الالتزام بالسلم الاجتماعي”، من طرف قيادات نقابية تعلن انخراطها في “الإصلاحات الهيكلية”، هذه الإصلاحات التي تقوض المكاسب السابقة، وتقلص إمكان انتزاع مكاسب لاحقة.

السند الوحيد: الدفاع عن مجانية وعمومية الصحة

القانون مرآة الواقع. غيرت الدولة تشريعات الشغل/ التوظيف لأنها ألحقت تغيرا جذريا بنمط تقديم خدمة الصحة (وغيرها من الخدمات). أدى انتقال الدولة من دور مقدِّم الخدمة الوحيد، إلى مساهم فقط إلى جانب أطراف أخرى (القطاع الخاص أساسا)، إلى تغير نمط التوظيف. قسم مهم من شغيلة الصحة تربطها علاقة الشغل مع القطاع الخاص (المصحات الخاصة المحلية والأجنبية)، والقسم المشتغل مع القطاع العام، فوضت الدولة صلاحية توظيفه و”تدبير مساره المهني” للمجموعات الصحية الترابية، وأقسام أخرى تشتغل داخل القطاع العمومي ولكن مع شركات خاصة (التدبير المفوض لخدمات الحراسة والنظافة… إلخ).

كما أسهم تطبيق الجهوية المتقدمة واللاتمركز الإداري في تفكيك تشريعات الشغل القديمة، التي كانت تربط موظفي الدولة بعلاقة شغل مع هيئات الدولة المركزية، فأصبحت حاليا تربطها مع الإدارات اللاممركزة والمؤسسات العمومية ذات الشخصية الاعتبارية والمستقلة ماليا وإداريا (كما هو شأن المجموعات الترابية الصحية).

ليست الجهوية والاتمركز الإداري محضَ هياكل للتدبير الإداري، بل الوعاء التنظيمي المفضل لدى الدولة (ووراءها الرأسماليون المحليون والأجانب والمؤسسات المالية الدولية) لتسريع السياسات النيوليبرالية (تسليع الخدمات العمومية والاجتماعية، الأداء/ استرداد التكاليف، تشجيع القطاع الخاص، التدبير المفوض، شراكة قطاع عام- قطاع خاص… إلخ). كما تشكل تلك الجهوية والاتمركز الإداري الأداة الفضلى لنقل علاقات الشغل القائمة في القطاع الخاص إلى القطاع العمومي، أو ما يُطلَق عليه “الممارسات الفضلى في مجال التدبير الحديث والحكامة الجيدة”، وهو ما ورد بالحرف في تقرير البنك الدولي (2017): “تعزيز الوظيفة العمومية المحلية فرصة فريدة لإعادة النظر في وضعية الوظيفة العمومية لتتناسب مع متطلبات الممارسات الفضلى في مجالات التدبير الحديث والحكامة الجيدة”.

كما من شأن أشكال التوظيف الجديدة (التوظيف الجهوي) أن يدمر وحدة الشغيلة. فتعدد المشغِّلين (المجموعات الصحية الترابية، الأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين)، عَكْسَ المشغل الواحد (الدولة)، وتعدد الأنظمة الأساسية (الأنظمة الأساسية للمجموعات الصحية الترابية) بدل نظام أساسي واحد وموحِّد، ستُفقِد مهنيي- ات الصحة القدرة التفاوضية الجماعية التي كان يتيحها نمط التوظيف القديم (مركزيا مع الوزارة)، وسيحل محلها التفاوض جهويا والنضال جهويا والانخراط النقابي جهويا.

لن تستقيم المطالبة بمكاسب الوظيفة العمومية السابقة، وأساسُ تلك المكاسب قد جرى تخريبه؛ ذلك الأساس هو مجانية وعمومية الخدمات. إن أساس الحفاظ على علاقات الشغل/ التوظيف القارة هو نمط تقديم الخدمات نفسها. وبدون الدفاع عن عمومية ومجانية خدمات الصحة والتعليم (وغيرها) لا يمكن الحفاظ على مكاسب الوظيفة العمومية السابقة، بل سيُفتَح باب جحيم الاستغلال على مصراعيه أمام ما تسميه الدولة “آليات حديثة لتدبير الموارد البشرية”، وهي آليات اعتصار أكبر للأداء والعمل، مقابل أقلِّ حقوق (أجور وتعويضات وحوافز وترقيات) غير دائمة وغير معممة، إذ يُربَط قسمها الأهم (المتغير) بالاستحقاق والمردودية.

للأسف، ولحدود اللحظة، لا وجود لمطلب مجانية وعمومية خدمات الصحة، في الملفات المطلبية المتفاوَض حولها بين الوزارة وقيادات نقابات قطاع الصحة. رغم أن هذا المطلب (مجانية الخدمات العمومية والاجتماعية) من شأنه أن يكون أرضية التقاء مطلبي بين شغيلة الوظيفة العمومية وباقي شرائح الشعب، التي تكسب الدولة ولاءَها عبر صدقات الحماية الاجتماعية، هي بدورها دعم محدود ومستهدف.

تقع تشريعات الشغل كلها (سواء في القطاع الخاص- مدونة الشغل، أو في المؤسسات والمقاولات العمومية والوظيفة والإدارات العمومية- الأنظمة الأساسية) في وجه مدفع تفكيك علاقات الشغل القارة. وتشكل بذلك أرضية مثلى لالتقاء نضالي بين مجمل شغيلة البلد، سواء في القطاع الخاص أو العمومي، من أجل الدفاع على شغل قار ضامن للكرامة.

ومن شأن الالتقاء النضالي بين كل شغيلة البلد من جهة وبينهم- هن وبين شرائح الشعب، من أجل خدمات عمومية مجانية ومن أجل الشغل القار، أن يُسهِم في معالجة سرطان الفئوية والقطاعية الذي عاث فسادا في نضال الشغيلة، ويُطلق دينامية نضالٍ تتجه إلى إضراب عام عمالي وشعبي، يستهدف مجمل السياسة النيوليبرالية للدولة والرأسماليين، بدل مطالبة كل فئة أو قطاع بما يخفف عنه وقعَ تلك السياسة، أو ما يسمى “المطالب ذات الأثر المالي”.

شادية الشريف

 

[1] – 2017، مجموعة البنك الدولي، “مذكرة اقتصادية قطرية: المغرب في أفق 2040- الإستثمار في الرأسمال اللامادي لتسريع الإقلاع الاقتصادي”.

[2] – 13 يوليو 2021، “عرض السيد وزير الاقتصاد والمالية وإصلاح الإدارة أمام الجلسة العامة بمجلس المستشارين”.

[3] – 20-07-2018، https://www.almounadila.info/archives/6578.

[4] – 28- 12- 2024، https://tinyurl.com/vh2ja8c4.

[5] – 29-07-2024، https://madar21.com/264693.html.

[6] – للتفصيل انظر- ي : 26-07-2024، https://www.almounadila.info/archives/18474.

شارك المقالة

اقرأ أيضا