فيتنام (1975):هزيمة كبرى للامبريالية الأمريكية
عشية الفاتح مايو 1975، حطمت دبابات جيش فيتنام الشمالية باب القصر الرئاسي في سايغون. وكانت المروحيات الأمريكية تحوم في السماء مكتظة بمسافرين نحو حملات الطائرات Enterprise و Midway اللتين كانتا تنتظران على الحدود.
كانت هانوي قد أفهمت الولايات المتحدة الأمريكية أن طائرات الهيلكوبتر العاملة في إجلاء الأمريكيين والمتعاونين معهم لن تتعرض للهجوم. وعلى حاملات الطائرات، كانت الهيلكوبترات تلقى إلى البحر فور إنزال المسافرين إذ لم يعد ثمة متسع لها. بذلك انتهت حرب فيتنام بعد سنوات مديدة. وقد انتهت بهزيمة كبيرة للامبريالية الأمريكية لن تنهض منها إلا بعد سنوات عديدة.
النضال ضد الاستعمار الفرنسي
كانت الهند الصينية (كامبودج، فيتنام، لاووس) مستعمرة من قبل فرنسا في القرن التاسع عشر. وكان تراب فيتنام مقسما إلى ثلاث أجزاء: تونكين في الشمال، وآنام في الوسط، وكوشانشين في الجنوب. ووحدها كوشانشين كانت مستعمرة رسميا، فيما تونكان وآنام في وضع “حماية”. لكن لا أهمية للتسمية، إذ بكل مكان كانت الإدارة الفرنسية تنهب الموارد، وتشيع التعسف والاستغلال والعنصرية، وقمعا بلا شفقة، والتعذيب في مقرات الشرطة، والحبس في “اقفاص نمور” في سجن بولو كوندور Poulo Condor ، والحكم بإعدام معارضين وتنفيذه بالمقصلة.
في البدء، خاض النضال ضد الاستعمار مثقفون وطنيون، ثم شيوعيون بدءا من سنوات 1930. أسس هو شي منه أول نواة شيوعية في كانتون في 1930 (الشبيبة الثورية). وفي سايغون، قام مناضلون شباب جرى كسبهم إلى الحركة التروتسكية إبان دراستهم في باريس، بتأسيس مجموعة “النضال”، وحصلت على نائبين بالمجلس البلدي. لكن، في إطار انعطاف الأحزاب الشيوعية اليميني نحو سياسة الجبهة الشعبية، تخلى الحزب الشيوعي عن النضال ضد الاستعمار (لا سيما في الهند الصينية والجزائر)، ومن جهته قام الحزب الشيوعي للهند الصينية، الذي تأسس في العام 1931 فيما كان ستالين يسيطر على الأممية الشيوعية، بتجميد النضال من أجل الاستقلال.
الاحتلال الياباني و الحرب في الهند الصينية
احتل الجيش الياباني الهند الصينية في العام 1941 بموافقة نظام فيشي. لكن عند تحرير فرنسا في العام 1944، انضمت الإدارة الاستعمارية الفرنسية بالهند الصينية إلى دوغول. وخشية إنزال أمريكي، مع جيش فرنسي في الخاصرة، أطاح اليابانيون السلطات الاستعمارية الفرنسية. وفيما كانت الاتفاقات بين ستالين وتشرتشل وترومان (الأمريكي) تقضي باحتلال الانجليز لجنوب فيتنام، والصينيين (تشانغ كاي تشيك) لشمالها، خلقت الضربة اليابانية للسلطات الاستعمارية فراغا سياسيا دلفت منه الجماهير. فتطور وضع انتفاضي، وانتشرت بالبلد لجان نضال، وكان المناضلون الوطنيون والتروتسكيون في طليعة النضال من أجل الاستقلال.
وقام هو شي منه، كي لا يقطع مع ستالين، باغتيال القادة الوطنيين والأطر التروتسكية. وسعى فيما بعد إلى التفاوض حول مساومة مع فرنسا التي شرعت في عودة عسكرية إلى الهند الصينية. لكن فرنسا، رغم تنازلات هوشي منه العديدة، نسفت المفاوضات و أرسلت أسطولها لقصف مدن شمال فيتنام. ولضمان الاستمرار، اضطر الشيوعيون الفيتناميون إلى إلى العودة إلى الكفاح المسلح تحت اسم الفييت منه (رابطة استقلال فيتنام).
الولايات المتحدة الأمريكية تواصل دور فرنسا
انتهت الحرب ضد جيش فرنسا الاستعماري في العام 1954، بعد انهزام القوات الفرنسة هزيمة نكراء في ديان بيان فو. وكانت اتفاقات جنيف تقضي بتقسيم فيتنام مؤقتا إلى شطرين وفق خط العرض 17، وإعادة التوحيد في العام 1956. لكن الولايات المتحدة الأمريكية كانت قد استلمت الدور من فرنسا. وإن كانت الولايات المتحدة تنظر إلى نزع الاستعمار بعين رضا لما يتيح لها من موطئ قدم في الإمبراطوريات الاستعمارية الفرنسية والانجليزية القديمة، فإنها باتت في 1954، بعد انتصار الثورة الصينية و حرب كوريا، تعتبر فيتنام رهانا مركزيا في محاربتها العالمية للشيوعية.
بداية حرب فيتنام
بضغط أمريكي عينت فرنسا رئيس حكومة دمية، ُيدعى دييم، رفض إجراء الانتخابات المرتقبة طبقا لاتفاق جنيف بصدد إعادة توحيد البلد، وأقام نظاما وطنيا ومعاديا للشيوعية في سايغون. وعاد مناضلو فييت منه قدامى إلى حرب غوار في الجنوب منذ1955. وفي 1958 استولى مناضلو حرب الغوار على ألف قطعة سلاح، ما أتاح تجهيز الوحدات الأولى. وكانت هذه التحركات تحظى بمساندة جمهورية شمال فيتنام الديمقراطية التي أرسلت أطرا وسلاحا إلى الجنوب عبر طريق هو شي منه على طول حدود كامبودج. ومن جانبها، كانت الولايات المتحدة الأمريكية تعد تدخلا كثيفا بإحداث 15 بعثة عسكرية في جنوب فيتنام وبناء 46 قاعدة جوية و 11 قادة بحرية. وفيما تأسست الجبهة الوطنية لتحرير فيتنام في ديسمبر 1960، أعلن الرئيس كيندي في يناير 1961، وقد انتخب للتو، إرسال 15000 مستشار عسكري أمريكي لتأطير جيش فيتنام الجنوبية.
تدخل أمريكي كثيف
بعد اغتيال كيندي، أمر الرئيس الجديد، ليندون جونسون، بعمليات قصف جوي لشمال فيتنام. ورخص لاستعمال قنابل نابالم. وجرى إنزال 2500 من قوات البحرية الأمريكية على شاطئ دا نانغ قرب خط العرض 17. و أعلنت فيتنام الشمالية التعبئة العامة، وقررت تدخل وحدات نظامية من الجيش الشعبي في الجنوب.
وبلغت أعداد القوات الأمريكية في فيتنام 185000 رجل في العام 1965. ودامت عمليات قصف الشمال سنوات. وكان تقنيون روس وصينيون يؤطرون الدفاع الجوي في هانوي، لكن إجمالا كانت الترسانة العسكرية الأمريكية الكثيفة و القاتلة على نحو رهيب أكبر من أي مقارنة: قنابل نابالم تلتصق بالجلد وتحرق الأنسجة وصولا إلى العظم، وقنابل عنقودية تنفجر في الجو ملقية آلاف الشظايا بجميع الاتجاهات، ورش البلد بــ 80 مليون ليتر مما يسمى العامل البرتقالي (مادة كيماوية اساسها الديوكسين، تسقط أوراق الشجر، وهي مسرطنة، تصنعها بوجه خاص شركتا Monsanto وDown Chemical ). وأُلقيت على شمال فيتنام ولاووس وكامبودج 7 مليون طن من القنابل الأمريكية، أي ما يعادل ضعف الكمية الملقاة على جميع جبهات الحرب العالمية الثانية.
هجوم التيت ومعارضة الحرب بالولايات المتحدة الأمريكية
في يناير من العام 1968، بمناسبة عيد التيت (السنة الأسيوية الجديدة)، شنت جبهة التحرير الوطنية هجوما كثيفا على زهاء مائة مدينة بجنوب فيتنام. واحتل كوماندو من قوات جبهة التحرير الوطنية السفارة الأمريكية في سايغون. كانت المفاجأة كبيرة جدا. ومع أن حصيلة خسائر جبهة التحرير الوطنية العسكرية كانت ثقيلة، أدرك المسؤولون الأمريكيون على الصعيد السياسي تعذر انتصارهم في هذه الحرب. هذا سيما أن الحركة المناوئة للحرب في الولايات المتحدة الأمريكية تنزل إلى الشارع، حيث يتظاهر قدامى فيتنام، ويرفض الطلاب التجند للحرب ويحرقون أوراقهم العسكرية. وفي العام 1967، نزل 000 200 معارض إلى شوارع نيويورك، وعارضت شخصيات الحرب من قبيل جين فوندا، ومارتن لوثر كينغ، وجون لينون، والملاكم محمد علي كلاي، وهوارد زين، وناعوم تشومسكي، ووجون بيز، وجيمي هندريكس، وليونار برينشتاين، وبوب ديلان، ونورمان مايلر، الخ. و شرع الأمريكيون ، بدءا من العام 1969، في مفاوضات من أجل الخروج من حرب لاشعبية مع الحفاظ على توازن بين الشمال والجنوب. واستمرت تلك المفاوضات سنوات فيما تواصلت عمليات قصف الشمال. وأفضت إلى اتفاقات باريس في يناير 1973.
إفلاس سياسي و عسكري وأخلاقي للامبريالية الأمريكية
بدات القوات الأمريكية المقاتلة الانسحاب في 1973 طبقا لاتفاقات باريس. كان نظام جنوب فيتنام، الفاسد، عجزا عن التصدي لضغط مقاومة جبهة التحرير الوطنية. وفي 1975، استولت جبهة التحرير الوطنية على الجنوب. ودخلت سايغون. لم تشهد الولايات المتحدة الأمريكية مطلقا في تاريخها هكذا إذلالا. فقد شارك في حرب فيتنام 3 مليون أمريكي، مات منهم هناك 58 ألف، وجرح 000 300 . وجرى إسقاط 8000 طائرة و مروحية هبلكوبتر،معظمها من قبل سلاح المدفعية.
وكانت خسائر جبهة التحرير الوطنية جسيمة: 2 مليون قتيل، و3 مليون جريح. ولا يزال عدد الضحايا يكبر لأن ثمة عشرات آلاف القنابل مطمورة، و لا يزال العامل البرتقالي يُسقط ضحايا عديدة. يوم 3 يناير 1994، رفع الرئيس بيل كلينتون الحصار المفروض على فيتنام بعد الحرب، لكن مع رفض منح فيتنام تعويضات عن جرائم الحرب المقترفة.
عواقب على صعيد دولي
كانت حرب فيتنام موضوع تغطية إعلامية كثيفة. وقد أمطر مصورون وصحافيون جرائد التلفزيون عبر العالم. وطبعت بعمق بطولة شعب فيتنام، بوجه الوحش الأمريكي، وعي الشباب، لاسيما بأوربا، وغالبا في قطيعة مع آبائهم الذين كانوا وعمرهم 20 سنة يعتبرون الأمريكيين في سنوات 1940 “محررين”. لم يكن الشباب المتجذر، الذي يرفع في المظاهرات الجماهيرية شعارا “هو ، هو، شي منه *** تشي، تشي، غيفارا” يتظاهر تعاطفا مع قائدين اختفيا (مات هو شي منه عام 1969، وتشي غيفارا عام 1967) وخاضا نضالا ضاريا ضد الامبريالية. كان هاذان المناضلان يجسدان، بنظر تلك الشبيبة التي سينخرط قسم منها في النضال ضد الرأسمالية، قادة ثوريين لا يجمعها شيء ببيروقراطيي الكرملين.
غي فان سينوي Guy Van Sinoy
عن مجلة لاغوش – الرابطة الشيوعية الثورية بلجيكا
عدد أبريل- مايو 2015
تعريب المناضل-ة
اقرأ أيضا