انقساماتٌ جوهريّة: السلطة والثروة واللا مساواة في العالم العربي
بقلم: آدم هنيّة
– آدم هنيّة: دكتور في مدرسة الدراسات الشرقيّة والإفريقيّة، وصاحب كتابيّ Lineages of Revolt وCapitalism and Class in the Gulf Arab States، وساهم في تحرير كِتابTransit States: Labour, Migration and Citizenship in the Gulf
بعد أكثر من أربع سنوات منذ إسقاط الانتفاضات الشعبيّة للأنظمة المتصلّبة في تونس ومصر، قد تبدو الآمال الأوليّة التي جسّدتها تلك الحركات قد تمزّقت. وأما ليبيا وسوريا واليمن والعراق فلا تزلن غارقاتٍ في صراعاتٍ مسلّحة دامية خلّفت مئات الآلاف من القتلى وأدّت لنزوح ملايين أخرى داخلَ وخارج حدودها. في حالة مصر المحوريّة، فالحكم العسكري قد عاد من خلال القمع العنيف للمظاهرات واعتقال ما يقدّر بأربعين ألف شخص وعاد من خلال إعادة بناء الهياكل القمعيّة لحقبة مبارك. وفي أماكن أخرى، تبدو الحكومات الاستبداديّة في حكمها اليوم أكثر أمانًا من أي وقتٍ مضى.
ولكن في تقييم لحظتنا الحاليّة هذه يجب أن ننظر لوراء العناوين الرئيسية حول الحروب والنزوح والطائفيّة، فالانتفاضات العربيّة لم تكن ببساطة نضالاتٍ ضدّ الحكم السلطويّ، وإنما كانت مرتبطةً بشكلٍ حتميّ بالركود في الأوضاع المعيشيّة والتفاوت العميق في الثروة والسلطة. ولن يكون هنالك مخرجٌ من المأزق الحاليّة إن لم نعالج الجذور الاجتماعيّة الاقتصاديّة لهذا التوعّك في المنطقة.
فحتى قبل الأزمة الاقتصاديّة العالمية لعاميّ 2008 و2009، احتلّ العالم العربيّ مرتبةً تكاد تكون الأدنى عالميًا في عديدٍ من مؤشّرات النموّ، فمعدّل نسب البطالة في مصر والأردن ولبنان والمغرب وسوريا وتونس كان أعلى من أيّ منطقة أخرى في العالم، بينما نسب مساهمة القوّة العاملة في الاقتصاد الوطني كانت الأدنى عالميًا (أقلّ من نصف التعداد السّكاني)[1]. أمّا بالنسبة لمساهمة النساء والشباب الاقتصاديّة في العالم العربي ككل، فهي تحتل أيضًا أدنى المراتب،[2] بالإضافة إلى كون من لديهم وظائف يرجّح أنّهم يحتلّون وظائفًا غير مستقرّة، غير رسميّة ومنخفضّة الأجر؛ فقطاع الوظائف غير الرسميّة في دول شمال أفريقيا – على سبيل المثال – كان الأسرع نموًا من أيّ منطقة أخرى على وجه الأرض.[3] هنالك إحصائيّاتٌ كثيرة كهذه بالإمكان سردها عن الفقر وسوء التغذية وانتشار الأميّة وغيرها من مقاييس الأوضاع الاجتماعيّة؛ وهذه النزعات ظلّت تقريبًا من غير تغيير طوال ما زاد عن عقدين كاملين.
إنّ مفتاح فهم هذه النتائج هي السياسات الاقتصاديّة التي رعاها كلٌ من صندوق النقد الدولي والبنك الدوليّ والتي سعت تجاهها الحكومات العربيّة منذ الثمانينات، وكانت هنالك تنوعاتٌ مهمّة بالطبع في وتيرة تطبيق هذه السياسات وحجمها، ولكن كلّ الدول العربية تقريبًا اتّجهت نحو تطبيق القائمة المعياريّة للسياسات النيوليبراليّة: التقليص من الإنفاق الاجتماعي، وخصخصة الأراضي وغيرها من ممتلكات الدولة، وإلغاء الضوابط التنظيميّة على سوق العمل، والتحرير المالي والتجاري وما إلى ذلك. هذه السياسات ركّزت على تحفيز نموّ القطاع الخاص أثناء دفعها لعددٍ متزايد من الناس نحو الاتّكال على السوق، وبشكلٍ التزامنِ مع تآكُل أشكال الرعاية الاجتماعيّة الجَمعيّة. أشادت الدول الغربيّة وقادت هذه التحوّلات؛ بالفعل، فقد وُسِّمت مصر تحت حُكمِ مبارك – وهي الطراز الأصلي للنيوليبرالية العربية –كأفضل من قام بإصلاحاتٍ اقتصاديّة في العالم مِن قِبل البنك الدولي عامَ 2008.[4]
ولكن لم يكن الجميع خاسرًا نتيجة هذه الإصلاحات، ففي العديد من الدول المهمّة، ترادفت نموّ مستويات الفقر بالفعل مع نسب النموّ الاقتصاديّة العالية، مُبرهنةً أنّ الثروة كانت تتدفّق تجاه البعض وبعيدًا عن آخرين. في المغرب ومصر وتونس والأردن على سبيل المثال، ارتفع الناتج المحلّي الإجماليّ الحقيقي للفرد الواحد بثباتٍ منذ 2003 وحتى مطلع الأزمة العالمية في 2008، بينما ازدهرت أسواق الأسهم.[5] أمّا بالنسبة لمصر، فالأمم المتّحدة احتارت مؤخرًا بسبب تعايش هاذين المنحيين: نموّ الثروة من جهة ونموّ الفقر من جهة أخرى، مدّعيةً أنّ هذا يشكّل «تناقضًا» ونتيجةً غير متوقّع للنماذج الاقتصاديّة تحت هذه المعايير.[6]
ولكنّ التناقض المُفترض هذا يختفي حين نرفض الافتراضات عمَل السّوق نحو الربح المتبادل والمنفعة المتبادلة [لكلٍ من رجال الأعمال والموظّفين]. فمتى ما أصبحت الحياة الاجتماعيّة والاقتصاديّة أكثر انغراسًا في علاقات السوق، عادةً ما ينتفع من يمتلكون أكبر قدرٍ من القوّة في السوق. والنتيجة هي استقطاب وتفاوت، لا انحدار لولبيّ موحّد (أو صعود ثابت للأعلى) يحسّ به الجميع بشكلٍ متساويٍ. وبهذا الشأن، فالتجربة النيوليبرالية في العالم العربي لم تكن استثنائيّةً أبدًا؛ فهذه الأنماط ذاتها يمكن رؤيتها مُستنسخةً في أرجاء العالم.
إنّ النظر لاستقطاب الثروة والقوّة ضروريّ لفهم الجذور الاجتماعيّة للاستبداد في الشرق الأوسط، فبدورِ الحكّام المستبدّين كخدمٍ للإصلاح النيوليبرالي، لم يكتفوا بزيادة ثروتهم هم والنُخب المتحالفة معهم فحسب، وإنمّا عمِلوا أيضًا على سحق أيّ معارضة محليّة لهذه السياسات. وعمِلوا في الوقت ذاته كشركاء يمكن الاتكّال عليهم لفرض السياسات الغربيّة في المنطقة، إذ تلقّى المستبدّون من الغرب دعمًا ماليًا وسياسيًا وعسكريًا وافرًا مقابل ذلك. المشكلة إذًا ليست ببساطة «سياسيّة»؛ أيّ أنها لا تتعلّق فقط بوجود حكّامٍ فاسدين ممارسين للمحسوبيّة. وإنما أشكال الحكم السياسيّ هذه تعكس وتحمي وتعزّز تفاوتات السلطة الاجتماعية الاقتصاديّة هذه. إذًا السياسة والاقتصاد تنصهران هنا.
إنّ التفاوت الناميّ في السلطة والثروة لا يتبيّن فقط ضمن حدود الدولّ العربيّة المنفردة، وإنما يتجلّى على المستوى الإقليميّ، لا سيما ما بين دول المجلس التعاون الخليجي من جهة وبقيّة الدول العربيّة من جهة أخرى. هذه التسلسلات الهرميّة تنامت في ظلّ آخر الأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصاديّة العديدة، مبيّنةً مرّةً أخرى أنّ آثار الأزمة يجب يتمّ تصنيفها ما بين الرابحين والخاسرين.
وحسب تقريرٍ نُشر في شهر أكتوبر لعام 2014 مِن قِبل معهد التمويل الدولي (Institute of International Finance)، فصافي الأصول الخارجيّة (إجماليّ الأصول الخارجيّة ناقصًا الدَين الخارجيّ) لدول الخليج ارتفع من 878 مليار دولار في 2006 إلى ما يقدّر بـ2.27 ترليون دولار بحلول نهاية 2014.[7] قارِن ذلك مع انخفاضٍ في صافي الأصول الخارجيّة لمصر وسوريا والأردن ولبنان وتونس والمغرب من فائضٍ قدره 11 مليار دولار في 2006 لما يقدّر بعجزٍ قدره 56.8 مليار بحلول نهاية 2014.[8] وبشكلٍ مماثل، فحين ننظر لكشف حساب دول الخليج الستّ، تمّ تقدير كلّي فائضها الحالي بأقلّ بقليل من 300 مليار دولار (17 بالمئة من ناتجهم المحلّي الإجمالي)، وهو أكثر بأربع مرّات مما كان عليه في 2009.[9] وفي الفترة ذاتها، فكشف الحساب الحالي لمصر وسوريا والأردن ولبنان وتونس والمغرب انخفض لما يقدّر بعجزٍ كلّي قدره 25.9 مليار دولار في 2014 (أي: سالِب 4.6 بالمئة من الناتج المحلّي الإجمالي)، مقارنة مع عجزٍ قدره 18.8 مليار دولار في 2009 (أي: سالِب 4.3 بالمئة من الناتج المحلّي الإجماليّ).[10]
وفي داخل دول مجلس التعاون الخليجي، فالثروة الخاصة [غير الحكوميّة] نَمت بمعدّل 17.5 بالمئة كلّ عام منذ 2010 وحتى 2014، إذ تضاعف مقدارها الكلّي (بالدولار) من 1.1 ترليون دولار ليصل لـ2.2 ترليون دولار في الفترة ذاتها.[11] يقدّر امتلاك عددٍ يصل لـ5،100 عائلة خليجيّة لأكثر من 500 مليون دولار من الأصول السائلة [الممتلكات النقديّة] لكلّ أسرة؛ ويقدر مجموع ممتلكاتهم الكلّية بما يتجاوز الـ700 مليار دولار.[12] يجب الإشارة إلى كون هذا الرقم لا يشمل ما يسمّى بالأصول «غير السائلة» مثل الممتلكات العقاريّة أو الأسهم التجاريّة أو السلع التي يمكن جمعها مثل الأعمال الفنّية.
مرّةً أخرى، نجد دليلًا على النزعتين المعزّزتين لبعضهما: تنامي اللا مساواة وتنامي الثروة، ولكن هذه المرة نجده مُستنسخًا على المستوى الإقليمي. وبينما لا نزال نرى نتائج الانخفاض الأخير لأسعار النفط العالميّة، فاحتماليّة التراجع الاقتصاديّ الإضافيّ في المناطق المركزيّة للاقتصاد العالمي – لا سيما أوروبا – وهي احتماليّة واقعيّة جدًا، يعني أنّ هذا الاستقطاب الإقليميّ سيظلّ على الأرجح كصِفة دائمة الحضور في الوضع المعاصر.
هذه التفاوتات في القوّة والثروة أساسيّة لفهم حركة الثورة المضادة وقد وفّرت أيضًا أرضًا خصبة لنموّ الطائفيّة. والأشكال المتنوّعة للتدخلّات الخارجيّة والإقليميّة – الاقتصاديّة والسياسية والعسكريّة منها – ستسعى دائمًا بالطبع لمنعِ أيّ تحدٍّ جوهريّ للمنظومة الإقليميّة، والنتائج المتوقّعة لتدمير العراق مِن قِبل الغرب خلال العقدين الماضيين ساعدت على تغذية صعود المجموعات الطائفيّة ومطامع الوحدويّة الإسلامويّة. في سوريا، أجّجت يد نظام الأسد الدامية هذه العمليّات عمدًا، ويبدو أنّها كسبت تأييدًا ضمنيًا من الغرب.
ولكن طوال هذه الأحداث، ظلّت الأصوات اليساريّة والتقدميّة غالبًا مهمّشة وانجرفت بسهولة نحو نظرة جيوسياسيّة مانويّة أو نحو أوهامٍ حول «البورجوازية الوطنيّة» في بلادهم. بدون معالجة المسائل العدالة الاجتماعيّة والاقتصاديّة وإيجاد بديلٍ للسياسات التي قادها السّوق في العقود الماضية، لن يكون هنالك أملٌ في بناء قطبٍ تقدّمي يعارض كلًا من النّخب الحالية والمسار الكارثيّ للطائفيّة. وليست هذه المسألة ببساطة مسألةً اقتصاديّة وإنما هي في جوهرها سياسيّة فِعلاً؛ وهي مسألةٌ يجب أن تشمل تحدّي زمرة كبار المسؤولين السياسيين منهم والعسكريين، ورجال الأعمال الأغنياء والشركات الكبرى الذين يستفيدون من الوضع الحالي. [يُعنى بالمانويّة في هذا السياق النظرة الثنائيّة للعالم: «الخير» ضدّ «الشر»]
مصدر النص: موقع ما العمل
————-
الملاحظات:
اقرأ أيضا