عمال مصانع التجميد ببوجدور؛ بؤس اجتماعي وتخلف سياسي
بوجدور مدينة ساحلية في عمق الصحراء يتمحور اقتصادها إضافة إلى تربية الماشية على الصيد البحري، الذي يقتصر على تزويد مصانع التصبير في المناطق الأخرى (خاصة مدينة المرسى بالعيون) بالثروات البحرية.
يستدعي ذلك الحفاظ على الأسماك وحمايتها من التعفن، لذلك تضم مدينة بوجدور مجموعة من المصانع (وحدات التجميد) التي تجمد الماء لصنع “الثلج” الذي يحفظ فيه السمك.
تعد هذه المصانع نشاطا فرعيا ملحقا بالنشاط الرئيسي أي “الصيد البحري” وصناعة التصبير، لذلك يتأثر بشكل كبير بفترات الازدهار والانحسار الذي يعرفه الصيد البحري، وهو ما يشكل مصدر استغلال كثيف للعمال في فترات الذروة.
يستفيد باطرونا بوجودور كغيرها من مدن الصحراء من امتيازات ضريبية كبيرة عبارة عن تنازلات الدولة للقطاع الخاص الذي يستثمر في “تنمية الصحراء”. لكن الحقيقة أن الصحراء هي مشتل لرؤوس الأموال التي تنخرط في طريق التراكم البدائي وتبحث عن دعامات الانطلاق، إنها تنمية لرأس المال وتضخيم لأرباحه وليس تنمية اجتماعية واقتصادية يستفيد منها كادحو الصحراء.
لا يعفى رجال الأعمال المستثمرين في الصحراء من الضرائب فقط بل أيضا من تطبيق الأجزاء المتعلقة بحقوق العمال في “مدونة الشغل”، إن الصحراء جنة ضريبية ومناطق حرة مفتوحة أما رأس المال.
مصانع التجميد ببوجدور
تضم بوجدور خمسة مصانع لصنع الجليد، وتعرف هذه المصانع كل أشكال الاستغلال للطبقة العاملة من أجور بؤس وحرمان من الحقوق الاجتماعية.. الخ
- عقود العمل:
يشتغل العمال داخل هذه المصانع بدون التوقيع على عقود عمل، وإنما باتفاق ضمني وعرفي وشفوي بين الإدارة والأجير الذي يبدأ العمل داخل المصنع.
- الأجور:
نادرا ما تبلغ الأجور الممنوحة في هذه المصانع الحد الأدنى للأجور، فعند الالتحاق بالعمل يتقاضى العامل 1500 درهم ولا تتجاوز الأجور الحد الأدنى رغم الأقدمية في العمل.
ليس هناك سلم يضبط الأجور، فتحديد الأجر بين العامل والإدارة قبل الالتحاق يتم بالمساومة وغالبا عبر فرض الأمر الواقع (1500 درهم كأجر أولي)، ويظل الأجر على حاله سواء في فترات الذروة أو في فترات العمل العادية.
غالبا ما يتأخر أداء الأجور مدة أسبوع حتى 10 أيام، ولا يجد العمال أمام هذا التأخير سوى الانتظار والاستعانة بخدمات البقالة وفي الحدود القصوى الاحتجاج الكلامي أو بالأحرى استعطاف الإدارة للتعجيل للأجور، ويخرق الباطرونا هنا كل البنود حول أداء الأجور المنصوص عليها في قانون الشغل: المادة 363 من مدونة الشغل: “يجب أداء الأجر للعمال على الأقل مرتين في الشهر، تفصل بينهما مدة أقصاها ستة عشر يوما، كما يجب أن يردى للمستخدمين أجرهم مرة في الشهر على الأقل”.
تسلم الأجرة مباشرة من الإدارة دون منح العامل “بطاقة الأداء” أو أي وثيقة أخرى تثبت علاقة العامل بهذه الشركات.
ويعتقد العمال أن الأجر الذي يتقاضون لا يتناسب مع حجم الخدمات والسلع التي يقدمونها للشركة ومالكها.
مثال: يبلغ ناتج شهر من شهور 2015 لإحدى هذه الشركات 240 ألف درهم ينقسم إلى:
أجور العمال: 22 ألف و700 درهم، ولا تشكل إلا نسبة %9.45 من هذا الناتج
أرباح الشركة: 198 ألف و300 درهم أي ما يناهز %82 من هذا الناتج.
نفقات المواد الأولية ونفقات أخرى: 19 ألف درهم
هذه الأرقام لا تدخل اهتلاك الآلات وأبنية المصانع في الحساب، لكنها تظهر مدى الحيف الذي يلحق العمال.
رغم هذا الواقع الذي يظهر حجم التفاوت الصارخ في توزيع القيمة المضافة بين الأجور والأرباح، أي بين العمال والرأسمالي، إلا أن هذا الأخير يعمل دائما من أجل زيادة هذا التفاوت وبالتالي تقليص نصيب العمال من هذا الناتج، أخذا بعين الاعتبار أن هذا الأخير هو نتاج كدح وعرق العمال وليس رأس المال أو الباطرون.
إن أصل ربح الباطرون هو فائض القيمة أي مجموع العمل المجاني وغير المؤدى عنه الذي يستولي عليه رب العمل، ويسعى أرباب شركات التجميد ببوجدور إلى تعظيم هذا القسم غير المؤدى عنه على حساب القسم المؤدى عنه من خلال هذه الأساليب:
* عدم تطبيق ما تنص عليه مدونة الشغل من حد أدنى للأجر
* تجاوز الحد الأقصى القانوني لساعات العمل الذي تنص عليه مدونة الشغل، وعدم تطبيق البنود التي تنص على تعويضات الساعات الإضافية والعمل الليلي:
يشتغل العمال يوميا ما بين 12 ساعة إلى 14 ساعة، ويعملون بالتناوب، حيث يقضي عمال النهار 10 ساعات، بينما يشتغل عمال الليل 14 ساعة، تلجأ الإدارة أحيانا إلى تمديد العمل خارج وقته في حالة تأخر عمال الوردية الموالية أو عطب إحدى الآلات.
إن الرأسمالي الذي يسعى إلى اعتصار أكبر قدر ممكن من الأرباح لا يريد أن تبقى آلاته غير مشتغلة، لأن ذلك يعني اهتلاكها دون أن تؤدي دورها في امتصاص قوة عمل العامل، لذلك يفرض على العمال الاشتغال بالتناوب ليل نهار.
إن أي تمديد خارج عدد الساعات القانونية يعتبر ربحا إضافيا للباطرون واستغلالا بدون مقابل للعمال.
* تكليف العمال بأداء مختلف المهام التي لا تدخل ضمن دائرة اختصاصهم:
لذلك ليس غريبا أن نجد في مصانع بوجدور محاسبا يقوم بأعمال كنس مكتب الإدارة وبرمجة الحاسوبات وملء الشاحنات بالجليد، بينما مراقب آلات التجميد مثلا يقوم بجميع المهام الأخرى: كهربائي ورصاص وإصلاح عجلات العربات وصيانة الآلات وإصلاحها وتنظيف مرافق المعمل.
إنها مهام يقدمها هؤلاء العمال للباطرون دون أجر، فلنفرض أن صيانة الآلات وإصلاح الأعطاب الكهربائية والتنظيف تفرض على الباطرون توظيف عمال للقيام بها، فإن نسبة %82 التي تشكلها الأرباح ستتقلص.
إعانات الدولة لتخفيض قيمة قوة العمل
كغيرها من مناطق الصحراء يستفيد سكان المدينة من الإعانات العينية (الزون) وهي عبارة عن مواد الاستهلاك الأساسية (دقيق، زيت، سكر، شاي.. الخ). وبما أن قيمة قوة العمل (اليد العاملة) تحدد بقيمة مواد الاستهلاك التي تساهم في تجديد هذه القوة وإبقائها على قيد الحياة لتكون قابلة للاستغلال، فإن هذه الإعانات التي تقدمها الدولة تساهم في تخفيض قيمة اليد العاملة وبالتالي الأجور.
تشكل هذه الإعانات تكملة غير مباشرة للأجور، وبالتالي فإن المستفيد الحقيقي من هذه الإعانات ليس سكان الصحراء كما تصور ذلك دعاية الدولة الشوفينية، وإنما رأس المال والقطاع الخاص من خلال تخفيض الأجور التي لا تصرف بشكل كامل على شراء مواد الاستهلاك الأساسية، إن رأس المال هو مجرد طفيلي يمتص المالية العمومية وعرق كدح العمال، ويبكي صارخا هل من مزيد.
لا يستفيد العمال القادمين من المناطق الشمالية لا يستفيدون من هذه الإعانات إلا أن أجورهم هي نفسها أجور أولئك الذين يستفيدون منها، ويساهم ذلك في خلق تمايزات في الصف العمالي ويضع عراقيل أمام وحدته.
عوامل أخرى تخفض الأجور
يساهم انخفاض أثمان كراء المنازل في تخفيض قيمة قوة العمل وبالتالي أجور العمال، فمن الممكن اكتراء غرفة بـ 300 درهم شهرية، لكن هذه الأثمان المنخفضة لا تعني سكنا صحيا وملائما.
كما يساهم أيضا مستوى الاستهلاك الغذائي المفروض على العمال في هذا التخفيض: لا تتجاوز مرات تناول اللحم الأحمر 3 مرات في الشهر، بينما الدجاج الرخيص الثمن يتناوله العمال بشكل يومي إن لم يكن مرتين في اليوم، أما الفواكه فنادرا ما تزين بها مائدة العامل.
وهذا لا يعني أن العامل يدخر شيئا من أجره البئيس، فأغلب العمال يضطرون إلى اللجوء للاقتراض لدى أصحاب الحوانيت في انتظار الإفراج عن الأجر. إن الأجور لا تمنح العامل شيئا باستثناء إمكانية البقاء على قيد الحياة كي يكون صالحا للاستغلال.
قانون الاستغلال البرجوازي
لا يعفى رجال الأعمال من الضرائب فقط بل أيضا من تطبيق القانون:
– لا مصلحة طبية بالشركات، رغم أن طبيعة العمل وشدة البرودة تسبب أمراض كثيرة للعمال (آلام الظهر والمفاصل)، إضافة إلى ما تسببه الضوضاء وضجيج الآلات المستمر ليل نهار من إنهاك للأعصاب وصداع شبه دائم في الرأس للعمال.
– عدم التصريح بالعمال لدى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي.
– مفتش الشغل لا يقوم بالأدوار التي منحها له قانون الشغل، ففي إحدى هذه الشركات لم يكلف مفتش الشغل نفسه للقيام بزيارة إلا مرة واحد في الفترة بين 2010 و2015 مع إنجاز محضر انتهى لا محالة إلى سلة المهملات. (المواد 530 حتى 545 من مدونة الشغل حول دور مفتش الشغل).
غياب النقابة
أغلب العمال أميون باستثناء التقنيين الذين يملكون شهادات الباكالوريا والتأهيل المهني، ويساهم ذلك في إبقاء وعي العمال في مستويات منحطة بشكل كارثي.
في مدينة بوجدور ليس هناك نقابة إلا في الوظيفة العمومية والقطاعات شبه العمومية، بينما يبقى عمال القطاع الخاص منزوعي السلاح.
نموذج الكونفدرالية الديمقراطية للشغل:
يظهر هذا واضحا في البيانات “النادرة جدا” التي تصدرها النقابات في بوجدور، مثل البيان الصادر عن الاجتماع الدوري للاتحاد المحلي 03 أبريل 2015 والذي يغيب عنه أي ذكر لعمال القطاع الخاص وخصوصا عمال وحدات التجميد بينما ركز على الوظيفة العمومية (التعليم والصحة والبلديات: “التضييق على حرية العمل النقابي في قطاعات الصحة والتعليم والجماعات المحلية” والتنديد بسياسة “الكيل بمكيالين في التعامل مع ممثلي الشغيلة التعليمية.. والتضييق غير المسبوق على الحريات النقابية.. استفسار رجال ونساء التعليم..”.
أقصى ما يقوم به عمال وحدات التجميد في حالة تأخير الأجور مثلا هو الانتظار، أو الاحتجاج الفردي والكلامي الذي لا يتعدى استجداء الإدارة.
كل عمال شركات التجميد لا تجربة لهم بالإضرابات ولا بأي احتجاج عمالي، والعمال يخافون حتى من ذكر النقابة تحت تهديد الطرد.
وهناك حادثة ذلت دلالة مهمة سجلت في إحدى هذه الشركات؛ فأثناء قدوم مفتش الشغل لزيارة المصنع هرب العمال من مقابلته خوفا من أن يكون جاسوسا أرسلته الإدارة ليجس نبض العمال ويقيس استيائهم، وقد هرب العمال خوفا من الطرد.
وعي سياسي متدن
العمال المشتغلون بهذه الشركات لا انتماء حزبي أو جمعوي لديهم، وأغلبهم لا يطالع الجرائد ويستقي آراءه السياسية الأولية من إعلام الدولة وأجهزتها.
وتجلى التخلف السياسي المريع لهؤلاء العمال أثناء حراك 20 فبراير التي لقيت عداء صريحا من طرفهم وقد صوتوا بنعم لدستور الاستبداد في يوليوز 2011.
وفي جانب آخر تغلب النعرة القبلية على الوعي الطبقي لدى العمال، وهي نعرة يزكيها الاستبداد ببث الفرقة وسموم الحقد الشوفيني بين السكان الأصليين والقادمين من الأقاليم الداخلية، وبين أبناء “المخيم” وأبناء الصحراء.
دور اليسار المكافح
يغيب التأطير السياسي بشكل كلي في الصحراء، فالاستبداد يريد الصحراء منطقة منزوعة السلاح السياسي، لذلك فإن حتى الأحزاب الليبرالية تستنكف عن التدخل سياسيا في هذه المنطقة، في حين كرس الاستبداد دور أعيان القبائل في تأطير السكان المقسمون إلى غيتوهات قبلية متصارعة في مناسبات انتخابية أو في صراعات الأعيان والتوازنات المحلية.
يقمع الاستبداد كل صوت يخالف منظور ضبطه لهذه المنطقة، ما يجعل العمال فريسة دعايته “الوحدوية” أو فريسة “مستنقع” الاحتراب القبلي والشوفيني.
إن مهمة عظمى مطروحة على عاتق اليسار المكافح والمناضل في التدخل لتأطير العمال سياسيا ونقابيا، من خلال التشهير بأوضاع الاستغلال الاقتصادي والتخبيل السياسي التي يرعاها النظام بالمنطقة.
نعم إنهم عمال متخلفون سياسيا وعديمو التجربة النقابية، لكنهم يتحكمون في مفاصل الإنتاج الرأسمالي، لا يأتي الوعي الطبقي من فراغ، بل يحتاج إلى مجهودات حثيثة وصبر لا يكل أو يمل من أجل الرقي بوعي العمال.. وهي مهمة نستطيع القيام بها، بل نحن نقوم بها.
من مواد الكراس العمالي كلميم، مايو 2015
منشور بالعدد 60 من جريدة المناضل-ة
اقرأ أيضا