بعد ربع قرن إضافية… لا سبيل غير نهوض الطبقة العاملة بحزبها الاشتراكي الثوري
اكتمل ربع قرن إضافي من حياة غالبية الشعب المغربي غير الحرة ولا السعيدة. إذ لم يختلف ربع قرن هذا، في الجوهر، عن سابقه من عصور الاستبداد السياسي والقهر الطبقي. فسياسيا لا حريات إلا نزر يسير ، مهدد في كل حين، يفرضه ميزان قوى يظل لغير صالح الأغلبية الشعبية. واجتماعيا يزداد الإفقار، وما ينجم عنه من بؤس وتردي شروط الحياة، بقدر تنامي تراكمِ الثروة في القطب الطبقي المضاد.
الخصائص العامة للوضع تطبعها الاستمرارية: اقتصاد تابع مُخضَع لمصلحة أقلية برجوازية كبيرة محلية، حليف لرأس المال الإمبريالي، بواسطة آليات استعمارية جرى تكريسها بتجديدها. إذ أننا لم نعد اليوم مغلولين بعَقد حماية صريح، بل باتفاق “شراكة” مع الاتحاد الأوربي، وباتفاقات “تبادل حر” مع قوى إمبريالية متعددة، وبقيود الديون، وبعلاقة الاستعباد التقليدية مع الإمبريالية الأمريكية المعززة اليوم بالتطبيع مع الكيان الصهيوني، علاقة تجعل بلدنا ومقدراته أداة بيد حلف شمال الأطلسي إقليميا لخدمة مصالحه التوسعية.
ومن جهة أخرى نظام طغيان سياسي مقنَّع بشبكة مؤسسات، منها “المنتخَب” والاستشاري، والتكنوقراطي، و”مجتمع مدني”، تُعزز كلها السلطة الحقيقية، سلطة مُركَّزَة في موقعها التاريخي الموروث.
وقد عاشت أقسام شعبية عريضة طيلة ربع قرن هذا على أوهام تغيير الوضع، وتحسين ظروف الحياة. كان ذلك:
- أولا ، بأمل في أن يأتي التغيير هِبة عطوفة من فوق، سرعان ما اتضح أن كل ما يوحي بذلك لم يكن غير تكتيكات وحيل سياسية استوجبها تدبير بدايات “العهد الجديد”؛
- ثانيا، بسعي للتأثير انتخابيا بالمراهنة على قوى تُظهر مزاعمَ سعيٍ إلى بديل للوضع القائم. كان ذلك بالتصويت على المعارضة التاريخية، وما ترتب عنه من “تناوب”، كانت غايته الحقيقة تأمين انتقال سلس للعرش؛ وبعده بالتصويت على معارضة “إسلامية”، ركبت موجة الاستياء الناهضة في سياق السيرورة الثورية التي اجتاحت منطقتنا، وجرى استعمالها لاحتواء الاندفاع المطلبي الصاعد من تحت، ثم التخلص منها بعد انتفاء الحاجة، على غرار ما سمي “حكومة اليوسفي”.
كان مجمل ما جرى تسويقه من وصفات سياسية لمعالجة وضع لا يطاق، اجتماعيا وسياسيا، شعوذات “التوافق” و “تقدم المغرب بتعاون الحركة الوطنية الديمقراطية والملكية”، والسير تدريجيا في “انتقال ديمقراطي” يوازي تنمية اقتصادية متيحة “تنمية بشرية”، وما شابه من قاموس الذل السياسي الذي ابتكرته المعارضة الزائفة بكل تلاوينها. وقد سهَّل على المستفيدين من الوضع، برجوازية وملاكين عقاريين كبار، ربحَ ربع قرن إضافي ما توجد عليه الطبقة العاملة المغربية من تأخر سياسي عميق. تخلفٌ ناجم عن عقود هيمنة سياسية برجوازية عبر أحزاب “وطنية ديمقراطية زائفة” مارست سطوة على منظمات النضال، وفي المقام الأول الحركة النقابية. ولم يتضرر النضال العمالي وحده من هكذا حالة، بل حتى حركة النضال الشعبي المنبثقة منذ منتصف التسعينات لتبلغ ذروة مع حراك الريف/جرادة. فرغم الزخم الشعبي المميز لهذه الحركة غير المسبوقة تاريخيا، لم تتجاوز المطلب الاجتماعي نحو أفق سياسي يروم إبدال سلطة الأقلية المستبدة بسلطة ديمقراطية في مجتمع بلا استغلال واضطهاد. وهو أفق يفترض وجود قوة سياسية قائدة، حاملة لمشروع تغيير شامل وعميق، لا يمكن أن تكون غير حزب الشغيلة الاشتراكي. والحال أن هكذا حزب يبدو اليوم أبعد منالا من أي وقت مضى. فلا منظمات نقابية مستوفية لحد أدنى من مقومات التصدي للهجمة البرجوازية المتزايدة حدة و اتساعا، بل توغل قيادات، ما لبتت تنأى عن القاعدة العمالية، في سياسة تعاون مع الخصم. ولا يسار عمالي نال حظا من القدرة على التأثير الفعال في مجرى النضال العمالي والشعبي، ولا فئة مثقفة تحمل هم الشعب المقهور، ولا شبيبة متجذرة تواقة إلى الانعتاق…
وإن انعدام القوة السياسية العمالية، حاملة مشروع بديل جذري، اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا، مشروع القطع مع الاستبداد السياسي والتبعية والرأسمالية، عاملٌ يفسح في المجال لاستمرار وتوطد هيمنة قوى رجعية، دينية الخطاب، تشل قسما عريضا من المجتمع عن أي نضال ضد الأسباب العميقة لواقع القهر الطبقي، أصل البلاء، وتحرف مقدرتها النضالية نحو مآزق حلول لا تقل استبدادا سياسيا وظلما اجتماعيا.
إن عوامل تغيير جوهري جذري قائمة موضوعيا في الواقع، إنما هي كمون بحاجة إلى تفعيل لتصير وجودا بالفعل.فملايين الشغيلة، رجالا ونساء، ضحايا للرأسمالية التابعة، لا يستسلمون لواقع الاستغلال و الاضطهاد، بل يقاومون، قسم كبير منهم بنحو سلبي، بمغالبة الصعاب بجهد فردي. وقسم ضئيل بنحو ايجابي بالانخراط في أدوات النضال القائمة أو بإبداع صيغ أخرى. ملايين الشغيلة هؤلاء لهم مقدرة ليست متاحة لسواهم- هن من المقهورين- ات، المقدرة المادية على جعل إطاحة النظام الرأسمالي أمراً ممكناً. إذ ليس بوسع أي طبقة أخرى أو فئة أخرى، مهما بلغت عدديا، أن تشل الإنتاج الرأسمالي وتهاجم قلب اقتصاد السوق مثل الطبقة العاملة. ومن ثمة ما تمثل من تهديد محتمل لمالكي وسائل الإنتاج وسلطتهم في المجتمع الرأسمالي.
الانتقال من الكمون إلى الوجود الفعلي متمثل في امتلاك طبقة الشغيلة أداتها السياسية لقيادة نضالها ونضال كافة ضحايا الرأسمالية. بيد أن هذا الامتلاك لا يمكن أن يكون غاية مرتجلة، ويستحيل أن ينشأ تلقائياً من الأحداث. لابد من بنائها مسبقاً، وتكوين كوادر تستطيع، رغم كونها أقلية، أن تكسب أغلبية الشغيلة والشعب المقهور عندما تكون الظروف الموضوعية مواتية.
الكفاح العمالي و الشعبي من مواقعه المتاحة راهنا، بكل نواقصه، واعتمادا على الممكن غير المفعَّل، هو ما سيتيح للأقلية الواعية حاليا التقدم في بناء الحزب الاشتراكي الثوري الذي يستدعيه الوضع، استنادا إلى المتراكم من دروس، محلية وعالمية، واعتمادا أساسا على القوى الفتية والنسائية غير المثقلة بهزائم الماضي.
خارج هذا الخيار الواقعي الثوري، وبدون بناء ذلك الحزب، سيستمر بمختلف الأشكال البحثُ عن منقذ غير موجود، والانسياق مع الشعوذة السياسية لمختلف أدعياء المعارضة، ومن ثمة إتاحة ربع قرن لا بل قرونا إضافية من الاستبداد السياسي واستغلال الشغيلة وشتى صنوف الاضطهاد المميزة للرأسمالية وقد انضاف إليها تدمير كوكب الأرض.
اقرأ أيضا