الاتفاق القطاعي بين الحكومة التنسيق النقابي الوطني (الصحة): استسلام ناجز

بقلم: شادية الشريف

وقع التنسيق النقابي الوطني بقطاع الصحة مع وزير الصحة والحماية الاجتماعية اتفاقا قطاعيا يوم 23 يوليوز 2024. أصدر التنسيق النقابي بلاغا مقتضبا يُخبِر فيه الشغيلة بـ”التقدم في عرض الحكومة الجديد مقارنة بالعرض السابق”، وقرر بذلك “تعليق البرنامج النضالي المسطر من طرف التنسيق”، هكذا دون أدنى استشارة لآلاف من شغيلة الصحة المعنيين- ات بمضمون “التفاوض” ومصير البرنامج النضالي، في حين انفردت الجامعة الوطنية للصحة (ا. م. ش) برفض الحضور في اللقاء مع الوزارة (23 يوليو) وأعلنت الاستمرار في البرنامج النضالي المسطر، لكن دون معارضة جوهر ما اتُفِق عليه.

دون تعميم محضر الاتفاق سواء من طرف الوزارة، أو من طرف التنسيق النقابي الوطني، أصدر هذا الأخير ما أسماه “ورقة تقنية تفصيلية لمضامين الاتفاق الموقع بين وزارة الصحة والحماية الاجتماعية والتنسيق النقابي الوطني بقطاع الصحة”. سنقدم في هذا النص تعليقا حول مضامين الورقة التقنية، مُبرزين- ات مرة أخرى أن القيادات النقابية (سواء الموقعة والمُعلِّقة للبرنامج النضالي، أو التي الممتنعة والمستأنفة للنضال) تقف على نفس الأرضية مع الدولة، مطالبة فقط بفتات مادي (ما تسميه المطالب ذات الأثر المالي) لتسريع تنفيذ استراتيجية الدولة في القطاع.

ملاحظة بدئية: أين هو مطلب المجانية والعمومية؟

قطع هجوم الدولة على الطابع المجاني والعمومي للصحة أشواطا متقدمة جدا، وأحاطت ذلك بإطار تشريعي متنوع. صادقت الدولة منذ 12 يوليوز 2011 على قانون إطار رقم 34.09 يتعلق بالمنظومة الصحية وبعرض العلاجات، أي 12 يوما بالضبط على تمرير الدستور على خلفية الحراك السياسي والاجتماعي المعروف باسم حركة 20 فبراير. تضمن هذا القانون روح ذاك الدستور الذي يجعل من الدول طرفا فقط ضمن أطراف أخرى لـ”تحقيق الأهداف والأعمال الصحية”: الجماعات المحلية والمنظمات المهنية والجمعيات [المادة 5]، فضلا عن القطاع الخاص [المادة 9]، وإضفاء الطابع التشريعي على الشراكة قطاع عام- قطاع خاص [المادة 15].

غاب مطلب مجانبة وعمومية الصحة عن المطالب التي تتحاور حولها قيادات نقابات القطاع، وذاك قبول لسياسة الدولة العامة في الصحة. لكن المعضلة أن كل المطالب الأخرى التي تحاور حولها القيادات ويناضل من أجلها شغيلة الصحة (أي المطالب القانونية والاعتبارية وذات الأثر المالي)، تصبح عَدَمًا عند القبول بسياسة الدولة تلك.

أرسى دستور 2011 ما يُطلَق عليه في أدبيات البنك الدولي “مراجعة دور الدولة”، ويُطلَق عليه في أدبيات أخرى “تراجع الدور الاجتماعي للدولة”. وكل الإصلاحات التي لحقت الوظيفة والإدارات العمومية نابعة من هذا المبدأ، وهو ما لا تخفيه الدولة في وثائقها ومنذ وقت مبكر جدا: “أدت مختلف الإصلاحات المتعلقة بدور الدولة في الحياة الاقتصادية للبلاد إلى عدة تغييرات، أصبحت تقتضي اليوم إصلاحا عميقا للإدارة”[1].

منذ تطبيق برامج التقويم الهيكلي وما تلاها، بدأت الدولة تُخلي مساحات عظيمة للقطاع الخاص، سواء في الحياة الاقتصادية أو في تقديم الخدمات العمومية والاجتماعية، وقد ترتب عن هذا تغير في أنماط التوظيف/ التشغيل و”تدبير المسار المهني” لموظفيها؛ أي ما تسميه الدولة “إصلاحا عميقا للإدارة”. وقبول “الإصلاحات المتعلقة بدور الدولة في الحياة الاقتصادية”، يترتب عليه نقابيا المطالبة بما يخفف وقع تلك الإصلاحات على الشغيلة دون معارضة جذرية لها؛ وهو ما يُختصَر في “المطالب ذات الأثر المالي”، وهو سلوك يطبع كل الجسم النقابي، وليس فقط قطاع الصحة.

إن القبول بالمجموعات الترابية الصحية والقانون الإطار الخاص بالمنظومة الصحية، والمطالبة في نفس الوقت بالحفاظ على صفة الموظف العمومي لشغيلة الصحة، تناقض لا يمكن أن يخفيه ادعاء الدفاع عن مصالح أولئك الشغيلة. فقط الدفاع الحازم عن الطابع المجاني والعمومي للصحة ورفض كل أشكال الخوصصة والشراكة بين القطاعين العام والخاص والتدبير المفوض، هو ما سيحافظ عن الطابع القار والعمومي لأنماط التشغيل وما يترتب عنها من حقوق (الأجور والتعويضات والترقيات والمعاش… إلخ).

ننتقل الآن للتعليق على مضامين الورقة التقنية التفصيلية الصادرة عن التنسيق النقابي الوطني. كما هو شأن البلاغ التفصيلي (14 يوليوز)، قُسمت الورقة التقنية إلى فرعين أساسيين:

أولا- بالنسبة للوضعية الاعتبارية والقانونية والإدارية والوظيفية لمهنيي الصحة:

  1. ورد في الورقة التقنية ما يلي: “تأكيد النصوص التطبيقية للوظفية الصحية على الحفاظ على صفة الموظف العمومي لمهنيي الصحة مع منحه كافة الضمانات والحقوق الأساسية والتي يكفلها الدستور والنصوص التشريعية الجاري بها العمل لا سيما النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية خاصة الفصل 2 و 3 منه”.

أول ما يتبادر إلى الأذهان، هو تجاهل (أو جهل) قيادات نقابات القطاع للتطورات الكبيرة التي حدثت في الحقل التشريعي الخاص بالوظيفة والإدارات العمومية، هذا ما يجعل تلك القيادات تحاور من موقع ضعف، إزاء دولة متسلحة بترسانة تشريعية ودراسية متكاملة ومُتقنة.

ماذا يعني “الحفاظ على صفة الموظفي العمومي لمهنيي الصحة” في ظل مستجدات تشريعية أصبح معها النظام الأساسي للوظيفة العمومية (24 فبراير 1958) خرقة بالية، لا تصلح الإحالة إليه في أي شيء؟

سنورد هنا المادتين المشار إليها في النقطة أعلاه:

الفصل 2: يُعد موظفا كل شخص يُعين في وظيفة قارة ويُرسَّم في إحدى رتب السلم الخاص بأسلاك الإدارة التابعة للدولة.

الفصل 3: الموظف في حالة قانونية ونظامية إزاء الإدارة.

ونكملها بفصلين آخرين لنكون على بينة أكثر:

الفصل 4: يطبَّق هذا القانون الأساسي على سائر الموظفين بالإدارات المركزية للدولة وبالمصالح الخارجية المُلحقَة بها.

الفصل 9: تؤشر السلطة الحكومية المكلفة بالوظيفة العمومية على النصوص النظامية المتعلقة بالوظيفة العمومية.

ما لا تريد أن تنتبه إليه قيادات النقابات وممثليها في جلسات الحوار، أن النظام الأساسي لسنة 1958 أصبح إطارا فارغا جرى ملؤه بترسانة تشريعية جديدة، تُفقِد الفصول أعلاه من أي مضمون قديم، وتضفي عليه مضمونا مستجدا.

صادقت الدولة على مرسوم اللاتمركز الإداري في ديسمبر 2018، وقبلها على القانون التنظيمي للمالية سنة 2015، وفي 2023 صادقت على القانون رقم 22-09 المتعلق بالوظيفة الصحية وقانون رقم 08.22 بإحداث المجموعات الصحية الترابية. كل هذه الترسانة التشريعية تجعل من كل استجابة من الدولة لمطلب “الحفاظ على صفة الموظف العمومي” مجرد إنشاء كلامي فارغ وحيلة لغوية لخداع الشغيلة المناضلين- ات.

تنص المادة 18 من قانون الوظيفة الصحية على أن توظيف مهنيي- ات الصحية يتم “بناء على حاجيات المجموعات الصحية الترابية من الموارد البشرية”، وتفتح المادة 19 باب التشغيل بموجب عقود. عموما قانون الوظيفة الصحية مجرد إطار قانوني عام يحيل على القانون المحدث للمجموعات الصحية الترابية التي ستفصل أكثر في موضوع توظيف/ تشغيل موظفي- ات القطاع ووضعياتهم- هن القانونية والاعتبارية والإدارية.

إن الفصول الأربعة من نظام 1958 الواردة أعلاه تفقد كل مضمون إزاء الوارد في قانون المجموعات الصحية الترابية، ومعها ينتفي أي أثر فعلي لـ”الاحتفاظ بصفة الموظفي العمومي لمهنيي الصحة”.

ليس هذه المجموعات “مصالح خارجية ملحقة” بوزارة الصحة [كما ورد في الفصل 4]. حسب المادة 1 من قانون هذه المجموعات، فإن هذه الأخيرة “مؤسسة عمومية تتمتع بالشخصية الاعتبارية والاستقلال المالي”.

في ما يخص مهنيي- ات الصحة يتمتع مجلس إدارة المجموعات بصلاحية “اعتماد النظام الأساسي لمهنيي الصحة بالمجموعة، طبقا للنظام الأساسي النموذجي لمهنيي الصحة بالمجموعات الترابية الذي يحدد بنص تنظيمي” [المادة 7]، وتمنح المادة 12 لمديرها العام صلاحية “تدبير الموارد البشرية للمجموعة، والتعيين في المناصب طبقا للهيكل التنظيمي للمجموعة وللنظام الأساسي لمستخدَميها”. عكس ما كان في مرسوم 2 فبراير 1967 بشأن النظام الأساسي الخاص بموظفي وزارة الصحة العمومية، الذي يقول فصله الأول بأن وزير الصحة العمومية هو من يعلن بقرار “عن التعيينات والترقيات في الدرجة والرتبة المتعلقة بهؤلاء الموظفين”.

الباب الرابع من قانون المجموعات خاص بمهنيي الصحة:

المادة 15: يتألف مهنيو الصحة العاملون بالمجموعة من:

– مهنيي الصحة يتم توظيفهم طبقا للنظام الأساسي للمجموعة.

– موظفين ومستخدَمين يتم نقلهم إلى المجموعة، طبقا للنظام الأساسي للمجموعة.

– موظفين ملحَقين لدى المجموعة، طبقا للنصوص التشريعية والتنظيمية الجاري بها العمل.

وتفصل المادة 16 تدابير نقل وإدماج مهنيي الصحة “الذين تم نقلهم لدى المجموعة بموجب هذه المادة ضمن مهنيي الصحة بالمجموعة، طبقا للنظام الأساسي الخاص بالمجموعة”.

هكذا فإن علاقة الشغل/ التوظيف الجديدة قائمة بين مهنيي الصحة والمجموعات الصحية الترابية وتحكمها تشريعيا “الأنظمة الأساسية الخاصة بكل مجموعة”. وعودة إلى الفصل 3 من نظام 1958 الذي يقول: “الموظف في حالة قانونية ونظامية إزاء الإدارة”، فإن قانون المجموعات أحدث تعديلا جوهريا وجذريا في مضمونها؛ حيث المادة 21 من قانون المجموعات يقر بما يلي: تحل عبارة “المجموعة الصحية الترابية المعنية” محل عبارتي “الإدارة” أو “السلطة الحكومية المختصة”. هكذا تصبح علاقة الشغل الجديدة تربط مهنيي- ات الصحة مع المجموعات الصحية الترابية التي أصبحوا في “حالة قانونية ونظامية إزاءها” وليس إزاء وزارة الصحة كما هو شأن النظام الأساسي لموظفي الصحة العمومية لسنة 1967.

الخلاصة أن الحديث عن “الحفاظ على صفة الموظف العمومي” وكأنه مكسب انتزعته قيادات التنسيق النقابي الوطني “في إطار نقاش طويل استغرق 10 ساعات”، ليس إلا خدعة، لإخفاء حجم التراجع الذي قبله به تلك القيادات مقابل فتات كلامي حول الصفة. وهي نفس الخدعة التي استعملتها الدولة بتعاون مع قيادات نقابات التعليم لإطفاء الحراك العظيم؛ بإعلان أن موظفي- ات القطاع لدى الأكاديميات الجهوية يتمتعون بصفة موظف عمومي.

  1. ورد في الورقة التقنية: “الالتزام بالحفاظ على جميع الحقوق والمكتسبات لفائدة مهنيي الصحة كموظفين عموميين مع إضافة مكتسبات جديدة، والتي تم التنصيص عليها بموجب القوانين المهيكلة للمنظومة الصحية”. تفصل الورقة التقنية في الأمر متحدثة عن “كافة الضمانات والحقوق الأساسية والتي يكفلها الدستور”

الواقع هو أن الدولة، بعد نضالات واحتجاجات شغيلة الصحة وقمعها، لم تتنازل “في إطار نقاش طويل استغرق 10 ساعات”، عن شيء، إنما قدمت ما يوجد أصلا في “القوانين المهيكِلة للمنظومة الصحية”، والدستور. وهذا ما يوجد بالحرف في قانون الوظيفة الصحية خاصة في المواد 1 و2 و3 و4 و5 و6.

أما ما أسمته الورقة التقنية “مكتسبات جديدة”، فهي تدخل ضمن جوهر هجوم الدولة، خاصة في الشق المتعلق بخفض كتلة الأجور. وهو الوارد في قانون الوظيفة الصحية [المادة 7] تحت عنوان “الأجر الثابت” و”الأجر المتغير”، وهي طريقة لإدخال تقنية “العمل بالأهداف les objectifs” السادئة في القطاع الخاص، وهي آلية لاعتصار أكبر قدر ممكن من العمل من مهنيي- ات الصحة مقابل تعويضات وحوافز غير دائمة وغير قارة.

ما لا يستحضره التنسيق النقابي الوطني هو أن منظومة الأجور قد تعرضت لتفكيك ممنهج منذ أكثر من عقدين. وفي سنة 2011 قامت الوزارة بمنح صفقة إنجاز دراسة لـ”مجموعة مكاتب الدراسات الدولية المتخصصة Hewitt/Demos”، وكانت خلاصات هذه الأخيرة كالتالي: ضرورة ربط الأجر بالوظيفة وليس بالدرجة أو الإطار، وهو ما سيفتح الباب لربط قسم مهم من الأجور (أي التعويضات) أو ما أسماه قانون الوظيفة الصحية “الأجر المتغير” بالاستحقاق والجدارة والأداء، بينما سيكون للدرجة والرتبة وزن أقل، أي حصة أقل للراتب الأساسي (الأجر الثابت) وحصة أكبر للأجر المتغير[2]. ومباشرة انتقلت توصيات مكتب الدراسات هذا إلى وثائق مؤسسات الدولة وعلى رأسها المجلس الأعلى للحسابات الذي أصدر تقريرا حول الوظيفة العمومية سنة 2017، ضمنه نفس التوصية، وللأسف أيضا أصبحت جزءا من مطالب التنسيق النقابي لقطاع الصحة.

ما يعتبره التنسيق الوطني أيضا مكتسبا جديدا هو بدوره أحد أوجه هجوم الدولة على الترقية، التي ربطتها المادة 20 من قانون الوظيفة الصحية بـ”تقييم دوري للأداء وفق مبادئ الشفافية والموضوعية والحياد وعدم التمييز”، وهو تعبير مفخم عن المرودودية والاستحقاق الفردي لتلك الترقيات، بدل المعايير الجماعية. فالترقية في الرتبة والدرجة مع قانون الوظيفة الصحية “تتم صفة منتظمة بناء على شبكة معايير موضوعية” [المادة 21]، هذه المعايير تفصلها المادة 20 على الشكل التالي: “يخضع مهنيو الصحة لتقييم دوري للأداء وفق مبادئ الشفافية والموضوعية والحياد وعدم التمييز. تعتمد نتائج هذا التقييم في التحفيز والتكوين. بناء على نتائج التقييم، تمنح لمهني الصحة نقطة عددية سنوية من طرف المسؤول عن المجموعة الصحية الترابية أو الشخص المفوض له من قبله لهذا الغرض”. وسيأتي تفصيل هذا في النقطة الخاصة بالدلائل المرجعية للوظائف والكفاءات أدناه.

  1. ورد في الورقة التقنية: “أداء أجور مهنيي الصحة من الميزانية العامة للدولة- فصل نفقات الموظفين- من طرف الخزينة العامة للملكة طبقا للنصوص التشريعية والتنظيمية الجاري بها العمل مع توفرهم على مناصب مالية قارة”.

هذا ليس مكتسبا، بل إعدادٌ لتراجع عظيم قادم في المستقبل. إن منح المجموعات الصحية الترابية صلاحية التوظيف/ التشغيل و”تدبير المسار المهني”، يقتضي بالضرورة انسجاما مع كون تلك المجموعات “مؤسسات ذات شخصية اعتبارية واستقلال مالي وإداري”. ويعني هذا أن كل ما يخص تدبير شؤون الموظفين من التكوين مرورا بالتوظيف وكل ما يتعلق به من تدبير المسار المهني (أجور وترقيات وتعويضات ورخص… إلخ) سيكون بيد تلك المجموعات، وهو ما يقوله صراحة القانون المُحدث لها.

لكن، ككل مخططات الدولة، فإن تطبيقها الكامل يستدعي وقتا، وبالدرجة الأولى إدراكا لما سيعترضها من مقاومة. لذلك تنهج الدولة نهج التدرج. يوجد هذا بالحرف في وثائق الوزارة، والأعمى عن وعي وحده لا يريد إدراكها. ورد في “حصيلة وزارة الانتقال الرقمي وإصلاح الإدارة برسم سنة 2022” ما يلي: “تخويل صلاحيات في تدبير المسار المهني: تمكين رؤساء التمثيليات الإدارية اللاممركزة تدريجيا من صلاحيات تدبير المسار المهني للموارد البشرية الخاضعة لسلطتهم على الصعيدين الجهوي والإقليمي”.

لذلك فإن الحفاظ على آلية تقنية صِرفة لأداء أجور مهنيي- ات الصحة من الميزانية العامة للدولة- فصل نفقات الموظفين، ليس مكسبا، بل حفاظا على آلية موروثة عن نمط التوظيف القديم، في انتظار الإرساء الكامل لآلية التوظيف الجديد: التوظيف الجهوي.

أحدث القانون التنظيمي لقانون المالية (2015) ومرسوم اللاتمركز الإداري (2017) ما يسمى بـ”آمر بالصرف جهوي”، وأوردته وزارة الصحة والحماية الاجتماعية في وثيقة “مشروع نجاعة الأداء، مشروع قانون المالية لسنة 2023″، كالتالي: “العمل على تعزيز اللاتمركز الميزانياتي من خلال الرفع التدريجي لنسبة الاعتمادات المفوضة للآمرين بالصرف المساعدين قصد تدبيرها من طرف المصالح الأكثر قربا من موقع المشاريع ومن المواطن، وتنزيلا للمقاربة التعاقدية بين مسؤولي البرامج الميزانياتية والمديريات الجهوية على أساس مخططات جهوية للتنمية الصحية تأخذ بعين الاعتبار معايير ومبادئ الخريطة الصحية ودينامية الشراكة مع المجالس الجهوية والجماعات الترابية والقطاع الخاص ومكونات المجتمع المدني”.

الحفاظ إذن على صرف أجور مهنيي الصحة من المركز ليس إلا إجراءً انتقاليا وظرفيا في انتظار إحداث مؤسسة الآمر بالصرف جهوي، وآنذاك ستُكمل الدولة حلقة هجومها.

  1. ورد في الورقة: “إخراج الدليل المرجعي للوظائف والكفاءات ومصنف الأعمال قبل متم السنة، وفق مقاربة تشاركية”.

في هذه النقطة يبلغ الجهل بوثائق الدولة وترسانتها التشريعية من طرف قيادات نقابات القطاع مبلغه. لا يحظى هذا الأمر- شأنه شأن الباقي- بما يكفي من اهتمام دراسي من طرف الجسم النقابي، وهو نتاجُ انعدام التكوين النقابي، أو اختصاره في أمور تقنية (مثل تقنيات تدبير الاجتماعات والتفاوض… إلخ). يعتقد الجسم النقابي المهتم بهذا الموضوع أن “دور الدليل المرجعي للوظائف والكفاءات” هو “تحديد مهام كل فئة”. في حين يتعدى الأمر ذلك بكثير.

“الدلائل المرجعية للوظائف والأعداد والكفاءات” أداة فعالة لتنفيذ سياسة الدولة في قطاع الوظيفة والإدارات العمومية: التقشف ونقل آليات تدبير الموارد البشرية من القطاع الخاص إلى القطاع العام.

بداية وجب التنويه إلى أن إعداد هذه الدلائل جرى بإشراف من البنك الدولي. إذ نظمت وزارة تحديث القطاعات العامة تحت تأطير خبراء دوليين وبتمويل من البنك الدولي والاتحاد الأوروبي، عدة لقاءات ومدارسات لتمكين المسؤولين عن تدبير الموارد البشرية من تقنيات التدبير التوقعي، وفق المعايير المعتمَدة دوليا في هذا الشأن[3].

أصدرت وزارة الوظيفة العمومية وتحديث الإدارة في سنة 2016 “الدليل المنهجي للتدبير التوقعي للوظائف والأعداد والكفاءات”، وهو وثيقة مفصلة تتكون من 114 صفحة. ويمكن أي مُطلع ومُطلعة- فبالأحرى نقابي- ة- أي يُدرك خطورة تلك الوثيقة على مصالح الشغيلة.

يلخص “المدخل” جوهر تلك الوثيقة كأداة لتطبيق التقشف واعتصار العمل من مهنيي- ات الصحة: “التدبير التوقعي للوظائف والأعداد والكفاءات GPEEC” تسمية تشير إلى المسؤولية التي تقع على عاتق المسؤولين ومدراء الموارد البشرية للتواصل إلى الاستخدام الأمثل لهذه الموارد، فهم مطالَبون بالسهر على الرفع من مستوى لموظفين بالمصالح الإدارية وبترشيد استخدام الإمكانات المتاحة”.

يحيل “ترشيد استخدام الإمكانات المتاحة” إلى “التقشف الميزانياتي” في حين يعني “الاستخدام الأمثل للموارد البشرية” اعتصار أكبر قدر من العمل منها. ويفصل الدليل المنهجي في آليات الاعتصار تلك، وهي التي أسمتها الورقة التقنية “مكتسبات جديدة”.

ينظر الدليل المنهجي إلى موظفي- ات الإدارات العمومية كآلة ينبغي ضمان استعمالها الأكفأ. وهذا ما كتب حول الموضوع: “يمثل الموظفون في أي جهاز حكومي أحد “الأصول” ذات الأهمية البالغة. وهم عادة ما يشكلون المورد الرئيسي (إن لم يكن الوحيد) لهذا الجهاز. فالموظفون عبارة عن استثمارات كثيرا ما يُساء تفديرها. ويكفي لإدراك ذلك، المقارنة بين المجموع الكل لما يتقاضاه أحدهم على مدى ثلاثين عاما مثلا والمبلغ اللازم لشراء وصيانة آلة لا يتجاوز عمرها 15 إلى 20 عاما على أحسن تقدير”.

بالنسبة للدولة الموظَّف- ة مورد بشري/ رأس مال بشري/ آلة ينبغي استثماره ها ستثمارا أمثل لضمان أكبر مردودية بأقل قدر من الحقوق؛ وهو ما ورد في الدليل المنهجي بالحرف: “الأمر لا يتعلق إذن بمجرد حصر لعدد من الموظفين الذين يتلقون أجورهم من الدولة، وإنما المقصود هو الحصول منهم على أقصى فائدة من منظور الأخذ والعطاء”.

ولضمان ذلك يقترح الدليل المنهجي إضفاء المرونة القصوى على تشريعات التوظيف في قطاعات الوظيفة والإدارات العمومية: “يتطلع المسؤولون في كثير من الإدارات العمومية إلى مزيد من المرونة في القوانين والتطبيق. وإذا كانت البدائل الحديثة في مجال التدبير الإداري تضع تحقيق النتائج في مكانة مرموقة، فلا يمكن أن يظل الإطار القانوني على ما هو عليه من جمود وصرامة”.

نأخذ الترقية والحوافز على سبيل المثال. يربطها الدليل المنهجي بــ”تقييم الأداء”، وهو مرادف للمردودية: “يمكن تقييم المردودية من خلال الوقوف على مدى قدرة الموظف على تحقيق النتائج”. وحسب الدليل المنهجي يتيح توثيق هذه النتائج لـ”غايات معينة مثل الالتحاق بالوظيفة والأجر والتكوين والدعم الاليكتروني”.

لم تبذل الدولة جهدا كبيرا في اختراع هذه الآليات، بل نقلتها نقلا من القطاع الخاص (عالم المقاولة). فربط الترقيات والحوافز والتعويضات بـ”النتائج” هو إحدى آليات الاستغلال اليد العاملة. وليس سقف النتائج المطلوبة محددا بشكل نهائي، بل يتغير دوما لفرض سقف أعلى من النتائج على الشغيل كي يحافظ على امتيازات التعويضات والحوافز. وهذا ما يوجد بالضبط في الدليل المنهجي للوظائف والأعداد والكفاءات: “يستهدف “الدليل” أيضا، تمكين المسؤولين من تتفيذ خطة توقعية، تشمل جميع الأنشطة الخاصة بتطوير الموارد البشرية (التكوين والترقيات والأجور وتوزيع انتشار الموظفين، والتوظيف عن طريق مباراة)، وفق منظور مستقبلي طبقا للحاجيات المتوقعة. وتتطلب الخطة مراجعة متواصلة ومستمرة”، أو ما ورد في مكان آخر في الدليل المنهجي: “التعديل المستمر للكفاءات لتحقيق العمل المطلوب المتوقَّع”.

هذا ما تطالب قيادات التنسيق النقابي إخراجه قبل متم السنة. فهل تعتقد أن القيام بذلك “وفق مقاربة تشاركية”، سيجعله في صالح الشغيلة. أثبتت تاريخ “المقاربة التشاركية” أن ما ينتج عنها يكون كارثيا على الشغيلة (الميثاق الوطني للتربية والتكوين، مدونة الشغل، إصلاح أنظمة التقاعد، النظام الأساسي لموظفي التعليم… إلخ). والدولة بدورها حريصة على هذه المقاربة، فالدليل المنهجي جعل من “الحوار الاجتماعي” أحد شروط نجاح التدبير التوقعي للوظائف والكفاءات.

ليست الدلائل المرجعية للوظائف والكفاءات محض أداة لتكريس فرط الاستغلال، بل أيضا أداة لتوقع مقاومة الشغيلة والتغلب عليها. لذلك أوصى الدليل المنهجي (2016) بالمقاربة التدرجية والصبر: “يجب العمل بمنهجية وتواضع وصبر في آن واحد. سوف تظهر مخاوف ويظهر اليأس. كما هو الحال في كل مكان في العالم عندما تتغير أساليب العمل! سوف يتطلب ذلك في مرحلة التنفيذ بعض التكيف، وسوف ترتكب أخطاء أثناء التعلم. ولتحقيق الإصلاح يجب مواصلة جهود الإصلاح حتى وإن اعترضتنا الصعاب”.

والكارثة أن القيادات النقابية، بدل أن تكون أداة لحفز نضال مهنيي- ات الصحة ضد ما نفذته الدولة وما تُعده من هجمات، أصبحت أدوات “لتحقيق الإصلاح” ذاك والتغلب على “الصعاب”. وهو ما وعت به الدولة وضمنته بشكل صريح في الدليل المنهجي (2016): “إشراك الفرقاء الاجتماعيين في كل مرة يتسنى ذلك وبأسرع ما يمكن: إذ لا يجب التخوف من قول الأشياء على حقيقتها. يقوم الفرقاء الاجتماعيون بدور طلائعي في الإدارة. فالإصلاحات قد تمس مكتسبات عدد لا بأس به من الموظفين. إلا أن الفرقاء مهتمون كذلك بتطوير الإدارة ويرغبون في التوفيق بين حماية مصالح من يمثلونهم من جهة وتطور بلادهم من جهة ثانية. يجب قول الأشياء “الحقيقية”، ومعالجة المسائل “الحقيقية”، والتحرر من بعض الأوهام حتى يتم الاستخدام الأمثل للموارد البشرية”.

ثانيا- بالنسبة للأثر المالي

تضمنت الورقة التقنية الصادرة عن التنسيق النقابي الوطني نقطا تفصيلية عن تنازلات ذات أثر مالي. باختصار يتعلق الأمر بفتات شبيه بالذي ناله شغيلة التعليم العمومي بعد ثلاثة أشهر من الحراك: زيادات في الأجور والترقيات والتعويضات وتسوية ملفات فئوية عالقة.

يبدو أن “10 ساعات من النقاش” لم تنتزع سوى ما كان مقررا سلفا: تنفيذ الزيادات المقررة في اتفاق 29 أبريل 2024 الموقع بين الحكومة والمركزيات النقابية، مضافا إليه مبالغ زهيدة (زيادة شهرية قيمتها 500 درهم صافية لفائدة الأطر التمريضية بجميع فئاتها و200 درهم صافية لفائدة الأطر الإدارية والتقنية من مهنيي الصحة…) وتحسين شروط الترقي… وهو فتات لا يعوض ما فرطت فيه يادات التنسيق النقابي الوطني: الصحة العمومية المجانية وما يقابلها من توظيف قار ومنظومة أجور وترقية.

موقف القيادات النقابية

كل القيادات النقابية متلزمة بمواكبة تفعيل الإصلاحات الهيكلية الجارية في المنظومة الصحية ومنظومة وظيفتها. وآلية الالتزام تلك هي “المقاربة التشاركية” و”الحوار الاجتماعي”. ورد في خاتمة الورقة التقنية:

– مواصلة المساهمة في العمل على إعداد النصوص التطبيقية للمنظومة الصحية وفق نفس المقاربة التشاركية التي اعتمدت إعداد وتنزيل النصوص التشريعية المهيكلة للمنظومة الصحية، والمرتكزة على توفير مناخ للحوار البناء والمسؤول.

– الاستمرار في مواصلة الحوار المسؤول والبناء في كل ما يتعلق بالمنظومة الصحية الوطنية وتثمين الموارد البشرية.

إنه إشراك للنقابة في تدبير هجوم الدولة على مهنيي الصحة وعلى حق الشعب في صحة عمومية ومجانية. ولا تختلف باقي قيادات تنظيمات شغيلة الصحة عن قيادات التنسيق الوطني. فقيادة الجامعة الوطنية للصحة (ا. م. ش) التي رفضت حضور لقاء 23 يوليوز واستأنفت البرنامج النضالي، أعلنت في مقدمة جوابها على دعوة الوزارة إلى اللقاء: “إن الجامعة الوطنية للصحة كانت دائما ولا تزال تؤمن بفضيلة الحوار البناء المفضي إلى نتائج ملموسة تلبي طموحات وانتظارات الشغيلة الصحية”، وهي بدورها تطالب بتطبيق محضري اتفاق 29 ديسمبر 2023 و24 يناير 2024 الذين لا يختلفان محضر اتفاق 23 يوليو الذي لم تحضر لقاء توقيعه، وهو نفس موقف المكتب الوطني لنقابة المستقلة لأطباء القطاع العام.

ما نفع نقابة وطنية ومركزية إذا لم تنقل تجارب وخبرات قطاعات إلى أخرى. نجحت الدولة في إخماد حراك التعليم (2023) بنفس الطريقة التي تعمل بها حاليا لإطفاء شعلة النضال في صفوف شغيلة الصحة. لكن السبب واضح: فقيادات النقابات مستبطنة لفكرة أن لا مردَّ لسياسة الدولة واستراتيجيتها، وكل ما يمكن انتزاعه هو “فتات” و”أثر مالي” يقي الأقسام المنظمة من الشغيلة شرور تلك السياسة والاستراتيجية.

ويظهر هذا جليا في أن أقساما من شغيلة قطاع الصحة (كما هو شأن التعليم) لم تشملها المطالب التي تتحاور حولها تلك القيادات: شغيلة الحراسة والنظافة وآلاف من شغيلة مصحات القطاع الخاص… إلخ. فضلا عن التغييب الكلي لمطلب الصحة المجانية والعمومية للجميع، والانخراط في الدعاية للحماية الاجتماعية بمنظور الدولة؛ أي المنظور النيوليبرالي الذي حول الصحة والعلاج إلى سلعة مؤدى عنها في المستشفيات العمومية والخصوصية. ولتأمين قدرة شرائية جماعية لقسم كبير من الفقراء (4 ملايين أسرة) تقترح الدولة الحماية الاجتماعية (AMO) لضمان قدرة شرائية جماعية، تصب أساسا في أرصدة المصحات الخاصة؛ إما مباشرة أو بشكل غبر مباشر عبر التدبير المفوض/ الشراكة قطاع عام- قطاع خاص الذين أقرهما قانون إطار رقم 34.09 يتعلق بالمنظومة الصحية وبعرض العلاجات: “سيتم وضع أنماط للشراكة بين القطاعين العام والخاص لتمكين القطاع الخاص من المشاركة في مهام المرفق العمومي للصحة، لا سيما عن طريق التدبير المفوض والمشاركة لتنفيذ أعمال مشتركة أو عن طريق شراء خدمات صحية من القطاع الخاص تكون غير متوفرة أو غير كافية في المؤسسات الصحية التابعة للقطاع العام”.

لا غنى عن مطالب شاملة وموحِّدة

أثبتت التجربة أن النضال من أجل مطالب ذات أثر مالي وذات طابع فئوي لا يغير من واقع الاستغلال شيئا. تنتزع القطاعات والفئات زيادات في الأجور والتعويضات سرعان ما يقضمها التضخم/ الغلاء وتسليع الخدمات العمومية والاجتماعية، وهو ما اعترف به- بصريح العبارة- تقرير لجنة النموذج التنموي عند حديثه عن “تراجع القدرة الشرائية بسبب التكلفة العالية لخدمات التربية والصحة المقدمة من طرف القطاع الخاص كبديل لضعف جودة العرض العمومي لهذه الخدمات”. النتيجة: كل ما تقدمه الدولة من فتات ذي أثر مالي باليد اليمنى تسترجعه باليد اليسرى.

لا غنى عن مطالب إجمالية وذات طابع موحِّد لكل الشغيلة سواء في القطاع العمومي أو القطاع الخصوصي، وفي نفس الوقت مطالب تشكل أرضية التقاء نضالي ومطلبي مع جميع شرائح الشعب الكادح.

وتأتي على رأس هذه المطالب:

* الدفاع عن الطابع المجاني والعمومي لخدمات الصحة والقطع مع سياسة التسليع والخصخصة وكل أشكال دعم القطاع الخدماتي الخصوصي (من تعليم وصحة وإسكان) والتراجع عن الشراكة قطاع عام- قطاع خاص والتدبير المفوض، وفرض ضرائب تصاعدية على المصحات الخاصة ورفع السر التجاري عن حساباتها البنكية ووضعها أمام الرأي العام، في أفق تأميم شامل للقطاع.

* الدفاع عن الشغل القار سواء في القطاعات العمومية (موظفين- ات أو عمال- ات الحراسة والنظافة… إلخ)، أو في القطاع الخاص.

* النضال من أجل زيادات عامة في الأجور تواكب موجة التضخم الطيار ومن أجل سلم متحرك للأسعار والأجور ووقف تخريب أنظمة التقاعد.

* النضال من أجل إسقاط بند التقشف الدستوري؛ أي الفصل 77 من دستور 2011، الذي يمنح للحكومة حق فيتو/ رفض “المقترحات والتعديلات التي يتقدم بها أعضاء البرلمان، إذا كان قبولها يؤدي بالنسبة لقانون المالية إلى تخفيض الموارد العمومية، أو إلى إحداث تكليف عمومي، أو الزيادة في تكليف موجود”.

* النضال من أجل الحريات النقابية وحق الإضراب.

شادية الشريف

 

[1] – نوفمبر 2005، “نتائج وتحليل عملية المغادرة الطوعية إلى غاية 30 أكتوبر 2005″، ص 9.

[2] – 30-05-2011، https://www.lavieeco.com/affaires/fonctionnaires-13-echelles-au-lieu-de-11-19640/.

[3] – “حصيلة منجزات وزارة تحديث القطاعات العامة 2010- 2011″، وزارة تحديث القطاعات العامة، نوفمبر 2011.

شارك المقالة

اقرأ أيضا