محاولة اغتيال ترامب تشدّ عزيمته وتشلّ الديمقراطيين: الولايات المتّحدة تتجه نحو أزمة سياسية
كانت الولايات المتحدة مقبلة أصلاً على واحدة من الأزمات السياسية الأكثر حدة في الذاكرة الحديثة. ثم أتت محاولة اغتيال الرئيس السابق المدان دونالد ترامب في تجمّع حاشد في ولاية بنسلفانيا، ومن ثم نجاته منها، التي عزّزت قاعدته وحشرت الديمقراطيين بعد اتهامهم بالهجوم.
سوف ينظر ترامب إلى نفسه الآن على أنّه رجل قوي وناجٍ مقارنة بحملة بايدن الواهنة. فقد انفتح أمامه مسار داخلي للفوز في الانتخابات بنقاط أفضلية واضحة على الرغم من احتقاره على نطاق واسع.
حتى قبل محاولة اغتيال ترامب، إن الأداء الكارثي للرئيس جو بايدن في المناظرة جعل ترشيحه موضع شك لدى الصحافة البرجوازية، والمانحين الرأسماليين للديمقراطيين، والساسة الوسطيين الذين طالبوه جميعاً بأن يتنحّى لصالح مرشح آخر.
الحزب الجمهوري يستغلّ محاولة الاغتيال
طغت محاولة اغتيال ترامب على القضايا الأخرى كافّة. وانتشرت صورته ملطخاً بالدماء، متحدّياً ورافعاً قبضته، وهو يهتف «قاتلوا، قاتلوا، قاتلوا»، عبر وسائل الإعلام. ولا يوجد أدنى شك بأنها ستطبع على القمصان في مؤتمر الجمهوريين هذا الأسبوع في ميلووكي.
لم يعرف شيءٌ عن مطلق النار، توماس ماثيو كروكس، سوى أنه شاب أبيض يبلغ من العمر عشرين عاماً، عضو في الحزب الجمهوري، وتبرّع للجنة العمل السياسي التابعة للحزب الديمقراطي، «آكت بلو»، بعد انتخاب بايدن. وعلى الرغم من أنَّ التقارير تصوره على أنّه انطوائي وله تاريخ من التعرض للتنمّر في المدرسة، فإنَّ دوافعه وسياساته لا تزال غير واضحة.
لكن ترامب وأتباعه اتهموا الديمقراطيين بمحاولة الاغتيال. وصرّح المرشح لمنصب نائب الرئيس جيمس ديفيد فانس قائلاً: «المنطلق الأساس لحملة بايدن هو أن الرئيس دونالد ترامب فاشي سلطوي لا بدّ من إيقافه بأي ثمن. وهذا الخطاب أدّى مباشرة إلى محاولة اغتيال الرئيس ترامب».
اجتمع الطرفان على أمر واحد: الإدانة اللاذعة «للعنف السياسي». لكنَّ نفاقهما لا يخفى على أحد. فكلاهما يشاركان في تمويل آلة الحرب التابعة للبنتاغون وفي تسليح إسرائيل لتنفيذ إبادة جماعية في فلسطين
بعد أن أُلصقت بهم هذه الاتهامات، سارع الديمقراطيون إلى إدانة محاولة الاغتيال، وسحبوا إعلانات حملتهم الانتخابية في جميع أنحاء البلاد، الأمر الذي لم يقابله الجمهوريون بالمثل بالطبع. وكتم الديمقراطيون المنكفئون انتقاداتهم الحادة مؤقتاً في الأقل، في حين صعّد الجمهوريون هجماتهم على بايدن والديمقراطيين.
في خضم الصراع المتصاعد بينهما، اجتمع الطرفان على أمر واحد: الإدانة اللاذعة «للعنف السياسي». لكنَّ نفاقهما لا يخفى على أحد. فكلاهما يشاركان في تمويل آلة الحرب التابعة للبنتاغون بما يصل إلى حوالى تريليون دولار سنوياً، وفي تسليح إسرائيل لتنفيذ إبادة جماعية في فلسطين، وفي إطلاق العنان لشرطتهما العسكرية لفرض صنوف من عدم المساواة الطبقية العرقية التي تميّز الرأسمالية الأميركية.
على النقيض من المسرح السياسي الحالي الذي يغلب عليه التنافس بين الحزبين، العنف السياسي هو سمة منهجية للمجتمع الأميركي. إنه أميركي كما فطيرة التفاح.
والأمر يزداد سوءاً. الركود العالمي طويل الأمد للرأسمالية يفاقم عدم المساواة، ويغذي الاستقطاب السياسي، ويفتح المجال لليمين المتطرف، بما في ذلك القوى الفاشية، ويزيد من حدة العنف الاجتماعي والسياسي.
حتى بايدن اعترف بذلك في خطابه وأدرج بعض الأمثلة الحديثة مثل انقلاب ترامب واقتحام الكونغرس في 6 كانون الثاني/ يناير، والهجوم على زوج رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي، ومؤامرة اختطاف حاكمة ميشيغان غريتشين ويتمير. ولن تخفّف مناشدات بايدن وترامب الداعية إلى الوحدة الوطنية من حدّة هذا العنف الذي هو نتاج أزمة اجتماعية واقتصادية عميقة واستقطاب سياسي مستعصٍ.
سوف يفيد من محاولة الاغتيال كلّ من حملة ترامب، واليمين المتطرف، والدولة الأمنية، والجيش، والشرطة. وسوف يعمل هؤلاء، بدعم من الديمقراطيين، على إثارة حالة من الذعر الأخلاقي حيال «التطرف» لتبرير القمع.
نتيجة لذلك، من المرجّح أن نشهد مزيداً من تراجع حقوقنا الديمقراطية في التنظيم، والتعبير عن الرأي، والاحتجاج. وبغض النظر عن هوية مطلق النار ودوافعه وسياساته، فإن هدف هذه الحملة القمعية سيكون اليسار والحركات التقدمية والنقابات والملونين. ومن شأن هذا الأمر أن يعزّز الهجمات على حركة التضامن مع فلسطين التي هي عرضة أصلاً لمطاردة مكارثية.
ذكرت صحيفة «تايمز أوف إسرائيل» أنّ مسؤولين في حملة بايدن صرّحوا، شرط عدم الكشف عن هويتهم، أنه «بدلاً من مهاجمة ترامب لفظياً في الأيام المقبلة، سيعتمد البيت الأبيض وحملة بايدن على تاريخ الرئيس في إدانة كل أنواع العنف السياسي بما في ذلك انتقاداته الحادة للفوضى التي خلقتها احتجاجات الأحرام الجامعية ضد إسرائيل بسبب الحرب في غزة مع حماس».
أزمة في الحزب الديمقراطي
بينما يستثمر الجمهوريون محاولة الاغتيال، يعاني الديمقراطيون أزمة سياسية حادّة. فقد واجه حامل لوائهم، بايدن، تراجع دعم الناخبين الشباب له نتيجة لدعمه السياسي والاقتصادي والعسكري المتواصل لإسرائيل وحرب الإبادة الجماعية التي تشنّها على فلسطين.
لقد وضعه موقفه هذا على يمين معظم الديمقراطيين، وأثار استياء جميع الفلسطينيين والعرب والمسلمين تقريباً. ويُطلق نشطاء شباب على بايدن اسم «جو الإبادة الجماعية» (Genocide Joe).
علاوة على ذلك، فشلت سياسات بايدن في تخفيف الأزمة على العمّال والمظاليم. لقد انتهى التمويل المخصّص لمواجهة الوباء، وحالياً تتحوّل حكومات الولايات والحكومات المحلية إلى التقشف لضبط ميزانياتها، كما فشلت الزيادات في أجور العمال في مجاراة التضخم، لا سيما في تكاليف السكن وتحديداً بالنسبة إلى المستأجرين.
لقد تدهورت الأوضاع بالنسبة إلى معظم المظاليم في خلال السنوات الأربع الماضية. وقُلّصت عمليات الإجهاض على نطاق واسع، واستمرت وحشية الشرطة العنصرية والقتل بلا هوادة، وارتفعت عمليات ترحيل المهاجرين بشكل كبير في عهد بايدن. ولا عجب أن الناخبين، حتى قبل المناظرة، لم تكن لديهم تلك الحماسة للديمقراطيين.
فشلت سياسات بايدن في تخفيف الأزمة على العمّال والمظاليم. لقد انتهى التمويل المخصّص لمواجهة الوباء، وحالياً تتحوّل حكومات الولايات والحكومات المحلية إلى التقشف لضبط ميزانياتها
في تلك المواجهة، كان أمام بايدن مهمتان: إثبات أنه مؤهل عقلياً للترشح وتركيز انتباه الناخبين على ترامب وبرنامج الجمهوريين الاستبدادي والرجعي. وفشل في كلتا المهمتين. ما أثار حالةً من الذعر بين الديمقراطيين الذين وجهوا بمرشح كان ببساطة غير مناسب للمنصب.
استشعر الجمهوريون ضعف خصمهم. وصاح أحد كبار الاستراتيجيين في الحزب الجمهوري قائلاً: «إنّ جو بايدن طوق يلتف حول عنق كل ديمقراطي. على الجمهوريين ألّا يوفّروا صلاة ليبقى في السباق».
دفع ذلك الوسطيين في ساحات المعركة وكذلك المانحين ووسائل الإعلام البرجوازية، ممن يميلون إلى الديمقراطيين بشكل واضح، إلى دعوة بايدن للانسحاب من الانتخابات ودعم إمّا كامالا هاريس أو اختيار مرشح كفوء. لكن بايدن، بدلاً من سماع صوت العقل، تمسّك بالترشح مفتخراً بسجله، منكراً هشاشته السريرية الناجمة عن تقدّمه في السن، مشيراً في الوقت ذاته إلى استطلاعات الرأي الوطنية التي تظهر أنه في منافسة شديدة مع ترامب.
لكن سجله بالنسبة إلى معظم الأميركيين، على الرغم من الإصلاحات الخجولة التي قام بها، لم يحظ بالقبول. كما أنّ أخطائه المتكررة في كل ظهور مرتجل دليل واضح على عجزه.
ليس للاستطلاعات الوطنية تلك الأهمية. فنحن لا نعيش في دولة ديمقراطية. ولا تعتمد الانتخابات الأميركية على التصويت الشعبي، بل على الولايات ومندوبيها الموزّعين في المجمع الانتخابي غير الديمقراطي. ويدور ذلك السباق الفعلي في سبع ولايات حاسمة يتخلّف فيها بايدن عن ترامب.
في الواقع، يرى معظم محللي الانتخابات أن فرصة بايدن للفوز تقلّصت إلى ثلاث ولايات فقط – ميشيغان، وبنسلفانيا، وويسكونسن. ومن دون هؤلاء سوف يخسر، وبعد محاولة الاغتيال، تبدو احتمالاته عسيرة، لا سيما في بنسلفانيا.
المسؤول عن هذه الكارثة هو بايدن والديمقراطيون. وعلى الرغم من أن ترامب قد يكون نرجسياً خبيثاً، فقد أثبت بايدن أنّه، في أحسن الأحوال، نرجسي متعجرّف، معني بنفسه أكثر من عنايته بهزيمة ترامب والجمهوريين.
يتحمّل الحزب بأكمله مسؤولية الترويج لمرشح غير ملائم للمنصب، بما في ذلك ما يسمّى بجناحه التقدمي. وإذ لم يتحدَ بايدن أيّ من مرشحي المؤسسة الأكفاء أو التقدميين في الانتخابات التمهيدية، سيجد بايدن الطريق أمامه خالياً كي يترشح. والآن، في أعقاب الاغتيال، سوف يدافع هو ومعاونوه عن ترشيحه باسم الاستقرار ويحاولون منع أي محاولة لإزاحته من أعلى القائمة.
جبهة تقدّمية لجو الإبادة الجماعية
أثار احتمال فوز ترامب، إن لم تكن أرجحيته، الذعر واليأس في مختلف أرجاء اليسار الليبرالي والديمقراطي الاجتماعي. وعزّزت المؤسسة السياسية السوداء، والبيروقراطية النقابية، وكذلك ساندرز وما يسمى بالفريق، باستثناء رشيدة طالب، دعمهم لبايدن.
وما إن بدا ترشيح بايدن في خطر داهم حتى سارعت النائبة ألكساندريا أوكازيو كورتيز للدفاع عنه، معلنةً: «انتهى الأمر. هو في هذا السباق وأنا أدعمه». وعلّقت النائبة إلهان عمر التي شاركت ابنتها في مخيم جامعة كولومبيا احتجاجاً على الإبادة الجماعية، قائلة: «إنّه أفضل رئيس رأيته، ونحن ندعمه».
الأسوأ من ذلك أنّ بيرني ساندرز الذي وصف بايدن مراراً وتكراراً بأنّه «الرئيس الأكثر تقدّمية منذ فرانكلين روزفلت «كتب عموداً في صحيفة نيويورك تايمز سبر فيه أغوار «حجة الأهون شراً» لتبرير دعم بايدن. وفي حين اعترف بأنه يعارض بايدن في العديد من المسائل بما في ذلك دعمه للحرب الإسرائيلية، زعم ساندرز أن بايدن كان «رئيساً ديمقراطياً جيداً ومحترماً وسجله حافل بالإنجازات الحقيقية».
بالنسبة إلى الفريق وساندرز، الشرط المسبق لإطلاق مثل هذه المزاعم هو عدم جعل معارضة الإبادة الجماعية أولوية. لكن هذا ليس بالشيء الجديد. لقد ألبسوا إدارة بايدن ثياب الحمل منذ أن خسر ساندرز سباق ترشيح الحزب الديمقراطي في العام 2020.
بيرني ساندرز الذي وصف بايدن مراراً وتكراراً بأنّه «الرئيس الأكثر تقدّمية منذ فرانكلين روزفلت «كتب عموداً في صحيفة نيويورك تايمز سبر فيه أغوار «حجة الأهون شراً» لتبرير دعم بايدن
في الواقع، لم تكن إدارة بايدن سوى ذئباً يتبع استراتيجية استمالة اليسار من خلال برنامج كينزي إمبريالي بإصلاحات ليبرالية متواضعة، ودعم الهيمنة الأميركية، ومواجهة القوى العظمى ومنافسيها الإقليميين، لا سيما الصين وروسيا. لقد مزّق دعم بايدن لحرب الإبادة الجماعية التي تشنّها إسرائيل على فلسطين ثياب الحمل تلك وأظهره لا كمؤيد للإبادة الجماعية فحسب، بل كمهندس لها.
أدّى هذا، بدوره، إلى جذرية أفضل أبناء جيل بأكمله، وهذا ما عبّرت عنه بوضوح المخيمات التي أُقيمت في أحرام الجامعات ضد بايدن والحزب الديمقراطي ككل. ونتيجة لذلك، سوف ينظر هؤلاء الناشطون المتضامنون مع فلسطين إلى ساندرز والفريق على أنهم شركاء، وليسوا معارضين، لنظام بايدن وحرب الإبادة الجماعية التي يخوضها.
هؤلاء السياسيون على استعداد للمخاطرة بتنفير نشطاء التضامن مع فلسطين بناءً على الوهم الذي مفاده أنهم من خلال دعمهم لبايدن، أثروا فيه على مدى السنوات الأربع الماضية، وأنهم من خلال العمل لفوزه في الانتخابات، يمكنهم إنقاذه من الهزيمة وتأمين نفوذ أكبر في ولايته الثانية. في الواقع، دعمت المؤسسة الرأسمالية بايدن للتغلّب على ساندرز وأتباعه في الانتخابات التمهيدية لعام 2020. ثم استخدمهم لتطويق الاشتراكيين الديمقراطيين الأميركيين واليسار الأوسع، والحركات الاجتماعية، والمسؤولين النقابيين، لدعم برنامجه، لا برنامجهم. وكما يوضح كتاب The Internationalists، (الأمميون) الصادر مؤخراً، فإن برنامج بايدن هو نتاج دماغه الإمبريالي من دون تشاور مع الديمقراطيين التقدميين، ناهيك عن الاشتراكيين.
بدلاً من الترويج لبرنامجهم وحشد القوى للقتال من أجله، تبنّى ساندرز والفريق برنامج بايدن وأصبحوا أفضل مندوبيه… وطارت البطاقات النقابية، والرعاية الطبية للجميع، والصفقة الخضراء الجديدة، وتشريع حق الإجهاض، وحقوق المهاجرين، و مطالب أخرى لا تعد ولا تحصى. علاوة على ذلك، حتى لو تحدى بايدن جميع الصعاب وفاز، ليس ثمّة سبب للاعتقاد بأنه سيتبنّى أي شيء يشبه برنامج اليسار للإصلاحات. وإذا ما انتُخب مجدّداً، فسوف يؤكّد على برنامجه. هكذا، يعرقل بايدن اليسار في الحزب الديمقراطي، محيّداً مسؤوليه المنتخبين وجاعلاً إيّاهم متحدّثين رسميين باسم نظامه في لحظة أكبر أزماته وهزيمته الوشيكة في تشرين الثاني/ نوفمبر.
منطق أهون الشرّين المتهافت
مرة أخرى، يقدّم ساندرز والفريق وكثير من اليساريين كل الحجج الكلاسيكية الخاصة بأهون الشرَّين لتبرير استراتيجيتهم، حتى لو كانت السنوات الأربع الماضية قد دحضت منطقهم بشكل قاطع. ولا يحاول الأكثر صدقاً من بينهم إلباس بايدن سوى مظهر الشر. وهم يعترفون بذلك بسهولة. وهم، في الواقع، يحاججون أنّ الطريقة الوحيدة أمامنا لوقف ترامب وما يعتبرونه فاشية هي القيام بحملة لصالح مرشح حتى لو كان منخرطاً في إبادة جماعية.
أساس منطقهم هو أن ترامب هو الخطر المباشر، وأنه يجب إيقافه، وأن الطريقة الوحيدة للقيام بذلك هي دعم بايدن. ويجادلون كذلك بأن الظروف في ظل إدارة بايدن الثانية ستكون أكثر ملاءمة لنمو اليسار والحركات الاجتماعية والنقابات العمالية.
في الواقع، تدحض السنوات الأربع الماضية هذا المنطق. وقد أدى دعم اليسار الواسع لبايدن في العام 2020 وما بعده إلى إضعاف الاشتراكيين المنظمين، وإضعاف النضال الطبقي والاجتماعي، وفشل في وقف صعود اليمين. وربطنا بعدو طبقي في الداخل وبمشروعه الإمبريالي في الخارج.
قبل استسلام ساندرز لبايدن، كان الاشتراكيون الديمقراطيون الأميركيون منظمة تتوسّع، وكان جزء منها على الأقل يناقش علناً كيفية بناء بديل اشتراكي جماهيري لمؤسّسة الحزب الديمقراطي والحزب الجمهوري. لكنها بدلاً من ذلك، اتبعت ساندرز، وألكساندريا أوكازيو كورتيز، وجمال بومان، وآخرين في التجمّع الداعم لإدارة بايدن.
لقد تبخر الكلام عن تنظيم قطيعة قذرة، أو بناء حزب بديل، أو حتى إعادة تنظيم الحزب الديمقراطي وتحويله إلى حزب ديمقراطي اشتراكي. واستُبدل ذلك كلّه بمحاولة انتخاب الديمقراطيين التقدميين والضغط على المؤسسة لتبني مطالبهم. وبطبيعة الحال، لم يسفر ذلك عن شي يذكر.
يحاججون أنّ الطريقة الوحيدة أمامنا لوقف ترامب وما يعتبرونه فاشية هي القيام بحملة لصالح مرشح حتى لو كان منخرطاً في إبادة جماعية
لم يكن من المستغرب أن تكون الأزمة الأولى التي عانى منها الاشتراكيون الديمقراطيون الأميركيون ذات صلة بالإمبريالية الأميركية وفلسطين. عندما احتجت مجموعة العمل الفلسطينية على دعم عضو الاشتراكيين الديمقراطيين الأميركيين جمال بومان لإسرائيل، كانت مجموعة العمل هي المنضبطة، وليس بومان، ما أدى إلى خروج نشطاء التضامن مع فلسطين من المنظمة.
علاوة على ذلك، وفي مواجهة المأزق العام الذي يعيشه اليسار داخل الحزب الديمقراطي، فقد الاشتراكيون الديمقراطيون الأميركيون عشرات الآلاف من الأعضاء، وأصبحت فروعه غير نشطة إلى حد كبير، وأغلب أعضائه المتبقين غير نشطين. والإشارة إلى هذا النصر الانتخابي أو ذاك ليست سوى تغطية على الأزمة الواضحة التي تعاني منها المنظمة. إذ لم تعد التعبير الديناميكي المفعم بالحياة عن التغيير الجذري الذي وعدت به.
لقد حان الوقت لمواجهة الحقيقة الصعبة المتمثلة في أنّ سياسة أهون الشرين لم تنجح أبداً في دفع اليسار ونضال الطبقة العاملة وتحرير المضطهدين قُدُماً. وتثبت السنوات الأربع الماضية ذلك بما لا يدع مجالاً للشك
لقد وصلت معظم الحركات الاجتماعية في عهد بايدن إلى النتيجة ذاتها. ولا يزال النضال الشعبي على معظم الجبهات، من المناخ إلى حقوق المهاجرين وحتى العدالة الإنجابية، في حالة انحسار. ولكن ربما كانت أسوأ انتكاسة هي تلك التي تعرضت لها حركة «حياة السود مهمة» التي أقنعها الحزب الديمقراطي والمؤسسة السياسية السوداء بالانسحاب من الشوارع والقيام بحملة لصالح بايدن بدلاً من ذلك في العام 2020.
في حين أحدثت تلك الانتفاضة الهائلة جذرية سياسية عميقة في أعقابها، إلا أنها لم تعد قوة سياسية منظمة في جميع أنحاء البلاد. إذ يقوم كلا الحزبين بالتراجع عن أي إصلاحات، وتمويل رجال الشرطة بدلاً من وقف تمويلهم، وإعادة فرض إجراءات قمعية عنصرية في جميع أنحاء البلاد.
الحركة الاجتماعية الوحيدة التي حققت انتصارات أيديولوجية كبيرة وبعض الإصلاحات المؤسسية، أي حركة التضامن مع فلسطين، فعلت ذلك في تحدٍ لبيروقراطيي الليبرالية، ومسؤولي الحزب الديمقراطي المنتخبين، وإدارة بايدن. وهؤلاء جميعاً معارضون للمقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات وكل أشكال النضال من أجل تحرير فلسطين من الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي.
لم تكن المكاسب التي حققتها الحركة العمالية نتيجة انتخاب بايدن أو الضغط عليه في منصبه. قليل من المكاسب أو لا شيء منها حُقّق بهذه الطريقة. ووقعت هزائم فادحة على يد إدارته مثل كسر إضراب عمال السكك الحديدية. وتحققت الانتصارات الحقيقية الوحيدة من خلال تنظيم إضرابات مثل الإضراب المتصاعد الذي قامت به نقابة عمال السيارات المتّحدين ضد شركات صناعة السيارات الثلاث الكبرى.
لكن الأمر الأكثر إدانة هو أنّ الدعم الذي حظي به بايدن في الانتخابات الأخيرة وعلى مدى السنوات الأربع الماضية فشل في وقف العودة الانتخابية لترامب واليمين المتطرّف. وهم في حقيقة الأمر أكثر تنظيماً مما كانوا عليه قبل أربع سنوات، على الرغم من كونهم لا يحظون بشعبية كبيرة وأدينوا على نطاق واسع في ما يخصّ أحداث 6 كانون الثاني/يناير.
لقد استولى ترامب وأتباعه على الحزب الجمهوري، فضلاً عن مؤسسات الفكر والرأي الجمهورية التقليدية، وأبعدوا ما يسمى بالمعتدلين من الحزب، وطوروا برنامجاً شاملاً لحكم قومي سلطوي منصوص عليه في مشروع 2025، وبنوا حكومة موحّدة تنتظر باستعداد لتجريبها وإنفاذها عند النصر. والأسوأ من ذلك أن ستيفن بانون، من خلال برنامجه War Room، مع آخرين في هذه البيئة اليمينية، ينظمون «جيشاً من المستيقظين» مستعداً، وفقاً لكيفن روبرتس، قائد مشروع 2025، لتنفيذ ثورة «لا دموية» إن أمكن، لكنها عنيفة إذا لزم الأمر.
لقد حان الوقت لمواجهة الحقيقة الصعبة المتمثلة في أن سياسة أهون الشّرين لم تنجح أبداً في تعزيز اليسار ونضال الطبقة العاملة وتحرير المضطهدين. وتثبت السنوات الأربع الماضية ذلك بما لا يدع مجالاً للشك. إنّ قوانا أضعف وأكثر ارتباكاً وغير مستعدة لخوض القتال. الاستثناء الوحيد هو حركة التضامن مع فلسطين التي تعرف في أعماقها أنّ بايدن هو عدونا الرئيس في الوقت الحالي.
بناء مقاومة اليمين والمؤسسة
أيّاً كان الحزب الذي سيفوز في تشرين الثاني/نوفمبر، يبدو أن الولايات المتحدة تتجه نحو أزمة دستورية. فإذا تمكّن بايدن والديمقراطيون من الفوز بطريقة أو بأخرى، لن يعترف الحزب الجمهوري بانتصارهم وسيحاول أعضاؤه تنفيذ برنامجهم اليميني المتطرّف في الولايات التي يسيطرون عليها، ووضع قوانين منفصلة وغير متكافئة للمضطهدين والمستغلّين. وقد أثبتت السلطات القضائية، سواء على مستوى الولايات أو على المستوى الفيدرالي، لا سيما المحكمة العليا، أنها خاضعة لهذا التلاعب والاستقطاب الحزبيين، وأنها غير قادرة على تخفيف الأزمة الدستورية.
إذا فاز الحزب الجمهوري بهذه الانتخابات، فسوف يحاول تنفيذ مشروع 2025 على المستوى الفيدرالي. وسيلقى ذلك معارضة الديمقراطيون في الولايات التي يسيطرون عليها، ما يؤدّي إلى صراع مفتوح بينهم وبين إدارة ترامب.
لقد دفع هذا الاستقطاب وهذه الجذرية حتى وسائل الإعلام الرئيسة مثل شبكة سي إن إن إلى التساؤل عما إذا كانت الولايات المتحدة تتجه نحو حرب أهلية أخرى. ويخشى المحافظ الجديد روبرت كاجان في كتابه Rebellion من أن تشكل ثورة اليمين المتطرف، وهي ثورة مضادة ضد النظام الدستوري القائم، خطراً حقيقياً ووشيكاً.
يتعيّن علينا أن نبني نضالاتنا الاجتماعية والطبقية، ولاسيما حركة التضامن مع فلسطين ضد حرب الإبادة الجماعية التي تشنّها إسرائيل. يجب أن يكون بديلنا ملتزماً في المقام الأول ببناء النضال الطبقي والاجتماعي
في مواجهة هذه الأزمة التي تلوح في الأفق، حان الوقت لوضع حد لدورة الأوهام لدى اليسار. وأمام جميع أولئك الذين تبعوا ساندرز في الحزب الديمقراطي خيار يتعين عليهم الآن اتخاذه: إما الاستمرار على هذا الطريق المسدود أو البدء في العملية الصعبة لبناء بديل لكل من الحزب الديمقراطي الذي أصبح الآن الحزب الرئيس لرأس المال الأميركي، وخصمه اليميني المتطرف، الحزب الجمهوري الترامبي. لقد حان الوقت لرسم مسار مختلف إلى الأمام.
بغض النظر عما يفعله الأفراد في صناديق الاقتراع، ينبغي ألّا يبدّد اليسار وقتنا وأموالنا وطاقتنا في الحملات الانتخابية لصالح بايدن والحزب الديمقراطي. وبدلاً من ذلك، يتعيّن علينا أن نبني نضالاتنا الاجتماعية والطبقية، ولاسيما حركة التضامن مع فلسطين ضد حرب الإبادة الجماعية التي تشنّها إسرائيل. يجب أن يكون بديلنا ملتزماً في المقام الأول ببناء النضال الطبقي والاجتماعي وتقديم المرشحين على منصة مستقلة فحسب وبهدف أن يكونوا منابر لحركات جماهيرية مستقلة من أجل مطالب تقدّمية وبناة لهذه الحركات.
لا توجد طرق مختصرة، كما أثبتت السنوات القليلة الماضية. ولكن يجب أن نكون صادقين بشأن التحديات التي نواجهها في هذه الاستراتيجية البديلة. أولاً، لا تزال بنيتنا التحتية للمقاومة، أي تنظيمنا الديمقراطي للنضال الاجتماعي والطبقي، ضعيفة للغاية. ويتعين علينا أن نتغلب على ذلك من أجل بناء ذلك النوع من الحركات الجماهيرية والإضرابات الضرورية لكسب حتى مطالبنا الأكثر تواضعاً بالإصلاح.
على اليسار أن يواجه حقيقة أن قواتنا تواجه يميناً جريئاً يزداد خطورة. ولن تعيق المؤسسة الرأسمالية في الحزب الديمقراطي هذا اليمين، بل إنه سوف يكتسب زخماً إذا ما نُظِر إلى الديمقراطيين على أنهم البديل السياسي الوحيد. ينبغي أن تكون قوانا اليسارية ذكية في هذا السياق: علينا أن ندافع عن حقوقنا الديمقراطية، ونقدم أقصى قدر من التضامن لنضالات بعضنا بعضاً، ونستمر في الاحتجاج من أجل مطالبنا ضد كل من المؤسسة واليمين المتطرف، واستخدام التكتيكات الرامية للوصول إلى أوسع صفوف الطبقة العاملة والمضطهدين.
في هذه اللحظة، يتعين علينا أن نتذكر أيضاً أنه أيّاً كانت الجرأة التي اكتسبها اليمين مؤقتاً، فإنه لن يتمكن من إنشاء نظام مستقر في الولايات المتحدة أو في أي مكان آخر. إذ لا حلول لديهم لأزمات الرأسمالية البنيوية التي يستغلونها سياسياً، وكذلك لا إجابات لديهم عن مطالب الغالبية العظمى من مجتمعنا. والأمر كذلك بالنسبة للمؤسسة الرأسمالية التي تعاني أنظمتها في الولايات المتحدة والعالم من عدم الاستقرار. يجب على اليسار أن يبدأ في بناء قطب مستقل يمكنه أن يقدّم بديلاً فعلياً من أجل الإنسانية.
نُشِر هذا المقال في Tempest في 16 تموز/يوليو 2024، وتُرجِم وأعيد نشره في موقع «صفر» بموافقة مسبقة من الجهة الناشرة.
اقرأ أيضا