تطوّر الرأسمالية في رُوسيَا: الفصل السابع
لينين مختارات جَديدَة
تطوّر الرأسمالية في رُوسيَا
(في عملية تكوّن سوق داخلية للصناعة الكبيرة)
ترجمة
فوّاز طرابلسي
الطبعة الأولى
تموز/يوليو 1979
دار الطليعة للطباعة والنشر
بيروت
ترجم هذا الكتاب عن النسخة الانكليزية من مؤلفات لينين الكاملة، الجزء الثالث، الطبعة الثانية، دار التقدم بموسكو، 1964.
الفصل السابع
رقن إلكتروني، جريدة المناضل-ة
تطور الصناعة الآلية الكبيرة
1-المفهوم العلمي للمصنع…
قبل أن نتناول الصناعة الآلية (أي المصنعية) الكبيرة، لا بد وأن نؤكد أن المفهوم العلمي لهذا المصطلح لا يتطابق على الاطلاق مع معناه الشائع المتداول يوميا. ففي احصائياتنا الرسمية، وفي ادبياتنا عموما، يؤخذ المصنع على أنه أية مؤسسة صناعية كبيرة، إلى هذا الحد أو ذاك، تضم عددا كبيرا، إلى هذا الحد أو ذاك، من العمال المأجورين. أما بالنسبة لنظرية ماركس، فمصطلح «الصناعة الآلية (المصنعية) الكبيرة» ينطبق على طور معين من تطور الرأسمالية في الصناعة، هو طورها الأعلى. والسمة الأبرز والأهم لهذا الطور هي استخدام نظام من الآلات في عملية الانتاج[1]. والانتقال من المانيفاتورة إلى المصنع هو بمثابة ثورة تقنية متكامنلة، تطيح بالمهارة اليدوية للحرفي التي استغرق اكتسابها القرون من الزمن، ولا بد من ان يعقب هذه الثورة التقنية التدمير الشامل لعلاقات الانتاج الاجتماعية، والقطيعة النهائية بين الفئات المختلفة للمساهمين في الإنتاج، وبانقطاع كامل عن التقاليد، وبتكثيف وتوسيع للجوانب المظلمة من الرأسمالية، وفي الوقت نفسه، يعقب هذه الثورة التقنية التشريك الجماعي للعمل من قبل الرأسمالية. وهكذا، فإن الصناعة الآلية الكبيرة هي احدث مبتكرات الرأسمالية، أحدث «عناصر التقدم الاجتماعي» [2] وعناصر التقهقر التي تحملها هذه الرأسمالية.
من هنا يتضح أن الانتقال من المانيفاتورة إلى المصنع مسألة بالغة الأهمية خاصة عندما نعالج تطور الرأسمالية. والذي يخلط بين هذين الطورين يحرم نفسه من امكانية استيعاب الدور التغييري والتقدمي للرأسمالية. ذلك تحديدا هو الخطأ الذي يقع فيه الاقتصاديون الشعبويون الذين يطابقون، كما رأينا، بين الرأسمالية عموما وبين الصناعة «المصنعية» ويقترحون حل مسألة «رسالة الرأسمالية» وحتى مسألة «دلالتها التوحيدية» بمجرد الاشارة إلى الاحصائيات المصنعية. وبالإضافة لكون هؤلاء الكتاب ينمُّون عن جهل مدهش في أمور الاحصائيات المصنعية (كما سنرى تفصيلا فيما بعد)، فإنهم يرتكبون خطأ افدح في فهمهم المنمط والجامد والغريب لنظرية ماركس.
أولا، انه من السخف بمكان ان نختزل مسألة تطور الصناعة الآلية الكبيرة بمجرد احصائيات مصنعية. فالمسألة ليست مجرد مسألة إحصائيات، بل هي أيضا مسألة الاشكال التي يكتسبها، والمراحل التي يجتازها، تطور الرأسمالية في صناعة البلد المعني بالأمر. وفقط بعد القاء الضوء الساطع على هذه الأشكال وعلى سماتها المميزة، يكون هناك معنى في توضيح تطور هذا الشكل او ذاك بواسطة الاحصائيات المجمعة بطريقة صحيحة. أما إذا اقتصر هؤلاء الكتَّاب على الاحصائيات الروسية، فان ذلك يؤدي حكما إلى الخلط بين الأشكال الأشد تنوعا، إلى درجة ان الاشجار تغيِّب عليهم رؤية الغابة.
ثانيا، ان اختزال كل رسالة الرأسمالية بمسألة زيادة عدد عمال «المصانع» ينم عن فهم للنظرية بمستوى عمق الفهم الذي ينمّ عنه السيد ميخايلوفسكي عندما يبدي دهشته لحديث بعض الناس عن تشريك الرأسمالية للعمل، في الوقت الذي يزعم فيه أن هذا التشريك لا يتعدى حقيقة أن عدة مئات او عدة آلاف من العمال ينشرون الخشب، ويقطعونه، ويسحجونه، الخ. تحت سقف واحد.
ان مهمة عرضنا اللاحق تتلخص في أمرين: اننا سوف ندرس بالتفصيل حالة الاحصائيات المصنعية عندنا ومدى دقتها. وهذا الجهد، السلبي في معظمه، يبقى ضروريا، لأن أدبياتنا تسيء استخدام هذه المعطيات الاحصائية بطريقة سافرة. هذا من جهة، أما من الجهة الثانية فإننا سندرس المعطيات الاحصائية المتعلقة بنمو الصناعة الآلية الكبيرة في مرحلة «ما بعد الإصلاح» [3].
4-تطور صناعة التعدين
(…) ان المعطيات الاحصائية الآنفة الذكر عن تطور صناعة التعدين تكتسب أهمية خاصة من زاويتين اثنتين. الأولى، انها –أي الاحصائيات- تشير بوضوح استثنائي إلى جوهر التغيير في العلاقات الاجتماعية-الاقتصادية؛ وثانيا، انها تبرهن على الاطروحة النظرية التي تقول ان المجتمع الرأسمالي النامي يشهد تطورا سريعا جدا للفروع الصناعية التي تنتج وسائل الانتاج –أي التي تنتج السلع المعدة للاستهلاك الإنتاجي، لا للاستهلاك الشخصي. واستبدال شكل من اشكال الاقتصاد الاجتماعي بشكل آخر مسألة بالغة الوضوح في صناعة التعدين، لأن الممثلين النموذجيين للشكلين هما منطقتان متمايزتان [4]. فمنطقة هي ذلك العالم قبل الرأسمالي القديم، بتقنيته البدائية الرتيبة، والتبعية الشخصية للسكان المقيدي الإقامة، والتقاليد الفئوية والمراتبية الراسخة، والاحتكارات، إلى آخره. بينما نجد، في المنطقة الثانية، قطيعة كاملة مع التقاليد، وثورة تقنية، والنمو السريع للصناعة الآلية المحض رأسمالية. وهذا المثال يبرز بوضوح الخطأ الذي يرتكبه الاقتصاديون الشعبويون. انهم ينكرون الطبيعة التقدمية للرأسمالية في روسيا، مشيرين إلى أن ارباب العمل عندنا يلجأون بسرعة إلى العمل-الخدمة في الزراعة، والى توزيع العمل المنزلي في الصناعة ويسعون، في التعدينه، إلى تقييد الفلاح، وإلى التحريم القانوني للمنافسة من قبل المؤسسات الصغيرة، الخ. ، الخ. ان لامنطقية هذه المحاججات وتشويهها الفاضح للمنظور التاريخي هما فاقعان حقا. فمن اين يحق لنا أن نستنتج أن جهود أرباب العمل عندنا لاستخدام المنافع التي توفرها اساليب الانتاج قبل الرأسمالية يجب تحميلها لنظامنا الرأسمالي، وليس لترسبات الماضي التي تعرقل تطور الرأسمالية والتي غالبا ما تجري المحافظة عليها بقوة القانون؟ وهل يحق لنا أن ندهش، مثلا، إذا سعى أصحاب المناجم الجنوبيون إلى تقييد العمال وتأمين التحريم القانوني لمنافسة المؤسسات الصغيرة، في الوقت الذي تمارس فيه منطقة تعدين أخرى مثل هذا التقييد وتلك التحريمات منذ قرون ولا تزال تمارسها حتى يومنا هذا، وفي الوقت الذي تشهد فيه منطقة ثالثة التجاء اصحاب مصانع الحديد للوسائل الاشد بدائية واستخدامهم قوة عمل أرخص وأكثر طواعية لتحقيق ارباح على حديدهم الخام تصل، دون عناء، إلى «كوبيك للكوبيك الواحد، وأحيانا كوبيك ونصف للكوبيك الواحد»؟ أليس الأحرى بنا أن ندهش لعكس ذلك كله، أن ندهش لوجود أناس، في مثل هذه الظروف، لا يزالون قادرين على تزويق النظام الاقتصادي قبل الرأسمالي في روسيا، ويغضون الطرف عن الحاجة الاشد الحاحا لإلغاء كل المؤسسات البالية التي تعيق تطور الرأسمالية؟
ومن جهة ثانية، فان المعطيات الاحصائية عن نمو صناعة التعدين مهمة لأنها تشير بوضوح إلى أن تزايد وتيرة نمو الرأسمالية والسوق المحلية يتم بسبب سلع الاستهلاك الانتاجي اكثر مما يتم بسبب سلع الاستهلاك الشخصي. وهذا أمر يغفله السيد دانيالسون، مثلا، إذ يحاجج قائلا أن تلبية كامل الطلب المحلي لمنتجات الصناعة التعدينية «سوف يتحقق قريبا جدا على الأرجح» (مسودات، ص 123). والواقع أن استهلاك المعادن، والفحم، وسواهما (للفرد الواحد) لا يبقى، بل لا يمكنه أن يبقى، راكدا في المجتمع الرأسمالي، انه يتزايد بالضرورة. فكل كيلومتر جديد من سكك الحديد، كل مشغل جديد، كل محراث حديدي يشتريه برجوازي ريفي، يزيد الطلب على منتجات التعدين. وعلى الرغم من ان استهلاك الحديد الخام في روسيا ارتفع بين 1851 و1897، مثلا، من 14 رطل للفرد الواحد إلى 1 + 1/3 «بود»، فانه لا بد لهذا الرقم الاخير من أن يرتفع كثيرا لكي يصل إلى حجم الطلب على الحديد في الاقطار المتقدمة (اذ انه يبلغ 6 «بودات» للفرد في كل من بريطانيا وبلجيكا).
5-هل ان عدد العمال في المؤسسات الصناعية الكبرى آخذ بالنمو؟
(…)
فلنلخِّص حساباتنا.
عدد العمال في المؤسسات الصناعية الكبيرة
السنوات في الصناعة المعملية في المناجم في سكك الحديد المجموع
1865 509000 165000 32000 706000
1890 840000 340000 252000 1432000
وهكذا ففي غضون 25 سنة، تضاعف عدد العمال في المؤسسات الصناعية الكبيرة بأكثر من ضعفين، أي انه تزايد ليس بوتيرة أسرع من وتيرة تزايد العدد الاجمالي وحسب، وإنما أيضا بأسرع من وتيرة تزايد سكان المدن ايضا. ومن هنا، فان الانتقال المتسارع بانتظام للعمال من الزراعة ومن الصناعات الصغيرة نحو المؤسسات الصناعية الكبيرة أمر لا يرقى إليه شك.
المهن مستقل (كلا الجنسين)
فرد في أسرة اجمالي السكان
أ)موظفو دولة وقوات مسلحة 1500000 700000 2200000
ب)رجال دين ومهن حرة 700000 900000 1600000
ج)أصحاب مداخيل مالية وعقارية ومتقاعدون 1300000 900000 2200000
د)سجناء: مومسات، مهن غير محددة ومهن غير معروفة 600000 300000 900000
اجمالي السكان غير المنتجين 4100000 2800000 6900000
ه)تجارة 1600000 3400000 5000000
و)سكك حديد ومواصلات 700000 1200000 1900000
ز)خدمات خاصة، خدم منزليون وعمال مياومون 3400000 2400000 5800000
اجمالي السكان شبه المنتجين 5700000 7000000 12700000
ح)الزراعة 18200000 75500000 93700000
ط)الصناعة 5200000 7100000 12300000
اجمالي السكان المنتجين 23400000 82600000 106000000
المجموع العام 33200000 92400000 125600000
وهذا ما تؤكده الاحصائيات نفسها التي غالبا ما يعتمدها السادة الشعبويون ويمنعون في تشويهها (…)
اضافة للطبعة الثانية. اننا نملك الآن عائدات الاحصاء الوطني العام لسنة 1897، الذي يحوي الارقام عن مهن مجموع السكان. وهذه هي معطياته بالنسبة إلى الامبراطورية الروسية كلها بعد تلخيصها من قبلنا:
وغني عن القول ان هذه المعطيات تؤكد كليا ما قيل أعلاه حول عبثية الصيغة الشعبوية حول مفارقة عدد عمال المصانع بإجمالي عدد السكان.
وانه لمن المثير، بادئ بدء، ان نجمع المعطيات عن التوزيع المهني لإجمالي سكان روسيا، بحيث ترسم لنا لوحة عن قسمة العمل الاجتماعية بصفتها قاعدة مجمل عملية الانتاج البضاعي والرأسمالية في روسيا. ولتحقيق ذلك، يجب توزيع اجمالي السكان إلى ثلاثة اقسام فرعية: 1-السكان العاملون في الزراعة، 2-السكان العاملون في التجارة والصناعة، 3-السكان غير المنتجين (وبتحديد أدق، السكان غير المساهمين في النشاط الاقتصادي). ومن بين الفئات التسع الآنفة لذكر (أ إلى ط) توجد فئة واحدة يتعذر تصنيفها مباشرة وكليا ضمن قسم فرعي الأقسام الثلاثة. انها الفئة ز:خدمات خاصة، خدم منزليون وعمال مياومون. يجب توزيع هذه الفئة توزيعا تقريبيا بين السكان العاملين في التجارة والصناعة وبين السكان العاملين في الزراعة. وقد اضفنا إلى هؤلاء الشريحة التي تسكن المدن (2.5 مليون)، في حين اضفنا إلى اولئك الشريحة التي تسكن الأرياف (3.3 مليون). وهكذا حصلنا على اللوحة التالية حول توزيع إجمالي سكان روسيا:
سكان روسيا العاملون في الزراعة 97000000
سكان روسيا العاملون في التجارة والصناعة 21700000
سكان روسيا غير المنتجين 6900000
المجموع 125600000
وتبين هذه اللوحة بوضوح تام ان التداول البضاعي، وبالتالي الانتاج البضاعي، راسخ الجذور في روسيا. ان روسيا بلد رأسمالي. هذا من جهة. أما من جهة ثانية، ينجم عن ذلك ان روسيا لا تزال شديدة التخلف، من حيث تطورها الاقتصادي، اذا ما قورنت بسائر البلدان الرأسمالية.
فلنكمل بحثنا. بعد التحليل الذي قمنا به حتى الآن، فان احصاء المهن لإجمالي سكان روسيا يمكن، بل يجب، استخدامه من أجل تعيين تقريبي للفئات الأساسية التي ينقسم اليها سكان روسيا بناء على موقعهم الطبقي، اي بناء على موقعهم في نظام الانتاج الاجتماعي.
يمكن تعيين هذه الفئات، تعيينا تقريبيا بالطبع، لأننا نعرف الفئات الاقتصادية الأساسية التي ينقسم اليها الفلاحون. ويمكن القول بثقة ان مجموع سكان روسيا العاملين بالزراعة هم من الفلاحين، لأن عدد الملاك العقاريين تافه بالقياس إلى اجمالي السكان. ثم ان عددا كبيرا من الملاك العقاريين يرد تصنيفهم في فئة اصحاب المداخيل العقارية، والموظفين الحكوميين، وكبار الوجهاء، الخ. غير انه لا بد لنا من ان نميز، بين المجموع الفلاحي البالغ 97 مليون نسمة، ثلاث فئات أساسية: الفئة الدنيا –وهي تضم الشرائح البروليتارية وشبه البروليتارية من السكان؛ والفئة المتوسطة- صغار الفلاحين المزارعين الفقراء؛ والفئة العليا- صغار الفلاحين المزارعين الميسورين. وقد حللنا اعلاه المميزات الاقتصادية الاساسية لهذه الفئات بما هي عناصر طبقية متمايزة. فالفئة الدنيا تضم السكان غير المالكين، الذين يكسبون معيشتهم، معظمها أو نصفها على الأقل، من خلال بيع قوة عملهم. أما الفئة المتوسطة، فإنها تضم صغار المزارعين الفلاحين الفقراء، ذلك ان الفلاح المتوسط، في أفضل المواسم، بالكاد يحصِّل ما يقيم به الأود، غير ان مصدر الرزق الرئيسي لهذه الفئة هو الزراعة الصغيرة «المستقلة» (المستقلة شكلا، بالطبع). وأخيرا، فان الفئة العليا تتكون من صغار المزارعين الفلاحين الميسورين، الذين يستغلون أعدادا كبيرة، إلى هذا الحد أو ذاك، من عمال المَزارع المحاصصين والمياومين وشتى انواع العمال المأجورين بشكل عام.
وتشكل هذه الفئات تقريبا 50 بالمئة و30 بالمئة و20 بالمئة على التوالي من مجموع عدد السكان. في الصفحات السابقة، تناولنا حصة كل من هذه الفئات من العدد الاجمالي للأسر وللمزارع. فلا بد لنا من أن نتناولنا الآن بالنسبة إلى مجموع السكان. ويؤدي هذا التحول إلى زيادة في الفئة الدنيا وانخفاض في الفئة العليا. ولكن الذي لا شك فيه أن هذا التحول هو الذي عرفته روسيا في العقد الأخير من الزمن، والذي يتأكد، بما لا يرقى اليه شك، بتقلص عدد ملكية الأحصنة وخراب الفلاحين وتزايد الفقر والبطالة في الأرياف، الخ.
وبعبارة أخرى، فمن بين السكان العاملين في الزراعة، هناك حوالي 48.5 مليون من البروليتاريين وشبه البروليتاريين، وحوالي 29.1 مليون من صغار المزارعين الفلاحين الفقراء وأسرهم، وحوالي 19.4 مليون من السكان في المزارع الميسورة.
والسؤال الآن هو عن توزيع السكان العاملين في التجارة والصناعة والسكان غير المنتجين. تضم الفئة الاخيرة أعدادا من السكان ينتمون بالتأكيد إلى البرجوازية الكبيرة: جميع ذوي المداخيل العقارية («الذين يعيشون على المداخيل من رؤوس الأموال والعقارات»- … البالغ عددهم 900 ألف) وقسما من الانتلجنتسيا البرجوازية، وكبار الموظفين والعسكريين، الخ. ويبلغ اجمالي عددهم مليونا ونصف المليون. وفي الطرف المقابل من هذه الفئة من السكان غير المنتجين، توجد الفئات الدنيا من الجيش والبحرية والشرطة والدرك (حوالي 1.3 مليون) والخدم المنزليون وخلافه (ومجموعهم حوالي نصف المليون)، اضافة إلى حوالي نصف مليون من المتسولين والمتشردين، الخ. الخ. ونستطيع هنا أن نوزع الفئات الاكثر مطابقة للنماذج الاقتصادية الأساسية: فيذهب مليونان إلى فئة السكان البروليتاريين وأشباه البروليتاريين (أو البروليتاريا الرثة)، وحوالي 1.9 مليون إلى فئة صغار الملاك الفقراء، وحوالي 1.5 مليون إلى فئة صغار الملاك الميسورين، بما في ذلك معظم الكتبة، والموظفين الإداريين، والمثقفين البرجوازيين، الخ.
وأخيرا، تحتل البروليتاريا القسم الأكبر من فئة السكان العالمين في التجارة والصناعة. والبون اكثر اتساعا بين البروليتاريا والبرجوازية الكبيرة. غير أن عائدات الاحصاء لا تقدم لنا المعطيات عن توزيع هذه الفئة من السكانه بين أرباب عمل، ومنتجين أفراد، وعمال، الخ. ولا يبقى لنا من بديل سوى الاقتداء بالمعطيات الآنفة الذكر عن السكان العاملين في الصناعة لمدينة سان بطرسبرغ، المصنَّفين حسب موقعهم من الانتاج. وبناء على هذه المعطيات، يمكن أن نعطي البرجوازية الكبيرة 7 بالمئة، والبرجوازية الصغيرة الميسورة 10 بالمئة، وصغار الملاك الفقراء 22 بالمئة، والبروليتاريين 61 بالمئة. وبديهي القول ان الانتاج الصناعي الصغير اكثر تشبثا بالبقاء في روسيا مما هو في سان بطرسبرغ، غير أننا لم نضف إلى السكان شبه البروليتاريين مجموع المنتجين الافراد والصناع اليدويين الذين يعملون في منازلهم لصالح أرباب عمل. ولذا، فالراجح ان النسب التي اعتمدنا لن نختلف كثيرا عن واقع الحال. وهكذا نحصل بالنسبة للسكان العاملين في التجارة والصناعة على حوالي المليون ونصف المليون من البرجوازيين الكبار، 2.21 مليون من الميسورين، 4.8 من صغار المنتجين المحتاجين، 13.2 مليون ينتمون إلى الشرائح البروليتارية وشبه البروليتارية من السكان.
وبعد دمج الفئات الزراعية والتجارية والصناعية وغير المنتجة من السكان، نحصل على التوزيع التقريبي التالي لإجمالي سكان روسيا وفق موقعهم الطبقي:
اجمالي السكان (من الجنسين)
-برجوازية كبيرة، ملاك عقاريون، كبار الموظفين، الخ. حوالي 3.0 مليون
-صغار الملاكين الميسورين حوالي 23.1 مليون
-صغار الملاكين الفقراء حوالي 30.8 مليون
-بروليتاريون [5] وأشباه البروليتاريين 63.7 مليون
المجموع حوالي 125.6 مليون
لا يخامرنا أدنى شك في ان السادة الاقتصاديين والسياسيين الكاديت او أشباه الكاديت عندنا سوف يرفعون عقيرتهم مستنكرين هذا المفهوم «المفرط في تبسيطه» عن الاقتصاد الروسي. ومهما يكن من أمر، فكم هو مريح ومفيد أن يتغافل المرء عمق التناقضات الاقتصادية في تحليل تفصيلي وأن يتذمر، في الوقت نفسه، من «فجاجة» الأفكار الاشتراكية عن هذه التناقضات بالجملة. ان هذا النقد للخلاصة التي توصلنا إليها يفتقد، بالطبع، لأية قيمة علمية.
بالطبع، يمكن أن تتباين الآراء حول درجة الدقة التقريبية للأرقام المختلفة. ويجدر بنا ان نشير، في هذا المضمار، إلى مؤلف السيد لوزينسكي دراسات عن سكان روسيا على اساس احصاء العام 1897 (مجلة «مير يوجي»- العالم الواسع- 1905، العدد 8). ينطلق الكاتب من الأرقام الاحصائية المحضة لعدد العمال والخدم، ليقدر عدد السكان البروليتاريين في روسيا بـ 22 مليونا، والسكان الفلاحين والمالكين للأرض بـ 80 مليون، وأرباب العمل والكتبة في التجارة والصناعة بحوالي 12 مليون، والسكان غير المنخرطين في الصناعة بحوالي 12 مليون.
ان عدد البروليتاريين في هذا الاحصاء يقترب كثيرا من الرقم الذي توصلنا اليه. أما انكار وجود جمهور كبير من اشباه البروليتاريين بين الفلاحين الفقراء المعتمدين على «الاستخدامات»، وبين الصناع اليدويين، وسواهم، فانه استهزاء بكل المعطيات الاحصائية عن الاقتصاد الروسي. يكفي أن نستذكر 4/1 3 مليون أسرة فلاحية لا تمتلك الاحصنة في روسيا الأوروبية وحدها، و3.4 مليون اسرة التي تملك حصانا واحدا، ومجموع إحصائيات الزييمستوفات عن الأراضي المستأجرة و«الاستخدامات»، والموازنات، الخ، لكي يغادرنا اي شك حول ضخامة حجم السكان شبه البروليتاريين. وأما القول بأن مجموع السكان البروليتاريين وشبه البروليتاريين يشمل نصف الفلاحين فإنه لا يحتوي،على الأرجح، على استخفاف بالأرقام أو مبالغة بها. وعندما نغادر السكان الزراعيين، فما من شك في ان نسبة البروليتاريين وأشباه البروليتاريين تزداد ارتفاعا.
ثم أنه إذا نحن لم نشأ استبدال اللوحة الاقتصادية الشاملة بالتفاصيل الصغيرة، يجب أن نضم إلى فئة صغار الملاك الميسورين قسما كبيرا من الموظفين الاداريين في التجارة والصناعة والكتبة والمثقفين البرجوازيين والموظفين الحكوميين وسواهم. ولعلنا كنا هنا بالغي الحذر، مما جعلنا نبالغ في تحديد عدد هذه الفئة من السكان. فربما كان الأنسب ان نرفع الرقم بالنسبة إلى صغار الملاك الفقراء ونخفض عدد صغار الملاك الميسورين. ولكن، مهما يكن من أمر، فإننا في اجراء مثل هذه التصنيفات لا ندعي، بالطبع، الدقة الاحصائية المطلقة.
ينبغي على الاحصائيات أن تدلل على العلاقات الاجتماعية-الاقتصادية التي يثبتها التحليل الشامل، لا أن تتحول إلى هدف بحد ذاتها، كما يحصل في كثير من الاحيان في بلدنا. على أن التغاضي عن الأعداد الكبيرة من الشرائح البرجوازية الصغيرة للسكان في روسيا يعني، ببساطة، تشويه الصورة الحقيقية لوضعنا الاقتصادي.
7-نمو المصانع الكبيرة
(…)
فلنبدأ تحليلنا لهذا الجدول الاحصائي بأرقام الأعوام 1866 و1879 و1890 [6]. خلال هذه السنوات تطور عدد المصانع كالتالي: 644، 852، 951، أو بالنسب المئوية: 100، 132، 147. من هنا، فان عدد المصانع الكبيرة قد ازداد، خلال 24 سنة، بنسبة 50 بالمئة تقريبا. وبالإضافة لذلك، فإذا أخذنا المعطيات المتعلقة بمختلف فئات المصانع الكبيرة، سنجد انه بمقدار ما يزداد حجم المصانع، تزداد وتيرة نموها (الفئة أ: 512، 641، 712 مصنعا؛ الفئة ب: 90، 130، 140؛ الفئة ج: 32، 81، 99) [7] وهذا مؤشر إلى تزايد تمركز الانتاج.
ان عدد المؤسسات الممكنة ينمو بسرعة اكبر من نمو إجمالي عدد المصانع. وهو يتبدى بالنسب المئوية كالآتي: 100، 178، 226. ثم ان عددا متزايدا من المصانع الكبيرة يعتمد على الآلات البخارية. ويرتفع عدد المصانع مع تزايد حجم المصانع نفسها. وإذا ما احتسبنا النسبة المئوية لهذه المؤسسات إلى إجمالي عدد المصانع في الفئة المعينة، نحصل على ما يلي: (أ) 39 بالمئة، 53 بالمئة، 63 بالمئة، (ب) 75 بالمئة، 91 بالمئة، 100 بالمئة، (ج) 83 بالمئة، 94 بالمئة، 100 بالمئة. ذلك أن استخدام الآلات البخارية وثيق الارتباط بزيادة حجم المردود، وبتوسع نطاق التعاون في الانتاج.
هذا وقد تحول عدد العمال في كافة المصانع الكبيرة بنسب مئوية هي: 100، 168، 200. وخلال 24 سنة، تضاعف عدد العمال ضعفين، اي أنه تجاوز الزيادة في إجمالي عدد «عمال المصانع». وقد بلغ متوسط عدد العمال بالنسبة للمصنع الكبير الواحد حسب السنوات: 359، 458، 488، وحسب الفئات (أ) 213، 221، 220، (ب) 665، 706، 673، (ج) 1459، 1935، 2154. وهكذا فان عددا متزايدا من العمال يتمركز في المصانع الكبيرة. ففي العام 1866، كانت المصانع التي تضم ما يزيد عن الف عامل تستخدم 27 بالمئة من إجمالي عدد لعمال في المصانع الكبيرة، وقد ارتفعت هذه النسبة إلى 40 بالمئة عام 1879 و46 بالمئة عام 1890.
أما التحول في انتاج كافة المصانع الكبيرة حسب النسب المئوية فهو: 100، 243، 292، وحسب الفئات: (أ) 100، 201، 187، (ب) 100، 245، 308، (ج) 100، 323، 479. من هنا فان حجم نتاج كافة المصانع الكبيرة تضاعف ثلاثة اضعاف تقريبا، وكلما كبر حجم المصنع، كلما تسارعت زيادة النتاج (….)
عند مقارنة معطيات المصانع الكبيرة مع معطيات كافة «المصانع والأشغال» الواردة في احصائياتنا الرسمية [8]، نجد انه في العام 1879 كانت المصانع الكبيرة تشكل 4.4 بالمئة من كافة «المصانع والأشغال» لكنها تضم 66.8 بالمئة من اجمالي عدد العمال الصناعيين وتنتج 54.8 بالمئة من إجمالي الناتج. وإذا بها –أي المصانع- تشكل، في العام 1890، 6.7 بالمئة من إجمالي عدد «المصانع والاشغال» ويتمركز فيها 71.1 بالمئة من مجموع العمال الصناعيين و57.2 بالمئة من الناتج الاجمالي. وفي العامين 1894-1895، شكلت 10.1 بالمئة من مجموع «المصانع والأشغال» وتمركز فيها 73 بالمئة من مجموع العمال الصناعيين و70.8 بالمئة من الناتج الاجمالي. أما في العام 1903، فان المصانع الكبيرة في روسيا الأوروبية، تلك التي يزيد عدد عمالها عن 100 عامل، كانت تشكل 17 بالمئة من مجموع المصانع والأشغال وتضم 76.6 بالمئة من مجموع عدد العمال الصناعيين.
وهكذا، تتمركز في المصانع الكبيرة العاملة على البخار أساسا، على قلة عددها، نسبة طاغية ومتنامية من العمال ومن الناتج بالقياس إلى مجموع «المصانع والأشغال». وقد سبقت الاشارة إلى السرعة الهائلة التي نمت فيها هذه المصانع في فترة «ما بعد الإصلاح» (…)
أما في الصناعة التعدينية، فان نسبة تمركز العمال في مؤسسات كبيرة هي أعلى من المعدلات السالفة الذكر (مع ان نسبة المؤسسات التي تستخدم الآلات البخارية أقل) أن 258000 عاملا من اصل 305000، أي 84.5 بالمئة، يتمركزون في مؤسسات تضم ما يزيد عن 100 عامل. ونصف عمال المناجم تقريبا (145000 من اصل 305000) يعملون في عدد قليل من المؤسسات الكبيرة جدا تستخدم الواحدة منها الف عامل وأكثر. ومن بين مجموع عمال المصانع والمناجم في روسيا الاوروبية (البالغ عددهم 1180000 عام 1890) فان ثلاثة أرباعهم (74.6 بالمئة) يتمركز في مؤسسات تستخدم مئة عامل وأكثر، والنصف تقريبا (570000 من أصل 1180000) يتمركز في مؤسسات تستخدم 500 عامل وأكثر.
***
يجدر بنا الانتقال هنا إلى معالجة المسألة التي أثارها السيد دانيالسون حول «انخفاض وتيرة» تطور الرأسمالية ونمو «السكان العاملين بالمصانع» في فترة 1880-1890 بالقياس إلى فترة 1865-1880. سعى السيد دانيالسون انطلاقا من هذا الاكتشاف اللامع، وبفضل المنطق الخاص الذي يتميز به إلى الاستخلاص أن «الواقع تؤكد تأكيدا قاطعا» القول الوارد في كتابه «مقالات» بأن «الرأسمالية، بعد بلوغها أطوارا معينة من التطور، لا تلبث أن تعرف تقلصا في سوقها الداخلية» -فأولا، نجد أنه من الصعب المحاججة أن يكون «الابطاء في وتيرة الزيادة» هو مؤشر إلى تقلص السوق الداخلية. فاذا كان عدد عمال المصانع ينمو بوتيرة أسرع من وتيرة نمو السكان (وهذا هو الحال تماما وفق المعطيات الاحصائية التي يوردها السيد دانيالسون نفسه، حيث تبلغ الزيادة 25 بالمئة بين الاعوام 1880 و1890) فهذا يدل على أن السكان يتحولون عن الزراعة وأن السوق الداخلية تنمو حتى بالنسبة إلى سلع الاستهلاك الشخصي. (ناهيك عن سوق وسائل الانتاج).
ثانيا، ان «انخفاضا في معدلات النمو»، الذي تعبر عنه النسب المئوية لا بد وان يحصل في بلد رأسمالي في طور معين من تطوره، لأن المقادير الصغيرة تنمو دائما بنسب مئوية أسرع من نمو المقادير الكبيرة. والخلاصة الوحيدة التي يحق لنا استخلاصها من السرعة الاستثنائية للخطوات الاولى في تطور الرأسمالية هي أن البلد الفتي يسعى إلى تجاوز البلدان القديمة. على أن من الخطأ أن نعتبر الزيادة المئوية في الفترة الاصلية كمقياس للفترات اللاحقة.
ثالثا، ان مقارنة الفترات التي يتحدث عنها السيد دانيالسون لا تؤكد وجود «تراجع في النمو». فتطور الصناعات الرأسمالية لا يتم على اساس دورات متكاملة. لذا، فمن أجل المقارنة بين الفترات المختلفة، لا بد من اخذ المعطيات الاحصائية لعدد كبير من السنوات، بحيث يبرز بوضوح كل من سنوات الازدهار الاستثنائية وسنوات الانهيار. وهذا ما لم يفعله السيد داينالسون، فوقع في خطا كبير، إذ تغافل كون العام 1880 عام ازدهار كبير. بل ان السيد دانيالسون لم يتردد في أن «يلفِّق» القول المعاكس. فإذا به يحاجج قائلا: «ولا بد أن نلاحظ أيضا أن العام الوسيط (بين 1865، و1890)، أي العام 1880 كان عاما شحيح الإنتاج، بحيث أن عدد العمال المسجلين فيه كان اقل من الرقم العادي»!! (المصدر نفسه، ص 103-104). كان يكفي السيد دانيالسون أن يلقي نظرة واحدة على نص المطبوعة نفسها التي استمد منها أرقامه للعام 1880 (الدليل، الطبعة الثالثة) ليجد ان العام 1880 قد تميز بـ«طفرة» في الصناعة، خاصة في الصناعات الجلدية وبناء الآلات (الجزء الرابع) وان هذا نتج عن ارتفاع الطلب على السلع بعد الحرب وعن طلبيات الحكومة. ويكفي أن نقلِّب صفحات دليل عام 1879 لنكوِّن فكرة عن حجم هذه الطفرة. غير ان السيد داينالسون لا يتردد قط في تزوير الوقائع خدمة لنظريته الرومنطيقية.
8-انتشار الصناعة الكبيرة
بالإضافة إلى تمركز الانتاج في مؤسسات كبيرة، فان تمركزه في مراكز صناعية متمايزة، وتنوع أنماط هذه المراكز الصناعية يشكلان ايضا صفة اساسية من صفات الصناعة الآلية الكبيرة.
(…)
يظهر من الجدول انه توجد ثلاثة أنماط اساسية من المراكز الصناعية في روسيا.
أولها، المدن، التي تتميز بضخامة تمركز العمال والمؤسسات فيها، وبنوع خاص في المدن الكبيرة. ففي كل من المدن –الحواضر بما فيها الضواحي يتمركز ما يقارب 70 ألف عامل صناعي. تضم ريغا 16 ألفا، وايفانوفو-فورنسنسك 15 ألفا، وبوغورودسك عشرة آلاف (للعام 1890)، أما باقي المدن فهي تضم أقل من عشرة آلاف. ويكفي أن نلقي نظرة ولو عابرة على الارقام الرسمية بصدد عمال الصناعة في عدد من المدن الكبيرة (اوديسا، 8600 في العام 1890، كييف، 6000، روستو على الدون 5700، الخ) لكي نقتنع بأن هذه الارقام ناقصة إلى درجة عبثية. ومثال سان بطرسبرغ، الذي استشهدنا به أعلاه يبين أنه تجب مضاعفة هذه الأرقام عدة اضعاف لكب نحصل على العدد الصحيح للعمال الصناعيين في تلك المراكز. وبالإضافة إلى المدن، تنبغي الاشارة إلى الضواحي. فغالبا ما تكون ضواحي المدن مراكز صناعية كبيرة. غير أن المعطيات التي بين ايدينا تسمح لنا بتمييز مركز واحد فقط، هو ضواحي سان بطرسبرغ، حيث كان عدد العمال يبلغ 18900 عاملا في العام 1890. والواقع أن العديد من المراكز في قضاء موسكو، الواردة في جدولنا، هي في الواقع مجرد ضواحي للمدينة.
النمط الثاني من المراكز الصناعية هو القرى الصناعية، التي تتكاثر في مقاطعات موسكو وفلاديمير وكوستروما (يقع في هذه المقاطعات 42 من اصل الـ 63 مركزا مدينيا مهما في جدولنا وتأتي بلدة اوريخوفو-زوييفو في مقدمة هذه المراكز… أما بالنسبة لعدد العمال فإنها تأتي الثانية بعد العواصم (26800 عاملا في العام 1890). في المقاطعات الثلاث الآنفة الذكر، كما في مقاطعتي ياروسلافل وتفير، تتكون اكثرية المراكز الريفية الصناعية من مصانع نسيج ضخمة (غزل ونسيج، كتَّانيات، غزل الصوف، الخ). في السابق، كانت توجد، بطريقة شبه دائمة، مكاتب لتوزيع العمل في تلك القرى، اي مراكز للمانيفاتورة الرأسمالية، تهيمن على جماهير من الحائكين في القرى المجاورة. وحيث لا تخلط الاحصائيات العمال المنزليين مع عمال المصانع، فان المعطيات عن تطور هذه المراكز تؤكد بوضوح نمو الصناعة الآلية الكبيرة التي تجذب آلاف الفلاحين من المناطق المجاورة وتحولهم إلى عمال صناعيين. ان عددا من المراكز الصناعية الريفية يتكون من مناجم ومنشآت تعدينية كبيرة (مؤسسة كولومنا في قرية بوبروفو، مؤسسة يوزوفكا، مؤسسة برانيسك، وسواها)… ثم ان مصانع تكرير السكر من الشمندر في قرى وبلدات المقاطعات الجنوبية الغريبة تشكل هي ايضا عددا من المراكز الصناعية القروية…
أما النمط الثالث من المراكز الصناعية فهو قرى الصناعات اليديوة، التي يجري تصنيف مؤسساتها الكبيرة تحت عنوان «المصانع والأشغال» (…)
إذا جمعنا المراكز الواردة في جدولنا حسب عدد العمال في كل مركز وحسب نوع المركز (بلدة أو قرية) نحصل على النتائج التالية:
يتبين من الجدول انه في العام 1879 كان يوجد 356000 عامل (من مجموع يبلغ 752000) يتمركزون في 103 مراكز، في حين يرتفع الرقم إلى 451000 (من أصل 876000) للعام 1890. وبذلك يكون عدد العمال قد تزايد بنسبة 26.8 بالمئة، في حين أن الزيادة بالنسبة لعمال المصانع الكبيرة بشكل عام (100 عامل وما فوق) فإنها لم تتجاوز 22.2 بالمئة، وفي حين تزايد مجموع عدد العمال خلال الفترة بنسبة 16.5 بالمئة.
وهكذا، فالعمال يتجهون نحو التمركز في المراكز الصناعية الكبيرة. ففي العام 1879، كان ثمة 11 مركزا يضم الواحد منها اكثر من 5000 عامل، وقد ارتفع هذا الرقم إلى 21 مركزا عام 1890. والملفت للنظر حقا هو تزايد عدد المراكز التي تضم 5000-10000 عامل. وقد حصل ذلك لسببين اثنين: 1-بسبب النمو الاستثنائي للصناعة المعملية في الجنوب (أوديسا، روستو على الدون، الخ)، 2-بسبب نمو القرى الصناعية في المقاطعات الوسطى.
وان المقارنة بين المراكز المدينة والمراكز الريفية تبين انه في العام 1890 كانت المراكز الاخيرة تضم حوالي ثلث إجمالي عدد العمال في المراكز الرئيسية (152000 من اصل 451000). وإذا أخذنا روسيا ككل، فلا بد لهذه النسبة من الارتفاع، اي أن اكثر من ثلث العمال الصناعيين يتواجدون خارج المدن. يضم جدولنا بالتأكيد كل المراكز المدينية ذات الأهمية، بينما توجد اعداد أكبر بكثير مما هو وارد اصلا من المراكز الريفية التي يضم الواحد منها عدة مئات من العمال (مستوطنات تحوي مصانع زجاج، مصانع القرميد، ومعامل التقطير، ومصانع تكرير السكر الشمندري، الخ.) كذلك فان معظم عمال المناجم يتواجدون خارج المدن. لذا، يحق لنا القول ان نصف مجموع عمال المصانع والمناجم في روسيا الأوروبية، بل أكثر من نصف، يتواجد خارج المدن. وهذه خلاصة بالغة الأهمية. لأنها تدل على أن السكان الصناعيين في روسيا يتجاوزون بكثير السكان المدينيين [9].
وإذا التفتنا الآن إلى وتيرة نمو الصناعة المصنعية في المراكز المدينية والمراكز الريفية، فسنجد انها أسرع في الحالة الاخيرة. فخلال الفترة إياها، طرأت زيادة بسيطة على عدد المراكز المدينية ذات الاكثر من ألف عالم (من 32 إلى 33 مركز)، بينما ارتفع عدد المراكز الريفية من هذه الفئة ارتفاعا ملحوظا (من 38 إلى 53 مركز). وقد ازداد عدد العمال في 40 مركز مديني بنسبة 16.1 بالمئة فقط (من 257000 إلى 299000) في حين انه ازداد في 63 مركز ريفي بنسبة 54.7 بالمئة (من 98500 إلى 152500). وكانت الزيادة في متوسط عدد العمال للمركز المديني الواحد من 6400 إلى 7500 فقط، في حين ارتفع المعدل الوسطي بالنسبة للمركز الرئيسي من 1500 إلى 2400. وهكذا فان الصناعة المعملية تتجه بوضوح نحو الانتشار السريع خارج المدن، ونحو بناء مراكز صناعية جديدة وتنميتها بوتيرة أسرع من المراكز المدينية، كما تتجه إلى التغلغل عميقا في المناطق الريفية النائية التي تبدو معزولة عن عالم المؤسسات الرأسمالية الكبيرة. ان هذه الواقعة البالغة الأهمية تبين لنا، أولا، السرعة التي تدفع فيها الصناعة الآلية الكبيرة باتجاه تحويل العلاقات الاجتماعية والاقتصادية. فالذي كان يتبلور في السابق عبر قرون، ينشأ الآن في عقد من الزمن أو ما يقاربه. يكفي ان نقارن، مثلا، تكوّن مراكز غير زراعية كقرى الصناعات اليدوية المشار اليها في الفصل السابق-بوغورودسكويو، بافلوفو، كيمري، خوتايشي، فيليكوي وسواها- بعملية تأسيس المصانع الحديثة لمراكز جديدة، حيث تجذب فورا سكان الريف بالآلاف إلى المستوطنات الصناعية. وهكذا تعرف قسمة العمل الاجتماعية تطورا ملحوظا. فتحل حراكية السكان، كشرط ضروري من شروط الحياة الاقتصادية، محل الجمود والعزلة.
ثانيا، ان انتقال المصانع إلى الأرياف يبين أن الرأسمالية آخذة في تخطي العراقيل التي تنصبها في طريقها العزلة الفئوية للمشاعة الريفية، لا بل انها آخذة بالاستفادة من هذه العزلة. وإذا كان بناء المصانع في الريف يتضمن عددا لا بأس به من المضايقات، إلا أنه يضمن مد المصانع باليد العاملة الرخيصة. فإذا كان لا يُسمح «للموجيك» أن ينتقل إلى المصنع، فان المصنع نفسه هو الذي ينتقل إلى «الموجيك». وإذا كان «الموجيك» لا يتمتع بكامل حريته في السعي وراء رب العمل الذي يوفر له أفضل شروط العمل (بسبب نظام المسؤولية الجماعية والعقبات الموضوعة امام مغادرته لمجتمعه) فان رب العمل نفسه ليس مقيدا في سعيه وراء أرخص العمال.
ثالثا، ان ضخامة عدد المراكز الصناعية الريفية ونموها السريع يثبتان مدى خطل الرأي القائل ان المصنع الروسي معزول عن جموع الفلاحين، وانه يمارس نفوذا ضئيلا عليهم. ان لصفة المميزة لانتشار صناعتنا المعملية تؤكد، على العكس من ذلك، ان نفوذه –أي المصنع- واسع الانتشار وانه بعيد جدا عن أن يكون محصورا بين جدران المصنع. أما من جهة ثانية، فان هذه الصفة المميزة لانتشار صناعتنا المعملية لا يمكن إلا أن تؤدي إلى عرقلة مؤقتة للأثر التغييري للصناعة الآلية الكبيرة على العاملين فيها. ان تحويل «الموجيك» ساكن أقاصي الغابات فجأة إلى عامل صناعي، قد يموّن المصنع، ولو مؤقتا، بالأيدي العاملة الرخيصة، المتخلفة، وغير المتطلبة. غير أن هذا التأخير لا يمكن ان يستمر إلى ما لا نهاية بالطبع، وانه يتم على حساب المزيد من التوسع للرقعة الخاضعة لنفوذ الصناعة الآلية الكبيرة.
10-الملحق بالمصنع
عند الحديث عن الملحق بالمصنع نعني تلك الأشكال من العمل المأجور والصناعة الصغيرة التي يرتبط وجدوها ارتباطا مباشرا بالمصنع. أولا تشتمل هذه الاشكال (جزئيا) على عمال نشر الاخشاب والبناء [10] الذين سبق الحديث عنهم والذين يشكلون، في العديد من الحالات، جزءا عضويا من السكان الصناعيين في المراكز الصناعية أو هم ينتمون، في حالات أخرى، إلى سكان القرى المجاورة. ثم انها تشتمل على العمال المستخدمين في مستنقعات الخث [11] التي يشرف عليها أحيانا اصحاب المصانع أنفسهم، وأصحاب عربات النقل والحمالين وعمال التغليف، والشغيلة عموما، الذين يشكلون دائما قسما كبيرا من سكان المراكز الصناعية. ففي سان بطرسبرغ، مثلا، سجل احصاء 15 كانون الأول (ديسمبر) 1890، 44814 نسمة (من الجنسين) في فئة «المياومين والشغيلة» ثم 51 ألف (من الجنسين أيضا) في صناعة النقل، بينهم 9500 يتخصصون في نقل الحمولات الثقيلة المختلفة. ثم انه يوجد صناعيون «مستقلون» ينفذون بعض المهام الفرعية لحساب المصانع. وتنشأ مثل هذه الصناعات في المراكز الصناعية أو جوارها، ومنها مثلا صناعة البراميل لمعاصر الزيتون ومعامل التقطير، وصناعة السلال لتحميل الزجاجيات، وصناعة الصناديق للخردوات، وصنع المقابض الخشبية لأدوات النجارين والحدادين، والمسامير لمعامل الأحذية، ومواد الدباغة للصناعات الجلدية، وحياكة الحُصر لتغليف المصنوعات (في كوستراما وسواها من المقاطعات)، وصناعة أعواد الثقاب (في مقاطعات ريازان وكالوغا وسواهما) والصناديق الكرتونية لمعامل السجائر (في جوار سان بطرسبرغ)، وصناعة نشارة الخشب لمعامل الخل، وغزل فضلات الخيوط في مشاغل صغيرة (في لودز) الذي نشأ تلبية لطلب مصانع النسيج الكبيرة، الخ. الخ. وكل هؤلاء الصناعيين الصغار، مثلهم كمثل العمال المأجورين الوارد ذكرهم أعلاه، ينتمون اما إلى السكان الصناعيين في المراكز الصناعية وإما إلى السكان شبه الزراعيين في القرى المجاورة. وبالإضافة إلى ذلك، فحيث يقتصر عمل مصنع معين على إنتاج سلعة نصف مصنوعة، تنشأ فئة من صغار الصناعيين لاستكمال إنتاج هذه السلعة. فالغزل الآلي، مثلا، أدى إلى نشوء الحياكة اليدوية، وكذلك فالصناع اليدويون للمعدنيات يتحلقون حول مصانع الحديد، وما إلى هنالك.
وأخيرا، فان الصناعة المنزلية الرأسمالية غالبا ما تكون ملحقة بالمصنع. وتتميز حقبة الصناعة الآلية الكبيرة في كافة الاقطار بالتطور الواسع النطاق للصناعة المنزلية الرأسمالية في فروع مثل الالبسة الجاهزة. ولقد تحدثنا سابقا عن اتساع هذه الصناعة في روسيا، وعن ظروفها المميزة، وعن سبب اعتبارنا أن الأصح معالجتها في الفصل المخصص للمانيفاتورة.
لكي نقارب وصفا كاملا لملحقات المصنع، لا بد لنا من احصائيات كاملة عن مهن السكان او وصف عياني لمجمل نواحي الحياة الاقتصادية في المراكز الصناعية وجوارها. لكن حتى المعطيات الجزئية التي نضطر للاكتفاء بها تبيّن مدى خطأ الرأي الشائع هنا بأن الصناعة المصنعية معزولة عن اشكال الصناعة الأخرى، وبأن السكان العاملين في المصانع معزولون عن السكان غير العاملين في المصانع. ان تطور اشكال الصناعة، مثله كمثل كافة العلاقات الاجتماعية عموما، لا يتقدم إلا ببطء شديد، وسط شبكة من الاشكال الانتقالية وما يبدو أنه انتكاسات إلى الماضي. رأينا سابقا كيف أن نمو الصناعات الصغيرة يعبر عن تقدم للمانيفاتورة الرأسمالية. وها نحن نرى الآن ان المصنع قد يؤدي هو أيضا، وفي بعض الأحيان، إلى تطور الصناعات الصغيرة. ثم ان العمل لصالح السمسار هو أيضا عمل ملحق بكل من المانيفاتورة والمصنع. أما التقدير الدقيق لدلالة هذه الظواهر فلا يكون إلا إذا عالجناها بارتباطها ببنية الصناعة كلها في طور معين من تطورها وفي علاقتها بالاتجاهات الرئيسية لهذا التطور.
11-الانفصال الكامل للصناعة عن الزراعة
وحدها الصناعة الآلية الكبيرة تحقق الانفصال الكامل للصناعة عن الزراعة. والمعطيات الروسية تؤكد كليا هذه الاطروحة التي أرساها مؤلف كتاب «رأس المال» بالنسبة لبلدان أخرى، والتي يتجاهلها الاقتصاديون الشعبويون عادة. في كتابه «مقالات»، يتحدث السيد دانيالسون بمناسبة وبدون مناسبة عن «انفصال الصناعة عن الزراعة» دون أن يبذل أي جهد للاعتماد على الوقائع الدقيقة، من أجل دراسة دقيقة للمسار الحقيقي لهذه العملية وللأشكال المختلفة التي تكتسبها. أما السيد فورنتسوف فانه يشير إلى ارتباط العامل الصناعي عندنا بالأرض (في المانيفاتورة، ذلك ان مؤلفا لا يجد من الضروري أن يميز بين مختلف اطوار الراسمالية، مع أنه يدعي الاستهداء بنظرية مؤلف «رأس المال»!) ثم يحتج على «الاتكال المخزي» (كذا!) «لصناعتنا الرأسمالية» على العامل-المزارع، الخ. (مصير الرأسمالية، ص 114 وسواها). يبدو أن السيد فورنتسوف لم يسمع، أو هو نسي انه قد سمع ذات مرة، بأنه ليس في «بلدنا» بل في الغرب بأسره أيضا، عجزت الرأسمالية عن تحقيق الانفصال الكامل للعمال عن الأرض قبل ادخال الصناعة الآلية الكبيرة. وأخيرا، فالسيد كابلوكوف قد واجه طلابه مؤخرا بهذا التشويه الغريب للوقائع: «العمل في المصنع هو مصدر الرزق الوحيد للعامل في الغرب، أما في بلدنا، وخلا بعض الاستثناءات (كذا!!!) فالعامل يعتبر العمل في المصنع كمهنة إضافية، وهو أكثر انجذابا إلى الأرض».
يعرض السيد ديمانتييف في مقالة له عن «ارتباط عمال المصانع بالزراعة» في احصائيات موسكو الصحية لتحليل وقائعي لهذه المسألة. ويتبين من الاحصائيات المجموعة بطريقة منهجية عن 20 ألف عامل أن 14.1 بالمئة فقط من عمال المصانع يغادرون العمل من اجل استخدامات زراعية. ولكن الأهم من ذلك هو أن الدليل المذكور يقدم البرهان المعزز بأدق التفاصيل على أن الانتاج الآلي هو تحديدا الذي يفصل العمال عن الأرض (…)
(…) شاهدنا أعلاه التمركز الملحوظ لعمال الصناعة الروس في أكبر المؤسسات الصناعية، الممكنة في معظمها، والتي تستخدم 488 وأكثر من العمال للمؤسسة الواحدة. ولقد درس السيد ديمانتييف بالتفصيل تأثير مكان ولادة العامل على انفصاله عن الأرض والاختلافات في ذلك بين العمال المحليين والعمال المهاجرين، وكذلك الاختلافات في المنشأ الاجتماعي (مواطن حر او فلاح)، الخ. فاكتشف ان كافة هذه الاختلافات تتضاءل أمام تأثير عامل أساسي: الانتقال من الانتاج اليدوي إلى الانتاج الآلي:
«مهما تكن الاسباب التي حولت المزارع السابق إلى عامل صناعي، فهؤلاء العمال المختصون موجودون. انهم يعتبرون كفلاحين، غير أن صلتهم الوحيدة بالقرية هي في الضرائب التي يدفعون عندما يجددون جوازات سفرهم، ذلك انهم لا يملكون ارضا او مزارع في القرية، وغالبا ما لا يملكون حتى بيتا، لأنهم في معظم الاحيان يكونون قد باعوه. وهم يتمسكون حتى بحقهم في الارض قانونيا فقط، وقد دلت الاضطرابات التي شهدتها عدة معامل خلال عامي 1885-1886 ان هؤلاء العمال انفسهم يشعرون بالغربة الكاملة عن القرية، تماما مثلما الفلاحون انفسهم يضعون في مصاف الغرباء اولئك المتحدرين من ابناء قريتهم. اننا هنا أمام طبقة متبلورة كليا من العمال، لا تملك بيوتا ولا ملكية أو بالكاد، طبقة لا ترتبط بأية روابط وتعيش كفاف يومها. وهي ليست حديثة الاصل. فقد اصبح لها سلسلتها النسبية في المصنع، ويصل قسم كبير منها إلى الجيل الثالث».
وأخيرا، توفر الاحصائيات الصناعية الاخيرة موادا مثيرة حول انفصال المصنع عن الزراعة. ففي «لائحة المصانع والأشغال» (احصائيات 1894-1895) معلومات عن عدد الايام بالسنة التي يعمل فيها كل مصنع. وقد سارع السيد كاسبيروف في استخدام هذه المعطيات دعما للنظريات الشعبوية عندما أكد «ان المصنع الروسي يعمل، كمعدل، 165 يوما بالسنة» و«ان 35 بالمئة من المصانع في هذا البلد تعمل أقل من 200 يوم بالسنة». غني عن القول أن لا قيمة البتة لمثل هذه الخلاصات العامة، نظرا للالتباس في اصطلاح «المصنع»، طالما أنها لا تشير إلى عدد العمال المستخدمين لعدد معين من الايام في السنة. ولقد احتسبنا الارقام المناسبة في «لائحة المصانع والأشغال» بالنسبة إلى المصانع الكبيرة (100 عامل وأكثر) التي تستخدم 4/3 اجمالي عدد عمال المصانع، كما رأينا أعلاه (في القسم 7 من هذا الفصل). والنتيجة ان معدل ايام العمل بالسنة في الفئات المختلفة هي التالية: أ-242، ب-235، ج-273، و244 بالنسبة لكل المصانع الكبيرة. وإذا جمعنا متوسط عدد ايام العمل للعامل الواحد نحصل على 253 يوم عمل بالسنة بصفته المعدل للعامل الواحد في مصنع كبير (…)
(…)وهكذا فبقدر ما يكون المصنع كبيرا يتزايد عدد ايام شغله خلال السنة. وبالتالي فان المعطيات الاحصائية العامة لكل المصانع الكبيرة في روسيا الأوروبية تؤكد استخلاصات العائدات الاحصائية الصحية لموسكو كما تؤكد ان المصنع يخلق طبقة من العمال الصناعيين الدائمين.
من هنا، فالمعطيات عن عمال الصناعة الروس تؤكد كليا صحة نظرية رأس المال القائلة ان الصناعة الآلية الكبيرة هي التي تحدث ثورة شاملة وحقيقية في ظروف معيشة السكان الصناعيين، فتفصلهم نهائيا عن الزراعة وعن التقاليد البالية للحياة العشائرية (البطريركية) المرتبطة بها. ولكن هذه الصناعة الآلية الكبيرة إذ تدمر العلاقات العشائرية والبرجوازية الصغيرة، تخلق، في المقابل، الظروف التي تقرب بين العمال المأجورين في الصناعة والعمال المأجورين في الزراعة، أولا، لأنها تدخل إلى الارياف عموما نسق الحياة التجاري والصناعي الذي نشأ أصلا في المراكز غير الزراعة، وثانيا، لأنها-اي الصناعة الآلية الكبيرة- تولد حالة من الحراكية بين السكان وتؤسس الاسواق الكبيرة لاستئجار الايدي العاملة الزراعية على حد سواء، وثالثا، لأن الصناعة الآلية الكبيرة إذ تُدخل الآلة إلى الزراعة، تستجلب إلى الارياف العمال الصناعيين المهرة الذين يتميزون بارتفاع مستوى معيشتهم.
12-ثلاثة أطوار في تطور الرأسمالية
في الصناعة الروسية
فلنلخِّص الآن النتائج الاساسية المستخلصة من المعطيات عن تطور الرأسمالية في صناعتنا.
هناك ثلاثة أطوار أساسية في هذا التطور: الانتاج السوقي الصغير (الصناعات الصغيرة، الفلاحية أساسا)؛ والمانيفاتورة الرأسمالية؛ والمصنع (الصناعة الآلية الكبيرة). وتدحض الوقائع كليا الرأي الشائع، هنا في روسيا، بأن «المصنعية» والصناعة «اليدوية» منعزلان واحدهما عن الآخر. بل العكس تماما، فان مثل هذا الفصل فصل اصطناعي لا اكثر. فالواقع ان الصلة والاستمرارية بين الأشكال الصناعية الآنفة الذكر هما من النوع المباشر والحميم. ان الوقائع تؤكد بوضوح ان الميل الرئيسي للإنتاج السوقي الصغير هو نحو تطور الرأسمالية، وتحديدا نحو نشأة المانيفاتورة. وها أن المانيفاتورة تنمو بسرعة مذهلة أمام أعيننا لتتحول إلى صناعة آلية كبيرة. ولعل واحدا من ابرز التعبيرات عن الصلة الحميمة والمباشرة بين الاشكال المتتابعة من الصناعة هو كون العديد من كبار، بل من أكبر، اصحاب المصانع كانوا في الاصل اصغر الصناعيين الصغار الذين مروا بكل المراحل المعروفة من «الانتاج الشعبي» وصولا إلى «الرأسمالية» (…)
إن الاشكال الثلاثة الأساسية للصناعة، المعددة أعلاه، تختلف أولا بأول في أنظمة التقنية بينها. فالإنتاج السوقي الصغير يتميز بتقنيته اليدوية والبدائية الكاملة التي لم تتغير منذ الأزمنة الغابرة. والمنتج الصغير في الصناعة يبقى فلاحا يعتمد التقليد في أساليبه لمعالجة المواد الأولية.
ان المانيفاتورة هي التي تدخل قسمة العمل التي تحدث تغييرا اساسيا في التقنية، وتحوِّل الفلاح إلى عامل صناعي، إلى «عامل يمارس عملية تفصيلية واحدة». لكنها تبقى على الانتاج اليدوي، وعلى هذا الاساس يبقى التقدم في اساليب الانتاج بالضرورة شديد البطء. فقسمة العمل تولد عفويا ويجري تناقلها بواسطة التقليد كما يجري تناقل العمل الفلاحي.
وحدها الصناعة الآلية الكبيرة تحدث تغيرا جذريا، فتتخلى نهائيا عن المهارة اليدوية، وتبني الانتاج على اسس جديدة وعقلانية، وتطبق العلم منهجيا على الانتاج. وحيث الرأسمالية لم تنظم الانتاج على اساس الصناعة الآلية الكبيرة فإننا نجد الاستنقاع شبه الكامل في التقنية، نرى استخدام النول اليدوي نفسه والمطحنة المائية أو الهوائية اياها التي كانت تستخدم في الانتاج منذ قرون. ومن جهة ثانية، ففي الصناعات الخاضعة للمصنع، نلاحظ ثورة تقنية شاملة وتقدما بالغ السرعة في وسائل الانتاج الآلي.
وهكذا فان الاطوار المختلفة لتطور الرأسمالية مرتبطة بأنظمة تقنية مختلفة. يتميز الانتاج السوقي الصغير والمانيفاتورة بسيادة المؤسسات الصغيرة التي لا يخرج من بينها إلا عدد قليل من المؤسسات الكبيرة. في حين تقضي الصناعة الآلية الكبيرة كليا على المؤسسات الصغيرة. ثم ان العلاقات الرأسمالية تظهر في الصناعات الصغيرة ايضا (على شكل محترفات تستخدم العمال المأجورين وعلى شكل رأس مال تجاري) لكن هذه تظل ضعيفة النمو لم تتبلور فيها بعد التناقضات الحادة بين الفئات المشاركة في الانتاج. فلا يوجد بعد رأس المال الكبير ولا الفئة البروليتارية الواسعة. في ظل المانيفاتورة ينشأ هذا وتلك. وتتسع الهوة بين مالك وسيلة الانتاج وبين المنتج. وتظهر مستوطنات صناعية «غنية»، تتكون أكثيرة سكانها من الكادحين الفقراء. قلة من التجار الذين يحققون ارباحا هائلة في شراء المواد الأولية وبيع المنتجات المصنوعة وكثرة من العاملين بالقطعة يعيشون كفاف يومهم –تلك هي الصورة العامة للمانيفاتورة. لكن تكاثر المؤسسات الصغيرة، واستمرار الارتباط بالأرض، والتقيد بالتقاليد في الانتاج وفي نسق الحياة بمجمله، كل هذه تولد كمية من العناصر الانتقالية بين طرفي المانيفاتورة وتؤخر نموهما. على أن كافة هذه العوامل المعرقلة تختفي في ظل الصناعة الآلية الكبيرة حيث تبلغ التناقضات الاجتماعية ذروتها. وتتكثف كل الجوانب المظلمة من الرأسمالية: وكما هو ومعلوم فالآلة تدفع باتجاه أطوال تمديد ممكن ليوم العمل، وتنجذب النساء والأطفال إلى الصناعة، ويتكون جيش احتياط للعاطلين عن العمل (وتكوينه محتوم في ظروف الانتاج المصنعي)، الخ. غير ان تجميع العمل الذي يحدثه المصنع على نطاق واسع، والتحولات التي تطرأ على مشاعر ومفاهيم اولئك الذين يستخدمهم (وبخاصة، تحطيم التقاليد البطريركية والبرجوازية الصغيرة) لا تلبث ان تؤدي إلى ردة فعل: فالصناعة الآلية الكبيرة، خلافا للأطوار السابقة، تتطلب حكما التنظيم المبرمج للإنتاج والرقابة العمة عليه (والتشريعات الصناعية هي أحد تجليات الميل الأخير).
ان طبيعة تطور الانتاج نفسها تتغير بتغير مراحل الرأسمالية. ففي الصناعات الصغيرة، يلحق هذا التطور بتطور الاقتصاد الفلاحي، فالسوق ضيقة جدا، والمسافة بين المنتج والمستهلك قصيرة، وحجم الانتاج محدود إلى درجة انه يتكيف بسهولة مع الطلب المحلي القليل الذبذبات. لهذا السبب تتميز الصناعة في هذا الطور باستقرار عظيم، غير أن مثل هذا الاستقرار يوازي الاستنقاع في التقنية والمحافظة على العلاقات الاجتماعية العشائرية المتشابكة مع شتى ترسُّبات التقاليد القرن أوسطية. أما المانيفاتورات، فانها تنتج لسوق كبيرة –وأحيانا للبلد بأسره- فيكتسب الانتاج بالتالي عدم الاستقرار الذي تتميز به الرأسمالية نفسها، وهو الذي يبلغ ذروته في ظل الانتاج المصنعي. ذلك أن الصناعة الآلية الكبيرة لا تتطور إلا بالطفرات، بتعاقب فترات من البحبوحة مع فترات من الأزمة. وهذا النمو التشنجي للمصنع يسرع كثيرا في خراب المنتجين الصغار. فالعمال ينجذبون إلى المصنع كمجموعات خلال فترات الازدهار، ثم يقذفون منه. ويصبح تكوّن جيش احتياط كبير من العاطلين عن العمل، المستعد للاضطلاع بأي عمل، شرطا لوجود ونمو الصناعة الآلية الكبيرة. وقد بيّنا، في الفصل الثاني من هذا الكتاب، ما هي شرائح الفلاحين التي تنضم إلى هذا الجيش، وأشرنا، في الفصول اللاحقة، إلى المهن الرئيسية التي يبقي رأس المال احتياطييه مستعدين لأدائها. والواقع ان «عدم استقرار» الصناعة الآلية الكبيرة كان ولا يزال يستثير التذمرات الرجعية من افراد يستمرون في النظر إلى الامور بعيني المنتج الصغير ويتناسون أن وحده «عدم الاستقرار» هذا هو الذي استبدل الاستنقاع السابق بالتحول السريع في وسائل الانتاج وكافة العلاقات الاجتماعية.
ومن تجليات عملية التحول هذه فصل الصناعة عن الزراعة، وتحرير العلاقات الاجتماعية في الصناعة من تقاليد النظام الاقطاعي والعشائري الرازحة على الزراعة. في ظل الانتاج السوقي نجد ان الصناعي لم يخرج بعد من قوقعته الفلاحية. فهو يبقى مزارعا في اكثرية الأحيان. وهذا الارتباط بين الصناعة الصغيرة والزراعية الصغيرة عميق إلى درجة أننا نشهد قانون التمايز المتوازي للمنتجين الصغار في الصناعة وفي الزراعة معا. ويتم تكوّن البرجوازية الصغيرة والعمال المأجورين في نطاقَي الاقتصاد الوطني في آن معا، ويمهد بالتالي الطريق، في طرفي عملية التمايز هذه، لكي يحق الصناعي قطيعته مع الزراعة.
في ظل المانيفاتورة، تكون هذه القطيعة قد سارت شوطا لا بأس به نحو الاستكمال. إذ ينشأ عدد من المراكز الصناعية غير المشتغلة بالزراعة. وإذا بالممثل الرئيسي للصناعة ليس الفلاح، بل التاجر وصاحب المانيفاتورة من جهة، و«الحرفي» من جهة ثانية. ويساعد كل من الصناعة والتطور النسبي للتبادل التجاري مع سائر أجزاء العالم على رفع مستوى معيشة السكان وثقافتهم، فإذا بعامل المانيفاتورة ينظر بازدراء إلى الفلاح. ثم تأتي الصناعة الآلية الكبيرة لتستكمل هذا التحول، فتنفصل الصناعة نهائيا عن الزراعة، وكما رأينا سابقا، فانها تخلق طبقة خاصة من السكان غريبين كليا عن الفلاحين التقليديين مختلفين عنهم في نسق حياتهم، وعلاقاتهم العائلية، وفي ارتفاع مستوى متطلباتهم المادية نفسها والروحية. في الصناعات الصغيرة والمانيفاتورة نجد دوما بقايا للعلاقات العشائرية ولمختلف اشكال التبعية الشخصية وهذه تساعد –في ظل الظروف العامة للاقتصاد الرأسمالي- على مفاقمة اوضاع الشغيلة، بما في ذلك من انحطاط وإفساد. اما الصناعة الآلية الكبيرة التي تجمع جماهير من العمال ينتمون في العادة إلى مختلف مناطق البلد، فإنها ترفض قطعيا اي تسامح مع ترسُّبات العشائرية والتبعية الشخصية، وهي تتصف «بموقف من الازدراء الفعلي تجاه الماضي». وإنها هذه القطيعة مع التقاليد البالية، التي تشكل أحد الشروط الأساسية التي أدت إلى قيام إمكانية، بل وضرورة، تنظيم الانتاج وممارسة الرقابة العامة عليه. وبالتحديد فعند الحديث عن التحول الذي يحدثه المصنع في ظروف حياة السكان، لا بد من القول أن جذب النساء والأحداث إلى الانتاج هو ظاهرة تقدمية، في نهاية المطاف. فالذي لا شك فيه ان المصنع الرأسمالي يضع هذه الفئات من الشعب في ظروف بالغة القساوة، مما يدفعهم إلى ضرورة تنظيم وتقصير يوم العمل، وضمان الشروط الصحية للعمال، الخ. غير ان المساعي الرامية إلى الالغاء الكامل لعمل النساء والأحداث في الصناعة، أو إلى المحافظة على نسق الحياة البطريركي الذي يمنع مثل هذا العمل، ستكون مساعي محض رجعية وطوباوية. ذلك أن تدمير العزلة البطريركية لهذه الفئات من السكان التي لم تخرج سابقا من دائرة العلاقات المنزلية والعائلية الضيقة، ودفعها إلى الانخراط المباشر في الانتاج الاجتماعي من قبل الصناعة الآلية الكبيرة يحفز تطورها ويزيد من استقلاليتها، وبعبارة أخرى، يخلق ظروفا متفوقة بلا ادنى شك على الجمود البطريركي للعلاقات قبل الرأسمالية.
ان الاستقرار السكاني هو الصفة المميزة لأول مرحلتين من مراحل التطور الصناعي. فالصناعي الصغير يظل فلاحا تقيده مزرعته بأرضه. وفي العادة، فان الحرفي في ظل نظام المانيفاتورة يظل مقيدا هو ايضا بالمنطقة الصناعية الصغيرة التي خلقتها المانيفاتورة. فالواقع ان نظام الصناعة نفسه، في الطور الأول والثاني من تطوره، لا يشمل على اي عنصر من شأنه أن يدخل الاضطراب إلى استقرار المنتج وعزلته. فالتفاعل بين المناطق الصناعية المختلفة نادر. وانتقال الصناعة إلى مناطق أخرى يعود بالدرجة الاولى إلى هجرة منتجين صغار أفراد لا يلبثون ان يؤسسوا صناعات صغيرة جديدة في الأطراف. أما الصناعة الآلية الكبرى، فإنها تولِّد، بالضرورة، حراكية السكان، ويتزايد حجم التفاعل التجاري بين مختلف المناطق بنسب ضخمة، فيما تساعد خطوط سكك الحديد على السفر. ويتزايد الطلب على العمل عموما –فيرتفع في فترات الازدهار وينخفض في فترات الأزمات، بحيث يضطر العمال إلى الانتقال من مصنع إلى آخر. ثم ان الصناعة الآلية الكبيرة تخلق عددا من المراكز الصناعية الجديدة، التي تنمو بسرعة لم يسبق لها مثيل، أحيانا في مناطق غير مأهولة، وهذا أمر يستحيل حدوثه لولا الهجرة العمالية الجماعية. عما قليل سوف نتحدث عن حجم ودلالات ما يسمى الصناعات غير الزراعية الخارجية. أما الآن، فسوف نقتصر على احصائيات الزييمستوفات الصحية لمقاطعة موسكو. يظهر من دراسة احوال 103175 عاملا صناعيا ان 53238 –أي 51.6 بالمئة من المجموع- قد ولدوا في القضاء حيث يعملون. وهكذا، فان حوالي نصف العمال هاجروا من قضاء إلى آخر. ويصل عدد العمال الذين ولدوا في مقاطعة موسكو إلى 66038، اي 64 بالمئة. أما اكثر من ثلث العمال، فقد قدم من مقاطعات أخرى (وعلى الاخص منها مقاطعات المنطقة الصناعية الوسطى المتاخمة لمقاطعة موسكو). ويظهر من المقارنة بين الأقضية المختلفة أن الاقضية الاكثر تصنيعا تتصف بأدنى نسب من العمال المولودين محليا. ففي قضائي موجايك وفولوكولامسك، وهما ضعيفا التصنيع نجد ان 92-93 بالمئة من العمال الصناعيين هم من أبناء القضاء حيث يعملون. أما في الاقضية الكثيفة التصنيع مثل موسكو وكولومنا وبوغورودسك، فان نسبة العمال المولودين محليا تهبط إلى 24 بالمئة و40 بالمئة و50 بالمئة. من هنا يستنتج البحاثة أن «التطور الصناعي الكثيف في قضاء معين يشجع على تدفق العناصر الخارجية إليه». ولا بد أن نضيف أن هذه الوقائع تبيّن كذلك ان حركة العمال الصناعيين تحمل المميزات إياها التي نلاحظ في حركة العمال الزراعيين. أي ان العمال الصناعيين يهاجرون هم ايضا ليس من المناطق التي تتمتع بفائض من الايدي العاملة وحسب، بل وأيضا من المناطق التي تشكو نقصا فيها. ان قضاء برونيتسي، مثلا، يجذب 1125 عاملا من سائر اقضية مناطق موسكو، ومن مقاطعات أخرى، لكنه في الوقت نفسه يمد قضائي موسكو وبوغورودسك، الاوفر تصنيعا، بـ 1246 عاملا. ومن هنا، فان العمال يغادرون ليس لأنهم «لا يجدون مهنا محلية جاهزة» وحسب، بل ايضا لأنهم يتجهون إلى حيث ظروف العمل افضل. وعلى الرغم من بديهية مثل هذا القول، فلا بد من ان نذكِّر الاقتصاديين الشعبويين به، لأنهم يمجدون المهن المحلية ويدينون الهجرة نحو المناطق الصناعية، متجاهلين الدلالة التقدمية لحراكية السكان التي تولدها الرأسمالية.
ان الخصائص المعددة أعلاه والتي تميز الصناعة الآلية الكبيرة عن الاشكال الصناعية السابقة لها، يمكن تلخيصها بكلمة: تجميع العمل. وبالتأكيد، فان الانتاج لسوق وطنية ودولية كبيرة، وتنمية علاقات تجارية وثيقة مع مختلف انحاء البلد ومع بلدان مختلفة من أجل شراء المواد الاولية والمساعدة، والتطور التقني الكبير، وتمركز الانتاج والسكان في مؤسسات جبارة، وتدمير التقاليد البالية للحياة البطريركية، ونمو حراكية السكان، وتحسين مستوى حاجات المعامل وتطوره –كل هذه هي عناصر من العملية الرأسمالية التي تزيد من جماعية الانتاج في البلد ومعها جماعية المشاركين فيه.
أما عن قضية العلاقة بين الصناعة الآلية الكبيرة في روسيا وبين السوق الرأسمالية المحلية، فالمعطيات الواردة اعلاه تسمح بالاستنتاج التالي: ان التطور السريع للصناعة المصنعية في روسيا يؤسس سوقا ضخمة ونامية باطراد لوسائل الانتاج (مواد بناء، محروقات، معادن، الخ.) ويضاعف بسرعة خارقة عدد ذلك الجزء من السكان العاملين في إنتاج السلع المعدة للانتاج وليس للاستهلاك الشخصي. غير ان سوق مواد الاستهلاك الشخصي تنمو هي ايضا بسرعة، نظرا لنمو الصناعة الآلية الكبيرة الآخذة بتحويل قسم متزايد من السكان من الزراعة إلى المهن التجارية والصناعية. أما بالنسبة إلى السوق المحلية للمنتجات المصنوعة في المصانع، فقد عالجنا عملية تكونها بالتفصيل في الفصول السابقة من كتابنا.
————————————————————————-
احالات الفصل السابع
[1]-رأس المال، الجزء الأول، الفصل 13.
[2]-المصدر ذاته، الجزء الأول، صفحة 499.
[3]-في القسمين الثاني والثالث من هذا لفصل، يقوم لينين بعملية نقد منهجية وشاملة للإحصائيات الرسمية. ثم يباشر عملية تفحص دقيقة لهذه الاحصائيات طارحا المغلوط ومبقيا على الاساسي والمفيد فيصل إلى خلاصتين رئيستين: الأولى، ان عدد المصانع كان آخذا بالنمو السريع في مرحلة «ما بعد الاصلاح». وذلك على العكس مما ورد في الاحصائيات التي تصنف الحرفة الصغيرة ومؤسسات الصناعة اليدوية وحتى المؤسسات الزراعية على أنها مصانع. أما الخلاصة الثانية، فهي أن الاحصائيات تميل إلى تضخم عدد العمال الصناعيين وإنتاج المصانع. وهذا عائد أيضا للسبب الوارد أعلاه، ولكون الاحصائيات الصناعية تصنف الصناع المنزليين المستخدمين على أسس رأسمالية على أنهم عمال صناعيون –المترجم-
[4]-يلاحظ لينين وجود منطقتين متباينتين كليا في صناعة التعدين. الاولى هي منطقة الأورال، مركز التعدين القديم، حيث أصحاب المناجم والمصانع هم ملاك الأرض الاقطاعيون السابقون الذين انتقلوا للعمل الصناعي دون التخلي عن دورهم الاقطاعي في الارض. وهكذا فالفلاحون المحاصصون، على الاراضي التي يملكها أصحاب المصانع والمناجم، مقيدون بالأرض وبالمصنع بعلاقات أقرب ما تكون لعلاقات القنانة. وهكذا تراكبت علاقات الاستغلال الرأسمالي مع علاقات القنانة. ويصف لينين الاورال بالعبارات التالية: «المخلفات المباشرة لنظام ما قبل الإصلاح، الاستخدام الواسع النطاق للعمل-الخدمة، الحالة التبعية للعمال، انخفاض انتاجية العمل، تخلف التقنية، الأجور المنخفضة، سيادة الانتاج اليدوي، الاستغلال البدائي الهمجي للثروة الطبيعية للمنطقة، الاحتكارات، المعوقات العديدة في وجه المنافسة، والانكفاء والعزلة عن المسيرة التجارية والصناعية العظيمة للأزمنة لحديثة…» (صفحة 488).
يقابل ذلك المنطقة الصناعية التعدينية الحديثة في الجنوب والجنوب الغربي (مقاطعات الدون، كييف، استراخان، تاوريدا، خيرسون، تشيرنيغوت، فولهينيا، خاركوف، بودولسك، بيسرابيا، الخ). هناك نشأت صناعة رأسمالية محضة لا تقترن بتقاليد أو مراتب اجتماعية او عزلة فئات سكانية معينة. فقد شهدت روسيا الجنوبية هجرة كثيفة من الرساميل الاجنبية والمهندسين والعمال، إلى درجة ان مصانع بأكملها جرى نقلها من الولايات المتحدة الامريكية. وقد تطورت صناعة التعدين في الجنوب بوتيرة أسرع من وتيرة نموها في اوروبا الغربية، وأحيانا أسرع من الوتائر الأمريكية الشمالية –المترجم.
[5]-يبلغ تعداد هؤلاء لا أقل من 22 مليون، كما سنرى لاحقا. (ملاحظة لينين).
[6]-الجدول المعني هو جدول المصانع الكبيرة (فوق المئة عامل) في روسيا. وكان لينين قد عالج، في القسم السادس من هذا الفصل، تطور استخدام الآلات البخارية في الصناعة الروسية، وتوصل إلى أن قوة الأحصنة البخارية للآلات البخارية قد تضاعفت ثلاثة اضعاف خلال 16 سنة. وتشير الاحصائيات إلى التطور السريع للصناعات المنتجة للسلع المعدة للاستهلاك الانتاجي، وعلى الاخص المناجم والصناعات المعدنية –المترجم-
[7]-الفئة أ =100-499 عاملا. الفئة ب=500-969 عاملا. الفئة ج: أكثر من ألف عامل –المترجم-.
[8]-يقارن لينين بين الاحصائيات الواردة أعلاه وبين آخر الاحصائيات الرسمية للعام 1903 مع ملاحظته أن المقارنة قد تنطوي على شيء من عدم الدقة –المترجم-.
[9]-أكد الاحصاء السكاني في 28 كانون الثاني/يناير 1897 هذه الخلاصة بوضوح تام. فقد قدر عدد السكان المدينيين في كافة أنحاء الامبراطورية بـ 16828395 نسمة من الجنسين. هذا في حين ان عدد السكان العاملين في التجارة والصناعة يبلغ 21.7 مليون نسمة، كما بيَّنا اعلاه (ملاحظة لينين للطبعة الثانية).
[10]-يخصص لينين القسم التاسع من هذا الفصل لدراسة تطور صناعات قطع الاخشاب والبناء بوصفها أحد الشروط الاساسية لتطور الصناعة الآلية الكبيرة. لكنه يبين انه مع تطور الرأسمالية تعجز الاخشاب عن سد الحاجة إلى الوقود فيجري الانتقال إلى استخراج الفحم. ويقيم لينين مقارنة ثاقبة بين عمال الاخشاب وعمال الفحم، ويشبِّه الفارق بين صناعة الأخشاب وبين استخراج الفحم بالفارق بين المانيفاتورة والصناعة الآلية الكبيرة. ففي الأولى يبقى المنتج فلاحا، خاضعا لنسق الحياة العشائري القديم، يكدح في أقاصي الغابات، يستغل رب العمل جهله وعزلته. أما صناعة استخراج الفحم فتحول المنتج إلى عامل صناعي، وتجمع السكان حول مراكز صناعية كبيرة.
ثم ينتقل الكاتب إلى وصف تطور صناعة البناء وفق تطور الرأسمالية. في البدء كان البناء جزءا من الاعمال المنزلية للفلاح في ظل نظام الاقتصاد الطبيعي او شبه الطبيعي. ثم يولد الحرفي العامل في البناء تلبية لطلبات إطار ضيق من الزبائن دون أن يفقد الصلة بالأرض. إلا أن تطور الرأسمالية يطيح بهذه الحالة مع نمو التجارة وتزايد الحاجة إلى الأبنية الصناعية وخطوط سكك الحديد في طول البلاد وعرضها. فيتحول معلم البناء إلى عامل مهاجر، ويولد المتعهد الذي ينقلب بسرعة إلى رأسمالي كبير. وهكذا يولد جيش من عمال البناء يوسعون صفوف البروليتاريا الصناعية. –المترجم-
[11]-الخُّث، نسيج نباتي نصف متنحِّم يتكون من تحلل النباتات تحللا جزئيا في الماء. وهو يستخدم كوقود –المترجم-.
اقرأ أيضا