الذكرى 144 لكمونة باريس، الثورة الفرنسية الرابعة
بمناسبة ذكرى كومونة باريس أو الثورة الفرنسية الرابعة (قامت منتصف مارس 1871) ينشر موقع المناضل-ة بعض الكتابات الماركسية حول الكمونة
دروس من كومونة باريس، ليون تروتسكي
في كل مره نقوم فيها بدراسة تاريخ الكومونة فإننا نراها من ناحية جديدة، ويعود الفضل في ذلك إلي الخبرات المتحصلة عن طريق الصراعات الثورية الأخيرة وفي مقدمتها علي الإطلاق الثورات الأخيرة، ليس فقط الثورة الروسية ولكن أيضاً الثورتين الألمانية والبلغارية. لقد كانت الحرب الفرنسية ـ الألمانية انفجار دموي ينذر بمذبحة عالمية غير محدودة، في حين كانت كومونة باريس بشري مضيئة لثورة بروليتارية عالمية.
إن الكومونة تظهر لنا مدي بطولة جمهور الطبقات العاملة، قدرتـهم علي الاتحاد في كتلة سياسية واحدة، نبوغهم في التضحية بأنفسهم باسم المستقبل، ولكنها تظهر لنا في نفس الوقت عدم مقدرة هذه الجماهير علي اختيار طريقه، ترددهم وعدم حزمهم في مسألة قيادة الحركة، تحزبـهم المشئوم الذي وصل بـهم إلي التوقف بعد النجاحات الأولي وهكذا السماح للعدو باستعادة انفاسه وإعادة توطيد مواقعه.
لقد جاءت الكومونة متأخرة جداً، لقد كان لديها كل إمكانيات الاستيلاء علي السلطة في الرابع من سبتمبر وهو ما كان يسمح للبروليتارية في باريس بأن تضع نفسها وبضربة واحدة علي رأس العمال في الدولة كلها في صراعهم ضد قوي الماضي، ضد بسمارك كما ضد ثيرز علي السواء، ولكن السلطة وقعت في أيدي ثرثاري الديمقراطية: نواب باريس، ولم يكن لدي البروليتاريا الباريسية حزب أو قيادة مرتبطة بـها ارتباطاً وثيقاً من خلال الصراعات السابقة، والبرجوازيون الصغار الأبطال الذين ظنوا أنفسهم اشتراكيين ولجأوا إلي مساندة العمال لهم فلم يكن لديهم في الحقيقة أية ثقة في أنفسهم، لقد زعزعوا إيمان البروليتاريا في نفسه، لقد كانوا يلجؤون باستمرار إلي المحامين المشهورين، إلي الصحفيين وإلي النواب والذين لم يكن في جعبتهم سوي حفنة من العبارات الثورية المبهمة، وذلك من أجل أن يعهد إليهم بقيادة الحركة.
إن السبب لماذا أخذ كل من جوليس فافر، بيكارد، جامير وشركائهم السلطة في باريس في الرابع من سبتمبر هو نفسه السبب الذي سمح لبال ـ بانكور،. فارين، رينادل وآخرين كثيرين أن يكونوا أسياداً لحزب البروليتاريا، إن الرينادليين والبانكوريين وحتي اللونجوتيين والبرسمانيين هم أقرب ـ بالنظر إلي عواطفهم وأفكارهم المشتركة وسلوكهم وعاداتـهم الثقافية ـ إلي أتباع جوليس فافر وجوليس فيري منهم إلي البروليتاريا الثورية، فأسلوبـهم وعباراتـهم الاشتراكية هي لا شيء سوي قناع تاريخي لكي يضعوا أنفسهم علي رأس الجماهير، وذلك لمجرد أن فافر، سيمون، بيكارد والآخرين قد استعملوا وأفرطوا في استعمال عبارات ديمقراطية ـ ليبرالية حتى إن أبنائهم وأحفادهم أصبحوا مضطرين إلي الالتجاء إلي العبارات الاشتراكية، ولكن هؤلاء الأبناء والأحفاد قد بقوا جديرين بآبائهم أوفياء لهم ليعملوا علي استكمال مهامهم. وعندما يكون من اللازم اتخاذ القرار، فليست مسألة تكوين العصبة الوزارية هي المهمة وإنما الأمر الأكثر أهمية والأجدر بالعلم به هو أي الطبقات في فرنسا يجب أن تمسك بزمام السلطة، وحينها فإن رينادل، فارين، لونجوت وأمثالهم سيكونون في معسكر ميلليراند ـ وهو شريك وزميل جاليفت ذلك الرجل الذي ذبح الكومونة…، وعندما يجد هؤلاء الثرثارين ثوريي الصالونات والبرلمان أنفسهم وجها لوجه ـ في الحياة الواقعية ـ أمام الثورة فإنـهم لن يدركوها أبدا.
إن الحزب العمالي الحقيقي ليس آلة للمناورات البرلمانية، فهو الخبرة المتراكمة والمنظمة للبروليتاريا، أنه فقط بمساعدة الحزب ـ والذي يرتكز علي الأحداث الماضية في تاريخه كله والذي يرسم مسبقاً بطريقة نظرية الطريق نحو التقدم بكل مراحله ويستخرج منه الشكل المناسب للعمل ـ تستطيع البروليتاريا تحرير نفسها من الحاجة المتكررة لإعادة بدء تاريخها من جديد بنفس التردد والنقص في اتخاذ القرارات، أي بنفس أخطائها السابقة.
البروليتاريا في باريس لم يكن لديها مثل هذا الحزب، فالاشتراكيون البرجوازيون والذين احتشدت بـهم الكومونة قد تلعثموا ورفعوا عيونـهم إلي القدر في انتظار معجزة تـهبط عليهم أو في انتظار رسالة سماوية أخري، وفي أثناء هذا الوقت فإن الجماهير كانت قد بدأت تفقد صوابـها وذلك بسبب حيرة البعض وترددهم وأوهام البعض الآخر وخيالاته، والنتيجة كانت أن الثورة قد انطلقت و هم في منتصف الطريق تماماً، متأخرين جداً، وكانت باريس مطوقة تماماً، وانقضت 6 أشهر قبل أن تقوم البروليتاريا بإعادة تنظيم ذاكرتـها للاستفادة من دروس الثورات السابقة، معارك الأيام الخوالي والخيانات المتكررة للديمقراطية، وبعدها وضعت يدها علي السلطة.
لقد ثبت أن هذه الشهور الستة كانت خسارة لا تعوض، فلو كان الحزب المتمركز للعمل الثوري موجود علي رأس البروليتاريا في فرنسا في سبتمبر 1870 لكان تاريخ فرنسا كلها ومعه تاريخ الإنسانية كلها قد أخذ منعطفاً آخر.
وإذا كانت السلطة قد وجدت في أيدي البروليتاريا في باريس في 18 مارس فإن ذلك لم يكن بسبب أنـهم كانوا قد انقضوا عليها عن قصد وبعزم، ولكن بسبب أن أعدائها كانوا قد تركوا باريس.
فهؤلاء الأخيرين أخذوا يتقهقرون ويفقدون مراكزهم باستمرار، فالعمال قد كرهوهم واحتقروهم، البرجوازية الصغيرة لم تعد تثق فيهم والبرجوازية الكبيرة خافت من أنـهم لم يعودوا قادرين علي حمايتها، الجنود أصبحوا عدائيين تجاه الضباط والحكومة هربت من باريس من أجل أن تقوم بتجميع قواتـها في مكان آخر، وهكذا ـ بعد أن حدث كل ذلك ـ فإن البروليتاريا أصبحت تتسيد الموقف في باريس، ولكنها لم تفهم ذلك إلا في الأيام التالية حيث هبطت عليها الثورة في مفاجأة غير متوقعة.
لقد كان النجاح الأول بمثابة مصدر جديد للسكون والسلبية، فالعدو قد هرب إلي فرساي، ألم يكن هذا انتصاراً؟ وفي نفس اللحظة فإن العصبة الحكومية كان يمكن تحطيمها كلياً وبدون إراقة دماء تقريباً، ففي باريس كان من الممكن اعتقال جميع الوزراء وعلي رأسهم ثيرز ولم يكن احد حتى ليرفع يديه للدفاع عنهم، ولكن ذلك لم يحدث، فلم يكن هناك تنظيم حزبي متمركز لديه رؤية شاملة للأمور وأعضاء خاصة قادرة علي إدراك قراراته وتنفيذها.
إن الجزء المتبقي من رجال الجيش لم يكن يريد العودة إلي فرساي، لقد كان الخيط الذي يربط الضباط والجنود دقيق جداً، فلو كان هناك مركز توجيه حزبي في باريس لكان علية أن يدمج في الجيوش المتراجعة ـ حيث كانت هناك إمكانية للتراجع ـ بعض المئات أو حتى بعض العشرات من العمال المخلصين وذلك مع إعطائهم التعليمات الآتية: توسيع مدي تبرم الجنود وغضبهم تجاه الضباط، انتهاز أول لحظة نفسية مناسبة لتحرير الجنود من ضباطهم والعودة بـهم إلي باريس للاتحاد مع الشعب، لقد كان من السهل إدراك ذلك بموجب اعتراف أنصار ثيرز أنفسهم، ولكن لم يفكر أحد في ذلك ولم يكن هناك من يفكر في ذلك، فمرة أخري فإنه في منتصف الأحداث العظيمة فإن مثل هذه القرارات يمكن فقط اتخاذها عن طريق حزب ثوري، ذلك الذي يتطلع إلي ثورة، يحضر لها ولا يفقد صوابه، عن طريق ذلك الحزب المعتاد علي الحصول علي رؤية شاملة للأمور ولا يخاف من أن يقدم علي العمل.
وحزب للعمل هو بالضبط ما لم تكن تملكه البروليتاريا الفرنسية.
لقد كانت اللجنة المركزية للحرس الوطني في حقيقة الأمر عبارة عن مجلس للنواب عن العمال المسلحين والبرجوازية الصغيرة، مثل هذا المجلس ـ والذي يتم انتخابه مباشرة عن طريق الجماهير التي اختارت الطريق الثوري ـ يمثل آلة ممتازة للعمل ولكنة في نفس الوقت ـ وبسبب اتصاله العاجل والأولي بالجماهير التي هي في الحالة حيث أن الثورة هي التي وجدتـها ـ لا يعكس فقط الجوانب القوية ولكنه يعكس أيضاً الجوانب الضعيفة للجماهير، وهو أولاً يعكس الجوانب الضعيفة أكثر مما يعكس الجوانب القوية، إنه يوضح لنا بجلاء روح التردد والانتظار والميل إلي السكون بعد النجاحات الأولي.
لقد كانت اللجنة المركزية للحرس الوطني في حاجة لمن يقودها، حيث كان من اللازم إيجاد تنظيم دائم الحضور يجسد الخبرة السياسية للبروليتاريا، ليس فقط في اللجنة المركزية ولكن أيضاً في الفيالق، في الكتائب وفي أعمق قطاعات البروليتاريا الفرنسية، وبمفهوم مجلس النواب ـ وهم في هذه الحالة عبارة عن آلات الحرس الوطني ـ فإن الحزب كان باستطاعته أن يكون علي اتصال مستمر بالجماهير ومعرفة حالتهم النفسية، فلو قام مركز قيادته بتوجيه نداء تعبئة في أي يوم ـ وذلك من خلال المسلحين التابعين للحزب ـ فإن مثل هذا النداء بإمكانه أن يتغلغل بين الجماهير ليوحد أفكارهم وإرادتـهم.
ما إن استطاعت الحكومة الهرب إلي فرساي حتى هرول الحرس الوطني نحو نفي مسؤوليته عن ذلك في نفس اللحظة تماماً التي كانت مسؤوليته عن ذلك كبيرة جداً، لقد تخيلت اللجنة المركزية إجراء انتخابات ” قانونية” للكومونة، ومن أجل ذلك دخلت في مفاوضات مع رؤساء بلديات باريس وذلك حتى تحمي نفسها ـ من اليمين ـ “بالشرعية “.
فلو تم التحضير لهجوم عنيف علي فرساي في نفس وقت المفاوضات مع رؤساء البلديات لعدٌ ذلك خدعة مبررة تماماً من وجهه النظر العسكرية ومتفقة تماماً مع الهدف المنشود، ولكن في حقيقية الأمر فإنه قد تم البدء بإجراء هذه المفاوضات من أجل تفادي الصراع عن طريق معجزة أو أخري، لقد كان الراديكاليين من البرجوازية الصغيرة والاشتراكيين المثاليين وهؤلاء الرجال ممن كانت الدولة القانونية تشملهم في جزء منها ـ النواب، رؤساء البلديات،……الخ ـ يتمنون من أعماق قلوبـهم أن يقف ثيرز احترماً أمام باريس الثائرة في نفس الدقيقة التي تغطي فيها هذه الأخيرة نفسها بالكومونة “القانونية”.
لقد كانت النظريات المقدسة عن الفيدرالية والحكم الذاتي هذه الحالة هي ما يدعم السلبية والتردد، فباريس ـ كما ترون ـ هي مجرد كومونة عبر كومونات أخري كثيرة، فباريس لا تريد أن تفرض أي شيء علي أي أحد، إنـها لا تحارب من أجل الديكتاتورية، أو حتى علي الأقل من أجل أن تعطي المثال للديكتاتورية.
في المحصلة فإن كل ذلك لم يكن شيئاً سوي محاولة لاستبدال الثورة البروليتارية ـ والتي كانت تنمو ـ بإصلاح برجوازي صغير: الحكم الذاتي الشيوعي، إن المهمة الثورية الأساسية هي تمكين البروليتاريا من السلطة في جميع أنحاء الدولة، وكان علي باريس أن تقوم بدور قاعدة هذه البروليتاريا ودعامتها وحصنها، ولبلوغ الهدف المنشود كان من اللازم أن يتم سحق فرساي بدون إضاعة للوقت، وأن يبُعث بنشطاء، منظمين وقوات مسلحة عبر فرنسا كلها، لقد كان من اللازم الدخول في اتصالات مع الجميع وذلك لتثبيت المترددين وتقويتهم وأيضاً لتحطيم قوي المعارضة لدي العدو. وبدلاً من سياسة المبادأة الهجومية هذه والتي كانت الشيء الوحيد القادر علي حماية الموقف فإن قادة باريس شرعوا في عزل أنفسهم داخل حكمهم الذاتي الشيوعي: إنـهم لن يهاجموا الآخرين طالما أن هؤلاء الآخرين لم يهاجموهم،: لكل مدينة حقها المقدس في حكومة ذاتية…..، إنـها ثرثرة مثالية، وهي من نفس نوع تلك الثرثرة الفوضوية والتي تغطي في الحقيقة ذلك الجبن في مواجهه العمل الثوري، ذلك العمل الذي يجب مواصلته باستمرار وحزم حتى النهاية وإلا فإنه يكون من الأفضل عدم البدء فيه.
إن العدائية تجاه التنظيم الرأسمالي ـ الموروث عن الاستقلالية الذاتية والمحلية البرجوازية الصغيرة ـ هي بلا شك الجانب الضعيف لقطاع معين من البروليتاريا الفرنسية، فالحكم الذاتي للأقاليم، للأحياء، للكتائب وللمدن هو الضمان الأعظم للفعالية الحقيقية، الاستقلال الذاتي لثوار معينين، لقد كان ذلك خطأً عظيماً كلف البروليتاريا الفرنسية كثيراً.
تحت شعار “الكفاح ضد المركزية الاستبدادية” والنظام “الخانق” فإن معركة لحماية الذات قد بدأت من قبل مجموعات مختلفة وتجمعات فرعية في الطبقة العاملة ـ من أجل مصلحهم الصغيرة التافهة ـ ضد قيادات الأحياء الصغيرة وكلامهم الكهنوتي عن المحلية. إن الطبقة العاملة المُثلي ـ وفي أثناء حمايتها لأصولها الثقافية وتميزها السياسي ـ قادرة علي العمل بشكل منهجي منظم ثابت وحازم بغير أن تبقي تحت رحمة الأحداث كما تكون قادرة علي توجيه ضرباتـها القاتلة في كل مرة إلي القطاعات الضعيفة من العدو، إذا ما كان ذلك ضمن تفكيرها ـ فهناك جهاز متمركز فوق الأحياء، المقاطعات والمجموعات ومربوط بـها بنظام حديدي. فالميل نحو التجزئة ـ مهما يكن الشكل الذي يتخذه ـ إنما هو من مواريث الماضي الميت وكلما أسرعت شيوعية الشيوعيين ـ الاشتراكيين وشيوعية النقابيين في فرنسا بتخليص نفسها من هذا الميل نحو التجزئة كلما كان ذلك أفضل لها وللثورة البروليتارية.
* * *
الحزب لا يخلق الثورة عندما يريد، فهو لا يختار لحظة الاستيلاء علي السلطة كما يحب، بل إنه يتدخل بفاعلية في الأحداث، متوغلاً في كل لحظة في الحالة الفكرية للجماهير الثورية، ويقدر قوي المقاومة لدي العدو، وبالتالي يحدد اللحظة الأكثر مناسبة للعمل الحاسم، وهذا هو الجانب الأكثر صعوبة في مهمة الحزب، فالحزب لا يملك قرار صالح لجميع الحالات، ولكنة في حاجة إلي نظرية صحيحة، اتصال حميم بالجماهير، فهم عميق لأبعاد الموقف، إدراك حسي ثوري وعزم هائل. وكلما كان تغلغل الحزب الثوري في جميع ميادين نضال البروليتاريا أكثر تعمقا، وكلما كانت وحدة الهدف ونظام العمل أكثر وحدة كلما استطاع الحزب أن ينجز مهمته في وقت أسرع وبطريقة أفضل.
الصعوبة هنا تكمن في الحصول علي هذا التنظيم للحزب المتمركز، المتلاحم داخلياً بنظام حديدي ومترابط بحركة الجماهير ـ بمدها وجزرها ـ ترابطاً حميماً. انتزاع السلطة لا يمكن أن يتم إلا في ضغط ثوري فعال من الجماهير الكادحة، ولكن عند القيام بـهذا العمل فإن عنصر الإعداد يصبح حتمياً بكل ما في الكلمة من معني، وكلما كان الحزب أفضل في فهمه للأزمة وللحظة التفوق، كلما استطاع أن يعد القواعد الأساسية للمقاومة بطريقة أفضل، كلما استطاع أن يوزع قواته وأدوارها بطريقة أفضل، كلما كان النصر أكيداً وكلما قل عدد الضحايا. فإقامة علاقة متبادلة بين عمل محضر له بعناية وحركة جماهيرية هي المهمة السياسية ـ الاستراتيجية للاستيلاء علي السلطة.
إن المقارنة بين 18 مارس 1871 و7 نوفمبر 1917 من وجهه النظر هذه تكون بالغة الدلالة، ففي باريس هناك نقص كامل في روح المبادرة بالعمل في ذلك الجزء الخاص بدوائر القيادة الثورية، البروليتاريا ـ والتي تم تسليحها بواسطة حكومة برجوازية ـ هي في حقيقة الأمر المسيطر علي المدينة، لديها كل مقومات القوة المادية ـ مدافع وبنادق ـ في حوزتـها، ولكنها لا تعبأ بـها، تقوم البرجوازية بمحاولة استرجاع السلاح من هذا المارد: إنـها تريد سرقة المدافع من البروليتاريا، المحاولة تفشل، الحكومة تـهرب من باريس في فزع. القادة يستيقظون علي أثر الأحداث، وهم يسجلونـها بعد أن تكون هذه الأخيرة قد حدثت بالفعل، ويفعلون كل ما في وسعهم لتجنب الحافة الثورية.
في بتروغراد تطورت الأحداث بشكل مختلف، فقد تحرك الحزب بثبات وعزم نحو الاستيلاء علي السلطة، لقد كان لدية رجال في كل مكان، يدعم ويعزز كل موقع وأيضاً يوسع هوة الخلاف بين العمال والحامية من جهة والحكومة من الجهة الأخرى.
لقد كانت المظاهرة المسلحة في تلك الأيام من يوليو استطلاع واسع تمت مباشرته عن طريق الحزب لامتحان مدي قرب الاحتكاك بين الجماهير وقوي المقاومة لدي العدو، لقد تحول الاستطلاع إلي نزاع علي الخطوط الأمامية، لقد عدنا للخلف، ولكن في نفس الوقت فإن هذا العمل قد رسخ الاتصال بين الحزب وأعماق الجماهير. تشهد شهور أغسطس، سبتمبر وأكتوبر تدفق ثوري قوي، استفاد الحزب منه واستطاع أن يزيد إلي حد كبير المواقع المؤيدة له في الطبقة العاملة والحامية، مؤخرا، فإن الانسجام والتناغم بين الإعدادات التآمرية والفعل الجماهيري قد حدث بطريقة آلية تقريباً. لقد كان من المقرر عقد المؤتمر الثاني للسوفييت في شهر نوفمبر، وكانت كل نشاطاتنا السابقة تقود إلي الاستيلاء علي السلطة عن طريق المؤتمر، وبناء عليه فإن الانقلاب كان متهيئاً سلفاً إلي السابع من نوفمبر، لقد كان العدو يعلم ويفهم هذه الحقيقة جيداً، كيرينسكي وأتباعه من أعضاء المجلس لم يدخروا جهداً لكي يحصنوا أنفسهم ـ مهما كان حجمهم صغيراً ـ في بتروغراد من أجل اللحظة الحاسمة، وأيضاً فإنـهم ظلوا في حاجة إلي إرسال القطاعات الأكثر ثورية في حامية المدينة خارج العاصمة، نحن من جانبنا استفدنا من هذه المحاولة من كيرينسكي وذلك من أجل أن نجعلها مصدر لنزاع جديد والذي كانت له أهمية حاسمة، لقد قمنا بإدانة حكومة كيرينسكي علانية ـ لقد وجدت إدانتنا إثبات كتابي فيما بعد في وثيقة رسمية ـ لقيامها بالتخطيط لتسريح ثلث حامية بتروغراد والذي لم يكن نابعاً من الاعتبارات العسكرية وإنما بـهدف اتحادات ثورية مضادة، لقد كان هذا النزاع الذي ربطنا ما يزال قريباً من الحامية، وهو قد وضع أمام هذه الأخيرة مهمة معرفة جيدا، مساندة مؤتمر السوفييت والمحدد انعقاده في 7 نوفمبر. وبما أن الحكومة أصرت ـ وإن كان بأسلوب ضعيف تماماً ـ علي أن الحامية قد تم تسريحها، فقد كونا في سوفييت بتروغراد ـ الذي كان في أيدينا بالفعل ـ لجنة حرب ثورية، وذلك تحت ستار التحقق من الأسباب العسكرية للخطة الحكومية.
وهكذا فقد كان لدينا أداة عسكرية بكل معني الكلمة، تقف علي رأس حامية بتروغراد، والتي كانت في حقيقة الأمر أداة قانونية للانتفاضة المسلحة، وفي نفس الوقت بعثنا بعض المفوضين “الشيوعيين” في جميع الوحدات العسكرية، في المخازن العسكرية….الخ، وأنجز التنظيم العسكري السري مهام فنية دقيقة كما زود لجنة الحرب الثورية بمناضلين جديرين بالاعتماد عليهم في الأعمال العسكرية المهمة، لقد تم إدراك العمل الأساسي فيما يتعلق بالتخطيط وبعدها بدأت الانتفاضة المسلحة علانية. وهكذا فقد كان من الطبيعي أن البرجوازية ـ تحت قيادة كيرينسكي ـ لم تفهم ما الذي كان يحدث تحت عينيها تماماً (في باريس، فإن البروليتاريا قد استوعبت في اليوم التالي فقط أنـها منتصرة فعلاً ـ ذلك النصر الذي ـ مرة أخري ـ لم تتجه إلية عن عمد ـ وأنـها المسيطرة علي الموقف في باريس، في بتروغراد فقد كان العكس تماماً، فحزبنا، واضعاً نفسه في مقدمة العمال والحامية كان قد استولي علي السلطة بالفعل، وقد أمضت البرجوازية ليلة هادئة تماما وعلمت فقط في اليوم التالي أن دفة الأمور في الدولة هي الآن في أيدي حفارو قبرها).
وبالنسبة للاستراتيجية، فقد كان هناك الكثير من الاختلافات في الرأي داخل الحزب.
فجزء من اللجنة المركزية قد أعلن ـ كما هو معروف ـ انه ضد الاستيلاء علي السلطة معتقدا أن الوقت لم يحن بعد لذلك، ذلك أن بتروغراد كانت منعزلة عن بقية الدولة، البروليتاريا عن الفلاحين….الخ.
وأعتقد رفاق آخرون أننا لم نكن نتمتع بميزات ذات أهمية كافية بالنسبة إلي عناصر المؤامرة العسكرية، وطلب أحد أعضاء اللجنة المركزية في أكتوبر تطويق مسرح الكساندرين حيث كان المؤتمر الديمقراطي في حالة انعقاد وإعلان ديكتاتورية اللجنة المركزية للحزب، وقد قال: إنه بتركيز نشاطاتنا الدعائية فضلاً عن عملنا العسكري التمهيدي علي لحظة المؤتمر الثاني للسوفييت فإننا بذلك نكشف خططنا للعدو ونعطيه إمكانية تجهيز نفسه وأيضاً إمكانية التعامل معنا بإجراءات وقائية مرهقة. ولكن لا شك أن هذه المحاولة في المؤامرة العسكرية وتطويق مسرح الكساندرين كانت ستكون واقعة غريبة جداً علي تطور الأحداث ذلك أنـها كانت ستكون واقعة مربكة جداً للجماهير، حتى في سوفييت بتروغراد، حيث كانت خلافاتنا تـهيمن عليه، فإن مثل هذه المغامرة ـ والتي كانت تعجل بالتطور المنطقي للصراع ـ كان من الممكن أن تثير فوضي هائلة في تلك اللحظة، وخصوصاً في الحامية حيث كان هناك فرق مترددة وغير موثوق فيها بشكل كبير، وفي المقام الأول فرق الفرسان. حيث كان سيكون من السهل علي كيرينسكي أن يحطم مؤامرة غير متوقعة من الجماهير أكثر من مهاجمة الحامية والتي تحصن نفسها في موقعها أكثر فأكثر: الدفاع عن حصانتها من أجل مؤتمر السوفييت المستقبلي، وبناء عليه فإن أغلبية اللجنة المركزية قد رفضت خطة تطويق المؤتمر الديمقراطي وقد كان ذلك صحيحا، لقد تم التعامل مع الأزمة بطريقة جيدة جداً. فالانتفاضة المسلحة، وبدون إراقة دماء تقريباً، قد انتصرت في الموعد المحدد تماماً، والمحدد بوضوح سلفاً بميعاد انعقاد المؤتمر الثاني للسوفييت.
هذه الاستراتيجية ـ مهما يكن ـ لا يمكن أن تكون قاعدة عامة، فهي تحتاج لشروط معينة، فلم يكن أحد ما يزال يعتقد في الحرب مع الألمان، ولم يكن الضباط الأقل ثورية يريدون ترك بتروغراد والذهاب للجبهة، وحتى لو كانت الحمية في مجملها تقف في جانب العمال لهذا السبب الوحيد، فإن وجهه نظرها قد أصبحت أقوي إلي حد بعيد حيث انكشفت دسائس كيرينسكي. ولكن هذه الحالة النفسية في حامية بتروغراد كان لها أسباب عميقة تؤيدها نابعة من موقف الطبقة الفلاحية وتطور الحرب الإمبريالية، فلو كان هناك انشقاق في الحامية، ولو كان كيرينسكي قد حصل علي إمكانية الدعم من بعض الفرق، لكانت خطتنا لتفشل، لو كانت عناصر العمل العسكري التأمري (المؤامرة والسرعة الهائلة للعمل) قد انكشفت، لكان من اللازم ـ بالطبع ـ أن يتم اختيار لحظة أخري للانتفاضة.
لقد كان لدي الكومونة أيضا إمكانية أن تكسب الفرق الفلاحية إلي جانبها، ذلك أن هذه الأخيرة كانت قد فقدت كل الثقة وكل الاحترام للسلطة وللقيادة، وعلي الرغم من ذلك فهي لم تفعل شيئا من أجل أن تصل إلي هذه النهاية. الخطأ هنا ليس في العلاقات المتبادلة بين الفلاحين والطبقة العاملة ولكن في الاستراتيجية الثورية.
ما الذي سيكون الموقف علية من هذه الوجهة في الدول الأوروبية في اللحظة التاريخية الحاضرة؟ ليس من السهل التكهن بأي شيء بشأن الإجابة عن ذلك، وعلي الرغم من ذلك، وبالنظر إلي أن الأحداث تتطور ببطء والحكومات البرجوازية تبذل كل ما في وسعها لكي تستفيد من خبراتـها السابقة، فإنه يكون من الواضح مسبقا أن البروليتاريا ـ من أجل أن تجتذب تعاطف الضباط ـ سيكون عليها أن تتغلب علي مقاومة هائلة ومنظمة جيداً في لحظة معينة، فهجوم بارع في توقيت محدد جيدا سيكون ضرورياً بالنسبة للجزء المتعلق بالثورة، ومهمة الحزب هي أن يعد نفسه لها، ولهذا فقط يجب عليه أن يصون ويطور كيانه كتنظيم متمركز، والذي يوجه علانية الحركة الثورية للجماهير. وأن يكون في نفس الوقت الجهاز السري للانتفاضة المسلحة.
* * *
لقد كانت مسألة انتخاب القيادة أحد أسباب النزاع بين الحرس الوطني وثيرز، فباريس قد رفضت قبول القيادات التي عينها ثيرز، ومن ثم صاغ فالرين ذلك بطلب أن تكون القيادات في الحرس الوطني، من القمة إلي القاع، منتخبة من رجال الحرس الوطني أنفسهم، وها هنا وجدت اللجنة المركزية للحرس الوطني مناصريها.
لإتمام القراءة حمل الملف بي دي إف
دروس من كمونة باريس-تروتسكي
لتحميل إسهامات ماركسية أخرى، أنقر/ي على الروابط أدناه:
الفصل الثالث من كتاب لينين الدولة والثورة بي دي إف
لينين-الدولة والثورة بي دي إف
انجلز-حول السلطة بي دي إف
اقرأ أيضا