لا خلاص سوى بالنضال الموحد

الافتتاحية, سياسة15 يوليو، 2024

يوم 10 يوليوز الجاري تعرض شغيلة الصحة للتنكيل بالعاصمة، لمنع مسيرتهم نحو «البرلمان»، وراجت بكثافة صورة مناضل في معمعان التصدي للقمع، بجانب قاذفة مياه تصب حمولتها المضغوطة لتشتيت المحتجين-ات، حاملا لواء كتب عليه: «لا شيء غير النضال». خلاصة قديمة متجددة. تعمل دولة رأس المال على ضبط الساحة الاجتماعية بمناورات «الحوار الاجتماعي» وشتى آليات «الوساطة»، وبالقمع كلما استنفذت تلك المناورات مفعولها. ويدفع تلاشي الانتظارات الواهمة إزاء «الحوار» إلى استخلاص أن «لا شيء غير النضال». إنها خطوة أولى على طريق استرجاع النقابات العمالية لوظيفتها، أي استعادتها بعد أن توغلت قياداتها في مساعدة الدولة على تمرير خططها العدوانية إزاء الشغيلة. لكنها خطوة فقط… فلا يكفي أن يقتنع هذا القطاع أو ذاك بلا جدوى شيء آخر غير النضال، ويسير في تصعيد الخطوات النضالية وحده بمعزل عن مكونات الطبقة العاملة الأخرى. فالنضال القطاعي أبان عن حدوده في سياق هجوم شامل، أولا على كافة مكونات الوظيفة العمومية، وأيضا بقوة أشد على شغيلة القطاع الخاص.
الأصل في بناء مركزيات نقابية، كاتحادات على صعيد وطني، أن تلبي الحاجة إلى نضال موحد لقسم الطبقة العاملة المنظم، مع الدفاع كذلك عن الشغيلة غير المنظمين وحفزهم لكي يتنظموا. هذا أَلِفُ باء النقابة، أَلِفُ باء المنظور الطبقي. لكن ظروفا تاريخية، سمتها العامة هيمنة بيروقراطيات وقوى سياسية غير عمالية على الحركة النقابية جعلتها مبتعدة عن منظور طبقي، وزاد هذا الابتعاد على مر العقود، وما يزال مستمرا. وقد بلغ الآن مستوى نوعيا من تبعية الأجهزة النقابية المتحكم فيها بيروقراطيا للدولة، واشتغالها كأدوات ضمن آليات تدبير الدولة للمسألة الاجتماعية في بعدها العمالي.
ويمثل تفكيك الوحدة العمالية حسب القطاعات إحدى آليات التحكم البيروقراطي التي تضعف أواصر التضامن. وهو ما يفيد الدولة إذ يتيح لها تجزيء المطالب، والانفراد بهذا القطاع وبعده ذاك إلى أن تهزم الجميع. ولا شك أن أوهاما مضرة تساعد على إنجاح هذه العملية، بمقدمتها اعتقاد أن الانعزال بمطالب خاصة بالقطاع سيسهل تلبية الدولة لها، وهو اعتقاد ضال وشائع كان من دوافع ظهور التنسيقيات الفئوية.
لقد كرست البيروقراطية النقابية منظورها القطاعي لدرجة أن معارك كبيرة، وغير مسبوقة خيضت بمنطق قطاعي، فكان أحدَ أسباب تعثرها في بلوغ كامل أهدافها. وحراك التعليم مثال بارز. فقد انطلق واستمر ثلاثة اشهر في سياق حابل بنضالات أخرى في قطاعات عمومية رئيسية، وذات حجم عمالي كبير. تلك كانت حالة قطاع الجماعات الترابية وقطاع الصحة والعدل. لكن عوض أن تنضَّم القطاعات تلك إلى بعضها في كفاح موحد يكون نواة لاستنهاض عامة الشغيلة المنظمين بمختلف المركزيات، واصل قطاع التعليم حراكه وحيدا، وحتى دون وحدة داخلية مكتملة، إلى أن بلغ ما يمكن لقطاع وحيد أن يبلغه. لم تشهد الساحة العمالية أي تضامن بالإضراب مع قطاع التعليم، فكان ما كان من نتائج خلفت حالة إحباط عامة.
بعد إخماد حراك التعليم، نهض شغيلة الجماعات الترابية، منفذين برامج نضال كثيفة متتالية. لقيت تجاهلا من وزارة الداخلية. وها هو قطاع الصحة يتقدم بدوره ببرامج تصعيد وحده في مواجهة الدولة. هذه الأخيرة تفكر بمنطق إجمالي/ قوامه الدفاع عن مصلحة البرجوازية والحلفاء الإمبرياليين بفرض سياسة إجمالية بجهاز ممركز، موحد لإرادة من تدافع عن مصالحهم. وفي الجانب الآخر حركة نقابية مفككة الأوصال، تناوش قطاعا بعد قطاع. ماذا ستكون النتيجة دون توحيد النضالات؟ دلت تجارب عديدة على هزالة ما ينتزع بمناوشات معزولة وسهولة استرداده بعد حين. يجب توحيد الفعل العمالي بين القطاعات المناضلة بما يخلق دينامية نضال تنجر إليها سائر القطاعات.
عوض هذا التوحيد المفضي إلى إضراب عام يجبر الدولة على التنازل، درجت قيادات نقابية على التلاعب بسلاح الإضراب العام، والتحكم الشديد بمختلف جوانبه، من مطالب وكيفيات تنفيذ وتفاوض، ما أفرغه من محتواه، وأفقده الاعتبار في أنظار الشغيلة، ما فاقم الميول القطاعية والفئوية الانطوائية.
هذا فيما قيادات أخرى تتحاشى كليا الإضراب العام، وتتجنب كل ما من شأنه خلق ديناميات نضالية بالتدخل الفوقي المباشر والمتعسف لإطفاء المعارك. وخلْف كلا الموقفين من الإضراب العام، التلاعب بالتحكم والامتناع الكلي، يكمن موقف سياسي يوحد كل البيروقراطيات النقابية، موقف الحفاظ على ما يسمى «السلم الاجتماعي»، أي استمرار الحرب الطبقية التي تتعرض لها الطبقة العاملة وعامة الكادحين.
هيمنة هذه البروقراطيات المتعاونة مع الدولة، والاقتصار على مسايرتها، دون سعي لبناء معارضة تذود فعلا عن مصالح الطبقة العاملة بطرائق نضالها التي دل التاريخ على جدواها، إنما يحكم على الحركة النقابية بمزيد من التدهور، ومن الهزائم.
لنا في أمثلة القطاعات الثلاثة، التعليم والجماعات الترابية والصحة، ما يكفي ويزيد من دروس مَضَرَّةِ النزوع القطاعي، ونقص التضامن مع النضالات الجارية، وقصور المنظور السائد في حركتنا النقابية.
فلنحطم الجدران بين القطاعات، وبين المركزيات النقابية، ولنبن وحدةً عمالية، حول برنامج نضال موحد، الضامن الوحيد للظفر بالمطالب ولصد الهجمات المقبلة، وما أكثرها وأشرسها.

شارك المقالة

اقرأ أيضا