الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بعد عام 2011: الأزمة دائمة

بقلم، جلبير الأشقر

مقدمة الكاتب للترجمة العربية: يستند النص التالي إلى تسجيل صوتي لمحاضرة ألقيتها في «كينغس كوليدج لندن» (KCL) بتاريخ 18 كانون الثاني/يناير الماضي، بدعوة من معهد دراسات الشرق الأوسط وبمناسبة صدور الطبعة الإنكليزية الثانية من كتابي «الشعب يريد». وقد قلتُ في مستهل المحاضرة (المسجلة) أنني، على الرغم من أن الاتفاق على الندوة سبق حرب الإبادة الجارية في غزة وأن هذه الحرب ليست هي موضوع الجلسة، سأتطرق لها في ختام حديثي.

سوف أشارككم آرائي في حالة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا منذ «الربيع العربي» لعام 2011، وأحاول شرح سبب الاضطرابات المستمرة التي باتت هذه المنطقة تشهدها منذ ذلك الحين.

كان العام 2011 زمناً مليئاً بالآمال الكبرى في المنطقة. خضّت موجة صدمية إقليمية عظيمة كافة دول المنطقة تقريباً، باستثناء كيانات مصطنعة للغاية مثل الإمارات العربية المتحدة أو قطر، حيث يُشكِّل المهاجرون 90% من السكان. أما عدا تلك الحالات، فقد شَهِدَت كافة دول المنطقة تقريباً ارتفاعاً حاداً في الاحتجاجات الاجتماعية. وقد شهدت ستة بلدان انتفاضات كبرى: تونس، حيث بدأت الأمور برُمَّتها في نهاية hgعام 2010، ثم مصر وليبيا واليمن وسوريا والبحرين.

وقد خلق ذلك مستوى عالياً جداً من الأمل، تجدَّد مرة أخرى بعد ثماني سنوات، في العام 2019، مع ما أسمته بعض وسائل الإعلام «الربيع العربي الثاني». فشهدت أربع دول أخرى في المنطقة انتفاضات جديدة: السودان، حيث بدأت الأمور في نهاية العام 2018، ثم الجزائر والعراق ولبنان. في المُجمَل، إذاً، شهدت عشر دول في المنطقة انتفاضات كبرى خلال تلك السنوات القليلة. وهي تشمل نصف دول المنطقة تقريباً، وتضمُّ أكثر من نصف سكانها.

وقد جرى إسقاط ستة رؤساء دول: في تونس ومصر وليبيا واليمن والجزائر والسودان. وفي العديد من البلدان، بما فيها غالبية البلدان التي أُطيح برئيس الدولة فيها، نجمت آمالٌ عن مسارات دستورية جديدة، استناداً إلى فكرة مفادها أن ما كان على المحكّ في الاضطرابات الإقليمية هو في الأساس إشاعة الديمقراطية، أو ما يُطلَق عليه في العلوم السياسية «الانتقال الديمقراطي».

أما الوضع اليوم، فبعيدٌ عن الآمال التي خلقتها موجتا الانتفاضات، وغدت جردة الحساب مروِّعة بالأحرى. فبدلاً من الانتفاضات، باتت المنطقة تتميز بما يسمّيه الفكر السائد «الدول الفاشلة»، إذ تدور حروب أهلية في سوريا وليبيا واليمن والسودان – فضلاً عن العراق ولبنان، اللذين لم يَعُد ينطبق عليهما، منذ سنوات عديدة، تعريف الدولة الكلاسيكي باعتبارها مُحتكِر العنف المشروع داخل إقليمٍ ما.

وقد شهدت بلدان أخرى انتكاسات سلطوية. فبعد تدخل ممالك الخليج المضاد للثورة في البحرين الذي حصل في وقت مبكِّر، حدثت انتكاسات سلطوية في مصر والجزائر وتونس، كما في السودان قبل اندلاع الحرب الأهلية.

ويبدو اليوم المعقل الرجعي الرئيسي في المنطقة – الذي يشكّله «مجلس التعاون الخليجي»، خصوصاً المملكة السعودية والإمارات المتحدة – وكأنه مهيمنٌ سياسياً. باختصار، ثمة فارق عظيم بين الآمال التي خلقتها انتفاضات 2011 و2019 والنتيجة الراهنة. وهذا ما سأحاول شرح سببه.

 جذور الانفجار

من أجل ذلك، علينا أن نفهم جذور الانفجار. فقد استندت التوقعات الأكثر تفاؤلاً إلى فكرة ترى أن الأمر مجرد مسألة «انتقال ديمقراطي». بيد أن الواقع هو أن الانتفاضات كانت قبل كل شيء تعبيراً عن أزمة اجتماعية واقتصادية بنيوية عميقة، حلَّلتُها في كتابي «الشعب يُريد».

باختصار، نسبتُ الانفجار الاجتماعي الإقليمي إلى الجمع بين التغيرات النيوليبرالية ونظام نوعي من الدول يتميّز بنواة صلبة من الدول الميراثية (Patrimonial). ما معنى ذلك؟

الدول الميراثية هي دول تملكها فعلياً عائلة حاكمة، وهي تشمل الأنظمة الملَكية بالطبع، لكن أيضاً بعض الجمهوريات التي تحوّلت إلى دول ميراثية، تملّكت فيها الأسر الحاكمة الدولة بطريقة مماثلة لما في الملَكيات المطلقة. وهناك جمهوريات مزعومة أكثر إطلاقاً في سُلطتها من الأنظمة الملكية، وذلك ليس فقط في المنطقة التي نحن بصددها (كوريا الشمالية على سبيل المثال).

في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، علاوة على الأنظمة الملَكية الست، تحوّلت «الجمهوريات» في سوريا تحت حكم الأسد وإلى اليوم، وفي ليبيا تحت حكم القذافي حتى العام 2011، وفي العراق تحت حكم صدام حسين حتى العام 2003، إلى دول ميراثية.

إلى جانب هذه النواة الصلبة من الدول الميراثية، فإن الدول الأخرى في المنطقة دول نيوميراثية (Neopatrimonial)، حيث المؤسسات منفصلة عن الحكام، ولكن مع درجة عالية من المحسوبية والفساد. وثلاث من دول المنطقة، هي السودان والجزائر ومصر، تخضع لأنظمة عسكرية، حيث القوات المسلحة هي العمود الفقري للسلطة.

إن الجمع بين هذا النظام الإقليمي من الدول الميراثية والنيوميراثية والتغيرات النيوليبرالية هو ما خلق الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي كانت حاسمة في خلق الانفجار السياسي. النقطة الأساسية هي أن التغييرات النيوليبرالية تعتمد على مُسلَّمة الدور القيادي للقطاع الخاص في الاقتصاد. وخلاصة وجهة النظر هذه أنك إذا حرَّرت الاقتصاد، وإذا سحبت الدولة منه وفتحت كل الأبواب أمام القطاع الخاص، سوف تشهد معجزة اقتصادية، وسوف تنطلق بلادك على طريق التنمية.

هذه المُسلّمة الخاصة بالدور المركزي الأساسي للقطاع الخاص تتجاهل تماماً الظروف المختلفة بين البلدان. فيوصي كل من «صندوق النقد الدولي» و«البنك الدولي» دول العالم كافَّة بمجموعة الوصفات نفسها، بالتغافل عن الاختلافات الكبيرة في الشروط الاقتصادية والاجتماعية الموجودة بين هذه الدول، بما في ذلك الاختلافات في طبيعة الدولة وشروط نشاط القطاع الخاص.

لقد أنتجت النيوليبرالية نمواً سريعاً وإنجازات اقتصادية في بعض البلدان، مثل تركيا، وإن كان ذلك بتكلفة اجتماعية، بالطبع. لكنّ هذا الأمر لم يحدث في البلدان الناطقة بالعربية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ذلك أنه لم توجد في هذا الجزء من العالم ظروف مواتية لاستثمارات يقوم بها القطاع الخاص من نوع الاستثمارات طويلة الأجل التي تساهم في التنمية.

وكانت النتيجة نمواً بطيئاً جداً في الناتج المحلي الإجمالي، خاصَّة إذا ما قيس بنصيب الفرد مقارنة بالتقدُّم الديموغرافي، وبالتالي انخفاض القدرة على استيعاب الداخلين الجدد إلى سوق العمل. فأدّى ذلك إلى بطالة شبابية واسعة النطاق، وأعلى معدلات بطالة الشباب في أي منطقة من مناطق العالم.

أزمة بطالة الشباب

سجّلت المنطقة معدلات قياسية لبطالة الشباب على مدى العقدين السابقين للانفجار. وهذا عامل حاسم: فقد أفضى الإحباط الذي شعر به الشباب نتيجة لمجموعة الظروف المذكورة إلى انفجار سياسي.

لقد تأثّرت أجزاء أخرى من «الجنوب العالمي» بانخفاض النمو، لكنها عادة مناطق أفقر من منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بحيث تحوّل فيها معظم البطالة إلى بطالة مقنّعة في القطاع غير الرسمي. هذا الأمر موجود في المنطقة أيضاً بالطبع، ولكن بنسبة أقل، بسبب ارتفاع نسبة قطاعات الطبقة الوسطى الدُنيا التي استفادت من مجانية التعليم العالي التي شجّعتها الأنظمة القومية الشعبوية منذ ستينيات القرن العشرين، مما أدى إلى إنتاج كبير للخريجين الجامعيين.

والحال أن جزءاً هاماً من بطالة الشباب في المنطقة ينطوي على بطالة خريجين. وهذا أيضاً أحد مفاتيح فهم الانفجار والدور الذي لَعِبه فيه مستخدمو وسائل التواصل الاجتماعي، الذين ليسوا أفقر الفقراء إذ إنهم قادرون على استخدام تقنيات الاتصال الحديثة.

هذه الظروف الاجتماعية والاقتصادية هي السبب العميق للانفجار الكبير، وليس فقط الإحباط السياسي الناجم عن الافتقار إلى الديمقراطية والحرية. كان الاضطهاد السياسي سائداً في المنطقة لعقود من الزمن، لكن هذا الأمر لا ينبئنا عن سبب وقوع الانفجار في العام 2011. إن الاضطهاد السياسي جزء من الصورة، بالتأكيد، ولكن العامل الرئيسي هو اقترانه بالإحباط الاجتماعي والاقتصادي.

يستلزم هذا التحليل بعض الاستنتاجات. أولاً أن الانفجار الجاري ليس تحوُّلاً ديمقراطياً سريعاً. هذه المنطقة ليست شرق آسيا، حيث حدث التحوّل الديمقراطي إثر فترة طويلة من التنمية الاقتصادية المكثفة. كان الانتقال السياسي هناك عبارة عن تكيّف الظروف السياسية مع التقدُّم الاقتصادي.

أما في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فإن ما يشبه الركود الاقتصادي هو ما أدّى إلى الانفجار. وإذا كانت الجذور بنيوية، اجتماعية واقتصادية في المقام الأول، فهذا يعني أننا لا نواجه تحوُّلاً قصير الأجل، بل سيرورة ثورية طويلة الأمد يمكن أن تدوم عدة عقود قبل أن يُفَكّ انسداد الوضع الاجتماعي والاقتصادي، وتعود المنطقة إلى سلوك درب التنمية.

الاستنتاج الثاني هو أن العقبات التي تعترض التغيير هائلة في المنطقة. إن مقارنة أخرى من شأنها أن توضيح هذا الأمر. فقد شهدت أوروبا الشرقية انفجاراً سياسياً في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي على خلفية ركود اقتصادي أقرب إلى ما عرفته المنطقة التي نحن في صددها. لكن أوروبا الشرقية كانت تحكمها بيروقراطيات، وليس طبقات مالكة. فكان الوضع هناك يختلف اختلافاً حاداً عن حالة النواة الصلبة من الدول الميراثية التي تُميِّز منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

وفي حين يمكن أن تنهار الدولة البيروقراطية بالطريقة التي رأيناها في أوروبا الشرقية، لا يمكن على الإطلاق أن يحدث الأمر ذاته في الدول الميراثية والنيوميراثية، حيث لا توجد فقط طبقات مالكة تتمسَّك بمِلكيتها أكثر بكثير من تمسُّك أي بيروقراطية بامتيازاتها، بل أيضاً جماعات حاكمة تعتبر الدولة ذاتها ملكاً خاصاً لها.

ليس من «انتقال» سلمي

كان الشعار الأشهر لموجتي 2011 و2019 هو: «الشعب يريد إسقاط النظام». المشكلة هي أنه في العديد من البلدان لا يمكن فصل النظام عن الدولة: النظام هو الدولة، والدولة هي النظام. وتعني كثافة الوشائج بينهما أن انهيار النظام يجرّ انهيار الدولة، كما حدث على أكمل وجه في ليبيا، عندما انهار نظام القذافي، وانهار معه جهاز الدولة برمّته.

هذا يعني أيضاً أن لا طريقة سلمية للإطاحة بالنظام في الدول الميراثية، حيث توجد أُسَر حاكمة تمتلك الدولة، سواء أكان النظام مَلكياً أم دكتاتورياً كما في ليبيا أو سوريا. ولا مجال للمراهنة على الجيش كما هو الحال في الدول النيوميراثية التي يُشكِّل الجيش العمود الفقري للنظام فيها، مثل السودان والجزائر ومصر. في هذه البلدان الثلاثة، أطاح الجيش بالرئيس ومقرّبيه: حدث ذلك في مصر في العام 2011، ومرة ​​أخرى في العام 2013، وفي الجزائر والسودان في العام 2019.

هذا لا يمكن أن يحدث في الدول الميراثية، بسبب العلاقة الخصوصية بين الأسر الحاكمة والوحدات الرئيسية والنُّخبوية في القوات المسلحة. تسيطر الأسر الحاكمة على تلك الأجهزة من خلال الولاءات العائلية والقبلية والطائفية والمناطقية، مما يعني أنه عندما تحدث انتفاضة، فإن النتيجة الأرجح، إذا استمرت الانتفاضة، هي الحرب الأهلية. سوف تستخدم الأسرة الحاكمة عنفاً غير محدود ضد الحراك الجماهيري، مما يدفع هذا الأخير إلى التسلّح للرد على هذا العنف. والنتيجة هي حرب أهلية.

في الدول النيوميراثية، وعلى الرغم من المحسوبية والفساد، ليست الدولة مِلكاً لعائلة ما. في مصر، على سبيل المثال، على الرغم من أن ابني حسني مبارك لعبا دوراً هاماً في النظام الذي كان يرأسه، لا يمكن القول إن عائلة مبارك كانت «تملك» الدولة. فإن سمةً من سمات الدول النيوميراثية درجة أعلى من المأسسة بالمقارنة مع الدول الميراثية. في ظل الشروط النيوميراثية، تستطيع أجهزة الدولة إقالة رأس الدولة، في حين لا يمكن أن يحدث هذا الأمر في سوريا أو ليبيا، أو في أي من الأنظمة المَلكية. جميع الأنظمة المَلكية في المنطقة، حتى تلك التي يوجد فيها نوع من التمثيل البرلماني، هي في الأساس مَلَكيات مطلقة، وهي دول ميراثية. تلك هي الاستنتاجات التي تنبع من تحليل الأزمة البنيوية التي تشكّل جذر الانفجار الإقليمي.

لعنة النفط

تزيد هذا الوضع تعقيداً القيمة الاستراتيجية والاقتصادية للمنطقة. فقد كانت الموارد النفطية الإقليمية، أو ما يمكن تسميته «لعنة النفط»، سبباً رئيسياً لتدخل أجنبي على مستوى أعلى بكثير مما في أجزاء أخرى من العالم. وهذا سبب كون المنطقة بامتياز مسرحاً للتدخلات الإقليمية والدولية العابرة للحدود، وهي لا تزال مستمرة.

لا يمكن أن تجد في أي جزء جيوسياسي آخر من العالم نزاعات بمثل هذه الكثافة وهذه الحِدَّة. وقد أثّر ذلك على الانتفاضات من خلال التدخلات الخارجية بدءاً من العام 2011. كان الأول هو تدخل ممالك الخليج في البحرين لقمع الانتفاضة. ثم حاول «حلف شمال الأطلسي» اختطاف الانتفاضة في ليبيا ضد القذافي.

هذا ولكل من إيران وروسيا وتركيا والولايات المتحدة قوات في سوريا، التي تحتل إسرائيل أصلاً جزءاً من أراضيها. وفي ليبيا هناك صراع بالوكالة بين تركيا وقطر من جهة، والإمارات ومصر وروسيا من الجهة الأخرى. وفي السودان، أصبحت الحرب بمثابة لعبة شدّ حبل بالوكالة بين الإمارات وروسيا من جهة، والسعودية ومصر من الجهة الأخرى.

كما تبذل الولايات المتحدة جهوداً متواصلة لخلق حلفٍ عسكري إقليمي يضمّ السعودية والإمارات والبحرين ومصر والأردن والمغرب وإسرائيل ضد توسّع إيران الإقليمي. وقد لَعِب كلا الجانبين أدواراً مضادة للثورة: الولايات المتحدة وحلفاؤها، وكذلك إيران وروسيا.

العامل الإسلاموي

العامل الهام الرابع الذي يزيد من تعقيد الوضع في المنطقة هو وجود قوة معارضة رجعية، حاضرة منذ زمن طويل، هي جماعة الإخوان المسلمين. إنها حركة سياسية أصولية إسلامية من طراز حديث، تأسَّست قبل قرن من الزمان في مصر، وانتشرت في المنطقة بأكملها وخارجها. ولها فروع في كل مكان يوجد فيه مسلمون بوجه عام.

في الوقت الحاضر، تحظى الجماعة بدعم قطر وتركيا. لكن حتى العام 1990، كانت المملكة السعودية تموّلها وتدعمها، وكانت تستخدمها، برفقة الولايات المتحدة، كترياق ضد القومية اليسارية والأحزاب الشيوعية والنفوذ السوفييتي في البلاد الإسلامية. هكذا، فإن الترياق الأيديولوجي الرئيسي الذي استخدمته واشنطن في هذا الجزء من العالم بالتعاون مع المملكة السعودية هو الأصولية الإسلامية.

إن الخطاب الأيديولوجي حول حقوق الإنسان والحرية الذي استُخدِمَ ضد الدول الشيوعية في أوروبا الشرقية والاتحاد السوفييتي لم يذِعه الغرب في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. كانت الولايات المتحدة سعيدة باعتمادها على السعودية لخوض المعركة الأيديولوجية. وهذا ما مكّن جماعة الإخوان المسلمين من استغلال إخفاق القومية العربية اليسارية وتراجعها منذ سبعينيات القرن الماضي.

فقد شكّلت حرب حزيران/يونيو 1967 الضربة الحاسمة الأولى التي تلقّتها الحركة القومية العربية. وقد لعبت إسرائيل دوراً رئيسياً في هزيمة تيّار القومية العربية السائر على درب التجذّر، بعد أن ذهب بعيداً إلى اليسار في التدابير الاجتماعية والاقتصادية. وفي وقت لاحق، في العام 1990، حدثت قطيعة بين جماعة الإخوان المسلمين، التي كانت قد بدأت في ملء الفراغ الذي خلفته هزيمة القومية اليسارية، والمملكة السعودية. وكان سبب ذلك أن الجماعة لم تدعم انتشار القوات الأميركية في المملكة، الذي مهّد لهجوم «عاصفة الصحراء» على العراق في أوائل العام 1991.

وبعد سنوات قليلة، حلَّت قطر محلّ السعودية كراعية للجماعة، فموَّلتها وسمحت لها باستخدام شبكة تلفزيون «الجزيرة». هكذا انتقلنا من مرحلة شكّل فيها القوميون والشيوعيون حركات المعارضة الرئيسية في المنطقة، إلى مرحلة أصبحت فيها جماعة الإخوان المسلمين هي قوة المعارضة الرئيسية.

في العام 2011، رأت إدارة أوباما في الجماعة الخيار الأفضل لنزع فتيل الانتفاضة العربية وإبقاء التغيير السياسي الإقليمي ضمن حدود مقبولة لواشنطن. وقد حثّت إدارة أوباما على إجراء مساومة بين الجماعة والأنظمة القديمة. وهو ما حدث في وقت ما في كل من تونس ومصر واليمن والمغرب.

وإذ ظهرت الجماعة كبديل سياسي، لم تشكّل بديلاً اجتماعياً أو اقتصادياً. بل التزمت التزاماً كاملاً بالعقيدة النيوليبرالية، وكان بالتالي محكوماً عليها بالفشل في مزاولة السلطة، وهو فشلٌ كان توقعه ممكناً تماماً. فعلى سبيل المثال، في كتابي «الشعب يُريد» الذي انتهيت من تحريره في خريف 2012 وصدر في العام 2013، ثمة توقُّع لسقوط تجربة الإخوان المسلمين في مصر قبل حدوثه. وقد فشلت الجماعة في تونس والمغرب للسبب ذاته.

أينما وصلت الجماعة إلى الحكم أو شاركت فيه، كما كان الحال، على سبيل المثال، في تونس بعد عام 2014، كانت جزءاً من بيئة سياسية لا تختلف اجتماعياً واقتصادياً عن الوضع السابق. ظلَّت هذه البلدان سائرة في المسار الاقتصادي نفسه، الذي ازداد سوءاً لأن انعدام القدرة على التنبؤ بالمستقبل السياسي، وهو ما يُفسِّر الانسداد الاقتصادي الذي أدّى إلى الانفجار في العام 2011، تفاقم بعد عام 2011 بسبب التزايد الكبير في انعدام الاستقرار الإقليمي.

أزمة عميقة متسارعة

هذه المجموعة الكاملة من العوامل تفسّر الحالة التي نحن فيها حالياً وكيف انتقلنا من الآمال الكبرى في عامي 2011 و2019 إلى الحالة المحبِطة بالأحرى السائدة اليوم. بيد أننا نشهد، من منظور أوسع وعلى نطاق عالمي، تسارعاً في أزمة النيوليبرالية منذ «الركود الاقتصادي» في العام 2008، وقد أدّى الأمر إلى نوعين متعارضين من التجذّر السياسي، كما حصل في فترات الأزمات التاريخية السابقة، مثل سنوات ما بين الحربين العالميتين (من عشرينيات القرن العشرين حتى العام 1945).

تجلّى التجذّر التقدمي في حركات مثل تلك التي جرت في المنطقة مع «الربيع العربي»، وفي اليونان، وإسبانيا، وحتى في الولايات المتحدة وبريطانيا. كان ثمة صعود للتجذّر اليساري، لكن أيضاً صعود عالمي لأقصى اليمين، بصورة واضحة جداً بعد العام 2008.

هذا الصعود العالمي لأقصى اليمين كانت إسرائيل رائدته بشكل ما، إذ إن نتنياهو في نواحٍ عديدة مثال نموذجي لأقصى اليمين العالمي الجديد. كان جزءاً من انجراف نحو اليمين وأقصى اليمين استمرَّ منذ وصول «حزب الليكود» إلى السلطة في العام 1977. وقد أدّى إلى تصاعد الاضطهاد في الأراضي الفلسطينية المحتلّة في العام 1967، مما حفّز تجذّراً مضاداً مثّلته «حماس» في المقام الأول. وقد بلغ الصدام بين هذين الاتجاهين ذروته الآن مع حرب الإبادة التي تخوضها إسرائيل في غزة، والتي ستكون لها عواقب وخيمة في المنطقة، وسوف تمتد منها إلى أوروبا وتتعدّاها بالتأكيد.

كل هذا يخلق إحباطاً سياسياً شاملاً وعميقاً جداً، وغضباً مشروعاً عظيماً. في العام 2011، إلى جانب الجذور الاجتماعية والاقتصادية التي ذكرتُها، كانت هناك أيضاً عوامل سياسية للتجذّر، أحدها احتلال العراق الذي قادته الولايات المتحدة. كما لَعِبَت الأحداث في فلسطين دوراً، في بلد كمصر على سبيل المثال.

هناك الآن موجة جديدة من الغضب السياسي الشامل تتصاعد. وسوف تجد مرة أخرى تعبيراً عنها بطرق مؤسفة، تشبه جزئياً الطريقة التي غذّى بها الإحباط الناجم عن هزيمة الموجة الأولى من «الربيع العربي» صعودَ التنظيم المعروف باسم «الدولة الإسلامية»، أو «داعش». ففي تونس، على سبيل المثال، وبسبب الإحباط الذي ساد بعد العام 2011، انضمت نسبة هامة من الشباب إلى «داعش».

لكن سوف يكون هناك أيضاً نوع أسلم من التجذّر ضد الأنظمة القائمة، سيقترن بالضرورة بالأزمة الاجتماعية والاقتصادية المتزايدة في المنطقة كي يواصل السيرورة الثورية طويلة الأمد.

ذلك أنه من غير الممكن أن يعود هذا الجزء من العالم إلى أي شكل من أشكال الاستقرار الاستبدادي، ومَن يعتقد ذلك فهو حالم. ليس الأمر ممكناً بسبب الأزمة البنيوية التي ذكرتُها. ويمكننا أن نرى فعل السيرورة الاجتماعية الاقتصادية حتى في بلد كسوريا، التي مرت بإحدى أقسى مآسي العصر الحديث. ومع ذلك، فقد حدثت هناك طفرة اجتماعية قبل بضعة أشهر: احتجاج اجتماعي حاشد في أجزاء من سوريا خاضعة لسيطرة النظام. هذا يدل على أن القضية الاجتماعية الاقتصادية لا تزال تعمل كمحفِّز للنضال الاجتماعي. وقد شَهِد المغرب مؤخراً أحد أهم النضالات الاجتماعية في تاريخه، حراك خاضه معلمو المدارس.

تشير هذه الأمثلة إلى أنه مهما بدا الوضع قاتماً اليوم، فإن مكونات الانفجار الاجتماعي والسياسي لا تزال موجودة. لا أحاول أن أبدو متفائلاً، وسأكذب على نفسي وعليكم/عليكنّ لو حاولت، لأنه لا يوجد أساس للتفاؤل بسبب كل ما شرحتُه والتحدي الهائل الذي يمثِّله أي تغيير حقيقي في المنطقة.

لكن هناك أساس للأمل. وإنني أجري تمييزاً أساسياً بين التفاؤل، وهو الاعتقاد بأن السيناريو الأفضل سيحدث، وبين الأمل، وهو الاعتقاد بأن ثمة إمكانية لسيناريو أفضل، ولكن إمكانية لا غير، ولا يمكن اعتبار الأمر محتوماً.

تقف منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا على مفترق طرق بين المزيد من الهمجية من النوع الذي شهدناه ينمو منذ العام 2011، في الحروب الأهلية على وجه الخصوص، والآن مع حرب الإبادة الجارية في غزة، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، التغيير الاجتماعي والسياسي التقدمي الجذري الذي تحتاج المنطقة إليه بشدة.

[نُشِر هذا المقال بالأصل في موقع مجلة Against the Current، وهو نسخة مُحرّرة من تفريغ حلقة بودكاست، وقد تُرجَم الى العربية وتم نشره على موقع «صفر» بعد مراجعته من قبل الكاتب. العناوين الفرعية من وضع الموقع الأصلي.]

شارك المقالة

اقرأ أيضا