جلبير الأشقر: مقالات حول تطورات القضية الفلسطينية…

عندما تصبح تهمة اللاسامية سلاحاً بيد الفاشية الجديدة

بقلم؛ جلبير الأشقر

إن العرب معتادون لأن تُلصق بهم تهمة اللاسامية كلّما عجز الصهاينة وأنصارهم عن دحض حججهم في نقد حقيقة دولة إسرائيل وأفعالها الاستعمارية الاضطهادية. والحال أن نقاد الصهيونية ذوي الأصل اليهودي أنفسهم اعتادوا إلى التعرّض للافتراء ذاته، بل بقساوة مضاعفة إذ يعتبرهم الصهاينة «خونة» أو «كارهي الذات» وفقاً للمنطق العنصري الذي يحكم بأن يكون كل يهودي صهيونياً (وهو المنطق ذاته الذي يسود تفكير الذين يشكّل عداؤهم للصهيونية غلافاً شفافاً لموقف عنصري معادٍ لليهود بمجملهم).
أما الجديد في السنوات الأخيرة، فهو اتساع رقعة المستهدَفين بتهمة اللاسامية لتشمل طيفا واسعا من نقاد دولة إسرائيل اليساريين، لازمَ موقفهم النقدي تاريخاً سياسياً طويلاً، وقد كانوا على قناعة، خلال عقود من نقد الحكومات الإسرائيلية لبشاعة ممارساتها العنصرية الاستعمارية إزاء الفلسطينيين، بأنهم يلتقون في ذلك النقد مع اليساريين من اليهود الإسرائيليين. وقد رافق التحوّل المذكور انحراف المشهد السياسي العالمي المتزايد نحو اليمين وأقصاه، وبدفع وحفز من هذا الأخير.
كان بنيامين نتنياهو رائداً في هذا الشطط. ذلك أن رئيس الوزراء الصهيوني هو بأكثر من وجه رائدٌ لأقصى اليمين العالمي، لعب هذا الدور بصورة خاصة بعد عودته إلى الحكم في عام 2009 وتمسكه به ضارباً الرقم القياسي في مدة تولّي رئاسة الوزراء في دولة إسرائيل، إذ احتفظ بالمنصب أكثر من إثني عشر عاماً حتى عام 2021 ليعود ويحتلّه بدءاً من نهاية عام 2022. خلال تلك السنوات، كان نتنياهو مثالاً احتذى به أقصى اليمين العالمي من حيث صفاقته الانتهازية وقدرته على الكذب الوقِح وعدم تردّده في اللجوء إلى أحطّ الأساليب السياسية ضد خصومه الإسرائيليين وإلى مزايدة صهيونية تكفيرية للآخرين فاقت كل ما سبق، وقد جعلها نتنياهو سلاحه الأيديولوجي المفضَّل.
هذا وقد أصبح نتنياهو حبيب أقصى اليمين العالمي ليس بوصفه قدوة لهم وحسب، بل لجهده الدؤوب لنزع تهمة اللاسامية عن زملائه عبر العالم وإلصاقها بمن يكرهون. وقد انسجم ذلك تماماً مع التزامن بين صعود أقصى اليمين على النطاق الدولي وتصاعد رهاب الإسلام (الإسلاموفوبيا) وذلك من خلال امتزاج العداء العنصري للمهاجرين القادمين من بلدان ذات أغلبية مسلمة مع أيديولوجيا «الحرب على الإرهاب» التي حفزتها الاعتداءات المجرمة التي نفّذها تنظيما «القاعدة» و«داعش» في الشمال العالمي.
وفي سعيه وراء نزع تهمة اللاسامية عن مصادر اللاسامية التقليدية في أقصى اليمين لإلصاقها على كل من ينتقد الصهيونية، وصل الأمر بنتنياهو إلى أن حاول تبرئة أدولف هتلر نفسه جزئياً من مسؤولية ارتكاب إبادة اليهود الأوروبيين ليلصقها بأمين الحسيني، بطريقة أثارت استهجان كافة مؤرخي المحرقة النازية واستنكارهم. هذا ولم تقصد المحاولة تعظيم العداء العنصري للعرب والمسلمين من خلال شخصية الحسيني، وهو الحجة المفضّلة لدى الدعاية الصهيونية منذ أكثر من ثمانين عاماً بسبب إساءته للقضية الفلسطينية بارتمائه في أحضان النازية الألمانية والفاشية الإيطالية خلال الحرب العالمية الثانية، لم تقصد المحاولة ذلك وحسب، بل قصدت أيضاً تبرئة أقصى اليمين الأوروبي اللاسامي من خلال شخصية هتلر.

هكذا تحوّل نتنياهو إلى الذريعة المفضّلة لدى أرباب أقصى اليمين العالمي في التغطية على اللاسامية لديهم، حتى عندما لا تزال سافرة. من فكتور أوربان، رئيس الوزراء المجري الذي لا يُخفى كرهه لليهود على أحد، إلى دونالد ترامب الذي يرى أن من واجب اليهود الأمريكيين أن يكونوا موالين بلا شروط لدولة إسرائيل وحكومتها، إلى فلاديمير بوتين، المثال الآخر الذي يحتذي بها أقصى اليمين العالمي، إلى مارين لوبين الحريصة على تمويه اللاسامية الملازمة تاريخياً للحركة التي تقودها، سلسلة طويلة من أعلام أقصى اليمين العالمي أصبحوا أكبر أصدقاء نتانياهو وحكومة أقصى اليمين الصهيوني المشابهة لهم، يسترسلون في المزايدة في دعمها لكونه وسيلة رخيصة لتمويه تراثهم وحاضرهم اللاسامييْن، لا سيما وأن عدد اليهود الأوروبيين بات محدوداً جداً منذ الإبادة النازية بينما غدا المهاجرون من الجنوب العالمي كبشَ المحرقة الجديد المفضّل لدى أقصى اليمين في الشمال العالمي.
إن حالة معبّرة للغاية في صدد ما ذكرنا هي إعلان أميشاي شِكلي، أحد وزراء نتنياهو وعضو حزب الليكود الذي يتزعمه الأخير، أن الحكومة الإسرائيلية برمّتها فرحت لما أحرزه حزب لوبين من فوز في الدورة الأولى من الانتخابات البرلمانية الفرنسية يوم الأحد الماضي. والحال أن شِكلي يتولّى حقيبة وزارية اسمها «شؤون الشتات ومكافحة اللاسامية»! أما الأسوأ في الأمر، فهو أن أحزاب «الوسط» السياسي ارتأت أن تستفيد من تجيير تهمة اللاسامية لأغراض يمينية في محاربتها لأخصامها اليساريين، على غرار الحملة الشنعاء التي خيضت في بريطانيا للقضاء سياسياً على وفي مشاركتها في حملات الافتراء هذه بدون حتى أن توجّه نيرانها في الوقت نفسه ضد أقصى اليمين وتفضح نفاقه في موضوع اللاسامية، ساهمت قوى «الوسط» في تزكية أقصى اليمين في فرنسا من قِبَل «الوسط اليميني» الذي يتزعمه الرئيس الحالي ماكرون، ويمين اليسار أي «الوسط اليساري».
وفي مشاركتها في حملات الافتراء هذه بدون حتى أن توجّه نيرانها في الوقت نفسه ضد أقصى اليمين وتفضح نفاقه في موضوع اللاسامية، ساهمت قوى «الوسط» في تزكية أقصى اليمين وإضفاء المصداقية على ادّعائه البراءة من اللاسامية، وذلك مع تغليب هذا الاعتبار على إدانة العنصرية المعادية للسود والمسلمين وكره الأجانب بوجه عام اللتين لا يدّعي أقصى اليمين أنه تجاوزهما، بل يفتخر بهما ويستخدمهما حجة أيديولوجية مركزية في نشاطه. هكذا ينتهي الأمر بالطيف السياسي «الوسطي» بيمينه ويساره بأن يسير في تظاهرات مشتركة ضد اللاسامية مع أقصى اليمين اللاسامي مثلما حصل في فرنسا غداة العملية التي قادتها «حماس» في قطاع غزة.
والخلاصة أن جعل تهمة اللاسامية شرّاً مطلقاً إلى حدّ التقليل من شأن سائر أوجه العنصرية والتسليم بأن «اليهود» تمثلهم حكومة صهيونية يقودها حزب ذو أصل فاشي ويشارك فيها وزراء «نازيون جدد» وآخرون من الأصوليين الدينيين اليهود، حكومة جعلت «الدولة اليهودية» تقترب في «إدارة التوحّش» من النموذج الذي جسّده تنظيم «الدولة الإسلامية» إن هذا السلوك الذي سلكته القوى «الوسطية» إنما ساهم ويساهم كثيراً في تقوية أقصى اليمين العالمي، أسوة بسيرهم في ركابه في أمور أخرى، لاسيما العداء العنصري للمهاجرين.

************************ 

هل يمهّد قرع طبول الحرب على الجبهة اللبنانية لحرب شاملة؟

بقلم؛ جلبير الأشقر

شهدت الأسابيع الأخيرة تصاعداً حاداً لتبادل القصف بين المقاومة اللبنانية والقوات الإسرائيلية على جبهة لبنان الجنوبي/ شمال الدولة الصهيونية. وقد ترافق هذا التصاعد بتصعيد للتصريحات والتهديدات بين الطرفين، مع تزايد الوعيد الإسرائيلي بشنّ حرب شاملة على كافة مناطق انتشار «حزب الله» وإلحاقها بمصير قطاع غزة من حيث كثافة التدمير. هذا وبينما تؤكد مصادر الجيش الصهيوني أنه على استعداد تام لشنّ هذه الحرب، تتناقض هذه التأكيدات مع المساعي الجارية لزيادة عدد جنود الاحتياط الملحقين بالوحدات القتالية من 300.000 إلى 350.000 من خلال رفع سنّ الخروج من الاحتياط (من 40 إلى 41 للجنود، ومن 45 إلى 46 للضباط ومن 49 إلى 50 لذوي الاختصاص كالأطباء والطيارين).
والحال أن المساعي المذكورة ما زالت تصطدم بإصرار القيادة العسكرية الصهيونية على ضرورة إنهاء الإعفاء من التجنيد الذي يخصّ اليهود الأصوليين، الأمر الذي من شأنه زيادة عدد الجنود بدون زيادة الأعباء على عائلات المجنّدين الحاليين وعلى أشغالهم وبالتالي على اقتصاد البلاد. هكذا، إذ تشير المساعي المذكورة بالتأكيد إلى تصميم القيادة العسكرية على استكمال الاستعداد لحرب شاملة على لبنان، تشير في الوقت نفسه إلى أن تصعيد الوعيد من الجانب الإسرائيلي لا يصطحب بنيّة حقيقية في شنّ حرب شاملة على لبنان في الظرف الراهن، لا سيما أن الجميع يدرك أن تكلفة تلك الحرب بالنسبة للدولة الصهيونية ستكون أعلى بكثير من تكلفة اجتياح غزة، سواء من حيث الكلفة البشرية (حتى لو امتنع الجيش الصهيوني من اجتياح الأراضي اللبنانية واكتفى بالقصف المركّز، وهو الأرجح، فإن عدد ضحايا القصف داخل دولة إسرائيل سيكون حتماً أكبر مما في الحرب على غزة) أو الكلفة العسكرية (نوعية العتاد الذي سيضطر الجيش الصهيوني إلى استخدامه ضد «حزب الله») أو الكلفة الاقتصادية.
وتنجم عن هذا الواقع معضلة خطيرة تواجهها إسرائيل، إذ لا تستطيع خوض حرب شاملة على لبنان بلا معونة أمريكية مضاعَفة بالمقارنة مع المعونة، العظيمة أصلاً، التي قدّمتها لها الولايات المتحدة الأمريكية في حرب الإبادة على غزة. هذا فضلاً عن أن «حزب الله» مرتبط بطهران ارتباطاً عضوياً، بحيث إن حرباً شاملة تخوضها القوات الصهيونية ضد لبنان قد يتوسّع نطاقها ليشمل إيران التي قد تُطلق صواريخ ومسيّرات على دولة إسرائيل مثلما فعلت في أبريل/ نيسان الماضي. وفي ضوء ارتهان الهجمة الإسرائيلية بالمعونة الأمريكية، يشكّل تصعيد لهجة نتنياهو بصورة مفاجئة ضد إدارة بايدن في الأيام الأخيرة دليلاً إضافياً على عدم استعداد الحكم الصهيوني لشنّ حرب شاملة على لبنان في الظرف الراهن، إذ يتناقض سلوك نتنياهو إزاء واشنطن مع احتياج جيشه إلى دعم أمريكي يفوق ما حصل عليه حتى الآن.

وقد بات جلياً أن نتنياهو يراهن على فوز دونالد ترامب بولاية رئاسية ثانية في الانتخابات الأمريكية المزمع إجراؤها في أوائل نوفمبر/ تشرين الثاني القادم. وهو بذلك كلاعب القمار الذي قرّر إلقاء كل ما لديه على الطاولة بغية مضاعفة أرباحه أو الخروج من اللعبة. هذا علاوة على أن نتنياهو يستفيد سياسياً من تصعيد التوتّر بينه وإدارة بايدن، إذ يزيد الأمر من شعبيته بإظهاره بمظهر الحاكم الصهيوني الذي لا يتردّد في التصدّي للضغوط الخارجية حتى في أحلك الظروف. وهو يستعدّ لجولة جديدة في هذه اللعبة السياسية من خلال إثبات حيازته على دعم سياسي كبير في الكونغرس الأمريكي في وجه إدارة بايدن عندما سوف يذهب إلى واشنطن لإلقاء خطابه الرابع أمام مجلسي النواب والشيوخ مجتمعين في 24 يوليو/ تموز القادم.
ولو فاز ترامب في انتخابات الخريف، يتطلّع نتنياهو إلى حصوله على دعم بلا حدود وبلا ضغوط كالتي حاولت إدارة بايدن فرضها عليه في الآونة الأخيرة. أما لو لم يفز ترامب، فمن المرجّح أن يفاوض نتنياهو مع إدارة بايدن والمعارضة الصهيونية كي يحصل على ضمانات تخوّله فكّ اتّكاله على أقصى اليمين الصهيوني في حكومته وتشكيل حكومة «وحدة وطنية» يرأسها حتى الانتخابات القادمة في عام 2026. لكنّ المعارضة من جانبها سوف تحاول التخلّص منه، من خلال فرط الائتلاف الذي تستند إليه حكومته الحالية في الكنيست وفرض إجراء انتخابات مبكّرة.
هذا ولا تظنّن أن الصراع السياسي داخل النخبة السياسية الصهيونية هو بين صقور وحمائم، بل هو بين صقور ونسور. فإن الطرفين، نتنياهو والمعارضة، يريان أن لا خيار ثالث على جبهتهم الشمالية سوى رضوخ «حزب الله» وقبوله بالانسحاب شمالاً تطبيقاً للقرار 1701 الذي صدر عن مجلس الأمن الدولي إثر حرب الثلاثة وثلاثين يوماً في عام 2006، أو شنّ حرب ضارية ضد الحزب بكلفة عالية، يُجمعون على أن لا بدّ منها من أجل تعزيز هيبة دولتهم وقدرتها الردعية اللتين اضمحلّتا على الجبهة اللبنانية منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول.

************************** 

خلفيات الصراع الدائر بين بايدن ونتنياهو

بقلم؛ جلبير الأشقر

إن كانت ثمة حاجة لبرهان إضافي على حدود «الديمقراطية التمثيلية» التقليدية، فإن المشهد السياسي الإسرائيلي يقدّم مثالاً ساطعاً عن تلك الحدود. فبالرغم من أن عملية «طوفان الأقصى» قلبت المناخ السياسي الإسرائيلي لغير صالح نتنياهو والكتلة الحاكمة التي شكّلها مع أقصى اليمين الصهيوني في نهاية عام 2022، نراه مستأثراً بالسلطة وقادراً على الاحتفاظ بها دستورياً حتى عام 2026. وقد تمكّن نتنياهو من امتصاص بعض الغضب الشعبي الإسرائيلي الذي حمّله مسؤولية الإخفاق في تدارك الهجوم المسلّح الذي حصل في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وذلك بخلقه «حكومة حرب» مصغّرة بمشاركة أحد قطبي المعارضة الصهيونية الرئيسيين، الأمر الذي أتاح له الظهور بمظهر الرجل الحريص على «الوحدة الوطنية» الصهيونية في مواجهة الشعب الفلسطيني.
هذا وفضلاً عن البُعد السياسي للمناورة، بغى نتنياهو إشراك أخصامه السياسيين في مسؤولية إدارة الحرب على قطاع غزة، من خلال إشراك رجلين تولّيا رئاسة الأركان العامة للجيش الإسرائيلي على التوالي بين عامي 2011 و2019، هما بيني غانتس وغادي أيزنكوت المنتميان إلى كتلة المعارضة في الكنيست المعروفة باسم «الوحدة الوطنية». وقد كرّست حكومة الحرب الإجماع الصهيوني الانتقامي الذي أدّى إلى تدمير غزة وإبادة حوالي خمسين ألفاً من سكّانها حتى الآن، بمعونة الولايات المتحدة الأمريكية.
لكنّ الإجماع الصهيوني الذي جسّدته تلك الحكومة انتهى مع استكمال احتلال القطاع ومواجهة مسألة مصيره السياسي. عند هذا الحدّ، تصدّعت حكومة الحرب إزاء الموقف من «الحلّ» الذي يسعى له جو بايدن والإدارة الأمريكية التي يرأسها، وهو قائم على الجمع بين قسم من أراضي غزة وقسم من أراضي الضفة الغربية في «دولة فلسطينية» تحكمها اسمياً «السلطة الفلسطينية» بعد تعديلها بعض الشيء، مع خضوع القطاع لإشراف عسكري مشترك إسرائيلي وعربي (مصري بالدرجة الأولى). فبينما تؤيد المعارضة الصهيونية هذا «الحلّ» ليس بوسع نتنياهو إعلان قبوله به بدون انفراط التحالف الذي عقده مع أقصى اليمين وارتهانه بالتالي بما يقرره أخصامه السياسيون الحاليون في شأنه.

المشكلة بالنسبة لنتنياهو هي أن موازين القوى تختلف كلّياً بين الحالتين. ففي حين ترتهن به مشاركة حلفائه «النازيين الجدد» في الحكم، إذ إنهم ما كانوا ليحلموا بتلك المشاركة لولا انتهازية نتنياهو العميقة واستعداده لأي شيء بغية البقاء في السلطة (وتفادي المحاكمة) تستطيع المعارضة الصهيونية التطلّع إلى تولّي الحكم بدونه من خلال انتخابات نيابية مبكّرة تأمل أن تحصل بواسطتها على أغلبية في الكنيست. والحال أن استطلاعات الرأي في دولة إسرائيل تشير منذ «طوفان الأقصى» إلى تفوّق المعارضة على التكتل الحاكم الراهن.
هذا وقد أفلحت مناورة نتنياهو بإشراك منافسيه في حكومة الحرب، مصحوبة بظهوره بمظهر المدافع العنيد عن المصلحة الصهيونية في وجه الضغط الأمريكي، أفلحت بقلب اتجاه الرأي العام بعض الشيء. فقد أبان استطلاعان نُشرا قبل أيام تصاعد شعبية نتنياهو، مصحوباً بتراجع شعبية منافسه غانتس عن الذروة التي بلغتها إثر «طوفان الأقصى» وانضمامه إلى «حكومة الحرب» باسم الوحدة الوطنية الصهيونية. ذلك أن غانتس أخذ يتحمّل مع نتنياهو مسؤولية الإخفاق في القضاء على المقاومة المسلّحة داخل القطاع بعد ثمانية أشهر من العدوان المسعور، وذلك بغياب رؤية واضحة فيما يتعلّق بسيناريو «اليوم التالي» كما غدا يُسمّى مصير غزة السياسي والأمني. هذا الميل الجديد في الرأي العام الإسرائيلي شكّل بالتأكيد عاملاً رئيسياً في قرار غانتس إنهاء مشاركته في حكومة الحرب.
بيد أن الاستطلاعات لا زالت تشير إلى هزيمة محتملة للتحالف القائم بين الليكود، حزب نتنياهو، و«النازيين الجدد» في وجه كتل المعارضة. وبينما يشير أحد الاستطلاعين الحديثين سابقي الذكر إلى تمكّن المعارضة من الفوز بأغلبية مقاعد الكنيست (61 من أصل 120) يشير الآخر إلى احتياجها إلى ثلاثة مقاعد فقط من أجل تحقيق تلك الغاية، وهي مقاعد قد توفّرها كتلة منصور عبّاس الذي ما انفكّ يُبدي استعداده لمواصلة الانخراط في اللعبة السياسية الصهيونية، أو إحدى الجماعات الصهيونية المنضوية في التحالف الحاكم الراهن، أو سواها من كتل الكنيست الصغيرة.
لذا لن يجازف نتنياهو بفك تحالفه مع أقصى اليمين الصهيوني ومواجهة احتمال خوض معركة انتخابية مبكّرة، إلا إذا حصل على ضمانات ومكاسب يكون إنهاء متاعبه القضائية أحد بنودها الرئيسية. وهو يستطيع البقاء في الحكم مع حلفائه بالرغم من تأكيد الاستطلاعات على تحوّلهم إلى أقلية في البلاد، على الرغم من أن المرحلة الراهنة هي إحدى أخطر المراحل التي مرّت بها الدولة الصهيونية حتى الآن في تاريخها القصير. كما يراهن نتنياهو بكل وضوح على احتمال فوز دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأمريكية التي سوف تجري في مطلع نوفمبر/ تشرين الثاني القادم.
إن موقف نتنياهو مصدر إحراج عظيم لبايدن الذي يحتاج لإنجاز «الحلّ» الذي ينشده قبل الانتخابات. لذا دعت الإدارة الأمريكية يوآف غالانت، وزير «الدفاع» في الحكومة الصهيونية الحالية، وهو منافس نتنياهو داخل حزب الليكود ذاته، دعته لزيارة واشنطن في الأيام القادمة، قبل أن يزورها نتنياهو لإلقاء خطاب رابع أمام الكونغرس الأمريكي في 24 يوليو/ تموز (وهو، بالمناسبة، امتياز لم يحصل عليه أي رئيس أجنبي آخر في تاريخ الولايات المتحدة). ولا شكّ في أن إدارة بايدن تسبر سبل الضغط على نتنياهو من خلال غالانت، بما في ذلك إمكان انشقاق هذا الأخير عن نتنياهو مع عدد من نواب الليكود يكفي لإسقاط الحكومة الراهنة وفرض انتخابات جديدة.

 ************************* 

في سرّ تحوّل بايدن إلى حمامة

بقلم؛ جلبير الأشقر

هكذا وبعد ثمانية أشهر من الإبادة الجماعية بواسطة قصف مركّز على مناطق فلسطينية عالية الكثافة البشرية، ذهب ضحيتها حتى الآن ما يناهز خمسين ألفاً بين قتلى تم إحصاؤهم وقتلى لا زالوا تحت أربعين مليون طنّ من الركام الناجم عن تدمير ما لا يقل عن 300.000 وحدة سكنية حسب تقديرات الأمم المتحدة، ناهيك من المباني العامة، بعد كل هذه الشراسة الفتّاكة والمدمّرة التي مارسها «تنظيم الدولة اليهودية» والتي تبدو شراسة «تنظيم الدولة الإسلامية» بسيطة جداً بالمقارنة معها، وبعد مسعاه المستمر لتسهيل هذه الإبادة من خلال الاعتراض على أي مشروع لوقف إطلاق النار، أي وقف المجزرة، لا سيما من خلال ممارسة حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن الدولي، ها أن بايدن، الفخور بصهيونيته، يُبدي إصراراً على الحصول على وقف لإطلاق النار إلى حدّ المبادرة إلى تقديم مشروع قرار في هذا الخصوص إلى مجلس الأمن الدولي يوم الإثنين الماضي.
ولكي لا يتصوّر أحدٌ أن وحياً إلهياً هبط على بايدن وعلى إدارته، فتابوا من تواطؤهم مع جناة الإبادة، حرصوا على تصوير مشروع الهدنة القائم على وقف مؤقت لإطلاق النار مصحوب بتبادل للأسرى، تمهيداً للتفاوض على إنهاء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، وكأنه مشروعٌ حائز على موافقة إسرائيلية، بل مشروعٌ إسرائيلي الهوية، بحيث تقع ملامة عدم دخوله حيّز التنفيذ على «حماس» دون سواها. وهذا هو النفاق بعينه، إذ إن نتنياهو لم يعلن قط بصفة رسمية موافقته على المشروع المذكور، بل تصرّف حتى الآن وكأنه يريد التنصّل منه. وقد بيّنت قيادة «حماس» السياسية فطنة وإدراكاً للعبة في إسراعها إلى الترحيب بقرار مجلس الأمن وإبداء استعدادها للتفاوض في شروط تطبيقه، بحيث ردّت الكرة إلى ملعب الحكومة الصهيونية بعد محاولة الإدارة الأمريكية حصرها في ملعبها.

ذلك أن الحكم الصهيوني واقع في ارتباك، ولو وافق نتنياهو علناً على مشروع الهدنة لما قرّر غانتس وجماعته إنهاء مشاركتهم في حكومة الحرب يوم الأحد، وقد فسّروا انسحابهم منها بتلكؤ نتنياهو في القبول بمشروع الهدنة وتحديد شروط لإنهاء الحرب تتناسب مع المصلحة الإسرائيلية ومع أماني العرّاب الأمريكي. والحقيقة أن الغاية من مبادرة واشنطن الأخيرة في مجلس الأمن ليست الضغط على «حماس» بل هي الضغط على نتنياهو بالأحرى كي يقبل بالمشروع رسمياً وعلانية. هذا في المقام الثاني، أما في المقام الأول، فقد بات بايدن يبذل جهده كي يُظهر لذلك القسم الهام من الرأي العام الأمريكي المستاء من حرب الإبادة التي تخوضها الدولة الصهيونية، وهو يشكّل نسبة عالية من ناخبي الحزب الديمقراطي التقليديين، كي يُظهر لهم أنه جدّي في مسعاه إلى وقف الحرب.
وسوف يتصاعد ضغط الإدارة الأمريكية على نتنياهو كي يقبل بالهدنة المؤقتة، التي يعلم جميعهم أنها لن تدوم أكثر من أسابيع قليلة (كما شرحنا في الأسبوع الماضي، «الهدنة في غزة ومعضلتا نتنياهو وحماس» 4/6/2024) وكي ينهي اتكاله على «النازيين الجدد» في حكومته من أجل القبول بعرض أخصامه غانتس ولابيد تشكيلَ حكومة وحدة وطنية تضمّ الليكود وحزبي المعارضة الرئيسيين وسواهما من التيارات الصهيونية الأقل تطرّفاً من جماعتي بن غفير وسموتريش. وسواء جرى ذلك أم لم يجرِ، فإن بايدن يحتاج للظهور بمظهر الصقر الذي استحال حمامة كي يخفّف من الاحتجاج ضدّه المرتقب لدى انعقاد «المؤتمر الوطني الديمقراطي» في أغسطس/ آب القادم (من 19 إلى 22) في مدينة شيكاغو، وهو المناسبة التي يتبنّى فيها الحزب الديمقراطي رسمياً مرشحَيه للرئاسة ونيابتها.
هذا هو سرّ تحوّل بايدن من شريك أساسي في حرب الإبادة الصهيونية إلى داعية سلام، وإذ يعبّر هذا التحوّل عن أهمية حركة الاحتجاج على الحرب في الولايات المتحدة، لا يُمكن التغافل عن طبيعته الانتهازية والمنافقة وعن أن بايدن وغانتس ومن لفّ لفّهما إنما يختلفون مع نتنياهو في كيفية تصفية القضية الفلسطينية بعد ارتكابهم سوية «النكبة الثانية» وليس في غاية التصفية ذاتها.

كاتب وأكاديمي من لبنان

المصدر: جريدة القدس العربي | Alquds Alarabi Newspaper

شارك المقالة

اقرأ أيضا