مرامي ارباب العمل في سعيهم لتعديل مدونة الشغل
بقلم إ.م
منذ عقود وأرباب العمل بالمغرب ينادون بجعل قانون الشغل خفيفا عليهم، أي مُسهلا طردَ الأجراء بأقل كلفة، ومتيحاً يدا عاملة رخيصةً ومُخضعة بعلاقة شغل هشة إلى أقصى حد ممكن. وقد نالوا قسطا مما يبتغون بإقرار مدونة الشغل في العام 2003، ومنذئذ تكاثر التشغيل الهش بعقود العمل المؤقتة، بمقاولات السمسرة في اليد العاملة المسماة «وساطة»، وبما يسمى المقاولة من باطن. وسرعان ما شرع أرباب العمل، بعد فترة وجيزة في المطالبة من جديد بإضفاء مزيد من «المرونة» على علاقة الشغل، ومراجعة مواد أخرى متنوعة يعتبرونها عبئا ثقيلا على «المقاولة المغربية».
فأكثروا الكلام في صحافتهم، المباشرة والمداورة، ونظموا الندوات وأصدروا وثائق تركز أهدافهم. وها قد بلغوا أمنيتهم بإعادة وضع تعديل مدونة الشغل على جدول «الحوار الاجتماعي»، بما نص عليه اتفاق أبريل 2022، مع البيروقراطيات النقابية وأكده نظيره ليوم 29 ابريل 2024.
ولا شك أنه من أمارات تردي وضع المنظمات العمالية أن تجالس قياداتها أرباب العمل لمناقشة مطالبهم في تدمير ما تبقى من مكاسب قي مدونة الشغل، ومن ثمة فتح باب جهنم على الشغيلة، هذا عوض طرح مطالب عمالية لتعزيز مكاسب الشغيلة في قانون الشغل.
تمثل وثيقة الاكاديمية الاجتماعية لمنظمة أرباب العمل، الصادرة عام 2019 بعنوان «تعديل مدونة الشغل من وجهة نظر الاتحاد العام لمقاولات المغرب» نموذجا بليغا في التعبير عن نوايا برجوازيي المغرب إزاء الشغيلة.
جوهر ما يسعى إليه أرباب العمل بتعديلاتهم لمدونة الشغل هو مزيد مما يسمى المرونة بتعميم عقود العمل المؤقت، حتى بدوام جزئي، أي العمل سويعات في اليوم فقط. وهو الأمر المتجلي من تخصيص ملحقين لهذين الأمرين في تلك الوثيقة المشار اليها:
الأول خاص بشركات التشغيل المؤقت من 8 صفحات، والثاني عبارة عن مشروع عقد عمل بدوام جزئي من 7 صفحات.
تجدر الإشارة إلى أن استجابة أولية لمطالب أرباب العمل تمت بإصدار مرسوم 23 يوليوز 2020 بتحديد القطاعات والحالات الاستثنائية التي يمكن فيها إبرام عقد شغل محدد المدة. كشفت حقيقته وأهدافه شبكة تقاطع في بيانها بتاريخ 11 غشت 2020.
كما أن سبيلا آخر لمزيد من الهشاشة، عبر تملص أرباب العمل من عقود العمل الدائمة، قد جرى تمهيده بالاستخدام المفرط «لعقود الخدمة» بدلا من «عقود الشغل» حيث أن تبسيط نظام المقاول الذاتي يحدو بأرباب عمل الى دفع أجرائهم للانتقال من صفتهم الأجرية إلى العمل المستقل، هذا مقابل زيادة محدودة في رواتبهم بالموازاة مع فقدانهم لحقوقهم الاجتماعية.
لماذا يريدون مزيدا من المرونة
مبرر المرونة في علاقات الشغل هي اعتبار انعدامها في سوق الشغل سببا للبطالة، وهذا لا أساس نظري له ولا حجة عليه في الواقع، إنه خرافة إيديولوجية أكثر مما هو نموذج علمي حسب تعبير الاقتصادي اليساري ميشال هوسون
La fable de la flexibilité, Michel Husson
in Fondation Copernic, Pour en finir avec la précarité, Syllepse, 2007
وحتى الاقتصادي الليبرالي بإفراط دافيد تسمار David Thesmar أوضح أن لا وجود في الإنتاج الفكري الأكاديمي، الى يومنا هذا ترابط قوي بين مرونة العمل وخلق فرص عمل.
الغاية الحقيقية: خدمة المصالح الاقتصادية للبرجوازية.
يرجع تطور الهشاشة في العالم إلى بداية الثمانينات من القرن المنصرم. ويدخل في إطار تكيف المقاولين مع الأزمة الاقتصادية العالمية التي ابتدأت منذ أواسط السبعينات من القرن الماضي. فالبرجوازية تحاول الحد من انخفاض معدلات الربح، من خلال تقليص تكاليف اليد العاملة، والإجهاز على مكتسباتها من استقرار في العمل وتحديد للأجور وحماية اجتماعية. وكذلك انسجاما مع الانعطافة الليبرالية الحالية حيث العودة إلى رأسمالية بدون قيود كما شهدها القرن 19. وهكذا لم يتبق للبرجوازية لتكييف المقاولات مع الأزمة، ولدحر المنافسين، سوى ضرب استقرار الشغل. كما يرجع تطور الهشاشة أيضا إلى السياسات الحكومية الليبرالية وتزايد هجوم شبكات المثقفين والمفكرين والمنظرين الليبراليين، حيث يتم التطبيل للتحرير الشامل للاقتصاد ولإلغاء قوانين الاستثمار (إلغاء أية رقابة) ولإلغاء قوانين الشغل ثم الخوصصة.
ولهذا مضاعفات خطيرة على الطبقة العاملة:
أهمها على الإطلاق: ان عدم استقرار علاقة الشغل وانتشار عقود الشغل الهشة (بمختلف تنويعاتها التي تروم منظمة أرباب العمل توسيعها أكثر) يضرب في الصميم تماسك الطبقة العاملة ومقدرتها على النضال، اي أنه يؤدي إلى صعوبة وحتى تعذر تنظيم أقسام عريضة من الشغيلة. وهذا ليس نقابيا فقط بل حتى النضال غير النقابي، اي النضال من أجل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية.
بعد تمرير المدونة في 2004 وتكريس مقاولات التشغيل المؤقت، شهدنا موجة من تفكيك علاقات الشغل القارة بوضع الشغيلة أمام خيار التحول إلى تعاقد مع مقاولة تشغيل أو التسريح. ومورست ضغوط قوية لبلوغ هذا الهدف، وهذا ما يفسر إلى حد بعيد التراجع العميق للعمل النقابي في القطاع الخاص منذ 20 سنة. ليس القمع هو السلاح الأشد فتكا بالتنظيم العمالي بل هذه الهشاشة.
الهشاشة تكتيك حرب اجتماعية
سيكون من الخطأ النظر إلى إدخال الهشاشة إلى عالم الشغل كاستراتيجية اقتصادية فقط. إن تحويل الشغل إلى عمل هش هو أيضا وسيلة فعالة لتفادي المعارضات الاجتماعية كيفما كان شكلها.إن جعل فترات التدريب والتمرس والعقد المحددة تتراكم على أجير معناه مضاعفة العراقيل أمام دمجه في منصب قار. فالمرشح لهذا المنصب يفترض لا أن يكون جيدا فقط بل أن يتحمل قساوة ظروف العمل والخنوع التام. فرب العمل يستطيع منذ البداية أن يتأكد مما إذا كان المستخدم مستعدا لقبول كل شروطه ومتطلباته، وكل شكل معارضة لسلطة وتجاوزات رب العمل يتعرض صاحبها إلى العقاب بفقدان منصبه. والمثال الذي سيكون مرعبا بالفعل هو التشغيل المؤقت حيث جزء من العمال سيتعرضون لوقف عقودهم بين أسبوع وآخر بل في بعض الأحيان بين يوم وآخر. فأن يرفض الأجير الساعات الإضافية غير مدفوعة الأجر، أو يجادل المسئول عن المقاولة، أو يرتكب خطأ، فإن ذلك يعني فقدانه لعمله والرمي به في أحضان البطالة. أما إذا طالب بحقوق فإن وكالة التشغيل المؤقت هي التي ستقفل عليه أبوابها بشكل نهائي.
أما بخصوص أشكال النضال النقابي المنظم فإن القيام بها يعد من الصعوبة بمكان. فجعل الشغل هشا هو أيضا وسيلة مثلى لإضعاف النقابات وتفادي الإضرابات. باختصار لجم كل أشكال الدفاع الذاتي للمأجورين. فكيف يستطيع العامل بالعقدة المحددة أن ينضم بشكل صريح إلى النقابة إذا كان لا يرغب معاينة فقدان عمله؟
1 – تضفي أشكال التشغيل المرنة، أي الهشة، عدم استقرار هيكليا على حياة الأجير، حيث انعدام الشعور بالأمان، وظروف حياة رديئة بفعل ضعف الدخل.
العمل المؤقت والهش بصفة عامة يحرم الأجير من المزايا الأجرية والاجتماعية التي يستفيد منها الشغيلة الدائمون (مثال الوضعية السائدة في قطاع المناجم، حيث التفاوت بين الأجراء الرسميون وأجراء شركات الوساطة في التشغيل في الاستفادة من مزايا اجتماعية).
2 – أشكال العمل الهش مقرون بارتفاع التعرض للمخاطر المهنية :حالات حوادث الشغل والأمراض المهنية . فمن المعتاد إسناد أشد الأشغال خطورة لعمال شركات التشغيل المؤقت، وكذا بغطاء شركات المناولة، حيث الشغيلة ناقصي التكوين، وغير عارفين بخصوصيات مكان العمل وطرائقه. ويؤدي تنوع أماكن عمل المؤقتين، من مقاولة إلى أخرى، الى صعوبة تتبع ما يتعرضون له من مخاطر مهنية. ويتزايد عناء العمل وضغطه على المؤقتين المتقلبين في مناصب عمل متباينة مع اضطرارهم إلى العمل بوتيرة المستقرين رغم نقص الدراية.
وفضلا عن هذا، يؤدي فرط الاستغلال الملازم لهشاشة التشغيل، وانعدام الأمان الاجتماعي، إلى الإضرار بالصحة النفسية للأجير، دون أن يكون معترفا بالمخاطر النفسية في جداول الأمراض المهنية.
ولا بد من التذكير، ونحن بصد الصحة المهنية، أن من مطالب أرباب العمل: عدم إلزام المقاولة ذات عدد اجراء يفوق 50 باحداث مصلحة طب شغل وبتوظيف طبيب شغل وقتا كاملا. (ويطالبون بعقود عمل هشة مع طبيب الشغل ايضا)
3 – رفع نسبة المحرومين من التغطية الاجتماعية: التغطية الاجتماعية رهينة بمجموعة من الشروط، فالأجير مثلا الذي صر ح له بدخل أقل من 60 % من الحد الأدنى للأجور لا يستفيد من التعويضات العائلية والتأمين الصحي الإجباري عن المرض. وكثيرا ما يتواجد العاملون بدوام جزئي في هذه الوضعية، مما يعرضهم لخطر غياب جزئي أو كلي للتغطية الاجتماعية.
4 – مزيد من قهر النساء : ستكون النساء أكبر ضحايا تعميم هشاشة التشغيل، فنسبة عالية من شغيلة قطاع النظافة والعمل المؤقت في الصناعة و الزراعة، نساء. ففرص عمل ضعيفة التأهيل غالبا مسندة للنساء.
5 – الشباب ضحية هشاشة التشغيل بامتياز : استغلال نسبة البطالة المرتفعة لفرض أشكال العمل الهشة على الشباب الخريج. يتضح هنا دور جيش العاطلين الاحتياطي في ترويض الأجراء وفرض ظروف عمل وحياة متردية عليهم. يريد العمل تعميم عقود العمل الهشة كي ينهلوا من هذا الخزان الهائل من قوى العمل الفتية لاستغلالها بأقل كلفة.
خلاصة القول أن قبول البيروقراطيات النقابية وضع تعديل مدونة الشغل موضع «حوار اجتماعي» إنما هو تخل عن مصلحة الطبقة العاملة وخدمة للبرجوازية ولدولتها.
سيدخل هذا التنازل المُذل تاريخ الحركة العمالية المغربية من باب خيانة أبسط مصالح الأجراء: الحق في عمل قار يضمن حدا أدنى من حياة لائقة. ولذلك يمثل رفض ما أقدمت عليه البيروقراطية والتجند لبناء أوسع جبهة نضال ضد تعديلات أرباب العمل لمدونة الشغل ابسط واجبات المناضل والمناضلة النقابيين اليوم.
اقرأ أيضا