مقومات جبهة عمالية ضد العدوان الثلاثي على حرية الإضراب والتقاعد ومدونة الشغل
اتخذت قيادات الحركة النقابية وجهة مناقضة لتطلعات القاعدة العمالية ومصالحها بقبولها وضع قضايا أساسية موضع تفاوض ضمن ما يسمونه “الحوار الاجتماعي”، وهي حرية الإضراب، ومكاسب التقاعد ومدونة الشغل. هذا ما وقعت عليه تلك القيادات في اتفاقها مع ممثلي منظمة أرباب العمل ودولتهم في اتفاق 30 أبريل العام 2022، وأكدته باتفاق 29 أبريل 2024.
بهذا بات التفاوض جاريا حول مطالب البرجوازية والدولة وليس مطالب الطبقة العاملة. فالمواضيع الثلاثة كانت دوما مطروحة للتفاوض بإلحاح من البرجوازية: فتقنين الإضراب بإحاطة حرية ممارسته بقيود وشروط أمر لم يكن وليس- ولا يمكن أن يكون- قط مطلبا عماليا. فما يحتاج العمال-ات هو حرية تامة للتوقف عن العمل، عندما تكون ظروفهم-هن مهددة لصحتهم-هن، ومقابله من أجور ومكملاتتها دون الحد الأدنى المتيح حياة لائقة للشغيلة وأسرهم.
وما يسمى إصلاح التقاعد، المراد به النيل من طفيف مكاسب الأجراء (عوض إنمائها)، برفع سن الإحالة على التقاعد، وزيادة نسبة الاقتطاع من الأجور، وخفض مبلغ المعاش، وإبدال نظام التوزيع بنظام الرسملة، وجعل مدخرات صناديق التقاعد نهبا للرأسماليين بتدويرها في الأسواق، لم يكن يوما مطلبا عماليا بل سياسة يدعو إليها البنك العالمي ضمن نهجه الخادم للرأسمال.
كما أن إضفاء مزيد من الهشاشة على قوانين الشغل وإسقاط عدد من المكاسب، مع أنها لا تزال على الورق، ليس هدفا للشغيلة بل لمنظمة أرباب العمل الساعين إلى رفع امتصاص دماء العمال والعاملات إلى أعلى مستوى ممكن.
نحن والحالة هذه إزاء أعلى مستوى يمكن تصوره من خدمة القيادات النقابية لأجندة البرجوازية ودولتها. ما يقتضي إعلان عصيان بوجه تلك القيادات وإسقاط أي اعتراف بتمثيليتها للشغيلة، عصيان دلَّ حراك شغيلة التعليم العظيم على بعض سُبُله. إن هذه القيادات توقع على الأجهاز على مكاسب الطبقة العاملة خدمة لمصلحتها كفئة مفصولة عن القاعدة العمالية وذات امتيازات، لا تمثل إلا نفسها.
إننا إزاء استسلام نوعي لا يترك مجالا لأي اعتبار غير مصلحة الشغيلة، فوجب تنظيم الرد العمالي ضد تلك القيادات، باعتماد المواقع في التنظيم النقابي وخارجه على حد سواء. إننا أمام معركة تاريخية سيكون لنتيجتها أثر بعيد المدى على نضالية الطبقة العاملة، وأوضاع عملها وحياتها.
اللحظة دقيقة وحاسمة، فإما أن ننجح في استنهاض طاقة النضال التي تسعى البروقراطيات إلى تنويمها، مستغلة سيطرتها على الجهاز النقابي عبر شبكة زبائنها، أو نسير إلى هزيمة نكراء تقودنا إليها القيادات الخائنة.
غالبا ما استكان قسم من النقابيين إلى موقف تفادي مواجهة صريحة مع البيروقراطية لحسابات تعلَّق معظمها بصون مواقع تنظيمية في الجهاز. وهي سياسة مضرة بمصلحة الشغيلة بنحو أكيد، زادته التجربة تأكيدا، إذ لا المواقع التنظيمية يُحتَفظ بها ولا مواجهة البيروقراطية يوفى بها، عندما تصر تلك البيروقراطيات على اجتثاث أي معارضة تواجهها (ولنا في تجربة التوجه الديمقراطي في الاتحاد المغربي للشغل أبلغ عبرة). وهذا سلوك لم يعد واردا أمام معركة التصدي للعدوان الثلاثي الراهنة بحكم الطبيعة النوعية لتنازلات البيروقراطية.
فأقل الواجبات، ونحن في منعطف تاريخي، يتمثل في مباشرة تجميع قوى الشغيلة، بمختلف الطرق الممكنة، داخل الهياكل النقابية وخارجها. فرغم ضعف التنظيمات النقابية، وسواها من أدوات النضال المطلبي، وانعدام حزب عمالي قادر على قيادة معركة سياسية من هذا الطراز، تظل قوى الطبقة العاملة قائمة موضوعيا قد تجد قنوات نحو ميدان المواجهة، لا سيما إن حفزتها مبادرة وحدوية جدية.
وهنا لا يسع كل مخلص للقضية العمالية غير تأييد مبادرة تشكيل جبهة عمالية للتصدي للعدوان الثلاثي، مبادرة دعت إليها نقابات منها في قطاعي التعليم والصحة… وجلي أن أول مقومات بناء هذه الجبهة العمالية الاستنارة بدروس أشكال من العمل الموحد سبق تجريبها في مناسبات متنوعة. أول الدروس: جعل العمل الموحد قاعديا متجسدا في تعاون بين الشغيلة في الفروع المحلية، بكل عنفوان وإقدام وحرية مبادرة وإبداع، لا مجرد انقياد لتوجيهات فوقية. ولعل أبرز مثال يعزز نهج العمل التحتي هو مصير “الجبهة الاجتماعية” التي ظلت اسما بلا مسمى بفعل الإحجام عن بنائها قاعديا.
ثاني مقومات البناء المتين لجبهة عمالية إسقاطُ كل جنوح إلى تغليب النزوع الكارثي السمى “فخر الانتماء”، أي التعصب لهذا الهيكل التنظيمي أو ذاك وجعله صنما يُعبد، بصرف النظر عن المصلحة العليا للطبقة العاملة. فلا فخر سواء للانتماء لطبقة عبيد الأجرة المنتفضين-ات على نظام العبودية الرأسمالي.
وثالث المقومات هجرُ كل تحقير لأشكال التعبئة التي يلجأ إليها الشغيلة المستاؤون من التدبير والهيمنة البيروقراطيين، والقصد هنا تلك التنسيقيات التي يبدعها الأجراء بالإفادة من سهولة خلق شبكات بفضل وسائل التواصل الاجتماعي. فمهما اعتور هذه الأشكال التنظيمية من نواقص، دلت التجربة أنها تنهض بدور بالغ الأهمية وحاسم، وأكثر مدعاة للأمل من انتظار قرارات إضراب مملاة ومتحكم فيها من فوق، ولينظر كل مشكك إلى تجربة حراك التعليم ودور التنسيقيات فيه. فيما تظل المهمة هي تجاوز تلك النواقص بما يتيح تطوير تلك المبادرات وإكسابها ما يضمن ثباتها واستمرارها في المكان والزمان.
فضلا عن هذا دلت تجارب متنوعة من العمل المشترك ضرر ما درج قسم من اليسار على ممارسته من سعي إلى الوصاية على حركة الجماهير. سعي قائم على وهم امتلاك الحقيقة وبخس قدر الفعل الجماهيري التلقائي غير المؤطر، وبالتالي استباحة دوس الديمقراطية بمختلف أشكال التلاعب والتحكم الفوقيين. ولنا في مصير تنسيقيات الغلاء في 2006-2007 درس بيلغ وثمين في هذا الصدد.
رابع المقومات التخلي عن منظور ضار بالنضال قائم على التركيز على الطابع المهني/ الاجتماعي للمطالب وتفادي المواجهة السياسية مع الدولة باعتباره أقصر الطرق لنيل المطالب، في حين دلت التجربة أنه أقصرها نحو الهزيمة.
إن معركة من حجم التصدي للعدوان الثلاثي تستدعي ابتكار أدوات عمل وحدوي، تُسقط كل اعتبار آخر، أدوات ليست غير لجان مشتركة بين نقابيي-ات مختلف النقابات، وتنسيقيات توحد فعل من بقي خارج النقابات بفعل تبرم مبرَّر ومشروع من خط القيادات المُفَرِّط في المكاسب والمتعاون مع الخصم.
الواجب النضالي ينادينا إلى معركة تاريخية حاسمة، فلنكن جميعا أهلا بالمسؤولية إزاء طبقتنا.
اقرأ أيضا