ملاحظات واستنتاجات بصدد فاتح مايو 2024
بقلم: م.ب
أبرزت مسيرات فاتح مايو 2024 استمرار تراجع القوة التنظيمية للحركة النقابية المغربية. ثمة طبعا خلف هذا التقهقر المطرد تأثير عقدين من تعميم هشاشة التشغيل بالقطاع الخاص، متمثلا في استحالة انبثاق تنظيم نقابي قي العديد من قطاعات العمل التي باتت عقود العمل محدودة المدة هي القاعدة السائدة فيها. فسيف عدم تجديد عقود العمل المحدودة، ومصير البطالة المحدق والمحتوم، يدفع الشغيلة إلى الحيطة من التعبير عن أي توق إلى تحسين أوضاع الاستغلال المفرط المفروضة عليهم. بهذا تكون البرجوازية قد نالت بقوة من مقدرة الطبقة العاملة على الدفاع عن نفسها، ومن ثمة تأمين معدلات الربح المرتفعة. ولا بد هنا من التذكير بدور القيادات البيروقراطية في تمرير مقتضيات مدونة الشغل المكرسة لهشاشة التشغيل، لا سيما مقاولات التشغيل المؤقت، وكذا التحذير من عزم البيروقراطيات على مجاراة البرجوازية ودولتها في مسعى إضفاء مزيد من الهشاشة على علاقة الشغل بتعديل مدونة الشغل التي جرى تأكيد العزم عليه في اتفاق الخيانة الموقع يوم 29 ابريل 2024.
وفضلا عن هذا العامل الهيكلي، يغيب عن فاتح مايو عدد هائل من شغيلة المناطق الصناعية والضيعات الفلاحية. إذ يتواصل إضعاف التنظيم النقابي في القطاع الخاص بالتنكيل بالنقابيين والنقابيات وطردهم، أي وأد أجنة التنظيم بإعطاء المثال لكل من يخطر على باله تأسيس نقابة. وقد مثلت حالة مقاولة «حليب الجودة» مثالا صارخا، من جهة على شراسة رأس المال بوجه تنظيم الشغيلة، حيث تم استئصال النقابة في هذه المقاولة في السنوات الأخيرة في أربعة مواقع: تارودانت، الجديدة، مراكش، الرباط. وهي من جهة أخرى مثال على تخلف الأجهزة النقابية عن واجب الدفاع عن الحق النقابي بالامتناع عن وضع إرجاع المطرودين لأسباب نقابية إلى عملهم شرطا لا بد منه لأي تفاوض مع أرباب العمل ودولتهم، وتعبئة القوى العمالية بمنهجية وحدوية تتخطى الحواجز المختلقة بين مختلف المركزيات دفاعا عن الحق في الوجود.
وثاني ما أوضحته مسيرات فاتح مايو 2024، تراجع مشاركة القطاعات ذات حد أدنى من التنظيم، أي قطاعات الدولة، وبصفة خاصة الوظيفة العمومية. ولا شك أن سياسة البيروقراطية النقابية المتعاونة مع الدولة قد نفرت قسما كبيرا من هؤلاء الشغيلة من كل نقابة، وجعلتها تبتكر تنسيقيات لأغراض آنية وفئوية، مثلما شهد قطاع التعليم بعد الخيانة الكبرى، خيانة تواطؤ قيادات فيما سماه الشغيلة نظام المآسي. وبهذا النحو باتت قوة الشغيلة تعبر عن نفسها خارج النقابات، ما أدى إلى المفارقة الكبيرة المتمثلة في حجم تاريخي غير مسبوق للمسيرات التي تخللت حراك التعليم طيلة ثلاثة، وشبه خلو مسيرات فاتح مايو من شغيلة التعليم. وجلي أن المفارقة هذه تجد تفسيرها في الطابع المطلبي الابتدائي لحراك التعليم (الذي تجلى أيضا بنحو مؤلم في غض الحراك الطرف عما يجري في غزة من إبادة لشعب فلسطين…) يعزى غياب شغيلة التعليم عن فاتح مايو بكثافة متناسبة مع القوة التي أبدوها في الحراك إلى مآل التنسيقيات الثلاث التي باتت قوقعات فارغة بعد أن انفضت أشكال التنظيم التحتية بعد تفكك الحراك.
فالتنسيقيات لم تبلغ مستوى من التنظيم في القاعدة (جموع عامة منتظمة، وهياكل منتخبة ومسيرة ديمقراطيا، ومفعمة بحياة داخلية نشيطة قوامها المشاركة الكثيفة للشغيلة، رجالا ونساء…). لا غرابة في مستوى ابتدائية وعي شغيلة حراك التعليم، فهم أجراء/ات فتكت بعقولهم الأيديولوجيا البرجوازية السائدة، اي استبطان واقع الحال الاجتماعي (نظام الاستغلال الرأسمالي) واعتباره هو الوضع العادي، وان لا بديل عنه، لكن موقعهم جعلهم هدفا لهجوم أدى الى دفاع تلقائي عن الذات في سياق خيانة قيادات القطاع.وعي مطلبي في مستوى دون نقابي، لا يدرك حتى ضرورة الاحتجاج يوم فاتح مايو، اليوم العمالي العالمي. ويمثل تبخر التنسيقية الموحدة أبرز معبر عن طبيعة هذا النوع من الشغلية، الرافض للنقابات متراجعا إلى ما دونها. هذا ما يضع على كاهلنا، نحن النقابيون والنقابيات، مهمة الإقناع بضرورة التنظيم الدائم (النقابة) وكيف أن التنسيقية لا تغني عنه، إقناع ينطلق من الحاجات المباشرة لإبراز فوائد النقابة وأدوارها، وشرح أسباب انحراف القيادات عن تلك الأدوار.
الخلاصة وجوب الاهتمام بقسم الشغيلة الذي صنع الحراك، وصنعه الحراك، دون انتماء نقابي، مهمة مركزية في مجال البناء النقابي، مع تأكيد على وجوب إرساء هذا البناء على أسس الكفاحية والديمقراطية، من جهة، وضرورة الرقي باهتمامات هؤلاء الشغيلة من الشأن المهني الآني المباشر الى قضايا البلد الكبرى ومسألة البديل المجتمعي الإجمالي عن واقع الاستغلال والقهر القائم.
ثالثا: يبدو ان مشاكل مختمرة منذ عقود بدأت تلقي تبعاتها على مسيرات فاتح مايو، فقد لوحظ انكماش كبير في مشاركة شغيلة وكالات توزيع الماء والكهرباء في مسيرات فاتح مايو بمدن عديدة، بعد ان كانوا فيها من القطاعات الوازنة بشريا. إذ ثمة حالة سخط على الجهاز النقابي بالقطاع بعد ما جرى لخدمات صناديق اجتماعية [صندوق المشاريع الاجتماعية والصندوق التعاضدي للضمان الاجتماعي والصندوق التعاضدي التكميلي والعمل الاجتماعي]، لا سيما سحب وزارة الداخلية التسيير المالي والإداري من «النقابيين» الذي بسطوا عليه أيديهم عقودا من الزمن.هذا كله وسط أجواء ما يروج من تصرف النائب الأول للأمين العام للاتحاد المغربي للشغل، في مالية الصناديق وفق أهوائه ولأغراض اغتنائه واغتناء أقاربه وأتباعه وحتى جهات «نقابية» أخرى. لقد شهد تاريخ الحركة العمالية حالات كثيرة من تورط نقابيين في نهب صناديق اجتماعية، منها حتى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي وتعاضديات (تعاضدية التعليم والتعاضدية العامة…)، وانفجرت فضائح عديدة تلطخ مصداقية النقابة. فبات شائعا لدى الشغيلة وعامة الشعب أن النقابيين في الفوق لصوص، وان كل الكلام عن النضال والتضامن إنما يخدع به المغفلون. ومن ثمة النفور الواسع من التنظيم النقابي. ولا ينضم الشغيلة الا تحت ضغط القهر والاستغلال، وبفكرة الاحتماء بالمنظمة النقابية حتى إن كان قادتها مجرد لصوص. ولا شك ان ما يدمر مصداقية النقابية هو الصمت الذي يلزمه الجميع، حتى اليسار، وعدم انبثاق خط معارض للقيادات سواء على صعيد ظواهر الفساد او فيما يخص الخط العام لتسيير النقابة ولنضالها.
خلاصة القول إن عوامل موضوعية، تهم طبيعة علاقة الشغل، وأخرى ذاتية تتعلق بأمراض الحركة النقابية، تتضافر لتنتج مشاهد فاتح مايو مؤسية، حيث الطبقة العاملة التي تحمل الاقتصاد ومجمل المجتمع على اكتافها، تستعرض ضعفها في يوم نضالها العالمي. واقع غير محتوم، ناجم عن سياسات يمكن مقاومتها وهزمها بعزيمة مناضلي طبقتنا ومناضلاتها.
اقرأ أيضا