استمرار كساد الرأسمالية العالمية الطويل الأمد مقابلة مع ميكائيل روبرتس MICHAEL ROBERTS

اقتصاد23 مايو، 2024

حاوره آشلي سميث ASHLEY SMITH

بينما تتشدق إدارة بايدن والمدافعون الليبراليون عنها بانتعاش الاقتصاد، لا تزال الرأسماليتين الأمريكية والعالمية متخبطة، على ما يبدو، في حالة ركود بلا نهاية. في هذه المقابلة التي أجراها آشلي سميث Ashley Smith من مجلة سبكتر Spectre، مع ميكائيل روبرتس حول حالة الاقتصاد الأمريكي والعالمي، وأسباب ما يسميه «الكساد الاقتصادي الطويل الأمد» وكيف يؤدي إلى تقاطب سياسي داخل البلدان وتنافس إمبريالي بين القوى المهيمنة والصاعدة في العالم.
ميكائيل روبرتس مؤلف كتاب The Long Depression : Marxism and the Global Crisis of Capitalism (Haymarket 2016) «الكساد الاقتصادي الطويل الأمد: الماركسية والأزمة العالمية للرأسمالية» (هايماركت، 2016) The Long Depression : Marxism and the Global Crisis of Capitalism (Haymarket 2016) ، بالاشتراك مع غولييلمو كارشيديGuglielmo Carchedi، «الرأسمالية في القرن الحادي والعشرين» (بلوتو، 2022) Capitalism in the 21st Century (Pluto, 2022) . كما أنه محرر مشارك في كتاب «العالم في حالة أزمة: تحليل عالمي لقانون المردودية عند ماركس» (هايماركت، 2018) A Global Analysis of Marx’s Law of Profitability (Haymarket, 2018) et Marx 200: A Review of Marx’s Economics (Lulu, 2020) وكتاب ”ماركس 200: نظرة عامة حول نظريات ماركس في الاقتصاد» (لولو، 2020) A Review of Marx’s Economics (Lulu, 2020). ينشر تعليقات وتحليلات منتظمة على مدونته «الانحسار الاقتصادي القادم» The Next Recession.

أثبتم عدم انتهاء مسار أزمة المردودية الطويل الأمد منذ الانحسار العظيم. إذن كيف تفسرون، في ظل هذه الظروف، انخفاض معدل التضخم، واستمرار تقلب سوق الشغل، و«الهبوط الناعم» الحالي وانتعاش الاقتصاد الأمريكي؟ وما طبيعة هذا الانتعاش، وما تناقضاته وحدوده؟

أكدت أن الاقتصادات الرأسمالية الكبرى كانت فيما أسميه حالة كساد طويل الأمد منذ 2008-2009 بالأقل. أعني أن معدلات نمو الناتج الداخلي الخام الحقيقي تباطأت على مدى القرن الحادي والعشرين، كما حال نمو الاستثمار والتجارة. وبعد كل انحسار أو انهيار (2001 و2008-2009 و2020)، لا يشهد ميل الإنتاج والاستثمار والتجارة إلى النمو عودة إلى مستوياته السابقة، بل يتراجع إلى مستوى أقل بكثير.
لم يحدث هذا الكساد الطويل الأمد إلا مرتين وحسب في تاريخ الرأسمالية الحديثة: في نهاية القرن التاسع عشر (بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، من عام 1873 إلى عام 1995)، وخلال الكساد العظيم في سنوات 1930 (من عام 1929 إلى عام 1946) واليوم (من عام 2008 إلى اليوم).
كثيرا ما يدور الحديث عن «الهبوط الناعم» للاقتصاد الأمريكي، وحتى عن عدم الهبوط إطلاقاً. وعلى عكس معظم التوقعات، شهد الاقتصاد الأمريكي نموا بنسبة 2.5% بالقيمة الحقيقية (بعد تضخم) في عام 2023، أي أسرع مما كان عليه في عام 2022. لكن كما يظهر الرسم البياني أعلاه، لا يزال معدل «انتعاش» اقتصاد الولايات المتحدة الأمريكية منذ نهاية الانهيار الناجم عن الجائحة في عام 2020 أبطأ من معدل الانتعاش بعد الانحسار العظيم في عامي 2008-2009، ومعدل الانتعاش في سنوات 2010 أبطأ مرة أخرى مما كان عليه في عقد سنوات 2000.
يتعلق الأمر بالناتج الداخلي الخام. إذا نظرنا إلى الدخل المحلي الخام، المفترض أن يكون متطابقاً نظريًا، كان نمو الدخل المحلي الخام أقل من نصف نمو الناتج الداخلي الخام، مما يشير إلى أن نمو الانتاج لم يؤد إلى نمو المداخيل. يعود السبب الرئيسي في ذلك إلى عدم تحول نمو الناتج الداخلي الخام إلى زيادة في المبيعات والمداخيل بنفس الوثيرة. وبالعكس، تراكمت مخزونات السلع المنتجة. وفي الواقع، تشهد الصناعة التحويلية الأمريكية أطول فترة ركود اقتصادي منذ أكثر من عشرين عامًا.
كانت الولايات المتحدة الأمريكية أقوى الاقتصادات الرأسمالية أداءً في عام 2023. وكانت الاقتصادات الأخرى المسماة بمجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى (أعلى 7 اقتصادات) في حالة انحسار اقتصادي (انكماش الناتج الداخلي الخام الحقيقي) – المملكة المتحدة وألمانيا؛ أو في حالة ركود – فرنسا وإيطاليا واليابان وكندا. بلغ متوسط نمو الناتج الداخلي الخام الحقيقي في عام 2023 في الاقتصادات الرأسمالية المتقدمة نسبة 1.3% وحسب (مقارنة بـنسبة 1.4% في عام 2022).
بالإضافة إلى ذلك، نحدد هنا معدل نمو الناتج الداخلي الخام الحقيقي. في حالة بلدان مثل الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة وكندا وأستراليا وغيرها من البلدان، يرجع نمو الناتج الداخلي الخام الحقيقي أساساً إلى زيادة عدد العمال، وخاصة إلى ارتفاع حاد في عدد المهاجرين البالغين سن الشغل في هذه البلدان.
إذا نظرنا إلى نمو الناتج الداخلي الخام الحقيقي للفرد، يبدو «الانتعاش» أضعف بكثير. وفي الواقع، سجل الاقتصاد الأمريكي نمواً سنويًا يناهز نسبة 1.1% وحسب للفرد الواحد منذ بداية الجائحة في عام 2020، في حين أن اقتصادات مجموعة السبع الأخرى انكمشت أو شهدت ركودًا.
أجل، تشهد الولايات المتحدة الأمريكية واقتصادات مجموعة السبع الأخرى «تشغيلاً بدوام كامل» تقريبًا وفقًا للإحصاءات الرسمية، على الرغم من أن معدل البطالة الجماهيرية في الولايات المتحدة الأمريكية قيد الارتفاع حاليًا. لكن بحلول عام 2023، كانت كل الزيادة الصافية في عدد مناصب الشغل في الولايات المتحدة الأمريكية بدوام جزئي. ارتفعت مناصب الشغل بدوام جزئي بمقدار 870000 منصب عمل، في حين بالكاد شهدت أعلى مناصب الشغل أجراً بدوام كامل (الصافية) زيادة.
واستشرافًا للمستقبل، يتوقع البنك العالمي بلوغ نمو الناتج الداخلي الخام الحقيقي في العالم نسبة 2.4% وحسب هذا العام (ويشمل ذلك الهند والصين وإندونيسيا وغيرها من الدول التي ستشهد نمواً بنسبة 5-6%). وسيكون هذا هو العام الثالث على التوالي الذي يشهد نمواً أضعف مما كان عليه في الاثني عشر شهرًا السابقة.
وفي الواقع، تشير تقديرات البنك العالمي إلى أن اقتصاد العالم في طريقه إلى أسوأ نصف عقد من النمو منذ 30 عامًا. وبالمثل، من المتوقع أن يبلغ نمو التجارة العالمية في عام 2024 نصف متوسط ما كان عليه في العقد الذي سبق الجائحة. انكمشت تجارة السلع بالعالم في عام 2023، معبرة عن أول انخفاض سنوي خارج فترات الانحسار العالمي في السنوات العشرين الماضية. من المتوقع أن يكون انتعاش التجارة العالمية في 2021-24 الأضعف بعد انحسار اقتصادي عالمي في السنوات الخمسين الماضية.
تشكل جميع هذه البيانات معدلات متوسطة. إذا أخذنا بعين الاعتبار انعدام المساواة في المداخيل والثروات بجميع الاقتصادات الكبرى، فإن وضع النصف الأدنى من الأسر أسوأ بكثير مقارنة بالنصف الأعلى منها. لم تشهد أغنى الأسر التي تمثل نسبة 1% من الأسر في العالم بأي وجه مثل هذه الزيادة في ثروتها ومداخيلها، بينما لم يشهد النصف الأدنى بأي وجه مثل هذا الانخفاض الدائم في مداخيلها الحقيقية وثروتها.
في سنوات الجائحة وأزمة تكلفة المعيشة منذ عام 2020، استحوذت الأسر الأغنى التي تمثل نسبة 1% من الأسر في العالم على 26000 مليار دولار (نسبة 63%) من إجمالي الثروات الجديدة، بينما ذهب 16000 مليار دولار (نسبة 37%) إلى بقية أسر العالم مجتمعة. حصل ملياردير واحد على ما يناهز 1.7 مليون دولار مقابل كل دولار من الثروة العالمية الجديدة التي كسبها شخص من نسبة السكان الأفقر التي تمثل 90% من سكان العالم.
يؤدي بنا هذا إلى سؤالكم حول التضخم. بات مؤكداً، بفضل جملة وثائق بحثية، أن سبب ذروة ارتفاع معدل التضخم الذي أعقب جائحة كوفيد-2021-23 كان متمثلاً في عوامل مرتبطة بالعرض، يعني ارتفاع أسعار الطاقة والمواد الغذائية في العالم، وانهيار سلاسل التوريد والتجارة ونقل السلع والمواد الخام، ونقص عدد العمال الذين لم يستعيدوا مناصب شغلهم بعد جائحة كوفيد-19، وضعف انتعاش إنتاجية اليد العاملة التي استرجعت وظائفها. لم يكمن السبب في عرض نقدي «مفرط» من البنوك المركزية، ولا «طلب مفرط» ناجم عن الانفاقات الحكومية، ولا «زيادات مفرطة في الأجور» مؤدية إلى «دوامة الأسعار – الأجور».
هذا ما أكدته البنوك المركزية والحكومات في جميع أنحاء العالم. لكن نعلم أن الأسعار ارتفعت بنسبة 20% في المتوسط (وفقًا للأرقام الرسمية) في جميع الاقتصادات الكبرى خلال هذه الحقبة، مما يفوق بكثير الزيادات في الأجور. وفي الواقع، كان ما يحدث أقرب إلى «دوامة أسعار وأرباح»، حيث شهدت أرباح مقاولات قطاعات الطاقة والتكنولوجيا والمالية والمواد الغذائية ارتفاعاً حاداً.
لا يرجع انخفاض معدلات التضخم في الاقتصادات الكبرى أثناء عام 2023 إلى قيام البنوك المركزية برفع أسعار الفائدة. بل يعود أساسا إلى انخفاض أسعار الطاقة والمواد الغذائية، والذي امتد تأثيره إلى قطاعات أخرى. مع ذلك، تسعى الحكومات والبنوك المركزية إلى كسب الفضل في انخفاض معدل التضخم. لكن انخفاض معدل التضخم لا يعني انخفاض الأسعار؛ بل يعني تباطؤ ارتفاع الأسعار (في ارتفاع بالفعل بنسبة 20% منذ عام 2021، كما قلت).
واليوم، تتعرض أسعار الطاقة والمواد الغذائية لخطر الارتفاع مرة أخرى بسبب تداعيات النزاع بين روسيا وأوكرانيا وما تقوم به إسرائيل من تدمير في غزة، والتي بدأت تؤثر على المناطق المنتجة للطاقة والمواد الغذائية. أتوقع عدم تحقق أهداف البنك المركزي المتمثلة في بلوغ معدل تضخم قدره 2% سنويا في مستقبل منظور.

ضخت إدارة بايدن أموال طائلة في الاقتصاد الأمريكي، خاصة من خلال نهج نسخة من سياسة صناعية رصدت مليارات لصناعة التكنولوجيا الفائقة. ما مدى نجاح بايدن وما المشاكل التي واجهت برنامجه؟

صحيح أن إدارة بايدن استثمرت 500 مليار دولار من المال العام (على مدى عشر سنوات) في محاولة لإنعاش الاقتصاد وتشجيع الاستثمار الخاص. لكن أساس مبدأ هذه السياسة الصناعية المزعومة قائم في الواقع على إرشاء المقاولات للاستثمار من خلال إعفاءات ضريبية وإعانات وقروض ومنح.
تظل قرارات الاستثمار في أيدي مجالس إدارة المقاولات، وتعود الأرباح المحققة إليها وليس إلى الحكومة. ولا تمر برامج الاستثمار العام عبر مقاولات عامة أو مقاولات تابعة للدولة، بل من خلال إعانات مقدمة للقطاع الخاص. ويتمثل الهدف في «مزاحمة» الاستثمار الخاص، على حد تعبير إدارة بايدن.
في حالة قانون الرقائق الالكترونية، تذهب مبالغ ضخمة من الأموال العامة إلى مقاولات التكنولوجيا الغنية جدًا بالفعل قصد تشييد مصانع لصناعة محلية أكثر تكلفة بكثير. ولا يزال الدعم المقدم لمقاولات الوقود الأحفوري أعلى بكثير من الدعم المالي المخصص لقطاع الطاقات المتجددة. ويُوظف جزء كبير من هذه الأموال في صنع أسلحة وإثراء مقاولات التسليح.
في عام 2023، ازدهرت التكنولوجيا بفضل زيادة أشكال الدعم الحكومي المقدم لمقاولات التكنولوجيا. أقر قانون تخفيض معدل التضخم تقديم حوافز ضريبية لمقاولات تصنيع معدات الطاقة المتجددة والقائمين على شراء السيارات الكهربائية. ينص قانون الرقائق الالكترونية والعلوم على منح دعم بقيمة 39 مليار دولار لصناع أشباه الموصلات.
مع ذلك، هل أدى ذلك إلى تحفيز الاستثمار الأمريكي؟ صحيح أن تشييد المصانع حقق قفزة إلى أمام، لكن قطاعات أخرى لم تشهد نموًا ضعيفًا – فطلبات شراء المنتجات الرأسمالية، باستثناء الطائرات والمواد العسكرية، قيد الانخفاض منذ ما يناهز عامين.
بالإضافة إلى ذلك، خصص جزء كبير من الأموال لقطاعات تخلق قدرا قليلا من مناصب الشغل، بحيث يبقى معظم العمال الأمريكيين في مناصب شغل منخفضة الأجر، وغالبًا مؤقتة، مع انعدام آفاق مسار مهني ولا رعاية صحية ولا تقاعد.
لا تحظى تدابير بايدن بالتمويل إلا جزئيًا من خلال زيادة الضرائب على الأغنياء – لم يتم التراجع عن جزء كبير من التخفيضات الضريبية التي أقرها ترامب. بلغت الانفاقات على التسلح والدفاع مستويات قياسية، في حين أن الانفاقات على الخدمات العامة بخلاف الضمان الاجتماعي والرعاية الطبية تنخفض بالقيمة الحقيقية.
والأسوأ من ذلك هو أن الإنفاقات على الفوائد المدفوعة إلى وول ستريت والمستثمرين الأجانب لشراء ديون الحكومة الأمريكية باتت أكبر من الانفاقات على الخدمات العامة الاختيارية. تعني خطة بايدنوميكس [السياسات الاقتصادية لإدارة جو بايدن] الآن «مزاحمة الاستثمار الخاص» على حساب «مزاحمة» الخدمات العامة، على المستوى الفيدرالي ومستوى الولايات على حد سواء.

يحتفي اقتصاديون ليبراليون من أمثال بول كروغمان باقتصاد بايدن ويدّعون أنه حسّن ظروف العمال. وبوجه تدني معدلات تأييد سياسات بايدن، يؤكدون تعارض أفكار العمال مع ظروفهم المادية. كيف تردون على هذه الادعاءات؟

يتحدث كروغمان عن «ردود الفعل حول الانكماش» vibécession، وهذا يعني أنه على الرغم من أن الاقتصاد الأمريكي في حالة تحسن على ما يبدو، لا يدرك أمريكيون عديدون ذلك. بل يعتقدون أن الوضع يزداد سوءًا بالنسبة لهم. لا يعني ذلك تصوراً خاطئاً كما يعتقد كروغمان. إن إثبات أن الاقتصاد الأمريكي على ما يرام إذا نظرنا إلى الناتج الداخلي الخام الحقيقي (لكن كما قلت سابقًا، حتى هذا ليس جيدًا)؛ مختلف تماما عن تأكيد اعتبار معظم الأمريكيين بأن مستوى معيشتهم في تحسن.
لنأخذ التضخم على سبيل المثال. انخفض معدل التضخم الرسمي بسرعة إلى حد ما، لكن هذا المقياس لا يأخذ في الحسبان نفقات معظم الأمريكيين المهمة- خاصة أسعار الفائدة على الرهن العقاري والائتمان، التي ارتفعت وظلت عالية. صحيح أن أسعار المواد الغذائية والطاقة انخفضت إلى حد ما، وأيضاً أسعار السلع الكهربائية، لكن تكلفة الخدمات العامة والنقل والضرائب والخدمات الأخرى لم تنخفض إطلاقاً. تشير وثيقة بحثية حديثة أعدها لاري سامرز، الخبير الكينزي، إلى معدلات التضخم ستتضاعف وتفسر حوالي نسبة 70% من انحدار ثقة الأمريكيين تجاه الاقتصاد، إذا تم إدراج هذه التكاليف في بيانات التضخم الرسمية.
قد تكون الأسواق المالية، التي تقودها قطاعات التكنولوجيا والإعلام، مزدهرة نظرًا لسياسة بايدنوميكس [السياسات الاقتصادية لإدارة جو بايدن] واحتمال انخفاض أسعار الفائدة، لكن مستوى معيشة معظم الأسر الأمريكية لا يشهد تحسناً.

كان الانتعاش بعد الانحسار الناجم عن الجائحة متفاوتًا في جميع أنحاء العالم. بينما تعافت الولايات المتحدة الأمريكية، تكافح غيرها من مراكز تراكم رأسمال رئيسية في بلدان مجموعة السبع لإنعاش النمو، ولم تحقق سوى معدلات نمو منخفضة في أفضل الأحوال. تستمر الصين في التطور، لكنها شهدت أيضًا معدلات نمو متدنية. كيف يمكن تفسير الطابع المتفاوت للانتعاش العالمي؟

أجل، كما أوضحت بإيجاز أعلاه، لم تتعاف معظم الاقتصادات الرأسمالية المتقدمة الكبرى إلا قليلاً من انعكاسات الانهيار الناجم عن الجائحة. ليس الوضع أفضل حتى في «اقتصادات النمو» في بلدان مجموعة العشرين G20 الأخرى، مثل كوريا والصين والبرازيل وجنوب أفريقيا، حيث تباطأ النمو أيضًا.
والوضع أسوأ من ذلك بالنسبة لبلدان الجنوب المسماة فقيرة. لم تكن عائدات صادرات منتجاتها الأساسية كافية لتغيير الوضع، ولا يزال معدل التضخم مرتفعا، وتعاني هذه البلدان خاصة من عبء «فرط الاستدانة»، أي أنها عاجزة بشكل متزايد بوجه تنامي تكاليف ديونها الخارجية، نظرا لارتفاع أسعار الفائدة وقوة الدولار الأمريكي.

للتحكم بالتضخم خلال فترة الانتعاش، رفعت البنوك المركزية أسعار الفائدة. ما التأثير الذي سينعكس على ما يسمى بالمقاولات «الزومبي» في بلدان الشمال؟ ما التأثير على البلدان المثقلة بالديون؟ كيف كان رد صندوق النقد الدولي والبنك العالمي على أزمة الديون الجديدة؟

امتدت أزمة الديون إلى عدد من بلدان الجنوب، من مصر إلى باكستان، ومن الأرجنتين إلى كولومبيا، ومن سريلانكا إلى ميانمار. وبشكل عام، طلب صندوق النقد الدولي والبنك العالمي «تخفيف عبء الديون»، أي تخفيض سعر الفائدة على الديون أو تمديد مدة الاستدانة. كما سعيا إلى التفاوض حول «إعادة هيكلة» الديون مع المستثمرين الأجانب وصناديق التحوط والحكومات. لكن لم يدعوا في أي لحظة إلى إلغاء هذه الديون المرهقة أو تحرير البلدان الفقيرة من فخاخ الديون.
لكن أزمة ديون تختمر أيضاً في الاقتصادات الرأسمالية المتقدمة. تتحدث وسائل الإعلام عن العجز الكبير في الميزانيات وارتفاع الدين العام في اقتصادات مجموعة الدول السبع، لكنها بالكاد تذكر مشكلة أهم: ارتفاع ديون القطاع الخاص (بالنسبة للأسر والمقاولات). ينبغي عدم تجاهل أن جزءاً كبيراً من ديون القطاع العام الحالية يرجع إلى خطة إنقاذ البنوك أثناء الانهيار المالي العالمي ومنح مساعدات كبيرة لضحايا الجائحة. ولا يزال القطاع العام (أي معظم السكان) يدفع ثمن فوضى القطاع الخاص.
تخبرنا وسائل الإعلام عن تحقيق المقاولات الأمريكية أرباحًا ضخمة وبلائها بلاءً حسنًا. لكن هذا صحيح وحسب بالنسبة لحفنة مقاولات رائدة في قطاعات الطاقة والتكنولوجيا وعالم المال. تحقق الغالبية العظمى من المقولات في أمريكا الشمالية وأوربا مردودية متدنية نسبيًا على استثماراتها. وبالإضافة إلى ذلك، يمثل ما يناهز نسبة 20% من المقاولات مقاولات «زومبي»، بمعنى أنها لا تحقق أرباحًا كافية لتغطية تكاليف خدمة ديونها وبالتالي تضطر إلى الاقتراض أكثر للقيام بذلك. كما أن هناك فئة أخرى من مقاولات تسمى «ملائكة متساقطة»، أي مقاولات كانت في حالة جيدة لكنها الآن على وشك أن تصبح مقاولات «زومبي».
تتزايد حالات الإفلاس في الاقتصادات الكبرى، لكن لم تصل بعد إلى مستوى الانحسار العظيم. يرجع ذلك إلى انقاذ البنوك والقروض الحكومية هذه المقاولات في محاولة لمساعدتها على البقاء. بالإضافة إلى ذلك، عقدت هذه المقاولات اتفاقات للحصول على ديون بأسعار فائدة متدنية نسبيًا قبل رفع البنوك المركزية أسعار الفائدة.
لكن هذا يعني عدم «تطهير» الاقتصاد الرأسمالي من القطاعات الضعيفة وغير المنتجة. ما يمنع الاقتصاد برمته من تحفيز الإنتاجية وزيادة المردودية في غيرها من القطاعات.

كيف يمكن التغلب على أزمة استمرار المردودية في خضم ما سميتموه بالكساد الطويل الأمد في حقبتنا؟
استمر الكسادان السابقان على فترات متقطعة لمدة عشرين عامًا وحتى ما يفوق ذلك. استمر الكساد الحالي مدة تناهز 15 عامًا. وقد يستمر حتى نهاية العقد الحالي على ما يبدو. ما الذي يمكن أن يضع حداً له؟ حسناً، يجب تغيير متوسط مستوى المردودية في القطاع الرأسمالي بالاقتصادات الكبرى جذرياً.
كيف يمكن أن يحدث ذلك؟ أولاً، يلزم اندلاع أزمة خطيرة أخرى لمحو المقاولات غير المربحة من النظام. تم تفادي ذلك حتى الآن بسبب التأثير الذي قد يخلفه ذلك على مناصب شغل مئات ملايين الناس ومداخيلهم. كما أن العواقب السياسية لمثل هذا التدبير بالنسبة للسلطة القائمة جمة للغاية بحيث لا يمكن طرحها الآن.
لكن إذا حدث ذلك في فترات ممتدة من خمس إلى عشر سنوات قادمة، ونجحت الأنظمة الحاكمة في فرض تقشف شديد وتخفيض مستوى المعيشة، فإن زيادة مردودية الرأسمال قد تشجع الاستثمار في التكنولوجيات الجديدة مثل الذكاء الاصطناعي والروبوتات والتكنولوجيا الحيوية – مما قد يمهد الطريق لازدهار الرأسمالية من جديد. هذا ما حدث في نهاية كساد القرن التاسع عشر، وفي سنوات 1890، وبعد الحرب العالمية الثانية: تم استغلال التكنولوجيات المخترعة أثناء الكساد بعد ذلك.
يأمل المتفائلون في أن يطلق الذكاء الاصطناعي ونموذج اللغة الكبير «سنوات صاخبة»، على غرار ما شهدتها الولايات المتحدة الأمريكية من «عشرينات صاخبة» بعد انتهاء وباء الإنفلونزا الإسبانية في 1918-1920 والانحسار الذي أعقبه في 1920 و1921. لكن بعض الأمور اختلفت اليوم. كانت الولايات المتحدة الأمريكية في عام 1921، قوة صناعية مزدهرة متفوقة على أوربا التي مزقتها الحرب وبريطانيا المتدهورة. أما اليوم، فيشهد الاقتصاد الأمريكي تراجعاً نسبياً، ويتخبط التصنيع في حالة ركود، وتواجه الولايات المتحدة الأمريكية تهديد صعود الصين بقوة.
تكمن المشكلة باطراد في صعوبة حصول الرأسمال العالمي على أسواق جديدة ومزيد من اليد العاملة لاستغلالها، بوجه طبقة عاملة عالمية لم تكن بهذا العدد بأي وجه. تتشكل غالبية الناس العظمى اليوم من العمال، كما أن السواد الأعظم في مناطق حضرية. علاوة على ذلك، يواجه الرأسمال اليوم، في القرن الحادي والعشرين تحديات هائلة لم تكن قائمة فيما مضى: تغير المناخ وظاهرة الاحتباس الحراري، وأوجه انعدام المساواة الهائلة، وتنامي أشكال نزوح السكان على نطاق عالمي، الخ.
لماذا قوض الكساد الطويل الأمد الأحزاب الرأسمالية الرئيسية في الدول القومية بالعالم وكيف حصل ذلك؟ كيف سعى اليمين الجديد إلى الاستفادة منه؟ وهل لديه حلول؟
أدى ضعف النمو والاستثمار الرأسماليين وتفاقم انعدام المساواة إلى فرض الحكام التقشف والخصخصة وتقليص الخدمات العامة وإلغاء قوانين الضبط على الأسواق والبيئة والصحة وتحرير حركة الرساميل العالمية وسحق النقابات، الخ. قبلت الأحزاب السائدة هذه السياسات واعتمدتها في «غياب بديل» (TINA)، ليس في «يمين الوسط» وحسب، بل غالباً أكثر من ذلك في يسار وسط الاشتراكية الديمقراطية.
لكن مع فرض هذه التدابير على مدى عقود، لا تلبي الرأسمالية حاجات مليارات الأشخاص. تتمثل العاقبة السياسية في تنامي انهيار الدعم الذي يحظى به «التيار السائد»، خاصة اليسار الليبرالي ويسار الاشتراكية الديمقراطية. شهد الدعم الذي تتمتع به هذه الأحزاب انهياراً، في كل مكان، في حين اكتسبت الأحزاب المسماة «شعبوية» في اليمين المتطرف دعمًا متزايدًا بل شاركت في الحكومة بأوربا. تبرز ظاهرة الترامبية الأمريكية في جميع أنحاء أوربا وأمريكا اللاتينية وحتى في أجزاء من آسيا.
ماذا يقترح اليمين الجديد؟ يزعم أن فشل الرأسمالية ناجم عن المهاجرين و«العولمة» والمقاولات الكبرى وحركة «اليقظة» wokeisme التي نشأت أصلا تنبيها إلى التحيز والتمييز العنصري وأصبحت تشمل وعيا أوسع بانعدام المساواة الاجتماعية. يريدون نهج سياسات حمائية للتجارة والصناعة، والانسحاب من المنظمات الدولية، وطرد المهاجرين، خاصةً المختلفين عنهم في لون بشرتهم أو دينهم، وإنهاء المساعدات الاجتماعية للفقراء وخصخصة الخدمات العامة.
تتمتع هذه السياسات بقوة جذب معينة في هذه اللحظة. وتعكس مؤشرات البذور الأولى للفاشية الجديدة. ستنمو هذه البذور بقدر ما ظل اليسار الاشتراكي في حالة فوضى وعجز عن بناء حركة فعالة.
ما تأثير الكساد الطويل الأمد وتوجه مختلف الدول نحو السياسة الصناعية والحمائية على العولمة؟ كيف سيؤدي ذلك إلى بروز نزاعات جديدة وتنافسات داخل نظام الدولة؟ كيف سيكون تأثير ذلك على الرأسمالية العالمية؟
احتد التنافس الجيوسياسي، خلال فترة الكساد في أواخر القرن التاسع عشر، بين القوى السائدة القديمة (بريطانيا وفرنسا في تلك الفترة) والقوى الصاعدة الجديدة (الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا). انطلق العالم في سباق تسلح، واعتمد تدابير حمائية تجارية وغيرها، وفي نهاية المطاف دخل في حالة حرب. أدى الكساد العظيم في سنوات 1930 إلى عاقبة مماثلة.
بعد عام 1945، كانت الرأسمالية الأمريكية تسود وترسي قواعد التجارة والاستثمار والسياسة في العالم. لكن الهيمنة الأمريكية شهدت تراجعاً نسبيًا في سنوات 1970 مع صعود ألمانيا واليابان بقوة. أدى انهيار الاتحاد السوفييتي في نهاية سنوات 1980 إلى ضخ زخم جديد في «عولمة» الرأسمال الأمريكي، حيث قامت البلدان الإمبريالية بنقل إنتاجها إلى الخارج وقلصت الحواجز بوجه حرية حركة رساميلها.
إلا أن الانحسار العظيم غيّر كل ذلك. استنفدت العولمة قوتها، وتراجعت الهيمنة الأمريكية وبرز عملاق اقتصادي جديد، أي الصين، مهدداً الكتلة الإمبريالية. كما رفضت روسيا أيضًا تدريجياً القيام بدور الرأسمال الأمريكي والأوربي.
دخلنا عالمًا متعدد الأقطاب على نحو متزايد. لا تزال الإمبريالية الأمريكية سائدة، لكنها تسعى جاهدة إلى خنق القوة الاقتصادية الصينية وتطويقها وسحق تناميها. هذا هو النزاع الجيوسياسي الكبير في سنوات 2020، مع وجود خطر حقيقي متمثل في نشوب نزاع عسكري، كما حدث في نهاية أشكال الكساد السابقة.

المصدر:
https://spectrejournal.com/the-persistence-of-global-capitalisms-long-depression/
ترجمة جريدة المناضل-ة

شارك المقالة

اقرأ أيضا