في الذكرى السابعة والثلاثين لمهدي عامل، المفكر والقيادي الثوري الراحل
(إكراماً لذكرى مفكر وقائد ثوري مميَّز، سقط، ذات يوم، على يد قوى دينية بشعة، أعيد، هنا، نشر هذا النص الذي ألقيته في الذكرى الخامسة عشرة لرحيله، في أيار/مايو2002 ،في ندوة أقيمت في دار الندوة(بيروت)، تكريماً للعمل النضالي بالغ الاهمية الذي اضطلع به. وقد نشر هذا النص، بعد أشهر قليلة من ذلك التاريخ، في خريف2002 ، في مجلة الطريق).
دور الطبقة العاملة القيادي الثوري في فكر مهدي عامل
بقلم؛ كميل داغر
ليست هذه المداخلة أكثر من مساهمة متواضعة في تكريم ذكرى مفكر ومناضل ثوري كانت حياته الواعية كلـُّها تقريباً مرتبطة بقضية الطبقة العاملة، بما هي الطبقة ُ الوحيدة القادرة على إنجاز المهام التاريخية التي تتيح خروج البشرية جمعاء من مملكة الضرورة إلى مملكة الحرية، بحسْب التعبير الماركسي المشهور، ولا سيما عبر الكتابات الغزيرة التي تركها لنا، وبالتحديد لكل من تعنيهم بشكل مباشر عملية ُ التغيير الثوري. وهي عملية ٌ لم يعد الهدف منها في ظروف عالمنا المعاصر يقتصر على إلغاء اضطهاد الإنسان للإنسان، وإحلال ِ مجتمع العدالة والرخاء المعمَّم والمساواة، بل بات يتوقف عليها أيضاً إنقاذ ُ شتى أشكال الحياة على كوكبنا، المهدَّد بصورةٍ داهمةٍ، في ظلِّ سيطرةِ قوانين الربح التي لا تعترف بحدودٍ للاستغلال وممارسة الظلم الاجتماعي والانتهاك البشع للكرامة الإنسانية، لكن كذلك للتدمير المنهجي المتواصل للبيئة، وحتى لإمكانات استمرار الوجود المادي للبشر وباقي الكائنات الحية على كوكب الأرض.
هذا وسينصبُّ هذا النص، انصباباً أساسياً، على موضوعةٍ كان لها موقعٌ أثيرٌ جداً في فكر مهدي عامل ونتاجه النظري، هي تلك المتعلقةَ بدور الطبقة العاملة القياديِّ الثوري في عملية التغيير، وبوجهٍ أخصَّ في مجتمعنا العربي، الذي يسود فيه، بحسب الرؤيةِ العاملية، نمطُ إنتاج ٍ مُعَوَّقٌ، هو ذلك الذي يسميه نمط َ الإنتاج الرأسمالي الكولونيالي، مع ما تطرحه عملية ُ التحويل الثوري لعلاقات الإنتاج في مواجهته من شمول عملية التحويل تلك، ليس فقط ما يسميه “الكلَّ الاجتماعي” بل كذلك الفكرَ العربيَّ السائد، أو بتحديدٍ أدقَّ، الأيديولوجية الطبقية الخاصة بالبرجوازية الكولونيالية العربية المسيطرة. وتتحدد هذه العملية لدى الرجل بأنها عملية ُ تحررٍ وطني، لكن ضمن فهم ٍ خاص ٍ سوف نسعى لتعيين ملامحه وعناصره، مبرزين المهام والأهدافَ الأساسيةَ التي تشتمل عليها، لكن كذلك الطبقة َ الاجتماعية َ التي ستضطلع بإنجازها، عبر القيادة الفعلية لتحالفٍ طبقيٍّ ثوري واسع. على أن نرى بعد ذلك كيف يحدد مهدي أزمة حركة التحرر الوطني العربية، وكيف يتصور حلها، خاتمين بتصورٍ نقديٍّ سريع لتصورات وأفكار تحسُن الإشارة إلى مكامن الخلل فيها، في سياق الدعوة إلى حوار هادف وشامل سيكون الانخراط فيه مهمة جدية أمام جميع المهتمين بتجاوز المأزق العميق الحالي لحركة التحرر الوطني العربية.
أولاً : قضية التحرر الوطني لدى مهدي عامل
يتحدث مهدي عن بدء تاريخ ِ تكوُّنِ بنيةِ علاقاتِ الإنتاج الرأسماليةِ، في بلداننا، مع التغلغل الإمبريالي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ويرى أن ذلك أدَّى إلى نشوءِ برجوازيةٍ كولونياليةٍ، كطبقةٍ مسيطرةٍ جديدة تتكون عناصرها من عناصر الطبقة المسيطرة السابقة، أو من بعض ٍ منها، وذلك في إطار علاقات إنتاج ٍ جديدةٍ لها طابعٌ كولونيالي، بسبب تبعية هذه الطبقة للبرجوازية الإمبريالية، وفي سياق علاقةِ تفاوتٍ بنيويٍّ، هي علاقة ُ اختلافٍ في بنية علاقات الإنتاج، التي يحددها نمطُ الإنتاج الرأسمالي، في شكليه التاريخيين المجدَّدَين، الإمبريالي من جهة، والكولونيالي من الأُخرى. ويوضح مهدي كيف أن هذه العلاقة عينَها “هي التي تحدد الميل العام للإنتاج الإمبريالي نحو ضرورة القضاء على علاقات الإنتاج السابقة عليها كلها، وهي التي تحدد الميلَ العامَّ للإنتاج الكولونيالي نحو الإبقاء على هذه العلاقات السابقة” ، بحيث تستمر في ظل الشكل الكولونيالي أنماطُ إنتاجٍ سابقة ٌ عليه يكون هو النمطُ المسيطرُ ضمنها، علماً بأن البرجوازية َ الكولونيالية َ، في مساعيها للتكيف مع الشروط الجديدة، إنما يفرض عليها ذلك نوعاً محدوداً من تفكيك تلك العلاقات السابقة من الإنتاج يستدعيه تجددُ علاقةِ التبعية البنيوية للإمبريالية. “معنى هذا، وفقاً لما يراه مهدي، أن البرجوازية الكولونيالية، في صيرورتها الطبقية، وبسببٍ من تلك العلاقات بالذات، في مأزق ٍ طبقيٍّ يولِّد في وعيها الأيديولوجي تمزقاً دائماً بين ما تطمح إليه، من تماثلٍ طبقيٍّ بالبرجوازية الإمبريالية، هي في عجزٍ بنيويٍّ عن تحقيقه، وواقع ٍ فعلي هي فيه في تخالفٍ مستمر مع ما تطمح إليه، لكنها ترفضه” . وضمن عجزها هذا، تجد مصلحتَها الطبقية الأساسية في تأمين التحققِّ الآليِّ المستمرِّ لعمليةِ تجددِ تلك البنيةِ من علاقات الإنتاج، التي، بتجددها، تؤمِّنُ لها تأبُّدَ سيطرتها الطبقية، مع ما يعنيه ذلك من تجددٍ مستمر لأزمة التبعية هذه، وما يلازمها من أزمة عميقة في عملية تطور الواقع الاجتماعي، ومن استمرارٍ كثيفٍ للنهب الإمبريالي لثروات بلداننا وعمل منتجيها.
وبالطبع، فعملية الخروج من هذا الواقع لا يمكن أن تتم إلا عبر صراع طبقيٍّ قاس ٍ ومرير، لا بد من أن يخاض ضد السيطرة الإمبريالية، لكن في الوقت ذاته ضد الطبقة البرجوازية الكولونيالية، باتجاه القضاء عليهما؛ وليس كما يروِّج له الفكر البرجوازي، طامساً قضية التحرر الوطني، بحيث تبدو المشكلة كأنها مجردُ “تخلفٍ” كمي، أو تأخر زمني في تطور الرأسمالية عندنا، فتنقلبُ المهامُّ الأساسية، بحسب هذا الفكر، من ضرورةِ التحويل الثوري لعلاقات الإنتاج إلى ضرورة اللحاق “بتقدم الغرب”.
يقول مهدي: “لو طُرحت القضية ُ الأساسية، في شكلها الصحيح، كقضيةِ التحرر الوطني من الإمبريالية، لتحددت المهمة ُ الأساسية للشعوب العربية في ضرورة التحويل الثوري لبنية علاقات الإنتاج الكولونيالية، التي بتجددها المستمر تتجدد السيطرة الإمبريالية، ويتأبدُ خضوعُنا لهذه السيطرة، ويتأبدُ بالتالي ما يسمى ب “تخلفنا”. ولو تحددت المهمة الأساسية لحركة تاريخنا المعاصر بهذا الشكل، لاتضح لنا أن تحققها يمر بالضرورة عبر عمليةٍ معقدة من الصراع ضد البرجوازيات العربية المسيطرة ، التي تجد مصلحتها الطبقية الأساسية في تأمين التحقق الآلي المستمر لعملية تجدد تلك البنية من علاقات الإنتاج الكولونيالية التي، بتجددها، تؤمِّن لها تأبُّدَ سيطرتِها الطبقية” .
أما هذا التحويل الثوري لعلاقات الإنتاج، المطلوب من حركة التحرر الوطني العربية، فهو بحسب مهدي، يُفترَض أن يتم في مواجهةٍ حاسمةٍ، ليس فقط مع واقع السيطرة الإمبريالية، بكل تجلياته، بل أيضاً مع علاقات الإنتاج الرأسمالية القائمة، في شكلها الكولونيالي، بحيث يفضي ذلك إلى الانتقال إلى الاشتراكية. “فلا سبيل إلى تحرر وطني فعلي من الإمبريالية ـ يقول ـ إلا بقطع ٍ لعلاقةِ التبعية البنيوية بها هو بالضرورة تحويلٌ لعلاقات الإنتاج الرأسمالي القائمة، في ارتباطها بنظام الإنتاج الرأسمالي العالمي. بهذا المعنى، وجبَ القولُ إن سيرورة التحرر الوطني في المجتمعات التي كانت مستعمرة، أعني في المجتمعات الكولونيالية، هي هي سيرورة ُ الانتقال الثوري إلى الاشتراكية” . وهي سيرورة لا يمكن أن تُنجز إلا بقيادة الطبقة العاملة. وهو ما سنوضحه أدناه، في حديثنا عن القيادة الطبقية المطلوبة لعملية التحرر الوطني.
ثانيا ً: القيادة الطبقية
يرفض مهدي ما يسميه المفهومَ البرجوازيَّ لحركة التحرر الوطني، الذي يُنكر عليها كونَها حركة ً ثورية. وفي سياق رفضه هذا، ينتقد بشدة الحديثَ عن رأسماليةٍ “وطنية”، أو برجوازيةٍ “وطنية”، معتبراً أنه وليدُ فكرٍ منحرف، مطوِّراً نقده نحو التشهير بما شاعت تسميته في الحركة الشيوعية، قبل عقودٍ، بإيعازٍ من المركز السوفياتي، “طريق التطور اللارأسمالي”. وسوف أورد حرفياً هذا المقطع المهم جداً من نقده هذا، الذي كُتب في عام 1985، أي قبل سنتين فقط من استشهاده، لما يتضمنه من دلالات غنية جداً سوف أوضحها بعد ذلك مباشرة. يقول مهدي في نقاش له مع كريم مروه بعنوان: “حركة التحرر الوطني، طبيعتُها و أزمتها”:
“ليست حركة ُ التحرر الوطنيِّ، إذن، في مفهومها البرجوازي، هي إياها في مفهومها الثوري . ومفهومُها هذا ينبني، في الممارسة السياسية والنظرية، ضد مفهومها ذاك، والعكس بالعكس. فهي، في مفهومها البرجوازي، مثلاً، ليست حركة ً ثورية ً، وليس لها، بالطبع، أن تكون كذلك، أو أن تقوم، بالتالي، بتحويل علاقات الإنتاج الموروثة. ليس للطبقةِ العاملةِ، في مفهومها هذا، أن تحتل فيها موقع القيادة، بل الموقعُ هذا يعود إلى البرجوازية وحدها. وما على الطبقة العاملة إلا أن تكون سنداً لها، في انتظار أن يجيء زمانُ الانتقال إلى الاشتراكية . لذا وجبَ الفصلُ، بحسب هذا المفهوم، بين زمانين : زمانِ التحرر الوطني الذي هو زمان الرأسمالية ـ التي حددها، للتجميل، فكرٌ منحرف بأنها وطنية ٌ-، وزمان ِ الاشتراكية. على الطبقة العاملة، في الأول، أن تكون في موقع التبعية الطبقية في علاقتها بالبرجوازية. وهذه، بالنسبة للفكر المنحرف إياه، برجوازية “وطنية” تسير في طريقٍ من التطور ابتدع له البعض، من فضاءٍ وهمي هو ما بين البينين، اسمَ “طريق التطور اللارأسمالي”. فلا هو ما هو، ولا هو النقيض، ولا هو ضدٌّ لهذا ولا هو ضدٌّ لذاك. إنه، فقط، وليدُ عجزِ الفكر عن معرفة الواقع. وربما كان وليدَ انتهازيةٍ سياسيةٍ تستتبع فكراً يظن نفسه نظرياً. وما هذا الفكرُ العاجز بفكرٍ ماركسي، حتى لو ادعى ذلك، وأيَّد ادعاءَه بسلطةِ دولةٍ. ومتى كان للدولةِ فكرْ؟ متى كان للفكر الثوري طابعٌ رسمي؟ إما أن يكون الفكر نقدياً، وإما أن يكون مَخصِيّاً. وهو المخصيُّ إذا استمد من سلطةٍ لدولةٍ سلطتَه. إذاك يتمأسس، فيستحيل فكراً بيروقراطياً. وما هذا الفكر بفكر. إنه خادم السلطان وخائن نفسه. إنه المرتد بامتياز” .
في هذا المقطع المكثَّف، كما لو كان مهدي يستعيد، ولو بطريقة غير مباشرةٍ تماماً، سجالات ونقاشات من العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي، بين نظريةِ المراحل المنشفية ـ التي التقطها ستالين وأنصاره، بعد أن استقروا في أعلى السلطة، في الاتحاد السوفياتي السابق، والتي تحدِّدُ وجودَ مرحلتين منفصلتين تماماً، إحداهما عن الأخرى ـ يسميهما مهدي، في معرض تسخيفهما ورفضهما، زمانين ـ ، الأولى هي المرحلة الرأسمالية بقيادة البرجوازية، والثانية هي المرحلة الاشتراكية ـ ، وبين نظريةِ الثورة الدائمة، التي كانت بذورُها الأساسية ُ في كتابات ماركس بالذات، واعتمدها تروتسكي بعد بلورة عناصرها الأساسية. وهي تقول إنه، في عصرنا، وفي البلدان التي لم تكتمل فيها بعدُ عملية ُ البناءِ الرأسماليِّ الكلاسيكي، فقط سلطة ُ الطبقةِ العاملةِ قادرةٌ على إنجاز المهام الديمقراطية البرجوازية، أو مهامِّ التحرر الوطني كما يراها مهدي عامل ضمناً، والانتقال من دون توقفٍ لإنجاز مهامَّ ذاتِ طابع ٍ اشتراكي. ويصب في هذا الفهم أيضاً، لدى مهدي، رفضُه الساخر واللاذع أيضاً، لفكرة تعاقب أنماط الإنتاج الستالينية، حيث يقول إن هذا الفهم، “ربما يجد ركيزته النظرية، في نهاية التحليل، في فهم ٍ للتاريخ يتأولُ المادية َ الماركسية َ تأولاً سيئاً، إذ هو يُرجعها إلى هيكلٍ فقير من تعاقب أنماطٍ من الإنتاج هي إياها في كل البلدان، مهما اختلفت شروطها التاريخية ُ ـ (المشاعية ُ، الرقُّ، الإقطاع، الرأسمالية، الاشتراكية أو الشيوعية) ـ ، وهو ـ أعني ذاك التعاقب ـ هو أيضاً إياه، في تكرارٍ رتيبٍ، مقيت” .
في كل حال، إنه لمعبِّر جداً، ومعَزٍّ، أن يكون مهدي قد توصَّل إلى ذلك الهجاء القارص، قبل ست سنوات من انهيار الاتحاد السوفياتي، وقبل وفاته بعامين، لما وصفه بأنه فكرٌ مَخصيّ، من الواضح أنه كان يقصد به فكرَ المنظِّرين في موسكو، الذين كانوا يعملون في خدمة البيروقراطية السوفياتية السابقة، ويأتمرون بأوامرها، و”فكرَ” الببغاوات، عبر العالم، الذين كانوا يرددون بعدهم ما يتم تلقينهم إياه من تلك ال موسكو عينها. وقد كان مهدي صريحاً تماماً حين اعتبره فكراً بيروقراطياً، بل نفى عنه حتى صفة َ الفكر، واعتبره “خادم السلطان وخائن نفسه”.
ثالثاً : أزمتان في حركة التحرر الوطني وتصوُر مهدي للحل
لقد لاحظ مهدي، في كتابه، النظرية في الممارسة الثورية، أن حركة التحرر الوطني في العالم العربي، من حيث هي حركة ُ ممارسةِ الجماهير العربية كفاحَها ضد الإمبريالية، في هدفِ قطع ِ علاقةِ التبعية البنيوية بها، تعاني أزمة ً مزمنة ً، هي أزمةٌ قيادتها الطبقية البرجوازية المتجددة، وهي في الوقت نفسه أزمة ُ القوى الاجتماعيةِ والسياسيةِ النقيض، العاجزةِ إلى الآن، في ممارساتها الصراع الطبقي، عن فرض نفسها كقيادةٍ ثوريةٍ بديلٍ من تلك القيادة البرجوازية. ولمزيد من الدقة، إن أزمة حركة التحرر الوطني العربية كامنةٌ في واقع أن البرجوازية التي تقودها ليست في مكانها الطبيعي، بسبب موقعها الطبقي في علاقات الإنتاج الكولونيالية، في حين أن ثمة حاجة ً قصوى لإحداث تحويل ثوري في علاقات الإنتاج تلك، يتناقض مع واقع قيادة تلك الحركة. ويُنحي مهدي باللائمة، في سياق نقده هذا، على الأيديولوجية “القومية”، التي تمارس فيها البرجوازيةُ الكولونيالية مأزقها الطبقي، في قيادة حركة التحرر الوطني، “بحيث تظهر كأنها تمارس الصراع ضد الإمبريالية، فيما هي تمارس، في الواقع، في علاقةِ تساومها بالإمبريالية، الصراعَ الطبقيَّ ضد القوى المعادية للإمبريالية، مقيمة ً هكذا تعارضاً لا وجود له بين الصراع الطبقي والصراع الوطني، وساعية ً لإظهار نقيضها الثوري، أي الطبقة العاملة، بمظهر المعادي للقضية الوطنية، أو غير المعني بها، مع ما يفضي إليه ذلك من منع التلاقي الطبيعي بين جماهير البرجوازية الصغيرة والطبقة العاملة” .
وهو يرى أن على حركة التحرر الوطني أن تتحرر من أيديولوجيتها “القومية” البرجوازية، في سيرورةٍ تفضي إلى تغيير القيادة البرجوازية لهذه الحركة، ووصول الطبقةِ العاملة فيها إلى موقع القيادة الطبقي، في إطار تحالفٍ طبقي مع أوسع الجماهير الوطنية. بمعنى آخر، إن على الطبقةِ العاملةِ، في مسعاها لبلوغ قيادة التحالف، أن تجمعَ في نضالها بين المهام الوطنية والمهام الطبقية في الوقت عينه، على أساسِ أن الصراعَ الوطنيَّ هو هو الصراعُ الطبقيُّ في مواجهة البرجوازية الكولونيالية ونمط إنتاجها، كما ضد السيطرة الإمبريالية. وهذا يعني أن ثمة حاجة للنضال لأجل أن تصبح الأيديولوجية ُ الطبقية ُ الخاصة بالطبقة العاملة بالذات هي نفسُها أيديولوجية حركةِ التحرر الوطني. وهنا تكمن مسؤولية ُ الأحزاب الشيوعية العربية، في نظر مهدي، التي عجزت عن الجمع بين مهامِّ التحرر القومي ومهام التحرر الاجتماعي، وعن اعتماد خطٍّ بروليتاري حقيقي يتحاشى الفصلَ بين تلك المهام، ويسعى أصحابُه ليصبحَ هو هو خطَّ حركة التحرر الوطني ككل، بما هيَ تحالفٌ لأوسع الجماهير الشعبية، يضمُّ، إلى الطبقة العاملة، الجماهيرَ الواسعةَ للبرجوازية الصغيرة العربية، بوجه أخص، ولتصبحَ الطبقة ُ العاملة في موقع الهيمنة السياسية في تلك الحركة، وتتجاوزَ أزمتها بوصفها النقيضَ الثوري داخلها. مرةً أخرى، يؤكدُ مهدي تصورَه للدور القيادي الثوري المفترض أن تتمكن الطبقة العاملة العربية من الاضطلاع به، بحيث يَسْهلُ هكذا أداءُ المهام الوطنية الديمقراطية لحركة التحرر العربية، ومن ضمنها تحرر الشعب الفلسطيني، في تداخلٍ وثيق مع الاضطلاع بالمهام الاجتماعية، بما هي تطرح التحويلَ الثوري لعلاقات الإنتاج الرأسمالي الكولونياليةِ وبناءَ الاشتراكية. وهو يجزم بأن هذا الانعطاف العميق في الحركة المذكورة لا بد من أن يمر بامتلاك الطبقة العاملة استقلالها السياسي، إذ هي لا تكون ” النقيضَ الثوري للبرجوازية إلا بمقدار ما تتكوَّن في مثلِ هذه القوة المستقلة. فاستقلالها السياسي هو الذي يجعل منها الطبقة المهيمنة النقيض”. وهو استقلالٌ يتوقف على وجود “حزبها الثوري”، و قيادتِه نضالَها، في نهج ٍ سياسي صحيح . “فالحزب، بحسب مهدي، ليس التنظيمَ الثوريَّ للطبقة العاملة وحسب، أي أنه ليس هذه الطبقة َ نفسَها كطبقةٍ منظمة ثورياً وحسب، بل هو بالتحديد، أداة ُ وصولها إلى موقع الهيمنة الطبقية في السلطة” .
وبمقدار ما أشعر بالاتفاق العميق مع تصور مهدي لأزمة حركة التحرر الوطني العربية، والمدخل إلى تجاوزها – مهما تكن سيرورة هذا التجاوز معقدة ً وطويلة ومريرة – أعتقد أن من الضروري التوقف عند هذه الرؤية الأخيرة للمماهاة بين الطبقة العاملة وحزبها، وذلك في الجزء التالي من هذه المداخلة، الذي يتضمن ملاحظاتٍ لا تخلو من النقد.
رابعاً : على سبيل “الحوار” مع فكر مهدي عامل
في هذا الجزء ما قبل الختامي من مداخلتي، سوف أقتصر على نقطتين اثنتين، أولاهما، كما سبق أن أشرت، تتعلق بمسألة العلاقة بين الحزب والطبقة، فيما تتناول الثانية ما رأى فيه مهدي منعطفاً كبيراً ليس فقط في خط الحزب الشيوعي اللبناني ومسيرته، بل حتى في مسار حركة التحرر الوطني العربية ككل، في تقويمه لنتائج المؤتمر الثاني للحزب ، المنعقد عام 1968.
1ـ حول الحزب والطبقة
سوف أعتذر من صديقي، الدكتور هشام غصيب، لأني ربما سأكرر، لكن على طريقتي، كلاماً أو بعضَ كلام ٍ يُفترض أن يدخل في صلب مداخلته الخاصة به.
أما حافزُ هذا التكرار فمردُّه، في الواقع، إلى أن تصوراً كهذا أدى إلى كوارثَ حقيقيةٍ، في تاريخ الحركة الشيوعية، لكن أيضاً، وبوجه خاص، في حياة ووعي أعدادٍ كبيرة من الثوريين، والثوريين المحتملين.
ففي الفهم الذي ورد أعلاه يبدو كما لو أن هناك مماهاة ً، أو مماثلة ً، بين الطبقة العاملة، وما يسميه مهدي “حزبَها الثوري”. وهو فهمٌ ستاليني بامتياز، يتم إقحامه على الرؤية الثورية لموقع الحزب من الطبقة، ولا سيما أن هذه الرؤية تتمثل أساساً في كون الحزب الثوري تنظيماًً، منفصلاً، للطليعة، يدخل في علاقةٍ متناقضة مع الطبقة، على أساس ما يسميه إِرنست ماندل، انطلاقاً من فكر لينين التنظيمي، وحدَةَ الفصل والدمج، المرتكزةَ إلى عدم نضج الوعي الطبقي لدى الجماهير الواسعة، إلا في الحالات الثورية، حين يحدث حتى أن تتقدم الطبقة على الطليعة، على صعيد الوعي الثوري، ويمكن أن يتمَّ ـ كما حدث في روسيا عام1917 ـ ما سماه المفكر البلجيكي، مارسيل ليبمان، “اللقاءُ بين جمهورٍ وحزب، التماثلُ المتحققُ بشكل واسع بين بروليتاريا ومنظَّمةٍ باتت للمرة الأولى منظمتَها”. يقول ليبمان نفسه أيضاً إنه حدثت آنذاك “ظاهرة ُ تناضح ٍ بين البروليتاريا الصناعية في روسيا والحزب البلشفي: تداخلٍ لم يشهدِ التاريخُ نظائرَ له” . وبالتالي، فإن حالة ً كهذه، نادرة ٌ حقاً، ومؤقتة ٌ، ولا تتكرر بشكل ملحوظ.
كما أن الفهم ، الوارد لدى مهدي، يعطي الانطباع بأن الدور القيادي للحزب يستتبع مفهوم الحزب الواحد، الذي لا ينسجم إطلاقاً مع تصورٍ ديمقراطي للعلاقات مع الطبقة العاملة وفي داخلها، كما مع تنوع مستويات الوعي فيها، وحتى الانتماءات الفكرية ضمنها، ما يتطلب وجودَ تعدديةٍ حتمية للأحزاب والاتجاهات العمالية. وهو فهمٌ يفتح طريقاً مَلـَكية ً نحو احتمال تبقرطِ هذا الحزب، وانفصالِه الكلي هذه المرة، عن الطبقة، التي يزعم النطقَ باسمها وباسم مصالحها، وتحوُّلهِ إلى جهازٍ للقمع، قمعِها هي بالتحديد، كما حصل بالفعل في الاتحاد السوفياتي السابق، وسلسلة الدول العمالية المنحطة بيروقراطياً، التي كانت تدور في فلكه، والتي استكملت انحطاطها، معه، بالعودة إلى الرأسمالية، في تاريخ ٍ سابق ٍ من نهايات القرن الماضي!
وأخيراً، فإن التصور الذي أشرنا إليه أعلاه، لا يأخذ بالاعتبار وجودَ أشكالٍ أخرى من التنظيم الثوري للطبقة العاملة، ولا سيما المجالسَ العمالية َ المنتخبة، في الفترات الثورية، وإن كانت هذه المجالسُ في مسعاها لإطاحة المجتمع القديم، بحاجةٍ حقيقية إلى عمل الأحزاب الثورية، التي تضمن للشغيلة، بحسب إرنست ماندل “درجة َ نشاطٍ مستقلٍ ووعي ٍ ذاتي، إذن وعيا ً طبقياً أرفع بكثير مما يمكن أن يفعله نظامُ تمثيلٍ غير متمايز” .
2- حزب مهدي هل كان عند حسن ظنه؟
بعد أن اعتبر مهدي عامل أنَّ حل أزمة الطبقة الثورية النقيض يكون باعتمادها الخطَّ البروليتاريَّ الثوري، ونضالِها لأجل أن يصبح هذا الخط نفسُه خطَّ حركة التحرر الوطني بالذات ـ وهو كلامٌ سليم حتى الآن ـ يفاجئنا باعتبار أن المؤتمر الثاني للحزب الشيوعي اللبناني، أحدث انعطافة ً جذرية، ليس فقط في مسيرة هذا الحزب، بل أيضاً في سيرورة الحركة التحررية في علاقتها بالحركة الشيوعية، بحيث بتنا كما يقول: “أمام قفزة بنيوية هائلةٍ حققتها حركة ُ التحرر العربية في الساحة اللبنانية، بانتقالها من بنيةٍ تَتحدَّدُ بعلاقةٍ من الصراع بينها وبين الإمبريالية تتطور في ظل الهيمنة المطلقة للخط “القومي” البرجوازي، إلى بنية أخرى تتحدد بعلاقة من نوع آخر (…) تتطور في ظل علاقة الصراع من أجل الهيمنة بين هذا الخط “القومي” ونقيضه الخط الوطني البروليتاري ” . كما أنه، في حديثه عن الحرب الأهلية اللبنانية، يعتبر أن انفجار الصراع الطبقي على الصعيد العربي حول القضية الوطنية كان بالتحديد “انفجاراً طبقياً بين قوى طبقية وطنية وقوى طبقية رجعية، لأنه كان، لأول مرة في تاريخ حركة التحرر الوطني العربية، بين القوى الاجتماعية التي تسير في الخط السياسي البروليتاري للصراع الوطني، وبين القوى التي تسير في الخط البرجوازي لهذا الصراع نفسه” .
وبالطبع يحق لنا أن نتساءل ما هي علامات انفجار ذلك الصراع من أجل الهيمنة بين الخط “القومي” ونقيضه الخطِّ البروليتاري؟ ومن هي تلك القوى الاجتماعية التي تسير في الخط السياسي البروليتاري للصراع الوطني؟ وهل كان للحزب الشيوعي اللبناني خطٌّ خاص به يمكن اعتباره بروليتارياً، خلال الحرب الأهلية اللبنانية، وفي إطار الحركة الوطنية اللبنانية؟
وأنا أظن أنه سيكون من المفيد هنا أن أترك الرد على هذه الأسئلة إلى الأمين العام للحزب الشيوعي، في تلك الفترة، جورج حاوي، الذي أعلن، بالحرف، في مقابلةٍ معه أجرتها مجلة الحرية، في أواخر عام 1976، ما يلي:
“إن الشيوعيين اللبنانيين لم يخوضوا هذه المعركة، في كل مراحلها، تحت شعاراتٍ خاصة، ولا من أجل مكاسبَ شيوعيةٍ، بل على العكس من ذلك، فَهُمْ قد ابتعدوا في كل تصرفاتهم عن كل بروزٍ خاص، أو شعارات خاصة، أو بيانات خاصة، أو مطالبَ خاصةٍ”. بمعنى آخر، لقد ابتعدوا جداً عن أن يكون لهم خط خاص، وبالضبط، وبوجه أخص، ما سماه مهدي الخطَّ البروليتاريَّ الثوري، وبالتالي عن أن يسعوا بصورة حثيثة ليصير خطُّهم هذا خطَّ التحالف. أكثر من ذلك، لم يحدث أن قرأنا، أو سمعنا، ذات يوم، خبراً عن صراع يخوضونه في وجه القيادة البرجوازية للحركة الوطنية، وخطِّها البرجوازي، سواءٌ حين كان لواؤها معقوداً للزعيم الراحل كمال جنبلاط، أو حين انتقل إلى وريثه، بعد رحيله.
في كل حال، دعوني اعتبرْ أن ما قاله مهدي عن تحالف الطبقات المقهورة مع الطبقة العاملة، في إطار الحركة الوطنية اللبنانية، وبخصوص ما خاله انعطافة ً جذرية في مسيرة حزبه، بعد عام 1968، في اتجاه أن تحتل الطبقة ُ العاملة، في هذا التحالف بخطها السياسي الوطني فيه، الموقعَ الرئيسيَّ الذي يعود إلى الطبقة المهيمنة النقيض، لم يكن يصف به واقعاً قائماً، بقدر ما كان يترك ما يشبه الوصية لهذا الحزب، قبل سنوات عديدة من استشهاده.
أخيراً، سوف أضع عنواناً، طويلاً نسبياً، لهذه الخاتمة القصيرة، هو التالي:
نحو حوارٍ بين الأحياء، إكراماً لذكرى مهدي عامل
لقد كان هماً دائماً لدى الرجل، على امتداد حياته السياسية، أن يرى الطبقة العاملة، وخطَّها البروليتاري الثوري، في موقع القيادة لتحالفٍ واسع من المنتجين والمهمَّشين والمحرومين، كلِّ معذبي الأرض هؤلاء الذين تحدث عنهم فرانز فانون؛ وقد دفع مهدي ثمناً غالياً جداً لهذا الهم، هو استشهاده، الذي كان، بالتأكيد، لحظة ً مأساوية ً، حزينة ً ومفجعة ً، من الصراع الدموي الذي شهده لبنان، على امتداد الحرب الأهلية الأخيرة. ونكون نكرِّم ذكرى الرجل حقاً، بقدر ما ندخُلُ في حوارٍ معمَّق وهادف، حول وسائل الخروج من أزمةٍ، هي الآن في مستوى متقدم جداً من حراجتها، ليس تعبيرُها الوحيدُ واقعَ بلدنا الذي ينحدر بصورة متسارعة نحو هاوية لا يعرف أحد قاعها، بل إن بين تعابيرها الأهمِّ أيضاً عذابَ الشعب العراقي في ظل إحدى الديكتاتوريات الأشد بشاعة في تاريخنا الحديث، لكن أيضاً إزاء التهديد الأميركي والبريطاني الداهم بحرب جديدةٍ مدمرة على هذا الشعب. والأهمُّ الأهم أيضاً هو ما يجري الآن في فلسطين، حيث يقاتل شعبٌ بكامله، ضمن شروط غير متكافئة إطلاقاً، ويتعرض للمجازر اليومية، وسط َ صمتٍ شبه مطبق للأنظمة العربية، على اختلافها، وغياب التضامن الجماهيري العربي المطلوب، الذي لن يصبح حقيقياً وفاعلاً إلا بمقدار ما يتحقق ذات يوم، حلمُ مهدي عامل بحركةِ تحررٍ وطني عربيةٍ ظافرةٍ تسترشد بالخط البروليتاري الثوري.
شارك المقالة
اقرأ أيضا