تدمير فلسطين هو تدمير كوكب الأرض

 

  • هذه الإبادة الجماعية تحديداً بها سمات فريدة تجعلها مختلفة كل الاختلاف عن سجلّ الإبادات الجماعية الحديثة. أولاً، وقبل كل شيء: منذ بدايتها، كانت هذه الإبادة الجماعية «مجهوداً دولياً»، نسقته ونظّمته الدول الرأسمالية المتقدمة في الغرب، بالتعاون مع دولة إسرائيل.
  • في «استراتيجية تحرير فلسطين»، النص المؤسس للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين من العام 1969، يُعرّف العدو في وحدته الجدلية بالإمبريالية العالمية والاستعمار الاستيطاني المحلي: انتصارات الأخير هي مسألة أساسية لتحقيق مصالح الأول.
  • الصهيونية «حركة عنصرية عدوانية مرتبطة بالإمبريالية، ولقد استغلت معاناة اليهود كرافعة للترويج لمصالحها (…) في هذه المنطقة من العالم التي تمتلك مقدرات وموارد غنية، وتعد رأس جسر إلى دول أفريقيا وآسيا».[86] هذا هو نقيض نظرية اللوبي.

هذا المقال هو نسخة مُحررة من محاضرة قُدمت في مركز الآداب والعلوم الإنسانية في الجامعة الأميركية في بيروت، بتاريخ 4 نيسان/أبريل 2024. نشرت النسخة الأصلية بالإنكليزية على موقع فيرسو وتمت الترجمة العربية بمبادرة ودعم من المعهد العابر للقوميات – برنامج المنطقة العربية.

********************

ها هو نصف سنة من هذه الإبادة الجماعية يمضي أمام أعيننا. نصف سنة مرت منذ أطلقت المقاومة «طوفان الأقصى» وردّ الاحتلال بإعلان الإبادة الجماعية وتنفيذها. نصف سنة، ستة أشهر، 184 يوماً من القنابل التي تقطف عائلة تلو العائلة، بُرج سكني تلو الآخر، منطقة سكنية تلو الأخرى، بلا هوادة، بمنهجية وتصميم: نصف سنة من عظام الأطفال الرمادية التي تبرز أطرافها من تحت الأنقاض، من صفوف الأكياس الصغيرة البيضاء للجثامين المصطفة على الأرض، من الفتيات الصغيرات القتيلات يَلُحنَ من النوافذ كاللحم على الخُطاف. نصف سنة من الأمهات والآباء يودعون الصغار برباطة جأش، كما لو أن أرواحهم خلَّفت فيهم خواءً. يودعوهم في نوبات منفلتة من الأسى، وكأنهم لا يعرفون كيف سوف يمضون أماماً ويخطون على هذه الأرض خطوات. نصف سنة قوامها دستة من المذابح كل يوم والإعدامات والقنص ووطء الجرافات للجثامين… ولا تتوقف. تستمر وتستمر ولا تتوقف، ثم إنها تستمر وتمضي قُدماً ولا تنتهي، لا تنتهي. قد يجنّ المرء من اليأس وهو يتابع هذه المشاهد من بُعد. لو شعر المرء بهذا الشعور وهو من بُعد، فلك أن تتخيل شعور الأحياء حتى الآن في غزة.

ترتكب دولة إسرائيل أسوأ جريمة عرفتها الإنسانية يوماً، وهذه الإبادة الجماعية تحديداً بها سمات فريدة تجعلها مختلفة كل الاختلاف عن سجلّ الإبادات الجماعية الحديثة. أولاً، وقبل كل شيء: منذ بدايتها، كانت هذه الإبادة الجماعية «مجهوداً دولياً»، نسقته ونظّمته الدول الرأسمالية المتقدمة في الغرب، بالتعاون مع دولة إسرائيل. هرعت كل من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وألمانيا وفرنسا وغالبية الدول أعضاء الاتحاد الأوروبي الأخرى فوراً للمشاركة في سفك الدماء، فأرسلت السلاح إلى الاحتلال وكأنها تقدم الأطباق في مأدبة، وحلّقت في سماء غزة لتجمع وتشارك المعلومات الاستخباراتية مع جيش الاحتلال وطياريه، وفرشت أبسطة الدفاعات الدبلوماسية حول تلك الدولة. ثم كأن هذا لا يكفي، انتزعت آخر الفتات من أيدي الفلسطينيين. والآن بعد أن أصبحوا يتضورون جوعاً ولم يعد أمامهم سوى أقل المساعدة الممكنة من الأونروا ليبقوا على قيد الحياة؛ قطعت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة خط الحياة الأخير هذا بدوره. قد يُغفر للمرء إذن، إذا اعتقد أنهم يريدون الموت للفلسطينيين.

تلك هي الصورة على مدار نصف سنة من هذه الإبادة الجماعية. فحتى الآن، ليس أمامنا إلا مشهد أحادي لا يتغيّر من هذا التعاون. ليست هناك واقعة إبادة جماعية أخرى على القائمة المتاحة منذ الهولوكوست ظهرت بهذه الصورة. من بنغلادش إلى غواتيمالا، من السودان إلى ميانمار، ربما نالت الإبادات الجماعية الدعم بدرجات متفاوتة من تواطؤ المركز الرأسمالي. لكن هنا، نحن بصدد شيء مختلف كليّاً. ربما من المفيد مقارنة الأمر بإبادة مسلمي البوسنة، وهو حدث شكّل آرائي السياسية في فترة الشباب. مع فرض حظر أسلحة، حرم الغرب الناس من حق الدفاع عن أنفسهم. وبانسحاب القوات الهولندية من سربرنيتسا، سلّمت عن علم وبيّنة البلدة إلى راتكو ملاديتش. في ظرف أربع سنوات من الحرب، وقف ما يُدعى بـ «المجتمع الدولي» يتفرج على مسلمي البوسنة يذبحون. لكن كانت تلك بالأساس أعمال تواطؤ سلبي. لم يسلّح الغرب جمهورية صرب البوسنة بأفضل ما في ترساناته من قنابل. لم يطر بيل كلينتون لأرض المذبحة ليعانق سلوبودان ميلوسيفيتش. لم تقترن المذبحة بالإعلانات المتكررة عن «حق القوميين الصرب في الدفاع عن أنفسهم». قد يكون ما نشهده الآن أول عملية إبادة جماعية ترتكبها الرأسمالية المتأخرة.

لا بد أن أعترف ببعض السذاجة: لم أتوقّع هذا النهم المتوحش إلى الدم الفلسطيني. بالطبع لم أندهش من سلوك الاحتلال. ثاني شيء قلناه لبعضنا صباح 7 تشرين الأول/أكتوبر: سوف يدمِّرون غزة. سوف يقتلون الجميع. أول شيء قلناه في الساعات الأولى لم يكن في صورة كلمات، بل صرخات ابتهاج. من عاشوا حياتهم مع القضية الفلسطينية وعبرها لم يكن بوُسعهم أن يتفاعلوا بأي صورة أخرى مع مشاهد اجتياح المقاومة معبر إيريز: هذه المتاهة من الأبراج الخرسانية ونظم المراقبة، هذا التكوين الصلب من البنادق والماسحات الضوئية والكاميرات… هو قطعاً أقبح صرح دال على الهيمنة على شعب رأيته يوماً… كل ذلك وقع فجأة في أيدي المقاتلين الفلسطينيين الذين تغلبوا على جنود الاحتلال ومزقوا رايتهم. كيف لا نصرخ من الدهشة والفرح؟ الإحساس نفسه جاء مع مشاهد اقتحام الفلسطينيين السور والجدار واجتياحهم الأراضي التي طُردوا منها. والإحساس نفسه مع تقارير سيطرة المقاومة على مركز شرطة سديروت، تلك المستعمرة «النقية» عرقياً التي شُيّدت على أطلال قرية نجد، المحتلة منذ العام 1948.

كانت تلك هي أولى ردود الفعل التي شاركتها مع الأقرب لي. لكن في المقام الثاني جاء ذعر عظيم. كنا جميعاً نعرف كيف تتصرف دولة إسرائيل وما هو المتوقّع منها. ما لم أضعه شخصياً في الحسبان هو إلى أي مدى سيرمي الغرب بكل ثقله في القتل الجماعي. كان حريّاً بي أن أدرك ذلك بشكل أفضل. لكن بغض النظر عن سذاجتي، أثارت أحداث نصف العام المنقضي من جديد السؤال عن طبيعة هذا التحالف. ما هو بالضبط الشيء الذي يربط دولة إسرائيل بسائر الغرب هذا الرباط الوثيق؟ ما الذي يفسِّر قابلية دول مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة للانضمام إلى هذه الإبادة الجماعية، ولماذا تشارك الولايات المتحدة إسرائيل هدفها الخاص بتدمير فلسطين؟ هناك تفسير شائع وله شعبية في صفوف بعض أوساط اليسار، وهو قوة اللوبي الصهيوني. سوف أعود إلى هذه النقطة.

أحد مكوّنات تعريف الإبادة الجماعية هو «التدمير المادي لكل أو جزء» من جماعة مستهدفة من الناس. وفي غزة، يُعدّ التدمير المادي محوراً مركزياً في ما يحدث. في أول شهرين، تعرّضت غزة للتدمير الكامل والتام. قبل نهاية كانون الأول/ديسمبر، ذكرت وول ستريت جورنال أن تدمير غزة يعادل أو يفوق تدمير دريسدن ومدن ألمانية أخرى أثناء الحرب العالمية الثانية. فرانشيسكا ألبانيز من أشجع الأصوات خارج فلسطين، إنها المقرّرة الأممية الخاصة المعنية بالأراضي المحتلة منذ العام 1967. بدأت تقريرها الأخير لرصد الأحداث بالقول «بعد خمسة أشهر من العمليات العسكرية، دمرت إسرائيل غزة»، قبل أن تمضي لتوضح تفصيلاً كيف تعرض كل مقوّم من مقومات الحياة في غزة إلى «التدمير الكامل».1  الصورة الشهيرة التي نراها هي لبيت محطَّم كلياً، مع نبش الناجين بشكل محموم بين الركام. إذا حالفهم الحظ، قد يتمكنون من انتشال صبي أو فتاة تغمرهما الأتربة من تحت كتلة الأنقاض. تشير التقديرات حالياً إلى وجود نحو 12 ألف جثمان لم يتم انتشالها بعد من تحت بيوت غزة المُدمرة.

على الرغم من أن هذه الإبادة الجماعية لم تصل يوماً إلى النطاق الذي نشهده اليوم، فليست هذه أول مرة يتعرض فيها الفلسطينيون لمثل هذا الحدث. يمكن العثور على مخطّط ما يحدث في خطة داليت 1948، وفيها توجيهات للقوات الصهيونية حول فن تدمير القُرى من خلال إحراقها، وتفجيرها، وزرع الألغام في الحطام.2  أثناء النكبة، كان شائعاً أن تغزو تلك القوات قرية في الليل وتدمر البيوت بالديناميت على رؤوس أهاليها. من أوجه تفرّد التجربة الفلسطينية أن هذه العملية لم تتوقف أو تنته. يتكرّر فعل التدمير الأصلي مرة تلو الأخرى: في المجدل في العام 1950، ومنها رُحِّل الناس إلى غزة. في غزة في العام 2024. وبين الفعلين، عدد لا نهائي من التكرارات. لنأخذ منها مثالاً: بيروت في 1982، كما وصفتها ليانة بدر في «شرفة على الفاكهاني» بكلمات قادرة على وصف أية واقعة من الوقائع اللانهائية المذكورة:

وأكوام الأسمنت، الحجارة، نثرات الملابس الممزقة، الزجاج المفتت، نتف القطن، شذرات المعدن، البنايات المهدمة والمائلة (…) الغبار الأبيض يمتد إلى الداخل مثل لذعات النبرات الكاوية. البناية الفارغة، دقات المعاول وأصوات الجرف في الخارج (…) اختلطت المعالم. السيارات المقلوبة على ظهرها. الأوراق المتطايرة في السماء. الحريقة الدخان. القيامة.3

إنها نهاية العالم الذي لا ينتهي أبداً: حطام جديد يتراكم دائماً فوق رؤوس الفلسطينيين. التدمير مكوّن رئيسي في تجربة الحياة الفلسطينية لأن جوهر المشروع الصهيوني هو تدمير فلسطين.

لكن هذه المرة، وعلى النقيض من 1948 أو 1950، يحدث تدمير فلسطين على خلفية عملية مختلفة ومتصلة للتدمير: تدمير النظام المناخي لهذا الكوكب. الانهيار المناخي هو عملية التدمير المادي للنظم البيئية، من القطب الشمالي إلى أستراليا. في كتابنا «الحرّ الطويل: سياسة المناخ بعد أن يفوت الآوان» الذي يصدر قريباً من فيرسو في العام 2025، أناقش مع زميلي ويم كارتون بقدر من التفصيل كيف تحدث هذه العملية بشكل سريع. لنأخذ مثالاً: علقت غابات الأمازون في دوّامة من الهلاك قد تحوّلها إلى منطقة سافانا تغيب عنها الأشجار. غابات الأمازون المطيرة قائمة منذ 65 مليون سنة. لكن الآن، في ظرف عقود قليلة، يدفع التغير المناخي – ومعه عمليات زوال الغابات التي تعد الشكل الأصلي والأساسي للدمار الإيكولوجي – منطقة الأمازون نحو نقطة اللاعودة، إذ سينقرض هذا النظام البيئي بعد عبور هذه النقطة. وأنا أكتب هذه الكلمات، تظهر بحوث جديدة تشير إلى جثومنا على حافة هوّة اللاعودة هذه.4  لو فقد حوض الأمازون غابته – وهي فكرة مروعة لكن ممكنة تماماً في المستقبل القريب – فسوف نصبح بصدد نكبة من نوع مختلف. سيكون أول الضحايا بالطبع هم السكان الأصليون والمنحدرون من أصول أفريقية وشعوب أخرى في الأمازون: سيشاهد نحو 40 مليوناً، في السيناريو الأكثر ترجيحاً، النيران تلتهم غاباتهم وتحولها إلى دخان، ومن ثم سيشهدون نهاية عالم.

تتخذ هذه العملية أحياناً صورة مشابهة للغاية لأحداث غزة، وتكون في بعض الحالات على مقربة منها على المستوى الجغرافي. ليلة 11 أيلول/سبتمبر العام الماضي – قبل أقل من شهر على بداية الإبادة الجماعية في غزة – ضربت عاصفةُ دانيال ليبيا. بمدينة درنة شرق البلاد، على شاطئ المتوسط، نحو 1,000 كيلومتر من غزة، قُتل الناس نياماً. فجأة دمّرت قوة من السماء بيوتهم فوق رؤوسهم. بعد ذلك وصفت التقارير كيف ظهرت قطع الأثاث والجثامين عشوائياً من تحت البنايات المهدمة: «لا تزال الجثث تملأ الشوارع، ومياه الشرب قلّت. قتلت العاصفة عائلات كاملة. كما قال أحد أهالي المدينة، كانت كارثة لم يسبق أن شهدوا لها مثيلاً. السكان يبحثون عن جثث قتلاهم، يحفرون بأيديهم وبأدوات زراعية بسيطة». كان هناك فلسطينيون من بين أول المستجيبين، الذين هرعوا إلى موقع الأحداث. قال واحد منهم: «كان الدمار فوق كل تصور (…) تسير عبر المدينة ولا ترى سوى الطين والبيوت المهدمة. رائحة الجثث في كل مكان. (…) عائلات بكاملها محيت أسمائها من السجل المدني. (…) ترى الموت أينما ولّيت».

في خلال زيارة دامت 24 ساعة، أسقطت عاصفة دانيال حملاً من الماء – نحو 70 مرة متوسط الكمية في شهر أيلول/سبتمبر. وكانت درنة تقع على نهر يمر بوادٍ ويتجه إلى البحر، كان دائماً ضيق الضفتين، هذا إن جرى الماء فيه أصلاً. إنه بلد صحراوي. لكن الآن فجأة ارتفع النهر وتفجّر الماء منه عبر سدّين واندفع يكتسح درنة: الماء والترسيبات والركام كالجرافة التي اجتاحت وزأرت عبر المدينة في منتصف ليلة 11 أيلول/سبتمبر… قوّة كاسحة وعنف ضارٍ دفعا البُنى والشوارع إلى المتوسط وحوّلا مركز المدينة – سابقاً – إلى مستنقع موحِل بني اللون. باستخدام نماذج ومنهجيات الطقس الحديثة المُحسّنة، توصّل الباحثون سريعاً إلى أن الفيضانات أصبحت مرجحة 50 مرة أكثر بسبب الاحترار العالمي. وحده هذا الاحترار كان القادر على تحقيق حدث كهذا. في خلال أشهر الصيف السابقة، كانت مياه البحر على شواطئ شمال أفريقيا أدفأ بخمس درجات مئوية ونصف أكثر من المتوسط على مدار العقدين الماضيين. والمياه الدافئة تحمل طاقة حرارية قادرة على التراكم في عاصفة كالنفط في مقذوف صاروخي. قُتل 11,300 نسمة في ليلة واحدة بسبب العاصفة دانيال في ليبيا: أقسى حدث قتل جماعي بسبب تغير المناخ على مدار السنوات العشر الأخيرة، وربما على مدار القرن.

مثّلت هذه المشاهد صورة مذهلة لما حدث في غزة بعد 26 يوماً، لكن هناك صلات مباشرة بين هذا المكان وذاك. لأن فرق الإنقاذ في غزة لها باع طويل في التعامل مع مثل هذا الدمار؛ انتقلت سريعاً إلى درنة لتقديم المساعدة. قُتل في الفيضانات ما لا يقل عن 12 فلسطينياً كانوا قد انتقلوا من غزة إلى درنة. وهناك فلسطيني اسمه فايز أبو عمرة قال لرويترز: «شهدنا نكبتين، نكبة النزوح ثم العاصفة في ليبيا». إذن في تقدير فايز أبو عمرة، فالنكبة الأولى كانت في العام 1948، التي دفعت عائلته و800 ألف فلسطيني آخرين إلى خارج الديار: استقرّت عائلته في مخيم دير البلح، ثم انتقل بعض أبنائها إلى بلدة درنة للابتعاد عن حروب العدوان الإسرائيلية، ثم حلّت النكبة الثانية. فقد فايز أبو عمرة عدداً من أقاربه في العاصفة. نجا هو منها، لأنه اختار البقاء في دير البلح، حيث نُصبت خيام العزاء على الضحايا. ثم وبعد أسابيع قليلة جاءت الإبادة الجماعية. الله وحده يعلم إذا كان فايز أبو عمرة ما زال حياً.

والآن، ونحن نتأمل أوجه التشابه والتشابك بين عمليات الدمار هذه، نرى أيضاً بعض الاختلافات المهمة والكبيرة. القوى التي عصفت بدرنة كانت طبيعتها مختلفة عن تلك التي تقصف غزة. حصّادة الموت المجهولة التي انصبت من السماء على درنة لم تكن قوة جوية، إنما تشبّع متراكم في الغلاف الجوي من ثاني أوكسيد الكربون. لم تكن عند أحد نية مبيّتة لتدمير درنة، كما تنعقد النية في دولة إسرائيل على تدمير غزة. لم يظهر متحدثون باسم الجيش يعلنون التركيز على «أقصى دمار ممكن» أو نواب ليكود يصرخون «اهدموا بيوتهم، اقصفوهم بلا تمييز» عندما تستخرج شركات الوقود الأحفوري سلعها وتقدّمها للإحراق، فهي لا تبيت النية على قتل أحد بعينه. لكنها تعرف أن تلك السلع – من حيث المبدأ – تقتل الناس: قد يكونون في ليبيا أو الكونغو أو بنغلادش، أو في البيرو… لا يهمهم أين.

ليست تلك بالإبادة الجماعية. في كتابنا «التجاوز: كيف استسلم العالم للانهيار المناخي» الذي ستنشره فيرسو في تشرين الأول/أكتوبر هذا العام، تأملت مع ويم كارتون فكرة ومصطلح «إبادة الفقراء» (بوبرسايد، على غرار جينوسايد) لفهم ما يجري هنا: التوسع بلا هوادة في البنى التحتية للوقود الأحفوري بما يتجاوز كل الحدود التي تتيح الحياة على الكوكب. الهدف الأساسي لهذا الفعل بحد ذاته لا يشمل قتل أحد. الهدف هو استخراج الفحم أو النفط أو الغاز لجني النقود. لكن ما إن يتضح تماماً أن هذا الشكل من أشكال جني النقود يقتل الناس؛ تبدأ فكرة غياب نيّة القتل في الانحسار. من مبادئ علم المناخ فكرة واضحة وبسيطة لا جدال حولها في الوقت الراهن: الوقود الأحفوري يقتل الناس، عشوائياً، بشكل أعمى، بلا تمييز، بالتركيز بصورة خاصّة على الفقراء في الجنوب العالمي، وهم يُقتلون بأعداد كبيرة كلما استمر الوضع القائم بلا تغيير. عندما يتشبع الغلاف الجوي بثاني أوكسيد الكربون، تصبح قدرة أية كمية إضافية منه على القتل عالية وفي تزايد. الخسائر البشرية الجماعية إذن تصبح مسألة مقبولة أيديولوجياً وذهنياً، كنتيجة مقبولة لتراكم رأس المال. «إذا كنتَ على معرفة مُسبقة بأنك تفعل شيئاً يؤذي أحدهم، إذن فأنت تفعله عن عمد»، كذا قال وكيل الادعاء ستيف شليشر في مرافعته الختامية ضد ديريك شوفين، الذي أدين في ما بعد بقتل جورج فلويد: مع إجراء ما يلزم من تعديل، تنسحب القاعدة نفسها في حالة الوقود الأحفوري وقتله الناس. الحقيقة أن عنف إنتاج الوقود الأحفوري يصبح دموياً وأكثر عمدية مع مرور كل سنة. لنقارن هذا بقصف مخيم جباليا في 25 تشرين الأول/أكتوبر، الذي قتل ما لا يقل عن 126 مدنياً بينهم 69 طفلاً. كان الهدف المعلن لهذا الفعل هو قتل قائد واحد من حماس. هل قصد الاحتلال أيضاً قتل 126 مدنياً أم أنه لم يكن يبالي بهذا النوع من الدمار الجماعي العارض؟ هنا يختلط التعمد مع اللامبالاة. وهنا أيضاً – على جبهة المناخ – التي لا تزال مختلفة نوعياً عن الوضع في فلسطين؛ ولكن ربما الفارق آخذ في التضاؤل.

هل ثمة لحظات معينة تُجسِّد الوحدة بين دمار فلسطين ودمار كوكب الأرض؟ وقصدي بلحظات التجسّد نقاط معينة تؤثر فيها إحدى العمليتين على الأخرى وتشكّلها، في علاقات سببية، أو جدلية تحديد مسار. إجابتي هي نعم، حقاً، لحظات التجسّد هذه مرتبطة في رباط وثيق منذ قرنين. لأنني مُحب للتاريخ، فسوف أعود إلى لحظة بداية هذا الارتباط: 1840. أحداث ذلك العام سيطرت على تفكيري. سبق لي أن قدّمت شذرات عن أحداث ذلك العام هنا وهناك، لكن لم أكتب بعد سرداً متماسكاً عمّا حدث. بدأت أفعل هذا قبل 11 عاماً حين اقتربت من الانتهاء من بحثي للدكتوراه، عندما كتبت «رأس المال الأحفوري» وأدركت أن القضية (1840) تحتاج أطروحة منفصلة، جزء ثانٍ من الكتاب باسم «الإمبراطورية الأحفورية». على مدار الأسابيع الماضية عدت مرة أخرى إلى تلك اللحظة لأستخلص منها التحليل «طويل الأجل» للإمبراطورية الأحفورية في فلسطين.

كان عام 1840 عاماً فاصلاً في التاريخ بالنسبة للشرق الأوسط والنظام المناخي على حد سواء. شهد العام نشر الإمبراطورية البريطانية للسفن البخارية للمرة الأولى في حرب كبرى. كانت قوة البخار هي التكنولوجيا التي بدأ بها الاعتماد على الوقود الأحفوري: محركات بخارية يسيّرها الفحم، وكان انصهارها بالصناعات البريطانية هو الذي حوّل هذه العملية لأول اقتصاد أحفوري في التاريخ. لكن قوة البخار ما كانت لتؤثر على المناخ إذا بقيت داخل بريطانيا. تصديرها إلى سائر أنحاء العالم ودفع الإنسانية إلى دوامة حرق الوقود الأحفوري على نطاق واسع هما عنصري العملية التي غيّرت بها بريطانيا مصير هذا الكوكب: عولمة البخار كانت المفتاح الضروري. ومفتاح هذه العملية بدورها كان نشر السفن البخارية في الحرب. عبر إطلاق العنف دمجت بريطانيا بلاداً أخرى في اقتصاد عجيب هيأت له وخلقته: لقد حوّلت رأس المال الأحفوري إلى الإمبراطورية الأحفورية.

في ذلك الوقت كانت بريطانيا أكبر إمبراطورية شهدها العالم يوماً، وقد شُيدت على التفوق البحري، وكان مبعثه تقليدياً قوة الرياح. لكن في عشرينيات القرن التاسع عشر، بدأت البحرية الملكية تفكّر في الدفع بالبخار: حرق الفحم بدلاً من الإبحار اعتماداً على دفع الرياح. الرياح مصدر «متجدد» كما نطلق عليه اليوم، لا ينضب، رخيص، مجاني، لكن له حدوده المعروفة. لا يمكن للقبطان التعويل على فكرة أنه سيهب دائماً بشكل منتظم أينما ولّى. وفي ساحة المعركة، قد تهدأ الرياح وتقيد حركة ومناورات السفن، أو قد تدفعها الرياح القوية بعيداً عن أهدافها، أو تسمح لها بالتقدم بوتيرة بطيئة لا تناسب الهدف المنشود. تحوّلات الرياح المفاجئة قد تعطي الخصم الفرص للإفلات، أو للتجمع وتسديد الضربة. في العمل العسكري، عندما يصبح حشد الطاقة واستخدامها حسب الطلب مسألة ملّحة للغاية، تعد الرياح قوة غير موثوقة. أما البخار فهو يخضع لمنطق آخر: يشتق قوته من مصدر طاقة لا علاقة له بالظروف الجوية، الرياح أو التيارات البحرية أو الموج أو المد والجزر.. الفحم يأتي من مخزون تحت الأرض، هو مجموع ونتيجة وإرث التمثيل الضوئي على مدار مئات الملايين من السنين، وما إن يُخرج إلى فوق سطح الأرض، يمكن حرقه في أي مكان وبأية كمية بحسب طلب من يملكه. القوة الضاربة للبخار إذن يمكن تجميعها واستخدامها على قدر الحاجة. أسطول من مثل هذه السفن يمكن ترتيبه كما يريد له القائد البحري بالضبط: توجيه المدافع وإنزال القوات ومطاردة الخصم بغض النظر عن اتجاه هبوب الرياح. شدّد على هذه الحريات التي يتيحها البخار الأدميرال تشارلز نابيير، أنشط مدافع عن البخار في البحرية الملكية البريطانية، وقد لخّص الأمر بقوله: «السفن البخارية تجعل الرياح لطيفة دائماً» و«اكتسب البخار قوة ضاربة فوق العناصر كلها، يبدو لي أننا الآن نملك كل ما نحتاجه لجعل الحرب البحرية تسير على هوانا تماماً».5  التفوّق على العناصر كان – في التحليل الأخير – خاصية من خواص الطابع المكاني- الزماني للوقود الأحفوري: بسبب انفصاله عن المكان والزمن فوق سطح الأرض، فقد وعد بتحرير الإمبراطورية من الإحداثيات التي راحت القوارب تبحر بموجبها منذ الأبد.

أول مرة يجرّب فيها نابيير هذه القدرة المتفوّقة للبخار كانت في العام 1840، هنا، على شواطئ لبنان وفلسطين. في ذلك العام، دخلت بريطانيا الحرب ضد محمد علي. كان محمد علي باشا يحكم مصر اسمياً لصالح الإمبراطورية العثمانية، لكن فعلياً كان يحكم دولته الخاصة، التي أصبحت في حالة حرب مع السلطان العثماني. خرجت قوات محمد علي من مصر وغزت الحجاز والمشرق وشكّلت إمبراطورية عربية ناشئة، كانت في مسار تصادم مع الباب العالي ومع لندن. هدّد صعود محمد علي بإسقاط الإمبراطورية العثمانية، التي اعتبرت بريطانيا في ذلك الحين أن استقرارها وتماسكها ضرورة استراتيجية في مواجهة روسيا. إذا تفكّكت الإمبراطورية العثمانية، فقد تتوسّع روسيا جنوباً وشرقاً نحو مستعمرة التاج البريطاني في الهند، لذلك عزّزتها بريطانيا ودافعت عنها. إذن لنا أن نقول إن التنافس الإمبريالي دفع بريطانيا للتدخّل ضد محمد علي. وكذلك فعلت – بشكل لا يقل أهمية – ديناميات التطور الرأسمالي داخل بريطانيا. فصناعة القطن كانت رأس الحربة، لكن في ثلاثينيات القرن التاسع عشر كانت تلك الصناعة قد تقدمت كثيراً قياساً بأي فرع آخر من فروع الإنتاج حتى إنها تعرضت لأزمة فرط الإنتاج: تراكمت أكوام النسيج والقماش التي تخرج من المصانع. لم تكن مصادر الطلب كافية لامتصاص كل هذا الإنتاج. إذن كانت بريطانيا تسعى سعياً حثيثاً لفتح أسواق التصدير، وفي 1838 وافقت الإمبراطورية العثمانية على اتفاقية تجارة حرّة مفيدة بصورة هائلة لبريطانيا، عُرفت بمسمى اتفاقية بلطة ليمان. كان من شأنها فتح الأراضي التابعة للسلطان أمام صادرات بريطانية بشكل غير محدود. لكن كانت المشكلة أن المزيد والمزيد من تلك الأراضي راحت تسقط تحت سيطرة محمد علي، الذي اتّبع سياسة اقتصادية مناوئة: إحلال الواردات. شيّد مصانع القطن الخاصة به في مصر. مع أواخر ثلاثينيات القرن التاسع عشر، كانت قد تحوّلت إلى أكبر صناعة من نوعها خارج أوروبا والولايات المتحدة. ما كان محمد علي ليقبل بحرية تجارة بريطانيا، وفرض رسوماً جمركية واحتكارات سلعية وغيرها من المعوقات الحمائية حول صناعة القطن خاصته ودعمها بفعالية لدرجة أنها بدأت تتسلل إلى الأسواق التي كانت تهيمن عليها بريطانيا، حتى بلغت الهند نفسها.

 كرهت بريطانيا هذا الأمر. لم يكرهه أحد أكثر من اللورد بالمرستون، وزير الخارجية والمهندس الأول للإمبراطورية البريطانية في منتصف القرن التاسع عشر. نُقل عنه قوله غاضباً: «أفضل شيء يمكن أن يفعله محمد هو أن يدمّر مصانعه ويرمي ماكيناته في النيل».6  اعتبر، ومعه وزارته، أن رفضَ محمد علي الاعتراف ببلطة ليمان عملاً عدائياً ضد بريطانيا. كان من الضروري فرض التجارة الحرة على محمد علي والأراضي العربية التي يحكمها. وإلا كان سيحكم على صناعة القطن البريطانية بالاختناق من دون المنافذ التي تحتاجها للاستمرار في التوسع، وربما كان ليخنقها أكثر ذلك المتمرد المصري. لم يُخف اللورد بالمرستون مبادئ سياسته الخارجية: «كان واجب الحكومة فتح قنوات جديدة لتجارة هذا البلد»، «هدفه الأسمى، في كل أنحاء العالم» كان فتح أراض جديدة للتجارة، ودفعه هذا للالتزام إلى مواجهة محمد علي.7  أصبح مهووساً بـ«المسألة الشرقية»: «من جانبي، أكره محمد علي الذي أعتبره همجياً مغروراً لا أكثر»، كذا كتب بالمرستون في 1839: «أعتبر حضارته التي يزهو بها في مصر مجرد هراء».8  أصبحت لندن أكثر عدائية شهراً بعد شهر. «لتعلم أن قوة إنكلترا ستسحقك»،9  كذا قال القنصل العام البريطاني في الإسكندرية محذراً الباشا. وقال اللورد بونسونبي السفير البريطاني في إسطنبول ناصحاً حكومته: «لا بد أن نضرب سريعاً وأن نضرب بقوة. سوف يسقط ويتحول إلى شظايا ذلك الصرح المتهافت مما يُسمى القومية العربية».10  بهذه الكلمات التي تردد صداها في ردهات وايت-هول، أمر اللورد بالمرستون البحرية الملكية بحشد أفضل سفنها البخارية. في أواخر صيف 1840، تحركت قوة بخارية بحرية هي الأكثر تطوراً في العالم حينئذ، تحت قيادة نابيير، متجهة إلى بيروت.

كانت سفينة نابيير المفضلة تُدعى «غورغون». كانت يدفعها محرك بخاري بقوة 350 حصاناً، وتتسع لتخزين 380 طناً من الفحم، وتسع 1600 جندي وبها ستة مدافع… كانت «أول سفينة بخارية قتالية حقيقية» أشرت ببدء «عهد جديد».11  أخذ نابيير الغورغون لاستطلاع المنطقة المحيطة ببيروت، وراح يسير بها شمالاً وجنوباً إلى جوار الشاطئ كما شاء، في تجاهل مدهش لحالة الطقس، لكنه أرسل طلباً عاجلاً إلى ضباطه: «لا بد أن ترسلوا إليّ سفن فحم هنا بأي ثمن، لأن السفن البخارية من دون فحم لا نفع منها».12  وفي 9 أيلول/سبتمبر بدأ قصف بيروت. تولت الغورغون وثلاث سفن بخارية أخرى القيادة، واصطفت من خلفها 15 سفينة شراعية. راحت السفن البخارية التي تدفقت منها بسخاء أعمدة دخان الفحم المحترق تراوغ في خليج بيروت، تكر وتفر وتناور المدافعين المصريين، بقيادة ابن محمد علي، إبراهيم باشا. ويبدو أن هناك أهدافاً أخرى تعرضت للضرب. بعد يوم من القصف الشديد بصورة خاصة، في 11 أيلول/سبتمبر، أرسل قائد القوات العربية رسالة لوم إلى الأسطول البريطاني قال فيها:

لكي تقتلوا خمسة من جنودي، ألحقتم الحزن والدمار بعائلات بأكملها. قتلتم النساء ورضيعاً صغيراً ومعه أمه، ورجلاً مسناً وفلاحين اثنين قادهما حظهما التعس إلى هنا وآخرين كثيرين لم تبلغني أسمائهم بعد (…) ناركم تصبح أكثر قوة وتدميراً على الفلاحين البؤساء، أكثر مما تقضي على جنودي. يبدو أنكم قررتم أن تصبحوا سادة هذه البلدة.13

 ذكرت بعض المصادر من داخل بيروت أن نحو ألف شخص قتلوا في القصف، وملأت جثثهم الشوارع. أفاد طاقم سفينة أميركية مارّة بأن «جميع المباني، الخاصة والعامة، أصبحت أكواماً من الحطام، والأسطول الإنكليزي يطلق النار على المباني القليلة الباقية، وهم مصممون على ألا يتركوا حجر فوق حجر، والبلدة بأكملها ساحة دمار وخراب».14

وبعد هذا الإنجاز، طاردت السفن البخارية قوات إبراهيم باشا على امتداد الساحل. من اللاذقية شمالاً عبر طرابلس وصور حتى حيفا جنوباً، راحت مواقعهم تسقط كقطع الدومينو، وانسحب المُدافعون تحت وطأة هجمات مُفاجئة انهالت عليهم بلا هوادة. قال نابيير مبتهجاً: «سفن البخار تعطينا التفوق العظيم، وسوف نطاردهم ولن نترك لهم فرصة الراحة. لا بد أن يتحرك إبراهيم بسرعة إذا أراد أن يسابق سرعة البخار».15  راح اللورد بالمرستون يتابع الأنباء من الجبهة في سرور، وقد حملت الأنباءَ سفنُ البخار السريعة إلى لندن، وكتب رداً على التطورات: «كلما زادت القوة التي أمكنك حشدها في سوريا كان هذا أفضل».16  ثم إنه أمر بالهجوم على عكا الفلسطينية. كان الجميع يعرف أن المعركة الحاسمة ستكون هناك. سبق أن تمنّعت عكا ستة أشهر على نابليون في 1799، ثم لستة أشهر أخرى في 1831 عندما حاصرها إبراهيم باشا. منذئذ، أصلح المصريون أسوار العاصمة الصليبية القديمة، وسلّحوا أبراجها بالمدافع الثقيلة وتحصن فيها آلاف الجنود، ما عزز موقفَ عكا كأشد الحصون مناعة على ساحل الشرق. وكان بها مستودع عظيم، ممتلئ عن آخره بالأسلحة والذخائر، وأغلبها في منطقة تخزين مركزية. كما كانت عكا بلدة مزدهرة بها تعداد كبير من السكان المدنيين الذين لا علاقة لهم بالشؤون العسكرية.

وفي الأول من نوفمبر 1840، اقتربت «الغورغون» والسفن البخارية الثلاث الأخرى من ساحل عكا. كانت أربع سفن بخارية وحيدة، وقد تأخرت عنها باقي السفن الشراعية المصاحبة لها. طالب نابيير المصريين بالاستسلام، وعندما رفضوا، بدأ القصف. وصف تقرير من التقارير المشهد:

هكذا تجلت قوة سفن البخار في الحرب: وصلت فرقة وابورات الحلفاء إلى الخليج، وسرعان ما راحت تقصف وتضرب البلدة، وهو ما أزعج الحامية المتحصنة بها كثيراً. رغم ردها على النيران بقوة، راحت الوابورات تغيّر مواضعها، فلم يمسها سوء.17

وفي مساء 2 تشرين الثاني/نوفمبر لحق باقي الأسطول المكون من سفن شراعية بطليعته البخارية. اصطف خط المعركة كما يجب. وأصبح من الممكن الاستفادة بشكل كامل من قوة دفع البخار، إذ احتلت السفن البخارية القلب من التشكيل الهجومي.

بعد ظهر الثالث من تشرين الثاني/نوفمبر، استأنفت السفن البخارية ضرب عكا، وانضمت السفن الأخرى إلى ما أمسى حينئذ – بحسب وصف نابيير – «ناراً هائلة».18  ردّ المدافعون بنيران المدافع. وبعد ساعتين ونصف الساعة، دوّى صوت هائل كالرعد في ساحة المعركة. من داخل عكا «فجأة تصاعدت النار والدخان كالبركان المندفع إلى السماء، وعلى إثر ذلك تناثرت حمم من المواد من مختلف الأنواع، حملتها وطارت بها قوة الانفجار. استقر الدخان لثوانٍ معدودة جاثماً كقبّة سوداء عظيمة، حجبت رؤية كل شيء»، كما وصف أحد المصادر ذلك المشهد، وأضاف المصدر:

الانفجار المرعب الذي سمعناه فوق ضجيج المعركة أعقبته فوراً هنيهة من الصمت المخيف. فجأة توقف القصف من الجانبين، ولدقائق لم يكسر شيء هذا السكون المدوي إلا رجع الصدى من الجبال التي ردت علينا الصوت وكأنه هزيم رعد بعيد، ووسط هذا سمعنا وئيد تهاوي بناية أو أخرى من داخل البلد.19

ضربت إحدى القذائف مخزن ذخائر عكا العظيم. وُصفت الغورغون ببطل المعركة. بكلمات قبطان بريطاني فخور بما حدث: «انفجر المخزن بعد توجيه قذيفة دقيقة التسديد من وابور الغورغون».20  لا يمكن أن نستبعد أنها كانت ضربة حظ، لكن الإنكليز كانوا يعرفون موقع مخزن الأسلحة. نقل اللورد مينتو – القائد الأعلى للبحرية الملكية – هذه المعلومة فقال للقائد الميداني أثناء حصاره لعكا «هناك الكثير من البارود المُخزّن بشكل غير آمن تماماً في عكا» وذكر أنه هدف مناسب يجب استهدافه، في رسالة موقعة بتاريخ 7 تشرين الأول/أكتوبر.21

بغض النظر عن درجة التعمّد، كانت نتائج الضربة التي سددتها أول سفينة بخارية مقاتلة في العالم واضحة وقوية. تحولت عكا الفلسطينية إلى كتلة من الهدد والأنقاض. جاء في تقرير مُرسل إلى اللورد بالمرستون: «قُضي تماماً على فرقتين من جيش العدو، وكف عن الوجود أي كائن حي على مساحة 60 ألف ياردة مربعة. كانت خسارة الأرواح من 1200 إلى 2000 نسمة».22  وعندما حلّت ليلة 3 تشرين الثاني/نوفمبر، خرج الجنود العرب الناجون من مواقعهم في المدينة. عندما دخلت القوات البريطانية البلد في اليوم التالي، قابلهم الدمار التام. ها هو بورتريه يصف المشهد:

كانت جثث الرجال والنساء والأطفال التي سوّدها انفجار مخزن السلاح وشوّهتها بشكل مريع نيران المدافع، مبعثرة هنا وهناك، نصفها مدفون في هدد البيوت والتحصينات: وراحت النساء يبحثن عن جثث أزواجهن والأبناء عن آبائهم.23

وفي رسالة إلى زوجته، وصف نابيير الضيْق والتوتر وربما نوبة من الإحساس بالذنب: «مضيت إلى شاطئ عكا فرأيت الخراب الذي أحدثناه، وشهدت مشهداً لن يفارق ذاكرتي أبداً… مشهد كلما تذكرته أرتجفت». رأى مئات الموتى والمحتضرين وسط الأنقاض… «الشاطئ، على امتداد نصف ميل على هذا الجانب وذاك، ممتلئ بالجثث». بعد أيام «انبعثت من الجثث في الهواء رائحة رهيبة».24  حتى في روايته الرسمية التي أوردها في كتاب بعنوان «الحرب في سوريا»، اعترف نابيير بأن «لا شيء يمكن أن يكون صادماً أكثر من رؤية هؤلاء التعساء والمرضى والمصابين في أرجاء البلدة التي كانت تُباد عن بكرة أبيها».25  بدا أن الإنكليز قد ارتاعوا من حجم الدمار الذي جلبوه. في رسالة إلى اللورد مينتو، قال أدميرال آخر: «لا يمكنني أن أصف لفخامتكم الدمار التام الذي لحق بالبلد من نيران سفننا».26  وتحدّث بحار من سفينة بخارية أصغر ضمن الأسطول عن الأيدي وأصابع الأقدام التي رآها بارزة من تحت التراب.27  اجتذب هذا الحدث، الذي بالكاد يُذكر اليوم، قدراً هائلاً من الانبهار ببريطانيا الفيكتورية المبكرة. الحصن الذي تمنّع على محاصريه سنة في زمن نابليون سقط في أقل من ثلاثة أيام تحت وطأة ضربات سفن البخار. وفي رواية شعبية عن الحدث، في أقل من ثلاث ساعات من القصف المركّز يوم 3 تشرين الثاني/نوفمبر. كان تجسيداً إعجازياً ومثيراً للعجب على قوة بريطانيا عموماً والبخار على وجه الخصوص، جرى وصفه في سلسلة من الرسوم التوضيحية والأعمال الفنية (هنا مثلاً تجسيد آخر، حيث تصوّب سفينة بخارية، ربما كانت الغورغون، مدافعها إلى عكا، وتنبعث من المدينة أعمدة الدخان المصاحبة للانفجار العظيم لمخزن السلاح وراء الأسوار والأبراج: فحم على نار… بلد يشتعل.

 وفي هذا الرسم التوضيحي، الذي يزعم وصف المشهد من منظور المدافعين العرب، تنبعث سحب الدخان من قارب بخاري في المنتصف، بينما تقف البلدة إلى اليسار وقد بلغت سحب الدمار فيها عنان السماء:

 كان الانفجار هو المشهد الرئيسي للمعركة، لكن في الأمر أكثر من هذا. لقد استغلت السفن البخارية قدرتها على المناورة بشكل حُر في الماء قرب أسوار عكا، فكانت تقف على مسافة 40 متراً عندما تضرب مقذوفاتها، ثم تبتعد إذا احتاجت الابتعاد عن مرمى النيران. تمكّنت السفن البخارية من تنفيذ عملية قصف دقيقة، أشد تدميراً، واستمرت في مناوراتها ثلاثة أيام قبل وقوع الانفجار. هل استغلّ الإنكليز هذه القوة الغالبة لاستهداف قوات إبراهيم باشا بدقة متناهية؟ في السردية التفصيلية الأحدث عن الهجوم، قال أربعة باحثون إسرائيليون: «كان القصف يستهدف المدينة نفسها. (…) في الواقع، كان هدف القصف هو إلزام الحامية على الاستسلام، ليس عن طريق الأَضرار التي لحقت بها، لكن عن طريق القتل والخراب الذي صبّه الإنجليز على أهالي البلد غير المقاتلين».28  سهل هنا التعرّف إلى هذه النوعية من التفكير الاستراتيجي. لكن هناك وصف آخر مثير للإعجاب أوضح بدقة أكبر كيف كانت تلك العملية: «كل ضربة أسقطت جداراً ضربت البيوت وطارت معها الجدران والحجارة وانهالت على رؤوس الناس (…) لم يكن هناك أي مهرب».29

بغض النظر عن مشاعر الندم المحتمل عند قوات الإنزال البحري الإنكليزي على عكا، ففي وايت-هول لم يكن لمشاعر السعادة حدود. هنأ اللورد بالمرستون البحرية الملكية على فتح عكا وتأمين «إنفاذ المعاهدات التجارية».30  جرى إخلاء الطريق أمام التجارة الحرة في الشرق الأوسط. كان هذا إنجاز السفن البخارية الجليل، التي أُشيد بكفائتها: إنها «تغيّر مواقعها باستمرار أثناء المعركة، وترمي الطلقة والقذيفة حيثما تبيّنت لها المواقع الأعلى كفاءة للتسديد»، كما ورد في أحد التقارير، وأشار إلى أن «من المثير للإعجاب أنه لم يُقتل على متن أي سفينة من السفن البخارية أي رجل، ولم يصب أحد».31  لكن إذا كان الرجال قد دخلوا المعركة وخرجوا منها دون خدش واحد، فهناك مورد آخر استنزف تماماً: الوقود. بعد المعركة، لم يبق في أي من السفن الأربع أكثر من مخزون يكفي ليوم واحد للتشغيل. كل الفحم المُخزّن فيها احترق أثناء تدمير عكا وإحالتها إلى تراب.

حدّد سقوط البلدة نتائج الحرب في ضربة واحدة. انهارت قوات إبراهيم باشا وبدأت انسحاباً عشوائياً عبر سهول فلسطين الساحلية. استمرت السفن البخارية في مضايقتهم، فتوقفت في يافا وعلى ساحل غزة. وعلى الأرض، دخلت قوات المشاة غزة في يناير 1841، لضمان «تدمير إمدادات العدو»، وكانت تلك أول مرة تحتل فيها قوات بقيادة بريطانية هذا الركن من فلسطين، ولو حتى لفترة وجيزة.32  بسرعة، أعد المهندسون الملكيون خريطة لغزة، وهي للدقة لمدينة غزة، وفيها تظهر المدينة كما كانت عام 1841. هنا نرى الشجاعية إلى اليمين. لم يبق من هذا النسيج العمراني الكثير في الوقت الراهن.

بينما سيطر الإنكليز على غزة ورسموا خريطتها ودمّروا مخازن الطعام – ونفترض هنا أنهم فعلوا هذا حصراً لحرمان الجيش المصري من إمداداته – راحت طوابير من الجنود المحبطين والعطشى والجياع تهيم عبر الصحراء متجهة إلى مصر: أقل من رُبع جيش إبراهيم الذي خرج للحرب قبل سنوات. قبل وصولهم، مضى نابيير بسفينته البخارية إلى ميناء الإسكندرية، وهناك هدد بمعاملة المدينة نفس معاملة عكا، ما لم يقبل محمد علي جميع المطالب البريطانية. طلب محمد علي استبقاء فلسطين تحت سلطته على الأقل. لكن نابيير حذره من أنه «سيحول الإسكندرية إلى تراب».33  من ثم لم تعد فلسطين في متناوله. وبنفس السبل، ضغط نابيير للتنفيذ الفوري لاتفاقية بلطة ليمان في مصر. تراجع محمد علي في هذه النقطة أيضاً.

هكذا إذن دمرت بريطانيا الإمبراطورية العربية الناشئة، بالبخار. من بيروت إلى الإسكندرية، كانت السفن البخارية الملكية هي التي شكلت طليعة النصر، وكانت الطرف الأنجح في كل مناورة دخلتها بصحبة السفن الشراعية، إذ استفادت من قدرة المناورة والحركة الأسرع. في مقال حول «سفن الحرب الحديدية»، اقتبست صحيفة «مانشستر غارديان» رسالة غُفل من مواطن بريطاني في الإسكندرية:

لقد فعل البخار في المشرق الكثير مؤخراً، حتى إن كل حي يعرف الآن قدراته كعنصر من عناصر الحرب والسلام، ويسأل الجميع: «ثم ماذا سيفعل البخار بعد؟» ليس بوسع إبراهيم باشا تبرير هزيمته على ساحل سوريا في أسبوع إلا بالاعتراف بأن «الوابورات حملت العدو إلينا، هنا وهناك وفي كل مكان، فجأة… كنا نحتاج للطيران بالأجنحة حتى نصدهم! وكأننا كنا نقاتل الجن!».34

تلك القوة المشتقة من الوقود الأحفوري: سمح البخار للقادة والقباطنة بربط قواربهم بتيار طاقة من الماضي… مصدر طاقة خارجي على المكان والزمن في المعركة الجارية، ومن خلاله أطلقت السفن نارها وكأن لها أجنحة. تَعزَّز التفوق العسكري البريطاني بشكل فجائي إثر قدرته على تعبئة وتسخير الفحم المخزون تحت الأرض لهزيمة العدو. أو كما لاحظت الأوبزرفر في إشارة إلى فلسطين: «البخار، الآن حتى، يحقق فكرة التفوق المطلق عسكرياً والسمو العسكري: إنه تفوق نهائي وتام، ليس بوسع أحد تحديه».35  أصبحت بريطانيا جاهزة لصب قوة الوقود الأحفوري على من تشاء في جميع أنحاء العالم، بعد أن أثبتت مناعتها وقوتها في فلسطين.

الدولة التي حُسم مصيرها فوراً بسبب هذه الأحداث هي مصر. تداعت صناعة القطن التي شيّدها محمد علي بين يوم وليلة. عندما امتدت التجارة الحرة إلى مُلكه المتضائل، لم تتمكن المصانع على ضفاف النيل من الصمود في وجه الصادرات البريطانية، والسبب في هذا مباشر وواضح: لم تكن في مصر قوى محركة حديثة. لم تكن بها طاقة مياه، لأن النيل نهر هادئ يمتد على طبوغرافيا منبسطة، ليست فيه الشلالات ولا المساقط المائية. ولم تكن في مصر قوة البخار. بدلاً عن ذلك، اعتمدت الصناعات المصرية بنسبة كبيرة للغاية على القوى المحركة الحيّة: من ثيران وبغال وحتى عضلات البشر، التي راحت تحرّك الآلات. لكن كانت تلك قوى ضنينة للغاية من حيث توليد الطاقة، مقارنة بالمحركات البخارية. كانت ضعيفة في طاقتها، وغير متكافئة، وغير منتظمة. لماذا إذن لم يعتمد محمد علي على البخار؟ لم يكن يرغب في أي شيء قدر رغبته في طاقة البخار. محمد علي الذي كان مُطّلعاً على أحدث توجهات الصناعة الرأسمالية كرّس منذ عشرينيات القرن التاسع عشر كل اهتمامه للبخار والفحم، لدرجة بلغت حدّ الهوس. كان يعرف أنه لن يتمكن من الوقوف في وجه بريطانيا إلا إذا نسخ منها ما تفعله، من مسابك حديد ومصانع وفي أعالي البحار، في المنافسة الاقتصادية وفي الحرب على السواء. قال يوماً لأحد مبعوثي اللورد بالمرستون: «اكتشف الإنجليز اكتشافات عظيمة، لكن أفضل اكتشافاتهم هو سفن البخار».36

لكن البخار يحتاج إلى وقوده. لم يمتلك محمد علي أي مخزون منه. كان واعياً تمام الوعي بهذه المشكلة، فأرسل البعثات إلى صعيد مصر والسودان ومناطق أخرى محاولاً اكتشاف مناجم للفحم. عمرو خيري أحمد طالب الدكتوراه الذي أشرفت عليه ودافع مؤخراً عن أطروحة بعنوان «تشغيل مصر: كيف وفدت طاقة البخار على وادي النيل وأدخلت مصر في الرأسمالية الصناعية (1820 – 1876)»، وفيها يُظهر لنا كيف قاد هذا السعي وراء الفحم التوسّع الاستعماري لمحمد علي. كان من بين دوافعه لغزو سوريا تقارير ظهرت عن وجود الفحم في جبل لبنان. الحق أنه كان يمكن استخراج الفحم من التلال، من تحت أقدام الدروز والمارونيين: في 1837 تمكّن المصريون من استخراج كمية تساوي 2.5% من إجمالي إنتاج بريطانيا من الفحم. من الواضح أن هذا الفحم اللبناني كان متواضع الجودة ومكلّف في استخراجه وغير كافٍ لإحداث التحول إلى البخار في مصانع القاهرة، قبل أن تغلقها بريطانيا. كما أن صناعة استخراج الفحم الوليدة في جبل لبنان لم تجلب لمحمد علي إلا المشاكل. لقد أجبر الناس على العمل بالمناجم، ولقد كرهوا هذا العمل، لدرجة أنهم انتفضوا ضد قوات إبراهيم باشا في العام 1840. واستغل الإنكليز هذه الثورة لأغراضهم السياسية. ولقد أسهمت الثورة ضد أحلام محمد علي حول الفحم في سقوطه. كان مشروعه هو خلق إمبراطورية أحفورية في أراضي العرب. مثل كل بناة الإمبراطوريات، كان طاغية لا يرحم (في 1834 انتفض ضده الناس في نابلس). وأخيراً انتهى المشروع نهاية مؤسفة، بالأساس لأن محمد علي فشل في الوصول إلى مخزون مناسب من الفحم يصلح أساساً للإمبراطورية. لنا أن نخمّن حول ما كان يمكن أن يحدث لإمدادات الفحم التركية، التي نعرف اليوم أنها كثيرة للغاية، إذا كانت سقطت بين يديه. بعد حرب 1840 بقليل، قال محمد علي في عجب وإحباط لزائر إنكليزي زاره في قصره: «الفحم! الفحم! الفحم! لا أحتاج شيئاً سواه».37

وفي ثلاثينيات القرن التاسع عشر، كانت مصر في حالة ما بين المركز والهامش. لقد بدأت عملية تصنيع ناضجة، وللحظة كانت «الاقتصاد الناشئ» الرائد، كما يُقال عن هذه التجارب اليوم، خارج أوروبا والولايات المتحدة. لكنها كانت لحظة تحدد فيها قدرة الوصول إلى طاقة البخار والفحم الذي يحركها مصائر الأمم: من دون هذه المقدّرات، ومع ركلة قوية من أعلى، سقطت مصر من على الدرج. سرعان ما أغلقت مصانع النسيج على ضفاف النيل أبوابها وأصبحت أطلالاً. وأصبحت مصر أيضاً سوقاً مهمة للصادرات البريطانية، ومصدر أهم لإمدادات القطن: لقد حُبست الدولة في موضع الهامش. بعد 1840، مرّت بأكثر عمليات تراجع معدلات للتصنيع شهدها أي مكان في العالم على مدار القرن التاسع عشر. بمجيئ سنة 1900، كان 93 إلى 100% من صادراتها عبارة عن محصول واحد: درجة عالية للغاية وغير طبيعية من التخصّص. وبموجب موقع مصر في العالم العربي، وضع هذا التراجع في النمو المنطقة بأكملها أيضاً في موضع تابع للدول الرأسمالية المتقدمة في الغرب. ولم يتحقق هذا إلا بدءاً من لحظة 1840: علاقة قوة بنتائج طويلة الأمد. في «تشغيل مصر»، يمضي عمرو خيري أحمد بهذه القصة بتفاصيلها الدقيقة ويوضح كيف أصبحت مصر تابعة للاقتصاد الأحفوري الذي دار في فلك بريطانيا، واخترق اقتصاد مصر أخيراً الفحم والبخار، لكنه كان فحماً وبخاراً مستوردان من بريطانيا، لإنتاج ونقل المواد الخام. آمل أن يجد كتابه طريقه إلى النشر سريعاً حتى نتمكّن من قراءة القصة الكاملة.

البلد الثاني الذي تحدّد مصيره في ذلك الوقت كان فلسطين. في 1840، اقترحت الإمبراطورية البريطانية لأول مرة استعمار اليهود لذلك البلد. وتحديداً، في 25 تشرين الثاني/نوفمبر، كتب بالمرستون إلى بونسونبي سفيره في إسطنبول يقول: «هذا نصر عظيم لنا جميعاً» – أي سقوط عكا قبل أسابيع قليلة – «خصوصاً لك، أنت الذي قلت مراراً وتكراراً أن سلطة محمد علي ستتداعى إذا جاءه هجوم من أوروبا»، ثم أضاف:

رجاء أن تحاول بذل جهودك بخصوص اليهود. أنت لا تعلم لأي درجة يوجد اهتمام بهم هنا. سيكون من المناسب تماماً [إذا] قدم السلطان كل التشجيع والتسهيل لعودتهم إلى فلسطين وشرائهم الأراضي فيها، وإذا سُمح لهم بالاستعانة بخدمات قناصلنا وسفرائنا كقناة لتقديم الشكاوى، أي أن نضعهم تحت حمايتنا، بحيث يعودوا بأعداد كبيرة، ويجلبوا معهم الكثير من الثروات.38

قبل المؤتمر الصهيوني الأول بسبع وخمسين عاماً، وقبل وعد بلفور بسبع وسبعين عاماً، وقبل خطة التقسيم بمائة وسبعة أعوام، ها هو المهندس الأول للإمبراطورية البريطانية، وعلى رأس سلطتها، يضع معادلة استعمار فلسطين. لسبب ما، يبدو أن هذه الوثيقة تحديداً لم تُقتبس أو تُذكر في كل تواريخ فلسطين. لكن ها هي، في رسالة صغيرة أُرسلت في غمرة النشوة بالنصر بعد تدمير عكا وتحويلها إلى أنقاض.

وفي العام 1840 أيضاً ظهرت أول حالة هوس بما نعرفه الآن بمسمى المشروع الصهيوني. كانت عملية قيد التشكّل قبل سنوات. كما هو معروف، شهدت بريطانيا في أواخر ثلاثينيات القرن التاسع عشر هبّه قوية للمسيحية الصهيونية، وهي عقيدة مفادها أن على اليهود التجمّع في فلسطين و«استرجاعها»، حيث سيتحولون إلى المسيحية ويأتي من بعد هذا المسيح المنتظر ويحل يوم القيامة. المبشّر الأساسي لهذه العقيدة كان إيرل شافتسبيري، الذي كانت تربطه صلة مصاهرة باللورد بالمرستون. ولقد حاول الاستفادة من هذه القرابة بأكبر قدر ممكن، لكن عندما تحدّث إلى وزير الخارجية، كان عليه تنحية حججه ومقولاته الدينية جانباً. راح يكلمه عن تقارير حول «القوى المنتجة للأراضي المقدسة» التي «تُركت للإهمال التام على مر قرون». إذا تمكنت بريطانيا من إدخال اليهود إليها – كما قال – فسوف تتحول فلسطين إلى مورّد للقطن وسوق للبضائع المُصنّعة و«قد يشعر رأسماليونا بإغراء استثمار مبالغ كبيرة في الماكينات والزراعة».39  بعد تناول العشاء مع بالمرستون في 1 آب/أغسطس 1840، ذكر شافتسبيري الورع والماكر في مذكراته: «أنا مضّطر للمحاججة سياسياً ومالياً وتجارياً، فهذه الحجج تصيبه وتقنعه».40  لكن عقائد يوم القيامة والإمبراطورية لم تكن منبتة الصلة أحدها عن الأخرى. نجح شافتسبيري في إقناع بريطانيا بفتح قنصلية في القدس في 1838. لم تكن تلك مصادفة، ففي العام نفسه دخلت بريطانيا المنطقة مع توقيع اتفاقية بلطة ليمان. امتزج الرب وعبادة الثروة جيداً. أما الليدي بالمرستون، زوجة وزير الخارجية، التي يبدو أنّه شكّل بالحوار معها آرائه، فقد قرأت وفسرت سقوط عكا من منظور الكتاب المقدّس:

لا يمكن أن يكون من قبيل الصدفة، أن تحدث هذه الأشياء! في تصوري هي تؤشر بعودة اليهود وتحقق النبوءات. (…) الأمر مدهش ومثير حقاً، ويبدو أن عكا سقطت كما سقطت من قبلها أسوار أريحا، وتشتت جيش إبراهيم كما تشتت جموع أعداء اليهود، كما قال لنا العهد القديم.41

تجدر الإشارة هنا إلى أن هذه التصورات كانت بالكامل تصورات مسيحية من خيالات الأنجلو-ساكسون البيض، تصورات لم يلعب فيها اليهود الفعليون، الذين يعيشون في الشرق الأوسط أو مناطق أخرى، أي دور فعال في صياغتها.

اللورد بالمرستون نفسه رأى في دمار عكا علامة، ليس على مجيئ نهاية الزمان ويوم القيامة، إنما على عهد جديد من الرفاه والازدهار. لن تضطر صناعة القطن للبقاء رهينة محدودية الأسواق. بعد ما وصفه بمسمى «تركيع محمد علي»، أعاد بالمرستون ذِكر فلسفته العامة:

لابد أن نسعى سعياً حثيثاً للوصول إلى مناطق أخرى من العالم حيث المزيد من الطلب الجديد على منتجات صناعتنا. العالم واسع بما فيه الكافية، وحاجات الجنس البشري كبيرة وكثيرة بما يتيح الطلب على كل ما يمكننا تصنيعه، لكن شأن الحكومة هو فتح وتأمين الطرق للتجار.42

إذن فضمن هذا المخطط وُضع دور لليهود. في رسالة أخرى – وهذه الوثيقة يجري اقتباسها كثيراً – قال بالمرستون لبونسونبي إن عليه إقناع السلطان «بتشجيع اليهود على العودة إلى فلسطين والاستقرار فيها لأن الثروة التي سيجلبوها معهم ستزيد من موارد مُلك السلطان»، كما أن المستوطنة اليهودية ستصبح بمثابة «يد نستعين بها ضد أية مخططات شريرة من محمد علي أو خلفائه».43  على امتداد «الأزمة الشرقية»، راح بالمرستون يُملي مرة تلو المرة المنطق نفسه الحاكم في رسائله إلى سفرائه: «عودة» اليهود إلى فلسطين المصحوبة بزرع «عدد كبير من الرأسماليين الأثرياء». إذا قبل السلطان بذلك، فسوف يكسب صداقة «الطبقات النافذة في هذا البلد» (أي في بريطانيا)، «رأسمال وصناعة اليهود سيزيدان كثيراً من إيراداته ويزيدان من سطوة ومناعة إمبراطوريته».44  يمكن أن نرى هنا صورة أشعة مقطعية لمُخ الصهيوني الاستعماري. لأن اليهود سيرتبطون بالمركز، يصبح منح فلسطين لهم دعامة لنمو الرأسمالية ومانعاً يحول دون صعود التحديات الجديدة في المنطقة.

ولفهم لأي مدى ذاعت شعبية هذا المخطط، نذكر مقالاً نشرته صحيفة التايمز بتاريخ 17 آب/أغسطس. في ذلك الحين كان تشارلز نابيير يجول في السواحل اللبنانية على متن الغورغون. في المقال، قيل إن إنشاء مستوطنة يهودية في فلسطين يعتبر «مانعاً وضمانة ضد أي تكالب في المستقبل من الطغاة الخارجين عن القانون على المنطقة وحائط صد ضد التحلل الاجتماعي»، أي أن مثل تلك المستوطنة ستصبح «في خدمة الحضارة في الشرق».45  على هذه الأسس وضع ضباط البيروقراطية الإمبراطورية أسس ومهاد الصهيونية. كان بعضهم قد عادوا تواً من ساحة المعركة. هناك كولونيل اسمه تشرشل – تشارلز هنري تشرشل، وهناك صلة قرابة بعيدة تربطه بتشرشل الشهير – قاد القوات البريطانية التي دخلت دمشق في مطلع 1841، ومن ثم جمع كبار المدينة وأعيانها في قاعة من القاعات وألقى عليهم خطبة:

نعم يا أصدقاء! كان هناك شعب يهودي في الماضي! برع في الفنون وبرز في الحروب. هذه السهول والوديان الجميلة التي يسكنها الآن العربان الهمج الجوابة، تسلطت عليها الوِحشة ودمغتها بختمها الحديدي، كانت في الماضي بلاداً خصبة تحت أيدي اليهود، وافرة المحاصيل، تتردد في جنباتها أغنيات بنات صهيون. لعل الرب يعجّل بعودة إسرائيل!46

كان تشرشل الأقدم ذاك يعرف تماماً أنه لم يكن هناك يوماً – كما قال – «تصور قوي بين يهود أوروبا بفكرة العودة إلى فلسطين».47  أثارت فيه رغبة اليهود في البقاء حيث كانوا يعيشون مشاعر الغضب والإحباط. وكان من المُحبط أيضاً التزام حكومته بضرورة حماية تماسك الإمبراطورية العثمانية، تحت وصاية وحماية بريطانية. كان يتمنى لو تتفكك، ورأى في استعمار اليهود لفلسطين المطرقة المناسبة للمهمة المنشودة. من دمشق، حيث جرى تنصيبه قنصلاً، أرسل تشرشل رسالة مطولة إلى موسى مونتيفيوري، رئيس مجلس نواب اليهود البريطانيين، يحثه على إقناع زملائه اليهود بالذهاب إلى فلسطين وربما إلى سوريا أيضاً:

في نهاية المطاف، على الأقل ستحوز على السيادة في فلسطين. (…) أنا على يقين من أن هذه البلدان تحتاج للإنقاذ من قبضة الحُكام الجهلة المتعصبين، ولابد أن تمضي إلى الأمام مسيرة الحضارة، ولا بد أن تنمو عناصرها الوفيرة التي يحركها الازدهار التجاري. ومن نافلة القول أن هذا لن يحدث تحت لواء سطوة وقسوة التُرك والمصريين النهّابين المنّحلين. سوريا وفلسطين، باختصار، لا بد أن يؤخذا تحت جناح الحماية الأوروبية، وأن يُحكما بالعقل وبروح الإدارة الأوروبية. لابد أن يتحقق هذا في نهاية المطاف.

لقد تصوّر تشرشل كياناً يهودياً في فلسطين تحت حماية بريطانيا وحليفاتها، كياناً مُسلّحاً «يتصدّى لغزوات العربان البدو».48

وهناك رجل آخر هرع إلى فلسطين في تلك اللحظة الواعدة، هو جورج غاولر. بعد أن انتقل إليها من جنوب أستراليا، حيث شغل منصب الحاكم، كتب كتاباً دعائياً بعنوان «تهدئة سوريا والشرق: مقترحات عملية لتحقيق توطّن المستوطنين اليهود في فلسطين، وهو أفضل وأعقل حلّ لتعويض المآسي التي يسببها التُرك الأسيويين». سافر إلى فلسطين في مطلع أربعينيات القرن التاسع عشر، وبشكل ما تمكّن من تصوّره بمثابة «بلد خصب، تسعة أعشاره في وحشة وجدب». قال إنه رأى الأرض خالية، ليس فيها إلا قلة من «البدو المبعثرين الجوَّابين»، وهنا وهناك يرى المرء «مدناً مهجورة، وسهولاً مجدبة تتناثر بها أشواك الصحراء». والحل؟ «نعيد تعمير البلدات والحقول المهجورة في فلسطين بالشعب المحب للشُغل»، اليهود، الذين سيحولوها إلى سوق مزدهرة تحت جناح وحماية «قوة بحرية تقف على الساحل» – السفن البخارية البريطانية.49  ثم هناك ي. ل. ميتفورد، من أصدقاء بالمرستون، الذي تخيّل فلسطين «أرضاً خراباً خاوية». وقال إن الاستعمار اليهودي سوف يجلب «البركات على بريطانيا وسنشعر به في قلوب وبيوت صُنّاع مانشستر وبرمنغهام وغلاسغو الفقراء»، وكان من المهم في رأيه أن هذه العملية من شأنها تيسير ترسخ التواجد البريطاني المحمول على أكتاف الوقود الأحفوري في المنطقة وخارجها.50  قال إن الدولة اليهودية المستقلة تحت الحماية البريطانية سوف «تضع إدارة اتصالاتنا بالسفن البخارية بالكامل بين أيدينا، وسوف تعطينا موقعاً قيادياً في المشرق، ومنه نشرف على عملية التوسّع، لنتغلب على الأعداء الصريحين، وحتى نردع – إذا لزم الأمر – اجتراءاتهم علينا».51  كانت تلك هي المعادلة التي جاءت بها أحداث العام 1840.

كانت تلك إذن لحظة مولد مبدأين متصلين: الأول، هو أن لا وجود لشعب في فلسطين. الثاني هو ضرورة أخذ الأرض بقوة التكنولوجيا التي يحركها الوقود الأحفوري. بالنسبة للمبدأ الأول، من الشائع القول بأن الصهاينة المعاصرين هم من جاءوا بشعار «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض»، لكن هناك إجماع نراه هنا على أن هذه الفكرة وُلدت حوالي العام 1840. يشير البعض إلى مقال كتبه شافتسبري في صحيفة التايمز في العام 1839، وفيه استخدم عبارة «أرض بلا شعب – شعب بلا أرض». أرض [الكلمة بالإنكليزية تعني أيضاً كوكب الأرض] هي كلمة قد تبدو لنا الآن مشؤومة. ويمنح آخرون شرف صك هذه المقولة للصهيوني المسيحي ألكساندر كيث، الذي ذهب في بعثة إلى فلسطين في العام 1839 وتمكّن بشكل ما من العودة بانطباع بأن ذلك البلد هو «بلد بلا شعب»، ينتظر وصول «شعب بلا بلد». اعتبر أن مدن وبلدات فلسطين كانت «خاوية من دون سكان»، من غزة إلى الخليل، كل ما رصده كيث هو «مواقع مهجورة وقرى خربة، ولا واحدة منها عامرة».52  لكن حلّت معجزة. قال كيث عن عكا: «وكأن الرب هو من طلب… اخترقت قنبلة مستودع الذخائر المعدّة للدفاع، فارتقت مكونات الترسانة وتطايرت في الهواء، وكأنما لإظهار أن آخر قلعة في فلسطين يجب أن تُمحى وتنخلع حجراً من فوق حجر. وكأنه ليس ببعيد زمن قدوم سواعد الغرباء لتعمل عملاً آخر هنا، لتبني الأسوار الخربة على هيئة أخرى. (…) سقطت عكا في نصيب سبط من أسباط إسرائيل».53

وهكذا انتشرت فكرة في التعليقات البريطانية حول فلسطين أن لا شعب يعيش هناك. أخطر شافتسبري بالمرستون بأن الاستعمار اليهودي سيكون «الطريقة الأرخص والأكثر أماناً لتعمير تلك المناطق المهجورة».54  ونشرت صحيفة مورنينغ بوست مقالاً من المقالات المتكررة حينذاك ادعت فيه بأن «سوريا وفلسطين بلا شعب»، أخفق فيها «أبناء» «البرية العربية» في «ترسيخ أقدامهم والحفاظ على جنسهم». وقيل إن العام 1840 يتفق حسابياً مع نبوءة من الكتاب المقدس حول عودة اليهود.55  أصبح هذا الربط بين عقائد نهاية الزمان والإمبراطورية رائجاً بعد عكا، ولعل الأثر الأعجب الذي تمخضت عنه تلك اللحظة كان نص مجهول المؤلف من 350 صفحة، هو خليط من التفسيرات الدينية ومبادئ السياسة العملية وتصنيم البخار والهوس به، يُسمّى «ملوك الشرق». هنا أيضاً، قيل إن في فلسطين سكان «قليلين»، ووُصف سقوط عكا بالتدخل الإلهي عن طريق البخار، عماد القوة البريطانية.56  كإثبات على الأهمية الميتافيزيقية لعكا، اقتبس المؤلف من تقرير ورد فيه أن «البلدة كتلة من الحطام، ليس فيها بيت واحد – ولو كان صغيراً – أفلت من غضب ضرباتنا. (…) كل شيء يشهد على الدقة اللامتناهية لمدافعنا» – الحمد لله: «الآلاف من أهلها قُتلوا أو هم يحتضرون».57  من ثم، فالعودة وشيكة. زعم هذا المؤلف أن «اليهود بدأوا في العودة إلى يهودا».58

هناك آيتان في الكتاب المقدس تسلّطان الضوء على هذه العملية بصورة خاصة. في مطلع سفر إشعيا، الإصحاح الثامن عشر، في نسخة الملك جيمس: «الويل للأرض المضروبة عليها الأجنحة، وراء أنهار أثيوبيا: يرسلون السفراء في البحر، حتى في السفائن التي تمخر عباب البحر، ويُقال، اذهبوا أيها الرُسل وأسرعوا، إلى أمّة مشتتة مُدمّرة». أي سفن كان النبي يتحدث عنها هنا؟ من الواضح أنه كان يفكّر في السفن البخارية البريطانية.59  كانت السفن التي أرسلت السفراء بحراً لفتح فلسطين لليهود. من هنا، استنبط المؤلف نبوءة جديدة: بريطانيا «سوف تصدر إعلاناً، يضمن لجميع اليهود الذين عادوا إلى سوريا حمايتهم».60

وعبَر هذا الهوسُ الأطلنطيَّ وبلغ الولايات المتحدة الأميركية. في الأسابيع السابقة على سقوط عكا، أعلنت «ذا ويسترن ميسنجر»، وكانت دورية تقدمية إلى حد ما، في أي اتجاه ستهب الرياح: «الآن مع دخول سفن البخار خليج الإسكندرية، ومع حركة الوابورات على صفحة النيل، وزئير القاطرات البخارية المندفعة على السكك الحديد، أليس من المؤكد أن قوة المسلمين قد انتهت؟» لقد حان الوقت «لمنح اليهود حيازة فلسطين».61  سوف يأخذون الأرض ويدافعون عنها بالقوة العسكرية، وسوف يرسلون جميع أشكال الأرباح إلى الغرب. لكن أول صهيوني أميركي يستحق الذكر كان – على النقيض من جميع أقرانه الإنكليز – يهودياً، وهو مردخاي مانويل نوح.62  في العام 1844، أصدر «مقال عن إرجاع اليهود». لم يزر فلسطين يوماً، لكن يبدو أنه فهم من الرحالة الإنكليز أنها «أرض خاوية موحشة» – على الرغم من أنه تكلم عن أن «الزيتون وزيت الزيتون منتشر هناك»، وتحدث عن القمح والذرة والقطن والتبغ على السهول وفي الوديان، و«عنب كبير الحجم ينمو هناك في كل مكان». والآن «هناك ثورات كبيرة ومهمة» تشهدها تلك الأرض. اعتنق نوح الرأي القائل بأن هزيمة محمد علي أشّرت بـ«تنظيم حكومة قوية في يهودا»، ودعا الولايات المتحدة إلى العناية بها.63

قرأ نوح بدوره إصحاح إشعيا الثامن عشر. أضاف إلى تفسيرات النصّ بعض الشيء إذ قرأه بالعبرية ووجد أن النبي قال إن السفن اسمها «غومي». قد تعني هذه الكلمة العبرية أيضاً «قوة محركة دافعة قوية»… وجد في المعنى دليلاً إضافياً على إشارة النبي إلى البخار. لكن في تفسير نوح، لا بد أن تكون قوة البخار أميركية، لا بريطانية: «الأرض وراء أنهار أثيوبيا هي أميركا» والسفن هي «سفننا البخارية» المحملة برسالة ربانية هي توطين اليهود في فلسطين.64  «اكتشاف وتطبيق قوة البخار سيكون أكبر عون لدعم هذه العملية المهمة». لقد وضعت يهود أميركا «على مسيرة أيام» من القدس. «تجارتنا في المتوسط والمشرق – التي تجاهلتها أميركا حتى ذلك التوقيت – ستُحيا من جديد، وتوفر التيسيرات لبلوغ فلسطين من هذا البلد مباشرة».65  بالرجوع إلى الرأي السائد بأنه لم تكن هناك أنشطة اقتصادية في فلسطين، توقع نوح «ستفتح موانئ البحر المتوسط مرة أخرى أمام حركة التجارة، وسوف تحمل الحقول من جديد المحاصيل الوفيرة».66  ثم إنه تطلع إلى مستقبل تصبح فيه:

الأرض كلها من حول القدس، وتشمل قرى الخليل وصفد وصور وبيروت ويافا وموانئ المتوسط الأخرى، سيحتلها اليهود المحبين للعمل والتجارة. سوف تمتلئ أغوار الأردن بالمزارعين من شمال ألمانيا وبولندا وروسيا. سوف يحتل التجار الموانئ. وسيشتري المواقعَ المهمة داخل أسوار القدس الأثرياءُ الأتقياء من جماعتنا.67

 بعض النبوءات تتحقق. 

ماذا نستنتج من كل هذا؟ كانت تلك لحظة التجسد المتضافر الأولى بين مصير فلسطين ومصير كوكب الأرض: لحظة اشتعال عولمة طاقة البخار عن طريق نشرها في الحرب، وأيضاً لحظة بزوغ فكرة المشروع الصهيوني. لكن لم يكن التطابق كاملاً بين الاثنين. كانت الصهيونية حتى ذلك الحين فكرة. لم تنهض مستعمرة يهودية في فلسطين في أعقاب 1840. على  وجه الدقة، فإن بالمرستون وشافتسبيري وتشرشل وغاولر ومن على شاكلتهم قد فشلوا جميعاً. كانوا يسبقون زمانهم، بنصف قرن. لكن عندما تجمّعت قوى الحركة الصهيونية أخيراً، كانت بمثابة القاطرة التي وُضعت على قضبان جاهزة تنتظرها، أنشأتها الإمبراطورية البريطانية لها بعد 1840: وضعت طبقات المركز الرأسمالي المهيمنة المنطق الحاكم لمستعمرتها التابعة في فلسطين، ولو في شكل صورة ذهنية لا أكثر. لم تتجسّد الصهيونية على الأرض في 1840، مثل تجسد العنف الذي حركته طاقة البخار حينئذ. لابد أن نستنتج إذن من هذا أن لطاقة البخار السبق السببي في التاريخ. تواجدت الصهيونية في البداية على مستوى البنية الفوقية، فوق قاعدة الإمبراطورية الأحفورية.

إنني لا أدّعي أن ما قلته اكتشاف نظري غير مسبوق. يمكن العثور على الخطوط العريضة لهذه القصة في التواريخ والأدبيات القائمة، ومنها أحدث تناول معمّق لتلك الفترة، كتاب «الأراضي الموعودة: البريطانيون والشرق الأوسط العثماني» لـ جوناثان باري. فيه يؤرخ لكيف تقدمت بريطانيا عبر المنطقة باستخدام طاقة البخار: «من ثلاثينيات القرن التاسع عشر، كانت طاقة البخار يد عون ضرورية لترهيب العرب حتى يقدّروا ويحترموا القوة البريطانية»، كما قال.68  وخارج حدود المشرق خضع بلدان عربيان على وجه التحديد لتلك القوة: اليمن والعراق. في 1839، احتلت بريطانيا عدن وضمتها إليها كمحطة لتزويد سفن البخار بالفحم. وفي أواخر ذلك العقد، تم إطلاق عدة تجارب للاتصالات والنقل باستخدام طاقة البخار على نهر الفرات. بحلول العام 1841، عندما تجاوزت بريطانيا العقبة الرئيسية، «كان تفوّقها البحري الإقليمي لا يُنازع». ويضيف باري في مكر: «سواء أدت طاقة البخار إلى فرض الحضارة على العرب أم لا، فهذا سؤال يمكن البحث عن إجابته على الأجل الطويل».69  إنه يتبع تقاليد كتابة التاريخ البريطانية الدقيقة والمحترَمية، ومن ثم يرفض الخروج بنتائج أو السير وراء خطوط منطقية تتكشف له من التاريخ، وهو يتجاهل أيضاً بكل عناد مسألة الاقتصاد السياسي ويقمع عن عمد جبالاً من الأدلة الشاهدة على كيف دفعت ديناميات تراكم رأس المال بالتوسع في الشرق الأوسط، وهي أدلة لم أقدم منها أعلاه إلا أقل القليل. لكن يمكن للقارئ الفطن أن ينتبه إلى النتائج بنفسه.

قال باري: «إن نسبة كبيرة من الأشياء التي فكرت فيها بريطانيا حول الشرق الأوسط فكرت فيها بحلول العام 1854».70  ويمكن أن نمد خيط هذه العبارة أكثر ونقول إن نسبة كبيرة من الأشياء التي فكرت فيها بريطانيا وأميركا حول فلسطين فكرت فيها بحلول العام 1844. ولقد بدأ ذلك بالتفوّق التكنولوجي الهائل، واختراق المنطقة بالآلات الحديثة التي يحركها الوقود الأحفوري. ذلك الصنف من الإخضاع سيبقى قائماً إلى يومنا هذا. ما حدث في 1840 لم يكن تدخلاً عابراً، كحملات نابليون. لن يترك الإنكليز الشرق الأوسط؛ فما حدث أنهم تعمّقوا أكثر وأكثر فيه. فمع العقد الأخير من القرن التاسع عشر كانوا قد احتلّوا مصر، وبلغوا درجة من التفوّق تراجعت معها الإمبراطورية العثمانية بما فيه الكفاية لاستعمار فلسطين. كل ما فعلته المملكة المتحدة على طول الخط كان مشاركة هذه القوة مع الولايات المتحدة وتمريرها إليها. لكن كما يشهد قصف اليمن في الوقت الراهن، ما زال الإنكليز متواجدون في المنطقة.

تبقى أمامنا بعض الكلمات واجبة القول حول جدلية العقل والمادة. في لحظة 1840 كان هناك تضافر عجيب بين الواقع والفانتازيا: فالإنكليز حوّلوا بلدة فلسطينية إلى حطام. ثم إنهم بدأوا في تخيّل فلسطين كلها وكأنها أرض خراب؛ مهجورة وموحشة وليس بها سكان. كان ذلك إعادة بناء خيالي على أفضل تقدير، لكنه أيضاً تمثيل مناسب لشكل عكا بعد 3 تشرين الثاني/نوفمبر. على مدار المراحل التالية من تضافر تلك الجدلية بين الواقع والخيال، أصبح الإفراغ التخيّلي للأرض مقدمة للواقع المعاش في ما بعد. «أرض بلا ناس»، كما جاء في الوصفة المسبّقة لتنفيذ النكبة. في تلك اللحظة – وهذا أمر مدهش – كان اليهود ما يزالون في موضع متماثل من حيث القوة مع الفلسطينيين: كانوا يتواجدون كشخصيات في مسودة رواية، لكن على المستوى الخيال حصراً. اليهود الفعليون لم يدخلوا في الحسبان. لم يحتشد اليهود للتخلي عن ديارهم للذهاب إلى فلسطين. على النقيض: كما لاحظ باحث صهيوني: «اليهود الإنكليز عارضوا أي شيء بدا أنه يمس بوضعهم كإنكليز قلباً وقالباً»، و«كان رد فعل اليهود الإنكليز الوحيد على فكرة أنهم ينتظرون العودة إلى فلسطين هو الإحساس بالحرج».71  قبل أن تكون الصهيونية يهودية، كانت إمبريالية.

لكن مع مرور الزمن بالطبع جرى استقطاب اليهود إلى المشروع الصهيوني، ومُحي الفلسطينيون من الوجود المادي على أرضهم. في سياق التحليل «طويل المدى»، لا تبدو إبادة غزة الجماعية محض أمر عارض. في تقريرها إلى الأمم المتحدة كانت ألبانيز شجاعة بما يكفي لتعتمد على مدرسة دراسات الاستعمار الاستيطاني البحثية لتشرح الإبادة الجماعية الأخيرة. قالت في التقرير: «تصرفات إسرائيل مدفوعة بمنطق إبادي هو جزء لا يتجزأ من مشروعها الاستعماري الاستيطاني في فلسطين، وهو منطق جعل المأساة قابلة للتنبؤ بها قبل حدوثها». الإبادة الجماعية هي ذروة الاستعمار الاستيطاني، وفي فلسطين، منذ لحظة 1948: «كانت إزاحة ومحو السكان الأصليين العرب جزءاً ضرورياً لا غنى عنه لتشكيل إسرائيل كدولة يهودية».72  إنها محقّة بالطبع. لكن الاستعمار الاستيطاني في فلسطين لم ينهض على قدميه مستقلاً ولم يكن هذا بوسعه يوماً. والمأساة كانت مقدّرة من قبل. لقد نُزع الفلسطينيون من المخيال من فلسطين قبل 183 عاماً من الإبادة الجماعية الأخيرة، ومع بعض المعوقات والمحاولات مرة تلو المرة، كان فعل تجسّد وتصعيد الحدث الأخير قد بدأ يتحرك منذ 1840. لننظر إلى كلمات إسحاق هرتزوغ، رئيس الاحتلال، الذي ذكرته ألبانيز كدليل على تعمد الإبادة الجماعية: لقد أكّد في تشرين الأول/أكتوبر وتشرين الثاني/نوفمبر أن كيانه يقاتل بالنيابة عن «كل الدول والشعوب المتحضرة»، ضد «همجية لا مكان لها في العالم الحديث» وقال إن كيانه «سيقتلع الشر وسوف يكون هذا خيراً للمنطقة والعالم كله».73  وكأن تلك الكلمات وردت على لسان صهيوني-إنكليزي من العام 1840.

يمكن أن نعيد صياغة شعار مدرسة دراسات الاستعمار الاستيطاني، فنقول إن الدعم الإمبريالي للكيان الصهيوني هو هيكل وليس حدثاً. شيد الهيكل قوى استثنائية مُنحت لمن تسلحوا بالوقود الأحفوري، واستمرت في أدائها هذا، كما سأحاجج في ما يلي. لكن قبل أن أفعل، دعوني أوضح نقطة أخيرة حول 1840: الرواية التي قدمتها هنا ذاتُ خطوط عريضة، وهي جزئية. والأكثر إشكالية فيها أنها تعتمد حصراً على المصادر الإنكليزية. فأنا لا أتحدث العربية، من ثم لا يمكنني معرفة إن كانت هناك تواريخ أخرى للحظة 1840. وباري بدوره لا يقرأ العربية، لكنه يقول لنا: «هناك أرشيفات عديدة بلغات غير الإنكليزية يبدو أنها لم يستخدمها أحد بشكل كامل بعد».74  أي كانت المصادر العربية من وحول 1840، وبغض النظر عمّا تقوله عن ذلك اللقاء الأول التأسيسي بين قوة البخار ومفاهيم الصهيونية، فهي لم تترك أثراً على التاريخ المدوّن بالإنكليزية. نحن بحاجة إلى البحث بشكل عميق حول هذه اللحظة، بدءاً من الحفر والتنقيب خارج المركز وأرشيفاته.

والآن دعوني أتوخى الاختصار والاختزال البالغ في ما يلي. عندما شُيّدت المستوطنات الصهيونية ظهرت تقارير حماسية في الصحافة الغربية: «اليهود الذاهبون إلى فلسطين حالياً أخذوا معهم روح هذا القرن التقدمية، وبعد قليل سيسمع المسافرون في ذلك البلد صفير البخار وضجيج الآلات، وسوف يرون حولهم زحام التجارة بدلاً من لامبالاة وخمول المشرق»… هكذا أعلنت صحيفة «ناشيونال ريبوزيتوري» في حماس في العام 1877.75  عندما احتلّت الإمبراطورية البريطانية فلسطين وشرعت في تنفيذ وعد بلفور، لم يكن الوقود الأحفوري السائد هو الفحم، بل النفط. في ذلك الوقت كان قد جرى تحديد مواقع الاحتياطات النفطية في البلدان المشاطئة للخليج، وأصبح المشروع الصناعي المركزي للانتداب هو خط الأنابيب الذي نقل النفط الخام من العراق عبر شمالي الضفة الغربية والجليل، إلى التكرير في حيفا. الانتداب إذن لا يمكن فهمه خارج إطار تعميق السيطرة على المنطقة سعياً وراء النفط. ولقد استخدم الانتداب النفط في إعادة تخصيص الأراضي من الفلسطينيين لليهود. في كتابه الذي سيصدر قريباً: «الحر: تاريخ» – وهو تاريخ ثري ومدهش لدرجات الحرارة العالية والوقود الأحفوري في الشرق الأوسط – يوضّح عون باراك – من بين جملة أمور – كيف انتزع اليشوف إنتاج الحوامض من الفلسطينيين، إذ ربطوه بأحدث تكنولوجيا إنتاجها: ريّ البساتين بمضخات المياه التي تعمل بالوقود الأحفوري، وتحميل الثمار على الشاحنات، وإرسالها على الطرق المعبّدة إلى الموانئ، وتفريغ الحمولات في سفن بخارية نقلتها إلى السوق الأوروبية… علاقة تعاون ومنفعة متبادلة مع الإمبراطورية الأحفورية، من خلالها جرى انتزاع زراعة الليمون الأيقونية من بين أيدي أهل الأرض. ولقد منحت سلطة الانتداب على طول الخط الأولوية لبناء الطرق بين المستعمرات. لقد رجّحت البنى التحتية القائمة على النفط الكفة في فلسطين لصالح المستوطنات على السهول الساحلية، ولصالح رعاتها على الجانب الآخر من البحر.

عندما بدأت القوات الصهيونية في إرهاب الفلسطينيين في حيفا لإخراجهم من المدينة، كما قال لنا إيلان بابيه: «أُرسلت عليهم من سفح الجبل أنهاراً من الوقود والنفط المشتعل».76  عندما ناقشت الدوائر العليا للإمبراطورية الأميركية هل ترمي بثقلها وراء الصهاينة أثناء النكبة، كانت مصالح النفط هي أكثر ما شغل بالها. قال بعضهم إن من الأفضل لهذه المصالح الانحياز إلى العرب. لكن كما أظهرت إيرين ل. غيندزير في ىالإصرار على النسيان: النفط والقوة وفلسطين وأسس السياسة الأميركية في الشرق الأوسط»، فإن الحكومة اقتنعت بالرأي القائل بأن النصر الفلسطيني سوف «يزيد من اعتماد العرب على أنفسهم، ومن قوتهم التفاوضية ومن طلباتهم»، أما تأسيس دولة إسرائيل «فسوف يكون له تأثير مُهدِّئ على العرب ويجعلهم يستعيدون الفهم لمكانتهم الحقة». كما أن: «اليشوف عامل تقدمي، وسيكون محفزاً كبيراً لأي تقدم اجتماعي في الشرق الأوسط، وسوف يفتح أسواقاً تجارية جديدة».77  يبدو أن شركات النفط الأميركية مالت إلى الرأي القائل بأن السيطرة على الاحتياطات النفطية سيتعزز بشكل غير مباشر إذا وُجدت إسرائيل وأصبحت حليفاً في المنطقة. وهذا هو ما حدث في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين؛ العصر الذهبي للشقيقات السبع [الشركات النفطية الكبرى] ونفط الخليج. عندما تولت الولايات المتحدة الدور بصفتها الداعم الأول لإسرائيل بعد 1967، كان للدفاع عن الوضع القائم أولوية قصوى. في «العدوان العالمي: الولايات المتحدة ومنظمة التحرير الفلسطينية وصناعة نظام ما بعد الحرب الباردة»، يصف بول توماس شامبرلين كيف نظرت أميركا إلى التحرير الفلسطيني كتهديد للسيطرة على الشرق الأوسط في المجمل، بكل ما فيه من احتياطات نفطية لا تُقدر بثمن. وفي المقابل «أثبتت إسرائيل قيمتها كركيزة استراتيجية رئيسية في الشرق الأوسط وكشرطي إقليمي نموذجي في العالم الثالث».78  ظهر إثبات هذا المنطق مما عُرف باسم أيلول الأسود، وهو واحد من التكرارات اللانهائية، ولقد وصفته رسالة لياسر عرفات بتاريخ 22 أيلول/سبتمبر 1970: «عمان تحترق لليوم السادس. (…) جثث الآلاف من أهلنا تتحلل تحت الحطام».79

من الواضح إذن أن كل هذه الأحداث جاءت على شاكلة المهاد الموضوع في 1840. كانت خطة داليت خطة للاستعمار الاستيطاني المستهدف لتدمير فلسطين بدءاً من العام 1948، ولقد سبقتها – وهيأت لها ظروف وجودها – الرؤية الإمبريالية بكيان يُفرض على أرض فلسطين لحماية مصالح المركز الرأسمالي: للوصول للمواد الخام والأسواق، وللوقاية من المشروعات المُناوئة، ولخلق مناطق عازلة ووزن مضاد يرجح الكفة ضد الخصوم البعيدين. في العام 1840، كان القطن، ومحمد علي، وروسيا القيصرية. بعد 127 عاماً، عندما أصبح الاحتلال تاماً، كان النفط، وتحرّر العالم الثالث، والاتحاد السوفياتي. نحن نتعامل هنا مع هيكل عميق بشكل استثنائي، لا حدث أو حدثين. إنه تخندق وتصعيد عبر قرنين من الزمان، مع تدهور واشتداد وطأة أنماط ظهرت في أوائل القرن التاسع عشر. وليس من المصادفة أن هذه العملية قد شغلت – زمانياً – النطاق الزمني لتحقق تغير المناخ ذاته. لقد أوضحت سريعاً وبشكل أولي أعلاه ثلاث لحظات أخرى من التجسّد المتضافر بين الأمرين. في 1917 وبعدها، أصبح الاحتلال البريطاني لفلسطين جزءاً من تحوّل الشرق الأوسط إلى قاعدة لرأس المال الأحفوري، من واقع موارده النفطية. في 1947 وما بعدها، تشكّل الدعم الغربي للدولة الصهيونية الناشئة من واقع تفعيل ذلك النظام. في 1967 وما بعدها، دفاعاً عنه. لقد كانت الخطوات على الطريق لتدمير فلسطين هي خطوات على الطريق لتدمير كوكب الأرض.

إذا انتقلنا إلى اللحظة الراهنة، علينا أولاً أن نحاول فهم دور دولة إسرائيل في الهوس الجاري بالوقود الأحفوري. في كتابنا «التجاوز»، أوضح أنا وويم بقدر من التفصيل كيف أن عقد العشرينيات من القرن الحادي والعشرين شهد حتى الآن تسارعاً في التوسع في إنتاج الوقود الأحفوري، في اللحظة التي يجب فيها كبح جماح هذه العملية وعكس اتجاهها – من خلال تفكيك هذه الصناعة – حتى يتجنب العالم احتراراً بأكثر من 1.5 أو 2 درجة مئوية. هذا التوسّع لا يتوقف، بل يمضي في طريقه ولا يتوقف، ثم إنه يستمر ويمضي قدماً. كما قالت صحيفة الغارديان مؤخراً، فالشركات والدول ماضية في مشروعات النفط والغاز الجديدة بأحجام متنامية بلا توقف. والدولة التي تقود التوسّع هي بالطبع الولايات المتحدة. والدولة الثانية ورائها هي غويانا، لكن ليس هذا إلا لأن شركة إكسون موبيل وجدت في مياهها أخر كنوزها النفطية. وللمرة الأولى، أصبح الكيان الصهيوني مشاركاً بصورة مباشرة. من الجبهات العديدة لاستخراج النفط والغاز حوض شرق المتوسط، على امتداد الشواطئ بين بيروت وعكا وغزة. اكتُشف هنا حقلين من حقول الغاز الكبرى، بمسمى كاريش وليفياثان، في المياه الإقليمية للبنان. وما رأي الغرب في هذا النزاع؟ في 2015، باعت ألمانيا سفناً حربية لإسرائيل حتى تُحسّن من دفاعها عن منصات الغاز ضد أية هجمات. وبعد سبع سنوات، في 2022، مع تسبب الحرب في أوكرانيا لأزمة في أسواق الغاز، أصبحت دولة إسرائيل للمرة الأولى في مصاف الدول المهمة المصدّرة للوقود الأحفوري، إذ أصبحت تمدّ ألمانيا ودول الاتحاد الأوروبي الأخرى بالغاز والنفط الخام من حقلي ليفياثان وكاريش، وقد بدأ الإنتاج فيهما في تشرين الأول/أكتوبر من ذلك العام. لقد جلب العام 2022 المكانة العالية لإسرائيل في هذا الملف.

وبعد عام، عكّر طوفان الأقصى صفو هذا التوسع. فرض تهديداً مباشراً على منصة غاز تمار، التي يمكن رؤيتها من شمال غزة في يوم صافٍ. ولأنه في نطاق فعالية الصواريخ، أُغلقت المنصة. من الشركات الكبرى في حقل تمار شركة شيفرون. في 9 تشرين الأول/أكتوبر قالت صحيفة نيويورك تايمز: «القتال الشرس قد يبطئ من وتيرة الاستثمار في الطاقة بالمنطقة، تماماً كما اكتسبت آفاق شرق البحر الأبيض المتوسط كمركز للطاقة زخماً. كانت إسرائيل من الدول القليلة في الشرق الأوسط التي لا تتمتع بموارد نفطية كبيرة مُكتشفة. الآن، أصبح الغاز الطبيعي من أعمدة اقتصادها»، لكن المقاومة الفلسطينية قادرة على تقويض هذه المعادلة. إلا أن بعد خمسة أسابيع من 7 تشرين الأول/أكتوبر، بعد أن تحولت مناطق شمال غزة إلى حطام، استأنفت شيفرون عملياتها في حقل غاز تمار. في شباط/فبراير، أعلنت عن دفعة استثمارات جديدة لدعم الإنتاج. وفي أواخر تشرين الأول/أكتوبر، بعد يوم من بدء الغزو البري لغزة، قدمت دولة إسرائيل 12 رخصة استكشاف لحقول الغاز الجديدة، إلى شركات مختارة، منها بريتش بتروليوم (الشركة التي اكتشفت النفط لأول مرة في الشرق الأوسط وبنت خط أنابيب كركوك-حيفا النفطية.

لكن التضافر أصبح في اتجاهين. فرأس المال الإسرائيلي أصبح في السنوات الأخيرة لاعباً رئيسياً في توسع إنتاج النفط والغاز في بحر الشمال. من الشركات التي تتخذ تل أبيب مقراً لها وتقود أعمال استخراج الغاز على شاطئ عكا وفي جزر شيتلاندز، شركة إيثاكا للطاقة: هي تملك الآن واحدة من أكثر القنابل الكربونية تدميراً في القطاع البريطاني من بحر الشمال، حقل كامبو، وحِصة الخُمس في حقل آخر، هو حقل روزبانك، وتستكشف في طمع بحثاً عن المزيد من الحقول. عندما دخلت إيثاكا سوق بورصة لندن في 2022، مثلت أكبر اكتتاب في ذلك العام. تبحث بريتش بتروليام عن الغاز في مياه فلسطين، وتبحث إيثاكا عنه في مياه بريطانيا: لم يصل التناغم يوماً لهذه الدرجة. تحدث الإبادة الجماعية في لحظة من الزمن أصبحت فيها دولة إسرائيل أكثر رسوخاً في التراكم البدائي لرأس المال الأحفوري قياساً بأي وقت سابق. والفلسطينيون – على الجانب الآخر – لا ناقة لهم ولا جمل في هذه المعادلة: لا منصات ولا حفارات ولا أنابيب، ولا شركات مدرجة ببورصة لندن. لكن العرب في الإمارات ومصر والسعودية لهم بعض المصالح قطعاً. هذا هو الاقتصاد السياسي لاتفاقات أبراهام وتوابعه المتوقعة: توحيد رأس المال الإسرائيلي والخليجي في عملية جمع المال من إنتاج النفط والغاز. هذه هي الإيكولوجيا السياسية للتطبيع: تقديس وإعلاء أولوية الوضع القائم الذي يدمّر فلسطين أولاً ومن ورائها كوكب الأرض.

يجري تنفيذ تدمير غزة بالدبابات والطائرات المقاتلة التي تصب نارها على الأرض: «الميركافا» والـ«إف 16» التي ترسل نار جهنم على الفلسطينيين، صواريخ وقنابل تحول كل شيء إلى حطام… لكن فقط بعد أن وضعتها قوى احتراق الوقود الأحفوري المتفجرة على مسارها. كل هذه الآليات العسكرية يُشغِّلها البترول. وكذلك الأمر بالنسبة لتشغيل طائرات الإمداد من الولايات المتحدة، طائرات البوينغ المحملة بالصواريخ عبر جسر جوي لا يتوقف. توصل تحليل مبكر ومؤقت ومتحفظ إلى أن الانبعاثات الكربونية على مدار أول 60 يوماً من الحرب تساوي الانبعاثات السنوية لما يتراوح بين 20 و33 دولة منخفضة نسب الانبعاثات الكربونية: زيادة مفاجئة، سحابة عظيمة من ثاني أوكسيد الكربون ترتقي فوق حطام غزة. إذا كررت النقطة هنا، فهذا لأننا في دورة تكرر نفسها، وتزيد في كل تكرار في الحجم والنطاق. القوى الغربية تدمر البيوت الفلسطينية عن طريق حشد قدرات بلا حدود للدمار، من النوع الذي لا يمكن إلا للوقود الأحفوري حشده.

من السهل نسيان مدى مركزية العنف العسكري عبر الزمن لإبقاء الوضع القائم. أكثر من 5% من انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون السنوية تأتي مباشرة من الجيوش حول العالم. كثيراً ما نتكلم عن الطيران وكم هو سيئ للمناخ. وهو سيئ، لكن الطيران المدني ليس أكثر من 3 بالمائة من المجموع. والخمسة بالمائة تأتي من الجيوش التي لا تحارب: هذه هي انبعاثات زمن السلم، في إطار عمليات الصيانة اللوجستية ودعم قدرات قتال الجيوش قبل أن تدخل الحروب. أما عندما تحارب، فالوقود يحترق والقنابل تنهمر وتتصاعد معها كميات كبيرة مركزة من الانبعاثات. الولايات المتحدة بالطبع في القلب من كل هذا. انبعاثات جيش الاحتلال أثناء حرب غزة يمكن عدّها فئة إضافية من فئات الانبعاثات الأميركية. الولايات المتحدة تتفوق على الدول الأخرى كلها. كما قالت نيتا س كراوفورد: «الجيش الأميركي هو أكبر مستخدم مؤسسي للوقود الأحفوري في العالم، ومن ثم فهو أكبر باعث لغازات الدفيئة في العالم».80  في كتابها «البنتاغون وتغير المناخ والحرب»، تستعرض بمهارة تطورات ما اسمته «الدورة العميقة». وجدت جيوش بريطانيا ثم أميركا أن الفحم – ثم النفط – مورد لا غنى عنه لشن الحروب: لتصنيع الأسلحة ونقل الجنود إلى ساحات المعارك، وإتاحة الحركة أثناء الاشتباك وصب القوة النارية على العدو. بالاستناد في عملياتها إلى الوقود الأحفوري، أسهمت الجيوش الأميركية في انتشاره على امتداد القطاعات الاقتصادية المختلفة، وعندما اعتمد كل من الجيش والاقتصاد على أحدهما الآخر اعتماداً قوياً، أصبحت حماية هذه السلعة الحيوية في حد ذاتها سبباً لشن الحروب. لم يتشكل أي جزء آخر من العالم بهذا العمق والعرضة للأذى جراء هذه الدورة المفرغة كما هو حال الشرق الأوسط. رغم أن فلسطين في مركزه، فإن الدمار يمتد بوضوح إلى دول أخرى أيضاً: لنفكر في العراق واليمن.

دعونا إذن نرجع إلى السؤال عن طبيعة التحالف القائم ونفكر قليلاً في نظرية اللوبي الصهيوني. تقول النظرية باختصار ما يلي: اللوبي الصهيوني في أميركا راكم الكثير من القوى المالية والانتخابية والإعلامية لدرجة أنه يقبض على السياسة الأميركية بقبضة حديدية. من خلال تلاعبه بالسياسة الأميركية واستغلالها، ألزم الولايات المتحدة بدعم إسرائيل، على الرغم من أن هذا الدعم لا يصب في خدمة المصالح الحقيقية والمنطقية والمادية لأميركا. تدعم الولايات المتحدة إسرائيل لأسباب تتعلق بالسياسة الداخلية – كما يقول منطق اللوبي – بما يشوّه تفضيلات ومواقف الولايات المتحدة على الساحة الدولية. النظرية تستند بالطبع إلى مقولات جون ميرشايمر، وهو عسكري أميركي، يقال إنه واقعي ولا صلات أيديولوجية تربطه باليسار. أجد الاستقبال المتلهف لعمله من بعض قوى اليسار مسألة مدهشة. لكن لا مساحة هنا لتقديم النقد الشامل لميرشايمر أو صداه في اليسار: هنا أقتصر على توضيح بعض المشكلات في أحد التمثيلات لهذه النظرية.

كتاب «متزوجة من رجل آخر: مأزق إسرائيل في فلسطين» لغادة كارمي مقروء على نطاق واسع وهو يمثل أعمالاً أخرى كثيرة حول وضع فلسطين في مطلع القرن الحادي والعشرين. رصدت غادة عن حق أنه بالنسبة للفلسطينيين، لا يعد فهم طبيعة التحالف بين الولايات المتحدة وإسرائيل «محض ترف فكري، بل مسألة حياة أو موت».81  ولقد طرحت تفسيرين بديلين: «هل كانت السياسة الأميركية خاضعة لسيطرة إسرائيل وداعميها لدرجة أنها أصبحت تأتي بالأساس بإملاء من إسرائيل، أم أن إسرائيل لا تعدو كونها الذراع الإمبريالية لأميركا (والغرب) في الشرق الأوسط»، وتؤكد بقوة على صحّة السؤال الأول.82  ثم تمضي في كلام كثير غير واضح المعالم حول اليهود في الإعلام وهوليود وتستنتج أن أميركا ضحية «اختراق دولة أجنبية للمنظومة الأميركية». من ثم تقدّم تصوراً مضاداً تكرر ذكره كثيراً: «لو كان الموقف يخضع لتحكيم العقل والاعتبارات البراغماتية، حيث يمكن فحص الحقائق والوصول لنتائج منطقية، كانت المصالح الوطنية الأميركية لتسود في النهاية فوق القوى التي تعمل لصالح إسرائيل».83

لو كانت الولايات المتحدة حرة في اختيار السياسة الأنسب لمصالحها، كانت لتتخلى عن إسرائيل. لكن اللوبي الصهيوني يحرم الدولة من هذه الحرية. هذا التفسير المشوّه لا يُطبق فقط على فلسطين، إنما على المنطقة بالكامل. كل شيء تفعله أمريكا في الشرق الأوسط – بموجب هذا المنطق – تمليه عليها إسرائيل، ضد المصالح الأميركية الحقيقية. «الدافع الحقيقي لغزو العراق»، كما يُقال لنا: «كان الرغبة في حماية الدولة اليهودية»، وهي الرغبة التي فُرضت على أميركا: لا أسلحة دمار شامل ولا القاعدة ولا إرهاب في العراق، لذا «لا بد أن أمن إسرائيل كان هو الدافع وراء مهاجمة العراق، في غياب أية دوافع أخرى». هذا مثال مزدوج للاستنتاجات غير المنطقية من المقدمات غير المنطقية. ليس غياب تلك الدوافع الرسمية معناه أن السبب الحقيقي لابد أنه أمن إسرائيل، وليست النتيجة الحتمية لغياب هذه الأسباب أن أمن إسرائيل لم يكن مهدداً من صدام حسين. تريدنا كارمي أن نصدق أن إسرائيل سعت وراء نفط العراق وأرسلت رجال الأعمال والمستشارين وعملاء الاستخبارات إليه، بينما أميركا نفسها لم تكن لديها أي من هذه الدوافع العدوانية، وقد جرجرها اللوبي من رقبتها إلى الحرب. مطلوب منا أن نصدق – بمعنى آخر – أن الإمبراطورية الأقوى في التاريخ العالمي لم تكن لها مصالح ولم تنفذ أعمالاً عدائية لإنفاذ مصالحها في الشرق الأوسط. ويُقال نفس الشيء عن سوريا وإيران، كما تخبرنا كارمي: ما تفعله أميركا لهذه الدولة، تؤديه مغصوبة لصالح إسرائيل.

على الرغم من ذِكر كارمي لشافتسبيري وبالمرستون بشكلٍ عابر – لكن دون محاولة سرد أي تاريخ جاد – فهي تطمح إلى تقديم الآتي بصفته التفسير التاريخي الدقيق: «كان ظهور إسرائيل واللوبيات النافذة التي راحت تعمل لصالحها هو ما أجبر الإدارات الأميركية المتعاقبة على البحث عن سبل لدمج المصالح الإسرائيلية في سياساتها الخارجية».84  إذن، جاءت إسرائيل أولاً واللوبي الصهيوني، ثم حُملت الإمبراطورية على طاعتهما. أعتقد أن من المعقول استنتاج أن حتى الأدلة المحدودة المقدمة في هذا المقال كافية لدحض هذه النظرية. يشير الدليل التاريخي إلى صحّة التفسير المعاكس. أعتقد أن السيد حسن نصر الله – بغض النظر عمّا فعله ولم يفعله لصالح فلسطين خلال الأشهر الستة المنقضية – أصاب حين قال:

في خطأ موجود بالعالم العربي. بموضوع العلاقات بين إسرائيل وأميركا، وبنرجع نعيده وبنرجع نكرره، هاي – اسمح لي أقول لك – أكذوبة اللوبي الصهيوني. إن اليهود هم الحاكمين لأميركا، وإنه بياخدوا العراق، وإن عاملين وإن مسويين، وما شاكل. أميركا هي صاحبة القرار. بأميركا فيه شركات كبرى، فيه مثلث: شركات النفط، شركات السلاح، وما يُسمى بالصهيونية المسيحية، هم أصحاب القرار، هذا التحالف. إسرائيل كانت في الماضي أداة بريطانية، والآن هي أداة أميركية.85

هذا – بالطبع – موقف كلاسيكي لليسار العربي وهو أعمق تحليل قدمته المقاومة الفلسطينية. في «استراتيجية تحرير فلسطين»، النص المؤسس للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين من العام 1969، يُعرّف العدو في وحدته الجدلية بالإمبريالية العالمية والاستعمار الاستيطاني المحلي: انتصارات الأخير هي مسألة أساسية لتحقيق مصالح الأول. الكيان هو «قاعدة إمبريالية على أرضنا تُستخدم في وقف المد الثوري لضمان استمرار إخضاعنا وللحفاظ على عملية النهب والاستغلال». الصهيونية «حركة عنصرية عدوانية مرتبطة بالإمبريالية، ولقد استغلت معاناة اليهود كرافعة للترويج لمصالحها (…) في هذه المنطقة من العالم التي تمتلك مقدرات وموارد غنية، وتعد رأس جسر إلى دول أفريقيا وآسيا».86  هذا هو نقيض نظرية اللوبي. ونجد نفس المنطق في أفضل كتابات الجهاد الإسلامي، مثل الوثيقة السياسية لعام 2018، وفيها «المشروع الصهيوني هو مشروع غزو استعماري استيطاني»، لكنه «يستند على رباط عضوي بقوى الاستعمار الغربي، التي تعمل على التخلص من اليهود وحل المشكلة اليهودية» في أوروبا عن طريق زرع كيان لليهود في فلسطين. استمرار هذا الكيان «متصل بالضرورة بالدور المنوط به. إنه أداة» – كالكلمة التي اختارتها كارمي «أداة» – «للهيمنة الاستعمارية» و«يستمد جميع قواه المادية والأدبية من قوة وقدرات الغرب، لا سيما الولايات المتحدة الأميركية».87  أخذ فتحي الشقاقي إطار هذا التحليل من عز الدين القسّام. في مطلع ثلاثينيات القرن العشرين، عارض القسام القادة الفلسطينيين الذين «رأوا من الضروري الحوار مع بريطانيا حتى تقف معنا ضد اليهود، فنسوا أو تجاهلوا أن الصهيونية ليست إلا وجه من الوجوه الاستعمارية لبريطانيا».88

على النقيض من نظرية اللوبي التشويهية، فإن النظرية الأداتية/الذرائعية الإمبراطورية تؤكدها الأدلة من الماضي البعيد، وكذلك من الماضي القريب والحاضر: وكأن جو بايدن خرج من صفحات وثيقة الجبهة أو نص الجهاد. في العام 1986، قال ذلك الرئيس المستقبلي للكونغرس: «لا اعتذار على الموقف من إسرائيل. لا! إسرائيل هي أفضل استثمار بثلاثة مليارات دولار لدينا. إذا لم تكن هناك إسرائيل، كان سيتعين علينا اختراع إسرائيل لنحمي مصالحنا في المنطقة. كان سيصبح على الولايات المتحدة أن تذهب إلى هناك وتخترع إسرائيل». لا يمكن أن يكون الأمر أوضح من هذا، ولا أكثر اتساقاً مع السجل التاريخي لاختراع إسرائيل. في 2007، أعاد بايدن التأكيد على أن «إسرائيل هي أكبر مصدر قوة لأميركا في الشرق الأوسط (…) تخيلوا حالنا في العالم إذا لم تكن هناك إسرائيل»، ثم في 2010 كرر قوله: «ببساطة لا توجد أي مسافة بين الولايات المتحدة وإسرائيل»، لكن القول الأكثر اقتباساً له كان ذلك الخاص باختراع إسرائيل إذا لم تكن موجودة. ومؤخراً كرره بنفسه في تموز/يوليو 2023، في لقاء مع إسحاق هيرتزوغ في البيت الأبيض. كان هذا قبل الإبادة الجماعية بثلاثة أشهر.

أعتقد أن على اليسار إحداث قطيعة واضحة مع نظرية اللوبي. لا أقول إننا عندنا الفهم الكامل للعلاقة بين الإمبراطورية والكيان، على النقيض، أعتقد أن المدهش هنا هو أننا لا نملك – على سبيل المثال – وصححوا لي لو كنت مخطئاً – كتاباً واحداً جيداً بالإنكليزية حول كيف يعمل هذا البنيان أو الهيكل في الوقت الحالي. إلى أين تمضي الإمبراطورية الأميركية؟ ما الذي تفعله في الشرق الأوسط؟ كيف تُعد دولة إسرائيل جزءاً من هذه العملية؟ لا أعتقد أن عندنا أي شيء يقترب من مجموعة إجابات شاملة وحديثة وسليمة نظرياً ومن حيث الشواهد والأدلة على هذه الأسئلة، لأن العمل المضني في البحث والتفكير حول هذه الأسئلة ما زال لم يبدأ بعد. هناك نقص كبير في تحليلنا المُحدّث حول أميركا والإمبريالية الغربية، ربما لأن اليسار وجد من المحرج بعض الشيء السير وراء تحليلات تسير على خطى لينين والاصطفافية وغيرها من مصادر الحرج. أنا غير مؤهل لسد هذه الفجوة المعرفية، لكن دعوني أذكر فرضية مفادها أن قيمة سهم الاستثمار في إسرائيل يرتفع بالتواكب مع ارتفاع مستوى التحديات من روسيا والصين. عندما تشتد المنافسة بين الإمبراطوريات – في عشرينيات القرن الحادي والعشرين كما في ثلاثينيات القرن التاسع وعشر وفي فترة الحرب العالمية الأولى – يصبح الكيان مورداً لا يُقدّر بثمن. منذ اللحظة الأولى لطوفان الأقصى، كان من الواضح أن استمرار الانتصارات الفلسطينية المُزلزلة التي بدأت ذلك اليوم ستزيد من قوة المحور الممتد من المقاومة في غزة إلى لبنان واليمن والعراق، ثم إيران وروسيا والصين… وهو تحالف مناوئ له وجود موضوعي في مسارح العمليات، رغم أنه – لا بد أن نذكر هذا – أكثر تفككاً وأقل تنسيقاً وأقل تكريساً للجهود وأدنى في مستوى القوة قياساً إلى التحالف الغربي.

وأخيراً، دعوني أوضح خطأ أخيراً في نظرية اللوبي، لعله الخطأ الأفدح. إنها تفترض صورة عكسية افتراضية من نوعية “ماذا لو”… نتخيل فيها الوضع إذا كانت الإمبراطورية الأميركية حرة في السير بشكل منطقي في سياساتها وألا تقلق سوى على مصالحها. عندئذ ستتخلى عن إسرائيل، لأنه كيف لها أن تؤيد شيئاً مدمراً مثل استعمار فلسطين الذي لا ينتهي أبداً؟ إنه شيء يهدد بالتدمير الموسع واللانهائي لتلك الأرض والمنطقة وخارجها. مؤكد أن هذا ليس ما ستختاره أميركا إذا كان قرارها في يدها، أليس كذلك؟ الخطأ هنا أكثر من واحد، إذ يرتبط بطبائع الإمبراطورية ورأس المال والمصالح والتفكير المنطقي، لكن سأشير إلى جانب واحد من هذه الجوانب. بالنظر إلى الكيفية التي قادت بها أميركا دائماً التوسع في إنتاج الوقود الأحفوري واستهلاكه حول العالم، بعد أن تسلمت الزعامة من بريطانيا، وهي تقود العالم بشكل متسارع في هذا التوسع في اللحظة التي أصبح فيها الدمار واضحاً ويزيد يوماً بعد يوم، لن يبدوَ من الغريب أن تتقدم أيضاً في تدمير أرض صغيرة بين النهر والبحر. ولا أحد في تقديري يمكن أن يحاجج بأن سبب استخدامنا للوقود الأحفوري هو أن لوبي الوقود الأحفوري في أمريكا قوي. إنه قوي بالطبع، لكن اللوبيات ليست إلا امتدادات عليا تنهض من هياكل عميقة تعمل وتتحقق على المدى الزمني الطويل. في الصفحة الأولى من “التطهير العرقي لفلسطين”، كتب بابيه وكأنه يتنبأ بما يحدث:

لا يمكن للفلسطينيين أن يصبحوا جزءاً من الدولة والحيز المكاني الصهيونيين، وسوف يستمرون في القتال، وآمل أن يكون كفاحهم سلمياً وناجحاً. إذا لم يحدث هذا، فسوف يكون الوضع يائساً وانتقامياً، ومثل الدوامة، سيعصف بكل شيء في زوبعة رملية لا تنتهي، سوف تستعِر عبر العالمين العربي والإسلامي، وداخل بريطانيا وأميركا، وهي القوى التي ستقوم بدورها بتغذية العاصفة التي تهدد بتدميرنا جميعاً.89

يمكننا الآن أن نرى هنا أكثر من تداخل مجازي عارض بين دمار فلسطين ودمار كوكب الأرض، لأن الانهيار المناخي هو العاصفة التي تهدد بتدميرنا جميعاً، والشيء الوحيد الذي فعلته القوى الكبرى حتى اليوم هو تغذية هذه العاصفة.

قبل الختام، دعوني أقترح بعض لحظات التجسد المتضافر الأخرى في الحاضر، في صورة دائرية:

تدمير فلسطين وتدمير كوكب الأرض يتحققان في وضح النهار. هناك وثائق كافية دالّة على هذا الأمر وذاك. معرفة العمليتين وكيف تحدثان أمام أعيننا متاحة ووفيرة المعلومات: نحن نعرف كل ما نريد أن نعرفه عن الكارثتين، وعلى الرغم من ذلك، ما زال المركز الرأسمالي يحرق النفط على المنصات ويرمي بالقنابل على غزة.

التدمير والبناء متضادان يستلزم أحدهما الآخر، يسبق أحدهما الآخر ويعد شرط وجوده: تدمير الكوكب هو تشييد البنى التحتية للوقود الأحفوري. تدمير فلسطين هو بناء المستوطنات العنصرية، أو كما قال تيودور هرتزل في 1896: «إذا أردت إحلال بناء جديد محل آخر قديم، فعليَّ أن أهدم القديم قبل أن أبني».90  الحد من تدمير فلسطين والكوكب ووقفهما وعكس مسارهما، يتطلبان إذن – كشرط منطقي لا يمكن الحيد عنه – تدمير البنية التحتية للوقود الأحفوري والاستيطان العنصري. ليس بالضرورة تدميرهما مادياً، بل بالضرورة تفكيك هذه العملية وتلك وإعادة توجيههما لأغراض أخرى، كلما تيسر هذا. وإذا لم يكن ممكناً، إذن أجل، فالمسار هو تدميرهما تدميراً مادياً.

من الواضح تماماً أن الاستثمار في البنى التحتية للوقود الأحفوري يجب أن يتوقف، وكان لابد أن يتوقف منذ زمن طويل. لكننا نرى المزيد من أنابيب النفط والمزيد من منصات التنقيب ومنشآت التكرير والمناجم، بنى تحتية يُخطط لها وتُشيّد، وكلما زاد عددها، أصبح من الأصعب تقليل الانبعاثات، وكلما انغرس وترسخ رأس المال الثابت في الأرض، زاد إلحاح وضرورة الحفاظ على تلك البنى التحتية والدفاع عنها ضد أي انتقال بعيداً عن الوقود الأحفوري. من الواضح تماماً أن الاستثمار في الاستيطان العنصري بدوره يجب أن ينتهي، وكان لا بد أن ينتهي قبل زمن طويل. لكننا نرى المزيد من المستوطنات، وهناك مستوطنات أكثر في مراحل التخطيط والبناء في الضفة الغربية والقدس، وربما في غزة قريباً. وكلما صودرت الأراضي من الفلسطينيين، وشُيد المزيد من الوحدات السكنية مع حجزها لليهود حصراً، أصبح من الأصعب تصوّر الانسحاب إلى الخط الأخضر، وزاد ترسخ الاحتلال، وتضخمت المصلحة في الدفاع عنه ضد أية خطة حقيقية لإقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة.

هذا التماثل على مستوى القاعدة المادية – الذي يهيئ لحقائق أكثر على الأرض تؤدي إلى إطالة أمد وتكثيف «الوضع القائم» – ينعكس على مستوى البنى الفوقية. نسمع كثيراً حكومات الغرب تتحدث عن احترار عالمي بواقع درجة ونصف أو درجتين، وعن حل الدولتين، بينما تعمل الاستثمارات الحقيقية والقائمة بلا هوادة على جعل هذا الهدف وذاك تصورات مستحيلة مادياً. ليس الحديث عن الاكتفاء بالاحترار عند مستوى الدرجتين أو حل الدولتين إلا غطاءً أيديولوجياً. التوازي مدهش عندما يقارن المرء قمم المناخ السنوية بالقمم التي انعقدت لما كان يسمى «عملية السلام». هذه الفعالية وتلك بدأتا في نفس اللحظة، في مطلع التسعينيات، وكان لهذه وتلك دوراً في الإبقاء على سراب أن ما يُدعى بالمجتمع الدولي يعمل على تخفيف آثار التغير المناخي وإعطاء الفلسطينيين دولتهم. تسلحت هذه العملية وتلك بنفس الطقوس والتعاويذ الدبلوماسية الجوفاء. غطت هذه العملية وتلك على استمرار الاستثمار في الدمار. لكن اليوم بالطبع، لم يتبقَّ منهما سوى واحدة: في وقت لاحق من هذا العام ستنعقد الدورة التاسعة والعشرين من سيرك قمة المناخ، وكل دورة له تصبح أكثر خلواً من المعنى والفائدة قياساً إلى ما سبقها من دورات. لم تعد هنالك مصافحات بالأيدي أمام البيت الأبيض. «عملية السلام» انتهت في 2005، عندما أعادت الدولة الإسرائيلية تصميم احتلالها لغزة على هيئة معسكر اعتقال. كل ما يبقى أمامنا هو نكبة عارية لا تنتهي. هنا أيضاً، يبدو أن كارثة فلسطين تحاكي في إطارها العام كارثة المناخ.

تقدم إبادة غزة الجماعية درساً موضوعياً في القسوة والدموية. في كارثة المناخ، لا تهم أرواح المليارات من البشر غير البيض في الجنوب العالمي. يمكن الاستغناء عنهم، لا قيمة لهم. نرى هذا يحدث في الكارثة التي ضربت درنة: أكثر من 11 ألف نسمة قتلوا في ليلة واحدة، ولم يتركوا إلا أقل الأثر في الإعلام الغربي، ولم يتغير أي شيء على الإطلاق في السياسة الغربية بسبب تلك الكارثة. تخيلوا إذا كانوا 11 ألف أميركي أو بريطاني أو سويدي أبيض قتلوا في ليلة واحدة، تخيلوا لو كانوا 11 ألف نسمة ممن يعدّون خسائر بشرية حقيقية: تخيلوا حجم التفاعل! لكن ليس هنا إلا التعساء في الأرض، يحتضرون ويموتون كديدنهم دائماً، في قاع البحر المتوسط أو مقابر العالم الكثيرة الأخرى، موتهم جزء من النظام الطبيعي للأشياء، لا يلاحظ أحد فكرة أن كثرة الكربون في الغلاف الجوي قتلتهم، وأن هذا الكربون رفعه إلى الغلاف الجوي الأثرياء من الشمال العالمي. إذا تكلم أحد عن اللوم والأطراف المسؤولة في الإعلام الغربي، يتم تصوير الليبيين أنفسهم كأطراف تتحمل المسؤولية: ألم يشيدوا سدوداً واهنة على ذلك النهر؟ لولا هذا كانت درنة لتتحمل ضغط الفيضانات.

وفي أرض فلسطين، ليست حياة الفلسطينيين مهمة. يمكن الاستغناء عنهم تماماً. لا قيمة لهم على الإطلاق. هذا هو الدرس الذي تعلمناه – مرة أخرى – طيلة الأشهر الستة الماضية: لم يُقدم هذا الدرس من قبل بهذا القدر من القسوة المفرطة والشره للدماء والإبادة كما يحدث اليوم. تخيلوا إذا كانوا 40 ألف أميركي أو سويدي، أو يهودي إسرائيلي، هم من قُتلوا بهذا الشكل. لا. أعتقد أنه شيء لا يمكن تخيله. إنه يتحدى المخيال السياسي. إنه يتجاوز أي شيء يمكن أن يحدث في العالم كما نعرفه. هنا أيضاً، يجري تصوير موت الفلسطينيين وكأنه خطأهم، مع تسليط الضوء بإصرار شديد على لحظة بداية الإبادة الجماعية: حدث القتل الجماعي لأن الفلسطينيين قصفوا بصواريخهم المستشفيات، لأنهم استخدموا المدنيين دروعاً بشرية، لأنهم وضعوا أسلحتهم في أو إلى جوار المدارس والبنايات السكنية، لأنهم فعلوا ما فعلوه في 7 تشرين الأول/أكتوبر.

الإبادة الجماعية لغزة إذن تلتف وتعود إلى الاحترار العالمي وتعيد التأكيد على سهولة الاستغناء عن أرواح غير البيض من البشر، ولأي مدى هم بلا ثمن: سبب وجودي آخر لاستمرارها. من الجيد لاستثمارات إكسون موبيل أو بريتش بتروليام أن الولايات المتحدة وبريطانيا قررتا أن موت الناس من هذا النوع مسألة عادية لا يجب الالتفات إليها. الإبادة الجماعية الرأسمالية المتأخرة تعيد إنتاج ذخيرة إبادة الفقراء في سياق تغير المناخ: الـ بوبرسايد.

يمكن قول المزيد، ولحسن الحظ، هناك أعمال رائعة في طور الإعداد، عن الإيكولوجيا السياسية لمشروع الاستعمار الاستيطاني في فلسطين، والنزوع لتدمير الطبيعة المحلية، الذي يقع في القلب من الصهيونية. في غزة، حيث ينتشر الدمار منذ عقود، بلغ ذلك الدمار الآن أبعاداً مُروِّعة، أشبه بمشاهد نهاية العالم: من لم يموتوا بعد من القنابل يعيشون في أرض خراب، من التربة الملوثة، والمياه غير الصالحة للشرب، والبساتين والحقول المتراكم عليها التراب والقمامة والحطام المختلط جميعاً في قطاع شديد التلوث من الأرض يجري جعل الحياة البشرية عليه مستحيلة على المدى الطويل. إبادة الطبيعة – أو إبادة كوكب الأرض – هنا تمتزج وتختلط بالإبادة الجماعية للبشر بشكل لم نشهده من قبل قط. لم تكن البوسنة أرضاً أقل قابلية لعيش البشر بها بعد 1995 ولا قبل 1992. التربة والماء في رواندا، والهواء، ظلوا على حالهم دون مساس على مدار أعمال ذبح مئات الآلاف من التوتس. لكن هل سيتمكن الناس من العيش في المستقبل مرة أخرى في غزة؟ هذا الجانب من جوانب الإبادة الجماعية الجارية يتواشج ويتضافر بقوة مع جانب آخر، متصل بطبيعة أحداث صباح 7 أكتوبر.

بالنسبة إلى الإمبراطورية والكيان على السواء، كان الشق الأكثر إثارة للصدمة في طوفان الأقصى هو الطريقة التي أبطلت بها المقاومة كل الهيمنة التكنولوجية المتطورة على فلسطين بضربة واحدة. كل الجدران التي بُنيت على مدار قرنين سقطت في بضع ساعات. نشرت صحيفة جيروساليم بوست تأبيناً لذلك اليوم:

كيف نجحت جماعة إرهابية في تجاوز دفاعات أحد أقوى الجيوش في العالم؟ هذا سؤال سيُطرح لوقت طويل (…) إن الصدمة الهائلة من هذا الهجوم تثير تساؤلات حول قدرة إسرائيل على مواجهة الأعداء. في يوم 6 تشرين الأول/أكتوبر كان معنا أفضل التكنولوجيا الممكنة. كانت هناك أبراج مراقبة وجنود يتابعون غزة بأعينهم. وعند إسرائيل أيضاً المُسيِّرات وبالونات الرصد والمراقبة (…) [لكن] كل هذه التكنولوجيا الذكية في جعبة إسرائيل أصبحت بلا جدوى تقريباً بسبب الهجوم الهائل.

أو، كما قال خبيران من الشبكة العالمية للتطرف والتكنولوجيا:

إسرائيل الرائدة في أحدث برامج الهندسة العسكرية والدفاعية، شاهدت نظامها الدفاعي المشيد بالملايين والملايين من الدولارات وهو يعاني في مواجهة حرب متواضعة المستوى التقني. (…) تُظهر هجمات 7 تشرين الأول/أكتوبر أن الأطراف منخفضة المستوى التقني ما زالت قادرة كل القدرة على مواجهة الخصوم الأفضل تجهيزاً من الدول. (…) الدفاعات عالية التقنية تعني كل شيء ولا شيء.

مسألة الإلغاء الفوري والكامل للتفوق التكنولوجي في صباح 7 تشرين الأول/أكتوبر مهمة للغاية، لا يمكن المبالغة أبداً في تقديرها. لا سابقة لها في تاريخ فلسطين. هناك بالطبع تاريخ من حرب العصابات، يعود إلى أيام عز الدين القسام، وإلحاق هزائم صغيرة بالعدو من الحين للآخر. لطالما كانت المقاومة مدركة لهذا العامل: كما قالت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في النصّ الذي اقتبست منه أعلاه: «أحد النقاط الأساسية لقوة العدو هي التفوق العلمي والتكنولوجي، وهذا التفوق ينعكس بقوة على قدراته العسكرية التي نواجهها في حربنا الثورية. كيف يمكننا مواجهة هذا التفوق والتغلب عليه؟».91  قدّمت عملية طوفان الأقصى الإجابة الأنجح لهذا السؤال مُنذ طُرح: لم يسبق أن اجتاحت المقاومة كل هذه القوى التكنولوجية المتراكمة للإمبراطورية والكيان بهذا التفوق واليسر والشمول. لقد تحول عدم التكافؤ وانقلب رأساً على عقب في قطاع كامل في جنوب فلسطين. لم يسبق لانتفاضة فلسطينية أن أنجزت أي شيء يقترب من هذا. المقارنة الشائعة هنا هي الضربات المفاجئة في حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، لكن تلك نفذتها جيوش لدول عربية. عندما خرج طوفان الأقصى من مخيمات اللاجئين في غزة صباح 7 تشرين الأول/أكتوبر، ضربت المقاومة الفلسطينية من موقع الضعف التكنولوجي المُطلق والبحت، على الرغم من أن بعض ذلك الضعف قد تراجع منذ انطلاق الانتفاضة الأولى من مخيمات لاجئي غزة في كانون الأول/ديسمبر 1987. حينئذ، لم يكن مع الفلسطينيين سوى الحجارة، والسكاكين في بعض الحالات. الآن، معهم الصواريخ والأر بي جي والبنادق وحفنة من المسيرات وعناصر الطيران المظلي الذين لا يُنسون. لكن لا شيء يُقارَن بالجيش الذي هاجموه. للمرة الأولى، تمزقت المعادلة القائمة منذ 1840 إرباً: الفلسطينيون بأنفسهم حطّموا الجهاز التكنولوجي الذي يهيمن عليهم ويدمرهم.

قد يبحث المرء كثيراً بلا طائل عن غزو مماثل بهذا التركيز والشدّة، ينطوي على لاتكافؤ مشابه، في سجلات الثورات المناهضة للاستعمار. هجوم التيت مثلاً ذُكر كنظير، لكن الفيتكونغ في فيتنام كانوا قوة عسكرية مجهزة بشكل أفضل بكثير من المقاومة الفلسطينية. مجموعات حرب العصابات من كوبا إلى كينيا تغلبت على خصوم لديهم موارد متفوقة، لكن التفوق لم يكن قريباً بأي درجة من تفوق إسرائيل في يوم 6 تشرين الأول/أكتوبر. أكبر إهانة كالها طوفان الأقصى للعدو كانت تحطيم مركّب التفوق التكنولوجي العسكري النوعي، الذي شُيّد على مدار قرنين. ولأن هذا أمر لا يجب أن يُسمح به إطلاقاً، كان من الضروري أن يكون العقاب بلا نهاية. من يعتقد أن إسرائيل كان يمكن أن تردّ بقدر أخف من الشراسة لو كانت تمكنت من قتل كل من حملوا السلاح في 7 تشرين الأول/أكتوبر، هو واهم ولا يفهم طبيعة تلك الدولة. أبسط إثبات هو ما حدث بلبنان في 2006: عقدت إسرائيل العزم على تدمير لبنان بعد قتل ثلاثة من جنودها واختطاف اثنين آخرين. ماذا تفعل إذن بعد مشاهد صباح 7 تشرين الأول/أكتوبر؟ لكن الضربة لم تكن شديدة على إسرائيل وحدها. لم تتمكن الولايات المتحدة من تقبّل اجتياح المقاومة لقاعدتها الأساسية في الشرق الأوسط وكأنها بيت العنكبوت. لم تتحمل رؤية آلتها العسكرية تُهان هكذا. تتشارك إسرائيل وأميركا في هدف استرداد الردع.

إن ما فعلاه معاً منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر له معنى يسهل الوقوف عليه: ما إن نمتص الضربة الأولى، سنطلق كل قوى الدمار من ترساناتنا. بعد التسديدة الأولى، سنعيد تأهيل كل ما لدينا من تكنولوجيا عبْر إعادة تنشيط قدرتها على تدمير الحياة ونقضي عليها قضاء مبرماً. الطريقة الوحيدة لإزالة هذا الإلغاء للتفوق التكنولوجي هو أن نُفرط في إثبات هيمنتنا التامة للجميع. هذه الرسالة تُبث لفلسطين ولمن هم خارج حدودها. إنها تقول: إذا تجرأت على اختراق درعنا كما فعلت المقاومة الفلسطينية في 7 تشرين الأول/أكتوبر فسوف ندمرك أنت وشعبك بالكامل. وأُرسلت الرسالة إلى لبنان على الأقل بوضوح. كما فعل تشارلز نابيير عندما هدد بهدم الإسكندرية كما فعل بعكا، كرر يواف غالانت أن «ما فعلناه بغزة يمكن أن نفعله في بيروت». لكن ما على المحك هنا هو موقف الإمبراطورية الأميركية وحلفائها، حيثما أمكن أن تواجه هذا النوع من التمرد. لهذه الحرب عنصر أدائي دفاعي، لتوضيح التفوق التكنولوجي، ولإحباط أي محاولات للالتفاف على القوى التكنولوجية، ومن هنا يمكن فهم مقاطع الفيديو التي يتباهى فيها الجنود بتفجير بيوت الأهالي والمدارس.

ربما يمكننا القول تحديداً بأن هذه أول إبادة جماعية تكنولوجية. ونُعرّف الإبادة الجماعية التكنولوجية كما يلي: 1) تُنفذ باستخدام أكثر التكنولوجيات العسكرية تطوراً، 2) تهدف على الأقل جزئياً لاسترداد صورة التفوق بعد تحدٍ ناجح بشكل مهين. نُفذت الإبادة الجماعية ضد مسلمي البوسنة إلى حد بعيد باستخدام البنادق، التي كانت قوات جمهورية سراييفو تمتلكها أيضا، وإن كانت قليلة جداً. الإبادة الجماعية في رواندا تمت بالخناجر والسواطير. إبادة داعش الجماعية للإيزيديين كانت منخفضة المستوى التكنولوجي بدورها. بينما الإبادة الجماعية التي تُذكر دائماً كنموذج من حيث الاعتماد على التكنولوجيا، الهولوكست نفسها، لم تحدث أبداً بأي شكل بسبب تحدي اليهود للقوة التكنولوجية الألمانية. الإبادة الجماعية الجارية في غزة هي وحدها التي تستوفي المعيارين أعلاه للتعريف. كثيراً ما يشير الفلسطينيون إلى «آلة القتل الإسرائيلية»، وهو وصف دقيق تماماً: إنها آلة لقتل البشر، جزئياً لتحسين سمعة الآلة نفسها. القتل الجماعي مميكن وآلي. إننا نعرف هذا منذ إطلاق أولى المعلومات عن نظام الذكاء الاصطناعي المسمى «ذا جوسبل – أي الكتاب المقدس»، الذي يتعامل مع كميات هائلة من البيانات عن السكان المدنيين والبنى التحتية لتوليد ما يُسمى «أهداف القوة» لجيش الاحتلال -«مصنع اغتيال جماعي»، حيث «التركيز على الكم وليس الكيف». قالت مصادر من داخل الجيش: «إنه مثل المصنع. نعمل بسرعة ولا وقت للتعمق في فهم الأهداف. المسألة أننا نُقيّم بناء على عدد الأهداف التي نتمكن من تحديدها». إنها آلة القتل، التي تمزج عضلات النفط بعقل الخوارزميات. ثم هناك معلومة ثانية أحدث عن نظم الذكاء الاصطناعي «لافندر» و«أين دادي؟» التي تنتج قوائم القتل الجماعي بأي عدد كان من المدنيين: وكأن الاحتلال قرر أن يقتل بلا رادع وفوّض لآلة القتل نفسها الإشراف على المهمة. لأن التفوق التكنولوجي لم يعد له معنى ذلك الصباح، أصبح من الضروري أن يصبح كل شيء مرة أخرى.

لكن المقاومة الفلسطينية تقف في وجهه صامدة. بعد نصف سنة، ما زالت المقاومة تناضل. بعد نصف سنة، ستة أشهر، 184 يوماً، ما زالت المقاومة تقاتل وترد على كافة الجبهات، من بيت حانون إلى رفح، وبالطبع خارج غزة نفسها. بعد كل هذا الوقت، ما يزال مقاتلو عز الدين القسام ومحمد ضيف وأبو عبيدة ورفاقهم في السلاح من الجهاد إلى الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في الأنفاق، ما يزالون يرسلون عملية تلو العملية، وهو ما يمكّن المقاومة من الاستمرار. إنني أعمل في الغرب، في المجال الأكاديمي، في صناعة وإنتاج المعرفة والأفكار. هناك يسود موقف سخيف. من الممكن تجاهل أو تقبل أو تبرير أو مدح السياسات الإبادية لإسرائيل، دون المخاطرة بأي شيء، دون خسائر في العمل ودون فقدان للاحترام. لكن دعم مقاومة الفلسطينيين – المقاومة المسلحة، القوة الوحيدة المناهضة للإبادة الجماعية على الأرض – محظور. أنا عن نفسي أرفض قبول هذا الوضع. أعتقد أن الخزي الحقيقي في الغرب هو أن اليسار هناك لا يمكنه أن يدعم النضال الفلسطيني للتحرر دون قيد أو شرط. هذا موضوع يخص محاضرة أخرى، ونصوص مكتوبة كثيرة، لكن أعتقد أن واجبنا أن نقولها بوضوح: نحن نقف مع المقاومة ولنا الفخر.

أندرياس مالم: ناشط بيئي وأستاذ الإيكولوجيا البشرية بجامعة لوند، السويد، ومؤلف كتب منها «رأس المال الأحفوري: صعود قوة البخار وجذور الاحترار العالمي» و«كيف تفجّر خط أنبوب: تعلّم النضال في عالم يحترق» والذي تم تحويله إلى عمل سينمائي.

عمرو خيري: باحث من مصر، حاصل على الدكتوراه في مجال الإيكولوجيا البشرية والتاريخ البيئي، جامعة لوند، السويد.

علي أموزاي: عضو «جمعية أطاك المغرب – الشبكة الدولية لإلغاء الديون غير الشرعية»، وعضو «شبكة سيادة: من أجل سيادة الشعوب على الغذاء والموارد».

  • 1فرانشيسكا ألبانيز، تقرير المقررة الخاصة حول حالة حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ 1967. بالإنكليزية: Francesca Albanese, ‘Report of the Special Rapporteur on the Situation of Human Rights in the Palestinian Territories Occupied since 1967’, United Nations, 25 March 2024, 1, 11.
  • 2خطة داليت كما وردت في كتاب إيلان بيبيه [بالإنكليزية]: Ilan Pappe, The Ethnic Cleansing of Palestine (Oxford: Oneworld, 2007), 82; see further e.g. 64, 77–8, 88, 147.
  • 3ليانة بدر، شرفة على الفاكهاني (مجلة الكرمل، عدد 7، 1 كانون الثاني/يناير 1983)، 321، 324، 319.
  • 4على سبيل المثال [بالإنكليزية]: Thomas E. Lovejoy & Carlos Nobre, ‘Amazon Tipping Point: Last Chance for Action’, Science Advances (2019) 5: 1–2; Chris A. Boulton, Timothy M. Lenton & Niklas Boers, ‘Pronounced Loss of Amazon Rainforest Resilience since the Early 2000s’, Nature Climate Change (2022) 12: 271–8; James S. Albert, Ana C. Carnaval, Suzette G. A. Flantua et al., ‘Human Impacts Outpace Natural Processes in the Amazon’, Science(2023) 379: 1–10; Meghie Rodrigues, ‘The Amazon’s Record-Setting Drought: How Bad Will It Be?’, Nature (2023) 623: 675–6; and for further documentation and discussion, Wim Carton & Andreas Malm, The Long Heat: Climate Politics When It’s Too Late (London: Verso, 2025).
  • 5تشارلز نابيير، البحرية: ماضيها وحاضرها، بالإنكليزية: Charles Napier, The Navy: Its Past and Present State (London: John & Daniel A. Darling, 1851), 48.
  • 6أنظر/ي: F. S. Rodkey, ‘Colonel Campbell’s Report on Egypt in 1840, with Lord Palmerston’s Comments’, Cambridge Historical Journal (1929) 3: 112.
  • 7أرشيف هانسارد لمجلس العموم البريطاني، مجلد 49، آب/أغسطس 1839، 1391-2.
  • 8ورد الاقتباس في: C. K. Webster, The Foreign Policy of Palmerston, 1830–41: Britain, the Liberal Movement and the Eastern Question (London: Bell, 1951), 629.
  • 9الكولونيل هودجز، ورد الاقتباس في: William Holt Yates, The Modern History and Condition of Egypt, vol. 1 (London: Smith, Elder and Co., 1843), 428.
  • 10أرشيف برودلاندز: لورد بونسونبي اقتبس في وثيقة: Constantinople 22 March 1846: Secret Memorandum on the Syrian War of 1840–1841’, by General Jochmus, MM/SY/1-3.
  • 11أنظر/ي: David K. Brown, Before the Ironclad: Development of Ship Design, Propulsion and Armament in the Royal Navy, 1815–60 (London: Conway Maritime Press, 1990), 61.
  • 12رسالة من تشارلز نابيير إلى كولونيل هودجز، 23 آب/أغسطس 1840، في: Elers Napier, The Life and Correspondence of Admiral Sir Charles Napier, vol II. (London: Hurst and Blackett, 1862), 21.
  • 13كما ورد في: W. P. Hunter, Narrative of the Late Expedition to Syria, vol. I (London: Henry Colburn, 1842), 69–70.
  • 14ورد الاقتباس في: Letitia W. Ufford, The Pasha: How Mehemet Ali Defied the West, 1839–1841 (Jefferson: McFarland, 2007), 141.
  • 15رسالة بتاريخ 25 أيلول/سبتمبر، وردت في: Charles Napier, The War in Syria, vol. I (London: John W. Parker, 1842), 83, 124.
  • 16أرشيف برودلاندز: لورد بالمرستون إلى لورد بونسونبي، 5 تشرين الأول/أكتوبر 1840، GC/PO/755-769.
  • 17أنظر/ي: The Mirror of Literature, Amusement, and Instruction, ‘Burford’s panorama’, 13 February 1841, 107
  • 18نابيير، مرجع سابق: Napier, The War, 206
  • 19روبرت بورفورد، شاهد عيان، بالإنكليزية: Robert Burford, Description of a View of the Bombardment of St. Jean D’Acre (London: Geo. Nichols, 1841), 8, 3.
  • 20القبطان هندرسن، ورد قوله في: Yates, The Modern History, 435.
  • 21أوراق/أرشيف إليوت: اللورد مينتو إلى روبرت ستوبفورد، 7 تشرين الأول/أكتوبر 1840، ELL/216.
  • 22تقرير من الكولونيل تشارلز ف. سميث إلى اللورد بالمرستون، ضمن أوراق برلمانية بعنوان: ‘Correspondence Relative to the Affairs of the Levant’, Parliamentary Papers, 1841, VIII, 56.
  • 23أنظر/ي: Tait’s Edinburgh Magazine for 1841, ‘Political register’, 1841, VIII, 65.
  • 24رسالة من تشارلز نابيير إلى إليزا نابيير، 13 تشرين الثاني/نوفمبر 1840، في: Napier, The Life and Correspondence, 113.
  • 25نابيير، الحرب في سوريا، مرجع سابق [بالإنكليزية]، ص 211.
  • 26أوراق/أرشيف إليوت: رسالة روبرت ستوبفورد إلى لورد مينتو، 5 نوفمبر 1840، ELL/214. كان ستوبفورد أعلى القادة الإنكليز رتبة في معركة عكا.
  • 27رواية وردت من مستر هانت في: W. P. Hunter, Narrative of the Late Expedition to Syria, vol. I (London: Henry Colburn, 1842), 310.
  • 28المصدر بالإنكليزية: Yaacov Kahanov, Eliezer Stern, Deborah Cvikel & Yoav Me-Bar, ‘Between Shoal and Wall: The Naval Bombardment of Akko, 1840’, The Mariner’s Mirror (2014) 100: 160.
  • 29رسالة من هـ ج كودرينغتون إلى ي. كوردينغتون، 4 تشرين الثاني/نوفمبر 1840، في: Selections from the Letters (Private and Professional) of Sir Henry Codrington (London: Spottiswoode & Co, 1880), 162
  • 30أرشيف برودلاندز: اللورد بالمرستون إلى اللورد بونسونبي، 14 تشرين الثاني/نوفمبر 1840، GC/PO/755-769
  • 31ييتس، مرجع سابق: Yates, The Modern History, 474.
  • 32رسالة من الجنرال جوشموس إلى اللورد بونسونبي، 17 كانون الأول/يناير 1841، في: August von Jochmus’ Gesammelte Schriften, Erster Band: The Syrian War and the Decline of the Ottoman Empire, 1840–1848 (Berlin: Albert Cohn, 1883), 84 (cf. 178).
  • 33تايت، مرجع سابق: Tait’s, ‘Political register’, 65.
  • 34مانشستر غارديان: Manchester Guardian, ’Iron War Steamers’, 14 April 1841.
  • 35The Observer, ‘The Recent Victories’, 28 November 1842.
  • 36جون بورنج، بالإنكليزية: John Bowring, Report on Egypt and Candia, Addressed to the Right Hon. Lord Viscount Palmerston (London: W. Clowes and Sons, 1840), 147.
  • 37أنظر/ي: A. A. Paton, A History of the Egyptian Revolution, vol. II (London: Trübner & Co., 1863), 239.
  • 38أرشيف برودلاندز: لورد بالمرستون إلى لورد بونسونبي، 25 تشرين الثاني/نوفمبر 1840، GC/PO/755-769.
  • 39أرشيف برودلاندز: لورد أشلي (فيما بعد إيرل أوف شافتسبيري) إلى لورد بالمرستون، 19 نيسان/أبريل 1836، GC/SH/2-22. هذه الإمكانات التجارية التي ذكرها عن فلسطين سلط عليها الضوء تقرير آخر أُرسل إلى لورد بالمرستون: John Bowring, Report on the Commercial Statistics of Syria, addressed to the Right Hon. Lord Viscount Palmerston (London: William Clowes and Sons, 1840), e. g. 14–19, 30.
  • 40اقتبس عنه: Eitan Bar-Yosef, ‘Christian Zionism and Victorian Culture’, Israel Studies (2003) 8: 28.
  • 41الليدي بالمرستون، بتاريخ 3 كانون الأول/ديسمبر 1841، ورد في: Tresham Lever, The Letters of Lady Palmerston (London: John Murray, 1957), 243–4.
  • 42أرشيف برودلاندز: لورد بالمرستون إلى لورد أوكلاند، 22 كانون الثاني/يناير 1841، GC/AU/63/1.
  • 43ورد الاقتباس في، على سبيل المثال: Regina Sharif, ‘Christians for Zion, 1600–1919’, Journal of Palestine Studies (1976) 5: 130; Herbert A. Yoskowitz, ‘British Zionistic Writings Revisited’, European Judaism (1979) 13: 45; Shlomo Sand, The Invention of the Land of Israel: From Holy Land to Homeland (London: Verso, 2012), 153.
  • 44أول رسالتين وردتا في: Sharif, ‘Christians for Zion’, 130; Bar-Yosef, ‘Christian Zionism’, 29 الثالثة وردت في: أرشيف برودلاندز: بالمرستون إلى لورد بونسونبي، 4 كانون الأول/ديسمبر 1840، GC/PO/755-769.
  • 45التايمز، 17 آب/أغسطس 1840.
  • 46صحيفة مورنينغ هيرالد، «سوريا»، 3 أيار/مايو 1841.
  • 47اقتباس لأقواله في: Sharif, ‘Christians for Zion’, 132.
  • 48كولونيل تشرشل إلى السير موشيه مونتيفيورى، 14 حزيران/يونيو 1841، في: Lucien Wolf, Notes on the Diplomatic History of the Jewish Question, with Texts of Treaty Stipulations and other Official Documents (London: Spottiswoode, Ballantyne & Co., 1919), 119–21
  • 49ورد اقتباس منه في: The Voice of Israel, ‘The Tranquilization of Syria and the East’, 1 September 1845, 168.
  • 50ورد اقتباس منه في: Albert M. Hyamson, ‘British Projects for the Restoration of Jews to Palestine’, Publications of the American Jewish Historical Society (1918) 26: 143.
  • 51ورد الاقتباس في: Sharif, ‘Christians for Zion’, 131
  • 52أنظر/ي: Alexander Keith, The Land of Israel, according to the Covenant with Abraham, with Isaac, and with Jacob (Edinburgh: William Whyte & Co., 1843), 34, 382, 366.
  • 53السابق، ص 382.
  • 54اقتباس ورد في: Bar-Yosef, ‘Christian Zionism’, 29.
  • 55مورنينغ بوست، اليهود، 30 كانون الثاني/يناير 1841.
  • 56أنظر/ي: Anon., ‘The Kings of the East’: An Exposition of the Prophecies Determining, from Scripture and from History, the Power for Whom the Mystical Euphrates Is Being ‘Dried Up’; with an Explanation of Certain Other Prophecies Concerning the Restoration of Israel (London: R. B. Seeley and W. Burnside, 1842), 277 عن البخار كعماد القوة، أنظر/ي ص ص 48 – 50.
  • 57السابق، 209، 2011 (التقرير ورد في التايمز).
  • 58السابق، ص 212.
  • 59السابق، ص ص 204 – 206.
  • 60السابق، 2012.
  • 61ذا ويسترن ميسنجر، إعادة اليهود إلى فلسطين، تشرين الأول/أكتوبر 1840، 264، 266.
  • 62حول نوح، أنظر/ي: Louis Ruchames, ‘Mordecai Manuel Noah and Early American Zionism’, American Jewish Historical Quarterly (1975) 64: 195–223. وبالصدفة أو لا، كان نوح أيضاً «من بين أول الخصوم البارزين لإلغاء العبودية، واستغل منصبه كرئيس تحرير نيويورك إيفينينغ ستار لوصف الأميركيين الأفارقة بأنهم متخلفون عقلياً عن البيض، لدعم ما يُدعى بأمر المنع الذي حال دون مناقشة مجلس الشيوخ مسألة العبودية، بل وحتى حاجج بضرورة جعل نشر أي كتابات عن مناهضة العبودية جريمة يعاقب عليها القانون»، أنظر/ي: Joseph Phelan, ‘”How Came They Here?”: Longfellow’s “The Jewish Cemetary at Newport”, Slavery, and Proto-Zionism’, EHL (2020) 87: 141.
  • 63أنظر/ي: M. M. Noah, Discourse on the Restoration of the Jews (New York: Harper & Brothers, 1845), 10, 35–6.
  • 64السابق، ص ص 47 – 48.
  • 65السابق، 39.
  • 66السابق، 35.
  • 67السابق، 38.
  • 68أنظر/ي: Jonathan Parry, Promised Lands: The British and the Ottoman Middle East (Princeton: Princeton University Press, 2022), 376
  • 69السابق، 143.
  • 70السابق، 15.
  • 71يوسكوفيتس، الصهيونية البريطانية، مرجع سابق، ص 45.
  • 72ألبانيز، تقرير المقررة الخاصة، ص 2.
  • 73اقتباس في: السابق، 14.
  • 74باري، 13.
  • 75ناشيونالي ريبوزيتوري، اليهود، آذار/مارس 1877، 274.
  • 76إيلان بابيه، التطهير العرقي، 93.
  • 77إليا إبستين، كما ورد في: Irene L. Gendzier, Dying to Forget: Oil, Power, Palestine, and the Foundations of U.S. Policy in the Middle East (New York: Columbia University Press, 2015), 105.
  • 78أنظر/ي: Paul Thomas Chamberlin, The Global Offensive: The United States, the Palestine Liberation Organization, and the Making of the Post-Cold War Order (Oxford: Oxford University Press, 2015), 138.
  • 79اقتباس في: السابق، ص 125.
  • 80أنظر/ي: Neta C. Crawford, The Pentagon, Climate Change, and War: Charting the Rise and Fall of U.S. Military Emissions (Cambridge, MA: MIT Press, 2022), 7–8.
  • 81أنظر/ي: Ghada Karmi, Married to Another Man: Israel’s Dilemma in Palestine (London: Pluto, 2007), 84.
  • 82السابق، 91.
  • 83السابق، 103.
  • 84السابق، 97-98.
  • 85لقاء مع السيد حسن نصر الله، المنار، 3 أيلول/سبتمبر 2012. https://web.archive.org/web/20120913080315/https://www.youtube.com/watch?v=5R-nGYVVXmM
  • 86الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، إستراتيجية تحرير فلسطين، المرجع بالإنكليزية: PFLP, Strategy for the Liberation of Palestine (Utrecht: Foreign Language Press, 2017), 34, 101, 102.
  • 87أنظر/ي الوثيقة السياسية للجهاد الإسلامي الفلسطيني كما وردت في: Erik Skare (ed.), Palestinian Islamic Jihad: Islamist Writings on Resistance and Religion (London: I. B. Tauris, 2001 [2018]), 31–2.
  • 88فتحي الشقاقي، «القضية الفلسطينية سؤال محوري للحركة الإسلامية.. لماذا؟»، ورد في: السابق، ص 77.
  • 89بابيه، التطهير العرقي، 261.
  • 90ورد الاقتباس في: D. A. Jaber, ‘Settler Colonialism and Ecocide: Case Study of Al-Khader, Palestine’, Settler Colonial Studies (2019) 9: 135.
  • 91الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، إستراتيجية، 95.

 

شارك المقالة

اقرأ أيضا