لا مناص من نضال جماهير النساء لفرض قانون أسرة ديمقراطي يكرس المساواة القانونية
تعالت مؤخرا ملتمسات التنظيمات النسائية لتعديل مدونة الأسرة المصادق عليها مند 2004، وغالبا ما ارتبطت تلك الدعوات ببروز قضايا تكشف واقع اضطهاد النساء وتخلف مدونة الأسرة عن تقديم الحل، كما هو الحال مع الارتفاع المتواصل لزواج القاصرات، وإثبات النسب باستعمال التحليل الجيني، وكذا الاغتصاب الزوجي والتحايل لأجل التعدد، ومشكلات الإرث والممتلكات الزوجية..الخ. تحرص التنظيمات النسائية على عدم إثارة قوى يمينية صارمة في الدفاع عن جوهر اضطهاد النساء المكرس في القانون، فيما يصدر عن الأحزاب الرجعية الدينية وفقهاء الدين ومحرضي التيار السلفي تحذيرات غاضبة. أعلن الملك في خطاب يوليوز 2022 البدء بتعديل المدونة دون مس بمصادر التشريع الديني وطبعا الإبقاء على التمييز المكرس في المدونة. تريد الدولة من تعديلها لمدونة الأسرة إيجاد جواب قانوني لمشاكل موضوعية وليدة التطورات الاقتصادية والاجتماعية، وتنفيذ بعضا من التزاماتها الدولية وامتصاص النقد الموجه لها، وتبتغي في نفس الآن استيعاب الحركة النسائية الليبرالية من جديد بتنازلات طفيفة، وتهدئة المعسكر الرجعي المطمئن لبقاء واقع اضطهاد النساء قائما بكل جبروته.
الإطار المرجعي لمدونة الأسرة مقبرة المساواة بين الجنسين
تشدد المدونة في جوهر ما جاء في الديباجة ومن خلال أبوابها الافتتاحية و القاموس المستعمل والتعاريف و الأحكام على أن المرجعية الدينية الإسلامية هي أساس التشريع، ويأتي ومن بعدها القانون الدولي المساير لمصدر التشريع الديني. طبعا كل جوانب الحياة يسري عليها قانون مدني إلا ما يخص الأسرة، ليس لمبررات أخلاقية كما يدعي أيديولوجو الدولة بل لأنها تصون المصالح الاقتصادية وتديم العلاقات الاجتماعية القائمة، وتوفر فضلا عند ذلك يد عاملة رخيصة التكلفة، وتسدي خدمات اجتماعية حيوية مجانية مستحيلة التحقق دون إخضاع ظالم قانوني للنساء باسم الوفاء للشرع الديني وحماية الخصوصية الإسلامية.
طبعا يستعمل النظام الثقافة الرجعية المنغرسة و اتساع جموع المقتنعين أيما اقتناع بها لترهيب الحركة النسوية الديمقراطية، واخراس كل طموح للتحرر من القهر المسلط على النساء، ووصمه بالخروج عن الدين وصيحة تغريب وتحريض على الانحلال وتخريب بيوت المسلمين وإشاعة الفاحشة. يلف معسكر التخلف الواسع شتى التيارات السياسية والولاءات التنظيمية والانتماءات الطبقية المتضاربة لكن يوحدها جميعا عصاب العداء للمطالب النسوية الديمقراطية. وأمام غياب حركة نسوية ديمقراطية مكافحة تجبر الأطياف الرجعية واسعة الانغراس مكونات الحركة النسائية الليبرالية على تقليم مطالبها، واختزال دعواتها للمساواة في التماس تعديلات بئيسة لن تهدم أبدا واقع يكرس اضطهاد وقهر ملايين النساء تحت غطاء خطاب ديني غير قابل للنقاش.
المدونة تأبيد دونية النساء داخل الأسرة
تعد مدونة الأسرة تشريعا أسريا سعت كل فصوله ومواده لتقنين علاقات اضطهاد واستعباد النساء المتأصلة في مجتمع رأسمالي ذكوري. ويظهر من خلال المواد المنظمة لمؤسسة الزواج والأثار المترتبة عنها حرصها الشديد على بنية الأسرة البطريركية التي تعيد إنتاج نفس علاقات القهر والسيطرة. ينص مضمون المادة 51 مثلا على المسؤولية المشتركة للزوج والزوجة في تدبير شؤون البيت ورعاية الأطفال والتشاور في اتخاد القرارات المتعلقة بالأسرة وتنظيم النسل، وبذلك تتحقق المساواة بين الزوجين حسب منطوق هذه المادة. تريد المدونة في واقع الأمر إضفاء مساواة صورية على واقع اجتماعي واقتصادي تحتل فيه النساء مكانة التبعية الاقتصادية ، وتحافظ أحكام المدونة على هذه التبعية في المادة 194 والتي تحمل الزوج مسؤولية الانفاق على الزوجة، ويخوله ذلك امتلاك سلطة اتخاذ القرارات التي تخص تفاصيل الحياة الأسرية بما فيها الحياة الجنسية والانجابية، ولا تملك النساء خاصة في الأسر الكادحة سوى خيار الخضوع لانعدام دخل مستقل تعيل به أنفسهن، وهدر كامل طاقتهن في عمل رعائي منهك ألصقه بهن مجتمع ذكوري وتنصل المجتمع الرأسمالي من أداء كلفته. ليست مغالاة نصوص المدونة في تمجيد نظام الأسرة الأبوي تجسيدا لقيم إنسانية نبيلة كما تدعي، بل تكمن غايتها في إدامة التقسيم الجنسي والاجتماعي للأدوار المسنودة لكل من النساء والرجال في مجتمع طبقي.
قانون يعفي الدولة من تحمل العبئ المادي للأسرة
تحدد المادة 186 مشمولات النفقة في الغذاء و الكسوة والعلاج وتعليم الأولاد وتفصل في معايير تقديرها على الملتزم بها. وهكذا تقع نفقة الأبوين على أبنائهم حسب يسرهم (المادة 197)، وينفق الأب على الأبناء حتى بلوغ سن الرشد أو حتى إتمام سن الخامسة والعشرون لمن يتابع دراسته، ويحمل المشرع الأب نفقة الأبناء المصابين بإعاقة والعاجزين عن الكسب مدى الحياة (المادة 198). ترمي الدولة والمجتمع من خلال هذا التشريع بنفقات التغذية والتطبيب وتوفير المسكن ورعاية الأطفال والمسنين والعاجزين عن العمل على كاهل الأسرة، وتعد تلك الأعباء الاقتصادية والاجتماعية منبع الصراعات التي تدمر الأسر الفقيرة التي يرغمها شح مواردها على حياة العوز والبؤس. ويتحول “الحضن الأسري” المحاط بالتبجيل والتقديس إلى علاقات تناحر محتدمة تغذي العنف الأسري، وتذهب ضحية هذا الصنف من العنف 2.5 مليون امرأة سنويا، ويصبح الأطفال بدورهم مجالا للتنفيس عن حياة القهر المحيطة بالأسر العاجزة عن تلبية حاجيات من يعيشون في كنفها.
قهر أسري أساسه اقتصادي تؤدي كلفته النساء والأطفال
تخصص نصوص المدونة أقساما بكاملها لضبط تفاصيل مؤسسة الأسرة سواء في حال قيام الزوجية أو في حالة الطلاق وعند وجود الأبناء أو انتفائهم وفق منظومة سائدة ، وهو ما تؤكده المواد المنظمة لمساطير الطلاق وكل أنواع التعويضات المالية المترتبة عنه. تشير المادة 83 أنه في حال فشل الصلح بين الزوجين تعين المحكمة مبلغا يشمل المستحقات التي يجب أن يودعها الزوج عن طريق المحكمة في آجال شهر، وهوما يتكرر في المادتين 84 و 85 اللتان تفصلان في مستحقات الزوجة والأطفال المالية التي يتوجب على الزوج دفعها، وتشترط المادتين 86 و87 لتوثيق الطلاق ضرورة إيداع الزوج المستحقات المالية الناجمة عن حل رابطة الزواج في موعدها، وإذا لم يتم الأمر اعتبر ذلك تراجعا منه عن الطلاق. يمكن أن ينجم عدم صرف المبالغ المستحقة عن عسر الزوج المالي وليس تراجعا عن رغبته في الطلاق، وقد يرغم اشتراط توثيق الطلاق بأداء المبالغ المالية في الوقت المحدد الطرفين على البقاء كرها في علاقة لم تعد قابلة للاستمرار لدرء كلفة الطلاق المالية من قبل الزوج، كما تتحول الزوجة والأبناء في هذا الوضع إلى مجرد رهائن وسط أسري بئيس وما ينجم عنه من عواقب نفسية وخيمة على حياتهم. تضيف المادة 102 أن المحكمة تطلق الزوجة في حالة ثبت عسر الزوج عن أداء ما بذمته وعند امتناع الزوج عن الإنفاق ولم يثبت العجز. لا تجيب أحكام هذه المدونة عن مآل المطلقات وأبنائهن إذا عجز الأزواج و الآباء عن الإنفاق، كما تكشف التبعات الناتجة عن فشل العلاقة الزوجية غلبة الطابع المادي الصرف على الحياة الأسرية ما يضفي عليها نوع من الجفاء والقسوة.
إن القانون وإن بدى من خلال هذه المواد يحمي حقوق النساء والأطفال بعد الطلاق لا يجيب عن جدور المعضلة الكامنة في وضع اقتصادي واجتماعي مزري. ينهك الفقر والبطالة وغلاء المعيشة حياة أغلبية الأسر المغربية ، وتعاني النساء سواء كن متزوجات أو مطلقات أو أمهات أو أرامل من فقرو بؤس أوضاع أسرهن.
الطلاق في مدونة الأسرة بيد من؟
تكرس المدونة في فصولها حول الطلاق علاقات السلطة والهيمنة الذكورية، فمثلا حق إيقاع الطلاق يكون بيد الزوج عكس الزوجة التي لا تملك هذا الحق إلا إذا ملكه إياه زوجها وفق مضمون المادة 89. بيد أنه قد يفهم للوهلة الأولى أن هناك مساواة بين الطرفين في إنهاء علاقة الزواج من خلال تعريف الطلاق في المادة 78 على أنه حق يمارسه الزوج والزوجة، لكن حق طلب الزوجة الطلاق عن طريق التمليك لا يغير من حقيقة كون الطلاق حق بيد الرجل، ويقيد هذا الشرط حق المرأة تجسيد إرادتها الكاملة والمستقلة في إنهاء علاقة زواج لم تعد ترغب بها على نحو مساوٍ للرجل.
تكشف الأحكام المنظمة للطلاق جانبا فقط من التعسفات التي تعتري ممارسة النساء لحقوقهن والتي تتكرر كثيرا في أبواب أخرى من مدونة الأسرة.
ميز في حق الولاية على الأبناء
لا تساوي المدونة بين الجنسين في ممارسة حقوق الولاية على الأبناء، إذ تشترط عدم وجود الأب لولاية الأم. ويلحق نفس الحيف القانوني النساء فيما يخص استحقاق الحضانة، وتسقط حضانة الأم في حالة زواجها إذا لم تتحقق الشروط الواردة في المادة 175، ولا يطرأ أي تغيير على الأب الحاضن في حال زواجه. تكرس هذه المدونة، التي باركتها الأقسام المتصارعة حين صدورها، لامساواة قانونية تمد جدورها في مجتمع يضطهد النساء اقتصاديا واجتماعيا على أساس جنسهن
أوجه لا مساواة أخرى تديمها مدونة الأسرة
تشرعن نصوص المدونة أشكال استعباد أخرى وتشيء إنسانية النساء، ويظهر ذلك في المواد التي تتناول الحالات التي يحق فيها للرجل التعدد. ويعتبر التعدد إلى جانب زواج القاصرات أقبح تجليات موروث ثقافي رجعي بائد يعتبر النساء مجرد إماء للمتعة يمكن امتلاكهن شريطة التوفر على الأموال الكافية. وتطغى قواعد محض فقهية على الأبواب الخاصة بالبنوة والميراث. تكرس المادة 146 من جهتها تميزا بين البنوة الناجمة عن نوعين من العلاقة، فتظفي صفة الابن الشرعي على المولود داخل مؤسسة الزواج، فيما ينعت الطفل المولود خارج إطار الزواج بالابن غير الشرعي وهو وصم اجتماعي يلحق الأمهات العازبات وأطفالهن ويعرضهن للنبذ وللعنف النفسي. وينتج عن ذلك حرمان الطفل من النسب وما يترتب عنه من نفقة وحضانة وإرث من جهة الأب، ويحمل المشرع بالمقابل الأم البيولوجية للطفل المسؤولية القانونية وتبعاتها الاقتصادية والاجتماعية، ولا تقر المدونة بالخبرة الجينية لإثبات نسب الطفل لأبيه البيولوجي. يفاقم الظلم القانوني الذي تتعرض له الأمهات العازبات وأطفالهن بموجب أحكام مدونة الأسرة هشاشتهن اقتصاديا واجتماعيا، ويجعلهن هذا الوضع لقمة سائغة لكل أشكال العنف الذكوري
تجري مصادرة حقوق النساء باسم تأويلات أحكام شرعية بالية عفى عنها الزمن في مسألة الميراث، وتضرب المواد المحددة لنصيب كل من الذكور والاناث في العمق كنه مساواة فعلية وشاملة بين الجنسين. ويعد استحواذ الذكور على حصة أكبر من الممتلكات من تلك العائدة للإناث عنفا اقتصاديا على أساس الجنس. يتضح من خلال الجزء الخاص بالميراث تمسك المدونة بثوابت السلطة الذكورية المتحكمة في انتقال الملكية الخاصة على مستوى العلاقات الأسرية.
يقوم البناء العام لهذه المدونة على إعادة استنساخ منهجية فقهية يحتل فيها فقه الارث قسطا وافرا، أغرقت مدونة الأسرة تعسفيا بقضايا أخرى كان من المفروض ادراجها في إطار قانوني آخر مثل القانون التجاري وكل ما يتعلق بمفهوم الملكية ونقلها.
لأجل قانون ديمقراطي يقضي على جدور الاضطهاد وينتصر للمساواة
لن تصبح حقوق النساء الأولية واقعا متجسدا رغم مأسسة الاستبداد السياسي للمساواة، واكتفاء مكونات الحركة النسائية بتوجيه مطالبها عن طريق الاستجداء والاستنكاف الواعي عن أي تعبئة تستهدف استنهاض نضال النساء. ويشترط ظفر النساء بمساواة قانونية شاملة النضال من أجل انتزاع قانون أسرة ديمقراطي يهدم كل أساسات اضطهادهن كجنس. ويؤسس لعلاقات إنسانية متحررة من ثقافة الاضطهاد والسيطرة الراسخة في بنى مجتمع رأسمالي ذكوري. ويستحيل أن يقبل جمهور الفقهاء وكل التنويعات الرجعية بقانون أسرة ديمقراطي حتى ولو كرس علاقات أسرية تقوم على حقوق الكرامة والمساواة التامة بين الجنسين، ويكمن السبب في كون ذلك يشكل نسفا لأهم الركائز التي تقوم عليها الأيديولوجية الرجعية التي تكن أشد العداء لحقوق النساء الديمقراطية، ولن يعصف نظام سياسي مستبد بإطار قانوني يعفيه من تخصيص قسط من الثروة المنتجة لتلبية خدمات اجتماعية تقوم بها الأسرة مجانا، كما تضمن له استمرار إعادة إنتاج علاقات الامتثال والخضوع لسلطة القهر والاستبداد
يتطلب تحقيق المساواة المنشودة وعي النساء بأصول اضطهادهن الخاص وتحويل طاقتهن المسلوبة لتمرد جماعي ضد مجتمع السيطرة الذكوري. ولا تنفصل المعركة من أجل المساواة القانونية عن النضال ضد الأسس المادية لاضطهاد واستغلال النساء. ولكي تصير المساواة القانونية واقعا يجب إقرانها بسن سياسات اقتصادية واجتماعية تكون في صالح النساء خاصة المتحدرات من أوساط اجتماعية فقيرة، ويأتي في مقدمتها ضمان حق النساء في شغل قار وبأجور متساوية تكفل استقلالهن المادي عن الأزواج والأخوة والآباء، ولابد من وقف تدمير قطاعي التعليم و الصحة العموميين لكي لا تحرم النساء من خدمات صحية جيدة تحفظ كرامتهن وتحافظ على صحتهن البدنية والنفسية، ويجب أن يوفر المجتمع بنيات تتكفل برعاية الأطفال والمسنين والعاجزين. لطالما تجبر النساء على ترك عملهن خاصة بالقطاع الخاص، ويتخلين في غالب الأحيان عن البحث عن فرص العمل أو الانقطاع عن استكمال مسارهن التعليمي والمعرفي للتفرغ لمهام رعاية الأسرة
يكمن خلاص جماهير نساء المغرب العاملات وكادحات المدن والقرى والعاطلات عن العمل في تنظيمهن لصفوفهن في أماكن تواجدهن، ويجب أن يكتسحن ساحات النضال العمالي الشعبي، وأن يعملن على تحرير مساحات النضال الميداني من الهيمنة الذكورية التي تطمس وجودهن كنساء وأن يرفعن مطالبهن الخاصة ويفرضنها.
بقلم: قدس
اقرأ أيضا