هدف حماس في غزة الاستراتيجية التي أدت إلى الحرب وما تعنيه للمستقبل
بقلم، ليلى سورات
هذا المقال، الذي نُشر في «Foreign Affairs» تحت عنوان «الاستراتيجية التي أدت إلى الحرب وما تعنيه للمستقبل»، يقدم عناصر ملموسة حول النقاشات داخل حماس والديناميات السياسية والعسكرية في صفوفها.
تعريب المناضل-ة عن النص الفرنسي المنشور في الموقع الالكتروني https://inprecor.fr/node/3794
من بين العديد من الجوانب الملفتة للنظر في هجوم حماس في 7 أكتوبر على إسرائيل، ثمة إحدى هذه الجوانب لم تتم دراستها إلا بشكل محدود نسبيًا: موقع الهجوم. طوال معظم العقد الأخير، لم يبدُ قطاع غزة كساحة معركة رئيسية للمقاومة الفلسطينية. كانت الاقتحامات المتكررة للجيش الإسرائيلي في قطاع غزة، بما في ذلك عملية «السور الواقي» التي استمرت لمدة شهرين تقريبًا في عام 2014، قد وضعت حماس في موقف دفاعي. في الوقت نفسه، أضحت وسائل إسرائيل في مواجهة صواريخ حماس متقدمة بشكل متزايد حد من فعاليتها بشكل كبير، وعزل الحصار غزة عن بقية العالم.
بالمقابل، كانت الضفة الغربية ساحة صراع أوضح بكثير. مع توسع المستوطنات الإسرائيلية والاقتحامات المتكررة للجنود والمستوطنين الإسرائيليين في قرى الفلسطينيين، كانت الضفة الغربية – بالإضافة إلى المواقع المقدسة في القدس – تجذب باستمرار انتباه وسائل الإعلام الدولية. بالنسبة لحماس وغيرها من منظمات المقاومة، كانت هذه هي الساحة الأكثر مناسبة للمقاومة الفلسطينية المسلحة. على ما يبدو، كانت إسرائيل تدرك ذلك: في عشية السابع من أكتوبر، كانت القوات الإسرائيلية مشغولة بمراقبة الفلسطينيين في الضفة الغربية، مفترضة أن قطاع غزة لا يشكل تهديدا كبيرا باستثناء إطلاق صواريخ بشكل عرضي.
لكن عملية السابع من أكتوبر كذبت الفكرة السائدة سابقا بأن قطاع غزة لم يعد ميدانا رئيسيا للصراع. من أجل إطلاق عمليتها الكبيرة، فجر الجناح العسكري لحماس المستقر في غزة معبر إيرز الحدودي مع إسرائيل وتخطى الحواجز الأمنية في عدة نقاط. وبقتلهم أكثر من 1200 إسرائيلي واحتجاز أكثر من 240 رهينة، توقع المهاجمون رد فعل عسكري إسرائيلي واسع النطاق. وهو التوقع الدي لم يتأخر تحقيقه من خلال الهجوم الإسرائيلي الذي تلاه، الذي أسفر عن مقتل أكثر من 17,000 فلسطيني -إلى حدود كتابة المقال -وتسبب في أضرار هائلة في كل أراضي القطاع، معيدا غزة إلى صدارة اهتمام قادة العالم ووسائل الإعلام العالمية لأسابيع متتالية. لقد أضحت غزة قلب المواجهة الإسرائيلية الفلسطينية.
طرح إعادة الاهتمام بغزة أيضا أسئلة هامة متعلقة بقيادة حماس، التي لطالما تم اعتبارها منظمة تقاد من الخارج عبر قياديين مستقرين في عمان ودمشق والدوحة. لكن أضحى هذا الفهم متجاوزا منذ زمن طويل، على الأقل منذ سنة 2017 حين تولى يحيى السنوار القيادة في غزة، حيث قامت حماس بتغييرات تنظيمية في غزة ذاتها. لقد سعت القيادة الجديدة إلى جعل منظمة غزة أكثر استقلالا عن قيادة الخارج، وسعت خصوصا إلى القيام بعمليات هجومية ضد إسرائيل وربط غزة بالصراع الوطني الفلسطيني. وفي نفس الآن، سعت إلى تكييف استراتيجيات الحركة لمواكبة التطورات في الضفة الغربية والقدس، خصوصا التوتر المتزايد حول المسجد الأقصى. وبصورة متناقضة، بدلاً من عزل غزة، ساهم الحصار الإسرائيلي في إعادة توجيه الانتباه العالمي نحو الإقليم.
طريق دمشق
تتوفر حماس، كمنظمة سياسية وعسكرية، على أربع مراكز للقوى: غزة والضفة الغربية والسجون الإسرائيلية، حيث يقضي عدد كبير من قادة الحركة أحكاما بالسجن، و»الخارج». بين هاته المراكز الأربع، كانت لقيادة الخارج التي تقود المكتب السياسي لحماس، عموما اليد الطولى في توجيه سياستها.
سنة 1989، خلال الانتفاضة الأولى، قمعت إسرائيل حماس وأجبرت قيادتها على اللجوء للأردن ولبنان وسوريا. وفي سنة 2000 أضحت دمشق المركز الرئيسي للحركة.
ومن مواقعهم بالخارج، قاد هؤلاء القادة الجناح العسكري للحركة في غزة: كتائب الشهيد عز الدين القسام. كما قاموا بالنشاط الدبلوماسي وحصلوا على دعم سلسلة من المانحين الأجانب، بالخصوص المنظمات الخيرية ومانحين خواص، وبعد انطلاق مسلسل مدريد واتفاقيات أوسلو انضافت إيران للائحة المانحين. خلال هذه السنوات، كانت للقيادة الخارجية الكلمة الفصل، مثل خالد مشعل، رئيس المكتب السياسي لحماس الدي نشأ في المنفى. من عمان وبعد ذلك دمشق، كان مشعل وبقية القادة يصدرون قرارات الحرب والسلم، وكان على كتائب القسام في الأراضي الفلسطينية العمل وفقا لهذه الأوامر عن بعد، حتى في حال عدم الاتفاق معها.
ولكن سيطرة قادة حماس الخارجيين بدأت تخفت تدريجياً بعد اغتيال إسرائيل للشيخ ياسين، الزعيم الروحي للحركة، في غزة عام 2004. عدة عوامل ساهمت في تعزيز قوة المنظمة في غزة. أحد هذه العوامل هو فوز حماس في الانتخابات عام 2006 وتشكيل حكومة، قبل وبعد استيلاء الحركة على قطاع غزة في يونيو 2007. بمجرد أن قوت إسرائيل حصارها، نجح قادة غزة في توليد إيرادات من خلال التجارة عبر شبكتهم السرية من الأنفاق، مما جعل الحركة في غزة أقل اعتمادا على الدعم الاقتصادي من الشتات الفلسطيني.
ساهم الربيع العربي بشكل عام واندلاع الثورة السورية بشكل خاص في تسريع التحول نحو غزة. ففي بداية الحرب الأهلية السورية، حاول قادة حماس المقيمين في دمشق أن يكونوا وسطاء بين نظام الرئيس السوري والمتمردين السنة. لكنهم رفضوا توجيهات إيران بدعم الرئيس السوري بشار أسد بشكل لا مشروط، وفي فبراير 2012، قرروا أخيرًا مغادرة البلاد. استقر نائب الرئيس موسى أبو مرزوق في القاهرة، بينما ذهب مشعل إلى الدوحة حيث انتقد بشدة إيران وحزب الله، اللذين كانا يدعمان نظام الأسد. ردا على ذلك، قامت إيران بتعليق دعمها المالي لحماس بشكل تدريجي: في صيف 2012 ومايو 2013، عندما قاتلت كتائب القسام قوات النظام السوري وحزب الله في معركة القصير. خفضت إيران دعمها الاقتصادي لحماس إلى النصف، حيث تراجع من 150 مليون دولار إلى أقل من 75 مليون دولار سنويا.
أضعفت هذه التوترات، إلى جانب تشتت القادة، المنظمة الخارجية لحماس. «رحيلنا عن سوريا ساعد كثيرًا قادة غزة»، اعترف غازي حماد، أحد كبار المسؤولين في حماس، عندما حاورته في غزة في مايو 2013. «أنا لا أقول أن غزة استحوذت على الصدارة على حساب القادة الخارجيين، ولكن هناك الآن توازن أفضل بين الطرفين.» ومن الملحوظ أن قادة غزة، على الرغم من الانقسام في سوريا، تمكنوا من الحفاظ على علاقات وثيقة مع إيران، وهذا يظهر بوضوح في حالة بعض أعضاء كتائب القسام، مثل مروان عيسى، نائب قائد الجناح العسكري لحماس في غزة، الذي كان يزور طهران في كل فرصة ممكنة.
أيضًا ظهرت استقلالية المنظمة العسكرية لحماس بوضوح في قضية جلعاد شاليط، الجندي الإسرائيلي الذي اختطف ونقل إلى غزة في عام 2006. فقد كان أحمد الجعبري، قائد كتائب القسام، الذي أمر بالقبض على شاليط والذي تفاوض، مع حمد، على اتفاق الإفراج عنه في عام 2011، الذي أسال الكثير من المداد. ووفقا لهذا الاتفاق، تم إطلاق الجندي الإسرائيلي مقابل إطلاق سراح 1,027 أسيرا فلسطينيا كانوا محتجزين في السجون الإسرائيلية، ورأى العديد من الفلسطينيين في ذلك انتصارا كبيرا لحماس في غزة. وبعد عام واحد، اغتالت إسرائيل الجعبري، مما فتح الطريق لهجوم عسكري جديد على قطاع غزة، المعروف بـ «عملية عمود الدفاع».
وبالتوازي مع ذلك، ساهمت العمليات العسكرية المتكررة لإسرائيل في غزة في تعزيز تأثير كتائب القسام. فعلى خط الجبهة في غزة، كان يمكن لهؤلاء المقاتلين المطالبة بدور محوري في مواجهة إسرائيل، على عكس القيادة الخارجية التي كانت تتوارى بشكل متزايد. تزايد الوعي بأهمية كتائب القسام، أدى إلى انضمام ثلاثة من أعضائها إلى المكتب السياسي لحماس في عام 2013، مما منح الجناح العسكري دورا جديدا ومباشرا في اتخاذ القرارات السياسية.
مع استمرار الحصار، كسبت غزة أيضا أهمية كبيرة كمنطقة رمزية ومكان للتضحية، ما دفع القادة السياسيين في حماس للاعتراف به لتعزيز شرعيتهم. على سبيل المثال، في عام 2012، وتزامناً مع الذكرى الـ25 لتأسيس حماس، دخل مشعل، الذي كان آنذاك مرشحًا للانتخاب مرة أخرى كرئيس للمكتب السياسي، غزة لأول مرة، حيث ألقى خطابا تحدث فيه عن دماء الشهذاء وتضحيات أمهات «غزة الخالدة». «أقول إنني أعود إلى هنا في غزة» يقول مشعل، «حتى وإن كانت هذه المرة الأولى التي أزور فيها هذا المكان، لأن غزة كانت دائمًا في قلبي».
ولكن في السنوات التي تلت عام 2017، أصبحت غزة محورية أكثر فأكثر بالنسبة للقيادة العليا في حماس. في ذلك العام، تولى إسماعيل هنية، الذي كان في السابق على رأس حماس في غزة، رئاسة المكتب السياسي خلفا لمشعل. هذا القرار فتح الباب أمام تعزيز العلاقات بين حماس والإيرانيين، الذين تعاملوا الآن مباشرة مع القادة في غزة. استقر هنية أخيرا في الدوحة في ديسمبر 2019 لعدة أسباب، بما في ذلك صعوبات التنقل داخل وخارج غزة، التي اعتمدت على أريحية مصر. ولكن رحيل هنية كان يعني أيضا وصول يحيى السنوار إلى القيادة في غزة، إنه قائد عسكري سابق في حماس بدأ يتنافس مع هنية في مجال التأثير.
إعادة تسليح المقاومة
لعب السنوار دورا حاسمًا في إنشاء الجناح العسكري لحماس في الثمانينيات. ثم قضى 22 عامًا في السجون الإسرائيلية، حيث ساهم في تشكيل قيادة حماس؛ وتم إطلاق سراحه في أكتوبر 2011 في إطار صفقة شاليط. كان لدى السنوار رؤية استراتيجية نشطة للكفاح الفلسطيني المسلح: بالنسبة له، وحدها القوة الهجومية وتأكيد السلطة يمكنها أن تفتح الطريق لمفاوضات أكثر توازنا مع إسرائيل. بعد أن أصبح رجل حماس القوي في غزة، بدأ وضع هذه الرؤية موضع التنفيذ. هكذا، سعى لاستخدام تحكم حماس في قطاع غزة للحصول على تنازلات جديدة من جانب إسرائيل، واستمر في تطوير كتائب القسام، التي يقدر المحللون أن عديدها زاد من أقل من 10000 مقاتل خلال العقد الأول من هذا القرن إلى حوالي 30000 أو أكثر.
في صفوف القيادة السياسية لحماس، وحده أحمد يوسف، المستشار السابق لهنية، الذي عبر رسميا عن تحفظات بشأن تعيين السنوار. كان يوسف يخشى من أن يتم نقل قدر كبير من صلاحيات اتخاذ القرار إلى الأراضي الفلسطينية، وكان يعتقد أن القيادة الخارجية يجب أن تظل لها الأفضلية. كما كان يخشى أيضا أن تؤدي العلاقات الوثيقة للسنوار مع الجناح العسكري للحركة إلى غير صالح حماس. وفقا ليوسف، يمكن أن يمنح هذا الأمر الإسرائيليين ذريعة إضافية للتعامل مع غزة كمجرد مهد للإرهابيين الإسلاميين.
ولكن سرعان ما أثبت السنوار أنه قادر على تحقيق نتائج. في 2018 و2019، نجح في الحصول على تخفيف نسبي للحصار الإسرائيلي من خلال تنظيم تظاهرات «مسيرة العودة» ضد الحواجز التي تفصل بين غزة وإسرائيل. استفادت حماس بسرعة من هذه التظاهرات الأسبوعية، التي جذبت عشرات الآلاف من سكان غزة إلى الحدود للاحتجاج على الحصار، لإطلاق الصواريخ والبالونات الحارقة باتجاه إسرائيل. ردا على استراتيجية الضغط هاته، وقعت إسرائيل في نهاية المطاف سلسلة من الاتفاقيات تسمح بفتح محدود لعدة معابر حدودية وزيادة التمويل القطري لغزة لدفع رواتب الموظفين. ومع ذلك، ظل العديد من الفلسطينيين، سواء في غزة أو في الضفة الغربية، متشككين في حماس، متهمين إياها باستخدام المسيرات لتحويل الانتباه عن الانتقادات المتزايدة ضد نظامها، واستخدام القوة فقط للدفاع عن مصالحها الخاصة في غزة.
في عام 2021، استغل يحيى السنوار الفرصة لمعالجة مشكلة مصداقية حماس. في ذلك الوقت، كانت إسرائيل قد شنت حملة قمع عنيفة ضد الفلسطينيين الذين احتجوا على طرد إسرائيل للمقيمين الفلسطينيين من منازلهم في حي الشيخ جراح في القدس الشرقية. في 20 مايو، بعد أن أطلقوا تحديرا أخيرا، قامت كتائب القسام بإطلاق آلاف الصواريخ على أشدود وأشكلون والقدس وتل أبيب. على نحو غير متوقع، خرج العرب الإسرائيليين في العديد من المدن الإسرائيلية في احتجاجات تضامنية مع الفلسطينيين في القدس، مما سمح لحماس بإعادة التواصل مع الفلسطينيين خارج غزة وتقديم نفسها كحامية للمدينة المقدسة. ومنذ ذلك الحين، يتم الهتاف باسم أبو عبيدة، المتحدث باسم كتائب القسام، في كل مرة يحتج فيها الفلسطينيون في القدس أو الضفة الغربية.
إنه لأمر بالغ الدلالة الانفتاح المتزايد للقادة في غزة على الفلسطينيين خارجها قد حدث بعد أن قامت البحرين والمغرب والإمارات العربية المتحدة بتطبيع علاقاتها مع إسرائيل. فمن خلال التوصل إلى هذه الاتفاقيات تحت إشراف الولايات المتحدة – المعروفة باسم اتفاقيات إبراهام – أظهرت هذه الدول العربية بوضوح أنها كانت مستعدة لاتخاذ خطوة تاريخية من هذا القبيل على الرغم من اقتراب إسرائيل من ضم الضفة الغربية بشكل كامل. بالنسبة لمعظم الفلسطينيين، اعتبروا ذلك خيانة. وهكذا، في الوقت الذي عبرت فيه الدول العربية عن عدم دفاعها فصاعدا عن الفلسطينيين، كانت حماس في غزة تدافع عن الضفة الغربية والقدس.
منذ عام 2021، حرصت حماس أيضًا على التصرف تضامنا مع الفلسطينيين ضد التهديدات الإسرائيلية المتزايدة التي تواجه المسجد الأقصى في القدس، الرمز الوطني للفلسطينيين. في هذا السياق، تندرج عملية حماس في 7 أكتوبر – التي يطلق عليها «طوفان الأقصى» – ضمن نفس المنطق لاستخدام القوة الهجومية للدفاع عن الأراضي الفلسطينية ككل. يجدر بالذكر أن قرار الهجوم يبدو أنه تم داخل منظمة حماس في غزة ولم يشمل الجناح الخارجي للحركة.
سردية مختلفة
منذ بداية الحرب التي شنتها إسرائيل، نفذت حماس أيضا استراتيجية إعلامية متناسقة لتسليط الضوء على الدور المحوري لغزة في الصراع الفلسطيني. كانت قدرة المجموعة على التواصل مع العالم الخارجي خلال القتال أمرا حيويا. على الرغم من انقطاع الإنترنت في غزة والقصف الإسرائيلي الشديد وتدمير البنية التحتية للاتصالات على مستوى الأراضي بأكملها، استمرت حماس في نقل المعلومات من ساحة المعركة، مقدمة باستمرار قصة معاكسة للروايات الرسمية الإسرائيلية حول الحرب. من خلال نشر مقاطع فيديو تظهر تدمير الدبابات الإسرائيلية بشكل يومي تقريبا وتكذيب التصريحات حول استخدام المستشفيات كدروع بشرية، نجحت كتائب القسام ومنظمة حماس في غزة في معارضة تصريحات إسرائيل والحفاظ على تأثير معين على تغطية وسائل الإعلام الدولية.
لا يتمتع قادة حركة حماس في الدوحة بمشاركة واضحة في هذه الحملة الإعلامية الموجهة والمدارة من غزة. على عكس تواصل حماس خلال عملية «الرصاص المصبوب»، الهجوم الإسرائيلي على غزة في عام 2008 و2009، لم يعد رئيس المكتب السياسي لحماس هو الذي يعلق على الأحداث الجارية من الخارج، بل ذلك يتم عن طريق قائد عسكري – أبو عبيدة – الذي يتواجد على الأرض في غزة نفسها. في الواقع، أصبح من الواضح أكثر فأكثر أن السنوار وبقية قادة حماس في غزة يحتقرون أعضاء الحركة في الدوحة، الذين يعيشون براحة وفخامة بعيدا عن الصراع.
أما ممثلو حماس في لبنان، فلعبوا دورا هاما في الحرب الإعلامية الحالية. أسامة حمدان، القيادي السابق في قسم العلاقات الخارجية لحماس وأحد أبرز الشخصيات في المكتب السياسي، قام بعقد مؤتمرات صحفية بانتظام في بيروت تعكس رواية مختلفة عن الأحداث مما تروج له إسرائيل. على عكس شخصيات أخرى في حماس، الذين خشوا أن يكون السنوار قريبا جدا من كتائب القسام، يعتبر حمدان أن تلاقي الفروع المدنية والعسكرية لحماس أمر طبيعي تماما. وهو يشاطر السنوار في رأيه بأن استخدام القوة هو السبيل الوحيد لمساعدة قضية الشعب الفلسطيني. (في مقابلة أجريت مع حمدان في عام 2017 في بيروت، قارن بين قادة إسرائيل السياسيين، مذكرًا بأن «قادة إسرائيل السياسيين، سواء كانوا نتنياهو، رابين، باراك أو بيريز، كانوا جميعهم سلاطين حرب قبل أن يتولوا المسؤوليات السياسية»).
في تصريحاته، سعى حمدان إلى تقديم الحرب ليس كمعركة لحماس ولكن كصراع عام من أجل تحرير فلسطين، ويدعو بقية العالم إلى دعم الفلسطينيين ضد ما يسميه «المشروع الإمبريالي الأمريكي والصهيوني». ووفقا له، فإن الهجوم في 7 أكتوبر قد ساهم في تحقيق نجاحات عدة للفلسطينيين: إطلاق سراح فلسطينيين كانوا محتجزين في إسرائيل، ووضع الجيش الإسرائيلي في مواقف صعبة على الأرض، وإجبار السكان الإسرائيليين على إخلاء مدن الشمال الحدودية مع لبنان والمناطق المحيطة بقطاع غزة.
يؤكد حمدان أن الصعوبات المتزايدة التي واجهها الجيش الإسرائيلي في حملته البرية في غزة كانت هي التي دفعت إسرائيل إلى التوقف عن القتال وإطلاق سراح أسرى فلسطينيين مقابل بعض الرهائن الإسرائيليين. ويؤكد حمدان أيضا أن إسرائيل قررت استئناف عمليتها العسكرية في 24 نوفمبر لأنها لم تنجح في تحقيق أهدافها خلال المرحلة الأولى من القتال.
رغم أن إعلانات حمدان وأبو عبيدة قد تم رفضها في وسائل الإعلام العربية الرسمية، خاصة في المملكة العربية السعودية، التي كانت تعارض تقليديا الحركة، فإن تلك التصريحات قد أثرت بشكل كبير في جميع أنحاء العالم الفلسطيني وبين السكان العرب في الدول المجاورة، والذين قد يكونون أكثر استعدادا لدعم حماس مما كانوا عليه قبل الحرب. من خلال إطلاق هجومها، أظهرت حماس أن إسرائيل ليست لا تقهر، على عكس منظمة التحرير الفلسطينية، التي يعتبر العديد من الفلسطينيين أنها لم تقم بالكثير لتحقيق قضيتهم. وعلى الرغم من أنه كلف الكثير، إلا أن هجوم حماس قد جسد تحقيقا لمشروع التحرير الوطني الفلسطيني. ومن خلال استفزاز إسرائيل بغزوها المدمر ومجازرها للمدنيين، جذبت الانتباه العالمي إلى وحشية الاحتلال الإسرائيلي والسيطرة الإسرائيلية على الأراضي الفلسطينية. ومن المرجح أن تكون هذه النتائج لها تأثيرات عميقة على مستقبل الصراع.
ماذا عن اليوم التالي؟
تركز الاهتمام الدولي، في الأسابيع التي تلت هجوم حماس، إلى حد كبير على المذبحة غير المسبوقة التي ارتكبت بحق المدنيين الإسرائيليين. والأمر الأقل إثارة للاهتمام هو ما كشفه الهجوم عن التغيرات الاستراتيجية داخل حماس نفسها. ومن خلال إرغام إسرائيل على شن حرب واسعة النطاق على غزة، فقد قلبت عملية السابع من أكتوبر/تشرين الأول الحكمة التقليدية التي كانت تزعم أن غزة كانت منطقة محررة من الاحتلال الإسرائيلي وأن وضعها الراهن باعتبارها جيباً معزولاً يمكن الحفاظ عليه إلى أجل غير مسمى. وأيا كانت التكلفة التي يتحملها أهل غزة أنفسهم، فإن الحرب بالنسبة لحماس قد حققت بالفعل هدف إعادة ترسيخ غزة باعتبارها محورا لنضال التحرير الفلسطيني ووضع هذا النضال في مركز الاهتمام الدولي.
أما بالنسبة للفلسطينيين، فقد أعادت الحرب ربط غزة ببعض الصدمات المركزية في تجربتهم التاريخية. إن التهجير القسري لسكان غزة نحو الطرف الجنوبي من القطاع الساحلي، الذي قدمته إسرائيل كإجراء إنساني طارئ – بالإضافة إلى الخطط المذكورة داخل إدارة نتنياهو لنقل سكان غزة إلى صحراء سيناء – قد أدى إلى إعادة وضع واقع الحال في غزة ضمن تاريخ طويل لطرد الفلسطينيين ابتدأ منذ عام 1948. وتكتسب الجهود الحالية لتهجير أو طرد سكان غزة أهمية أكبر بالنظر إلى أن معظم أولئك الذين أجبروا على الرحيل ينحدرون من عائلات تعرضت بدورها للطرد والتهجير عام 1948.
بالنسبة للعديد منهم، بما في ذلك مئات الآلاف الذين رفضوا مغادرة الجزء الشمالي من القطاع، فإن الوضع يكرر الاضطرابات السابقة. بالنسبة لهم، فإن الطريقة الوحيدة لتجنب خطر حدوث نكبة ثانية هي البقاء في غزة، بغض النظر عن حجم الدمار.
مع تعرض قطاع غزة مرة أخرى لقصف مكثف في أعقاب انهيار وقف إطلاق النار الذي استمر سبعة أيام، تناقش إسرائيل والولايات المتحدة سيناريوهات مختلفة «لليوم التالي». ورغم أن البلدين يختلفان حول العديد من القضايا، بما في ذلك إمكانية تشكيل حكومة بقيادة رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، وهو ما ترفضه إسرائيل، فإن البلدين مصران على القضاء التام على حماس. لكن هذا الهدف في حد ذاته قد يرتكز على فهم للمنظمة لا يأخذ في الاعتبار واقعها الحالي. حتى الآن، وعلى الرغم من الهجوم الذي دام خمسة أسابيع من طرف أحد أقوى الجيوش في العالم، والذي أجبرت خلاله الأغلبية الساحقة من سكان غزة على ترك منازلهم وقُتل أكثر من 17 ألف شخص، فإن حماس لا تظهر إلا القليل من علامات الاستئصال. لم تنجح حماس في غزة فقط في الحفاظ على نفسها ، بل أكدت أيضا استقلاليتها عن قيادة التنظيم الخارجية وحلفائه العرب وإيران، التي لم يتم إخبارها بالهجوم.
إن قدرة منظمة غزة على البقاء قوية حتى اليوم، مع قيادة منظمة للغاية وحضور إعلامي وشبكة دعم، تدعو بشكل جدي إلى التشكيك في جميع المناقشات الحالية حول الحكم المستقبلي لقطاع غزة.
وفي الوقت الراهن، ومع فشل قواتها في تحقيق أهدافها في غزة، قامت إسرائيل بتكثيف عملياتها العسكرية في الضفة الغربية من خلال الغارات اليومية والاعتقالات الجماعية وحملات القمع واسعة النطاق. وهذا لا يثير فقط احتمال نشوب حرب على جبهتين بعد سنوات من الجهود الإسرائيلية لفصل الأراضي الفلسطينية المحتلة عن قطاع غزة. كما يشير ذلك إلى أن الجيش الإسرائيلي نفسه يمكن أن يساعد في تحقيق هدف حماس المتمثل في إعادة ربط غزة بالنضال الأوسع من أجل تحرير فلسطين.
اقرأ أيضا